انطلاق المرحلة الانتقالية بالسودان ..تحديات واشكالات مستقبلية

بنصف ثورة ونصف انقلاب، توافقت قوى الحرية والتغيير والعسكريين بالسودان على انطلاق المرحلة الانتقالية لمدة 3 سنوات، وثلاثة أشهر، مناصفة بين الجانبين، وأدى الخبير السوداني في الأمم المتحدة عبد الله آدم حمدوك، مساء الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً للوزراء خلال الفترة الانتقالية المحددة بثلاث سنوات وثلاثة أشهر.

وكانت قوى “إعلان الحرية والتغيير” قد اختارت حمدوك ذا الخلفية الاقتصادية لتولي المنصب، على أن يشكل حكومته بالتشاور معها.

وعقد مجلس السيادة الانتقالي في السودان أول اجتماع له، بعدما أدى الفريق أول عبد الفتاح البرهان اليمين الدستورية رئيساً له، وذلك أمام رئيس القضاء الحالي عباس علي بابكر، كما أدى 9 من أعضاء المجلس اليمين أمام البرهان.

وجاء أداء اليمين الدستورية مباشرة بعد قرار بحلّ المجلس العسكري الذي تقلّد السلطة في البلاد بعد سقوط نظام الرئيس عمر البشير، في إبريل الماضي.

 وتولّى البرهان رئاسة المجلس السيادي بموجب اتفاق وقعه المجلس العسكري مع قوى “إعلان الحرية والتغيير”، وقضى بتشكيل مجلس للسيادة من 11 عضواً، 5 منهم من العسكريين، و5 من المدنيين، وعضو توافقي..

 

تشظي مدني أمام توحد عسكري

 

وتتواجه تشكيلة المجلس السيادي بأوضاع بنيوية خطرة، حيث توافقت كتل قوى الإعلان الخمسة على تسمية كلا من ؛ صديق تاور كافي عن “كتلة الإجماع الوطني” ممثلاً عن إقليم كردفان، وحسن شيخ إدريس ممثل “كتلة نداء السودان” عن “شرق السودان”، وعائشة موسى ممثلة “كتلة القوى المدنية” عن “وسط السودان”، ومحمد الفكي سليمان ممثلاً “كتلة التجمع الاتحادي” المعارض عن شمال السودان، ومحمد حسن التعايشي مرشحاً من “كتلة تجمع المهنيين السودانيين” بصفته من الكفاءات المستقلة، عن إقليم دارفور غربي البلاد.

كما جرت تسمية رجاء نيكولا عبد المسيح، كشخصية توافقية بين الطرفين، لتشغل المنصب الحادي عشر في المجلس السيادي..

وكان المجلس العسكري قد حسم أسماء عناصره في المجلس السيادي، فقرر تعيين عبد الفتاح البرهان رئيساً لـ”السيادة”، كما اختار لعضويته: محمد حمدان دقلو (حميدتي)، شمس الدين كباشي، ياسر العطا، وإبراهيم جابر. وجرت تسمية رجاء نيكولا عبد المسيح، وهي مستشارة في وزارة العدل، وعضو في مفوضية مراعاة حقوق غير المسلمين، وتنتمي للطائفة القبطية، كشخصية توافقية بين الطرفين، لتشغل المنصب الحادي عشر في المجلس السيادي، وتصبح صاحبة ترجيح القرارات داخله.

 

وضغطت الجماعات النقابية، والثوار على حدٍ سواء، على تجمع المهنيين السودانيين لسحب ترشيح طه عثمان إسحاق، نزولاً عند التزامات التجمع السابقة بعدم المشاركة في السلطة التنفيذية والإبقاء على حضوره ضمن المستويات الرقابية (المجلس التشريعي)، وهو ما أعاد محمد حسن التعايشي مجدداً إلى بورصة الترشيحات بعد سحب اسمه سابقاً. وكانت فدوى عبد الرحمن اعتذرت عن قبول ترشيحها من قبل تجمع المهنيين للمجلس السيادي، احتجاجاً على طريقة استبعاد التعايشي (في وقت سابق)، التي قالت إنها انطوت على محاصصات مناطقية باعتبار أنه يمثّل العنصر العربي في دارفور.

