تصحيح مسار الثورة السودانية

 تصحيح مسار الثورة السودانية

 

بقلم: حازم عبد الرحمن

 

كما كان متوقعا, لم يمر وقت طويل حتى كشف المجلس العسكري الانتقالي في السودان عن حقيقة موقفه من الثورة التي خلعت البشير من السلطة بعد ثلاثين عاما من انقلابه عام 1989 م على حكومة سودانية منتخبة؛ ففي ساعة مبكرة من صباح 3 يونيو 2019هاجمت قوات الدعم السريع المعتصمين السلميين أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة, وقتلت أكثر من مائة منهم, وتعددت الروايات التي تؤكد مقتل أضعاف هذا العدد, ما جعلها مجزرة وحشية تعيد إلى الأذهان ذكرى مجزرتي  رابعة والنهضة في مصر عقب الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي في 3 يوليو 2013 .

وقد سبق مجزرة عسكر السودان تهديدات مما أسموه  فوضى الاعتصام, وبدا تحفز الجنرال "حميدتي" غير المتعلم ضد المعتصمين, معلنا أن العسكر لن يعودوا إلى الثكنات, كاشفا عن خلل خطير في فهمه للسياسة والحكم؛ فالرجل كان تاجرا يقود ميليشيات "الجنجويد" ضد المتمردين في دارفور, ويقتصر وعيه بالسياسة على استخدام القوة لتأديب المخالفين.        

ولم يكن فض الاعتصام بالقوة, وقتل الأبرياء المسالمين بالرصاص الحي ليتم لولا تطمينات من الرعاة الإقليميين للثورة المضادة بأنه لا مساءلة دولية على الجريمة, سوى الإدانة الرسمية التي لن تمس مرتكبي المجزرة بسوء.    

وكانت خطة العسكر أن يتم فض الاعتصام بالقوة وسفك الدماء؛ لإرهاب كل من يفكر بعد ذلك في العودة إلى الاعتصام, ولتحقيق صدمة لإرباك قوى الحرية والتغيير, وتعجيزها عن الرد؛ فهي بحكم سلميتها لن ترفع السلاح, وإلا خسرت كل شيء, وهي إن قبلت التفاوض بعد سفك الدماء فسيكون موقفها ضعيفا, وستقبل ما يسمح لها به المجلس العسكري, بل كيف سيكون التفاوض بين مجرم قاتل وضحية مغلوب على أمره؟, وماذا سيكون الموقف من مرتكبي المجزرة وعلى رأسهم "حميدتي" قائد قوات الدعم السريع التي قتلت المعتصمين السلميين؟     

لذلك لم تجد قوى الحرية والتغيير بدا من الدعوة إلى العصيان المدني في مواجهة رصاص العسكر, والمدرعات الإماراتية التي تجوب شوارع  العاصمة الخرطوم, وهنا جاء رد الشعب مذهلا, يؤيد العصيان المدني ضد العسكر, رافضا بقاءهم في السلطة, واستجابت قطاعات واسعة من الشعب لدعوة العصيان في مختلف الهيئات الحكومية والشركات الخاصة والمرافق الخدمية، وخلت الشوارع من المارة, وتوقفت الصحف السودانية عن الصدور بسبب استجابة العاملين في المطابع لدعوة العصيان, فضلا عن شلل شبه كامل في عمل المصارف والمستشفيات, ما أزعج المجلس العسكري الانتقالي, وجعله يعرب عن أسفه لما أسماه "السلوك المتصاعد"، ويقرر تعزيز الوجود الأمني, ويعود إلى التهديد مجددا.    

 

*الوساطة الإثيوبية

هناك ملاحظات على فكرة الوساطة الدولية خلال اندلاع الثورات, خاصة في ظل حالة التربص الإقليمي بكل مطالبة تبدو من الشعوب لنيل حريتها, وفي الحالة السودانية لا يمكن استبعاد دور خفي للإمارات وراء وساطة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي زار الخرطوم, والتقى قوى الحرية والتغيير وقادة المجلس العسكري. ونظرا لفقدان الثقة بالعسكر اشترطت قوى الحرية والتغيير أن يقر المجلس العسكري الانتقالي، بمسئوليته عن قتل المتظاهرين أثناء فض اعتصامهم في 3 يونيو الماضي، وأن يبدأ تحقيق دولي في هذه الواقعة؛ فبرغم أن الجيش والشرطة لم يشاركا في ضرب الاعتصام، إلا أنهما سحبا قواتهما ليشكل غيابهما تغطية لميليشيات الدعم السريع, ولا يستطيع المجلس العسكري نفي مسئوليته عن أن مليشيات غير منضبطة ارتكبت ما ارتكبته من دون علمه، أو رغما عنه، والأهم أنه لا يستطيع تبرير اختفائه في اللحظة التي كانت الحاجة فيها إليه ماسة ليقوم بمهمة هي من صميم اختصاصه، وهي  الحفاظ على الأمن, وحماية المواطنين.

لذلك فإنه بجانب الوساطة الإثيوبية, كانت الدعوة إلى العصيان المدني خيارا ناجحا أمام غطرسة العسكر في السودان, ومحاولاتهم الالتفاف على الثورة, وتكرار تجربة عسكر الانقلاب في مصر, لكن يبدو أنهم تعجلوا في تنفيذ خطتهم؛ فأعطوا الفرصة ـ دون قصد ـ لقوى الحرية والتغيير لكي تجري استفتاء شعبيا على دعوتها للعصيان, وكانت المفاجأة في الاستجابة الكبيرة من الشعب انحيازا للحرية والتغيير, وضد هيمنة العسكر على السلطة.      

 

*نجاح العصيان المدني

ويمكن وصف الدعوة إلى "العصيان المدني" في مواجهة العسكر بأنها بداية تصحيح مسار الثورة السودانية التي عانت في بدايتها من التسرع وغياب خطاب يجمع حولها كل مكونات الشعب, بل نزوعها إلى الإقصاء وعدم الإعلان عن توسيع المشاركة لتشمل كل القوى والأحزاب المؤيدة للتغيير, والآن حان وقت العمل المشترك بعد أن انكشف مخطط المجلس العسكري للتمسك بالسلطة والالتفاف على أهداف الثورة, وتنفيذه مطالب الإمارات والسعودية والانقلابيين في مصر. 

لذلك فإن المطلوب من قوى الحرية والتغيير مراجعة مواقفها السابقة, وتوسيع المشاركة لتشمل كل قوى الشعب السوداني التي هي الظهير الحقيقي للحراك في الشارع.  

ولن يكون باستطاعة المجلس العسكري مواجهة العصيان المدني الشامل الذي لفت الأنظار بالاستجابة الواسعة له, ما يمكن أن يكون سلاحا جديدا للتغيير السلمي في البلاد العربية؛ لإسقاط أنظمة الحكم الفاسدة, والتي جاءت بانقلابات عسكرية على إرادة الشعوب, وقتلت الأبرياء, وباعت الأوطان, وقد تكون البداية هذه المرة من السودان والجزائر؛  لتعود الجيوش إلى مهمتها الأساسية التي ترتبط  بحماية الحدود وأمن البلاد، ولا تطمع في السلطة أو تفكر في السطو عليها.

 

adminu

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022