الجدل نفسه انسحب على بعض اختيارات “قوى الحرية والتغيير”، إذ رفض البعض تسمية صديق تاور كافي بسبب انتمائه لحزب “البعث العربي الاشتراكي”، وهو ما حدا بقيادي بارز في “قوى الحرية والتغيير” وحزب “البعث” إلى وصف الأمر بأنه ينطوي على عنصرية.

كما وُجّهت انتقادات كبيرة من قبل نُخب ومثقفين للتمثيل الأقاليمي الذي انتهجته “قوى الحرية والتغيير” في اختياراتها لأعضاء المجلس السيادي، واعتُبرت أنها جاءت من منطلق ردة مناطقية شبيهة بما كان يجري في عهد البشير، بدلاً من الاستناد إلى أن الثورة الحالية تؤسس للسودان الجديد عن طريق الوعي، وهو ما دافعت عنه قوى الثورة بتأكيد توافر عنصر الكفاءة في الشخصيات المختارة، إلى جانب ضرورات ملحّة تتمثل في المساواة والعدالة في الاختيار.

مخاوف  من قلة خبرة المدنيين

في موازاة ذلك، سادت مخاوف من قلة الخبرة السياسية عند بعض الأعضاء المدنيين في المجلس السيادي، ولكن قيادات في “الحرية والتغيير” قلّلت من أهمية ذلك باعتبار أن جميع المختارين كانوا من المناهضين للبشير، إلى جانب امتلاك صديق تاور كافي، ومحمد الفكي سليمان، ومحمد حسن التعايشي، رصيداً سياسياً كبيرا.

 

ويتوقع مراقبون أن  يواجه المكوّن المدني في المجلس السيادي، كتلة عسكرية موحّدة وتمتلك خبرة سياسية، وسنداً من عواصم خليجية.

 

عقبات وتحديات

 

وعلى الرغم من التصريحات الايجابية التي أطلقها حمدوك، حول برنامج عمله لصياغة توافق سوداني واسع، وانتاج خارطة طريق تتعلق بكيفية حكم السودان وليس من يحكم السودان، ودعوته إلى “إرساء نظام ديمقراطي تعددي يتفق عليه كل السودانيين…إلا أن الكثير من العقبات تواجه الفترة الانتقالية التي انطلقت الاربعاء الماضي…

ومن ابرز العقبات، ما  يمثّله رفض الحركات المسلحة في السودان، لاتفاق الفترة الانتقالية، باعتباره امتداداً لمركزية الدولة على حساب الهامش، العقبة الأبرز التي يمكن أن تعصف بالاستقرار، خصوصاً أن هذه الحركات ما تزال تحتفظ بسلاحها وتعتمد عليه.

وبحسب مراقبين، تتضمن وثيقة الاتفاق نصوصًا قابلة للتأويل وفيها قيود على حركات القوى الفاعلة.

وهو ما يراه د. وليد عبد الحي، أستاذ العلوم السياسية بالأردن، في مقال له بعنوان “السودان وصعوبة العبور” عقبة أمام استتباب الأوضاع بالسودان، فيما قوى الحرية والتغيير التي وقعت مع العسكر على الوثيقة الدستورية، تضم 4 قوى هي (تجمع المهنيين، الإجماع الوطني، نداء السودان، التجمع الاتحادي)، وهذه القوى نسبة التجانس السياسي داخلها ليس كبيرا، مما يعني أن بينها خلافات، ناهيك عن خلافاتها مع العسكر ستثور لاحقا عند الانتقال من المبادئ العامة للتطبيق.

ومن المخاطر أيضا أن “المجلس السيادي” الذي يضم 11 عضوا من مدنيين وعسكريين (أي أنها حكومة مختلطة عسكرية ومدنية وهو أمر ينطوي على مخاطر من الناحية الفعلية).

 

كما أن “طول الفترة الانتقالية 39 شهرا (21 منها للعسكر و18 للمدنيين) يشير إلى مسألتين مهمتين، أن الثقة بين الطرفين مهزوزة بحكم التقاسم، كما أن العسكر سيبدءون فترتهم أولا، وهو أمر قد يمكّنهم من ترتيب الأمور بكيفية تضيق ميدان الحركة على المدنيين لاحقا.

ومن ضن القنابل البنيوية، أيضا، أن الوثيقة تحدد بأن إصلاح الأجهزة العسكرية هو من صلاحية المؤسسات العسكرية، وهو ما يعني أن صلاحيات الفرع المدني في المجلس السيادي لا تمتد إلى التدخل في شئون المؤسسة العسكرية رغم أنها يجب أن تكون خاضعة له، بينما سيكون للعسكريين الحق في التدخل في كافة الشئون المدنية، وهو ما يعني أن الثقة ليست متبادلة.

 

مصاعب داخلية وخارجية

 

وكذلك فإن ملف الانتهاكات التي حصلت منذ الإطاحة بالبشير تشكّل عقبة أمام التناغم في المجلس السيادي.

بينما يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، راشد محمد علي الشيخ، في تصريحات صحافية، أن المجلس السيادي يواجه تحديات كبيرة على المستويين الداخلي والخارجي. داخلياً فإن المجلس في حاجة كبيرة إلى إسناد قرارات مجلس الوزراء، لا سيما في الفترة التي تسبق تشكيل البرلمان (3 أشهر) وهو أمر يتطلب تنسيقاً وتناغماً كبيرين..

كما أن التحدي الأبرز للمجلس السيادي خلال الفترة المقبلة يبقى ملف السلام، واستعادة الأصوات المعارضة للمجلس ممثلة في الحركات المسلحة، وإدماج جيوشها في القوات النظامية.

ولعل أكبر تحدٍ يجابه المجلس السيادي يتمثّل في تلبية تطلعات الشارع، فالكثير من نصوص الوثيقة الدستورية انتقالية ولا تلبي التطلعات لجهة الدولة المدنية. كما أن أي محاولات للتعايش مع الدولة العميقة التي غرسها النظام السابق في مفاصل المؤسسات المدنية ستقود لا محالة إلى فشل اقتصادي سيكون له تداعيات وخيمة على الثورة السودانية.

 

ومن أبرز التحديات الخارجية، قضية إبقاء السودان في قوائم الإرهاب، التي تظل حجر عثرة أمام جهود البلاد السياسية والاقتصادية في النفاذ إلى العالم وكياناته السياسية ومؤسساته المالية والنقدية، إذ إن استمرار العقوبات على السودان يحدّ كثيرا من فاعلية الخرطوم في المجمعات الإقليمية والدولية.

 

تهميش الاسلام والاسلاميين

 

وبحسب الكاتب الصحفي السوداني الطيب مصطفى، رئيس منبر السلام الدولي، فقد تعمدت قوى “الحرية والتغيير”، في الوثيقة الدستورية إغفال النص على أن الإسلام هو الدين الرئيسي للدولة، كما تجاهلت لأول مرة في تاريخ السودان الحديث عن النص على أن الشريعة الإسلامية هي إحدى مصادر التشريع.

فيما يخشى كثير من السودانيين، من تلاعب الشيوعيين والعلمانيين بالمسائل الدينية، وفرض توجهاتهم المعادية للإسلام على شعب السودان، الذي لم يثر على الدين وشرعه، وإنما على ممارسات خاطئة وفساد كبير لحق بالسودان وانحط به إلى درك سحيق…

 

موقع الاسلاميين

بسبب قيادة التيار اليساري وانفصاليين جنوبيين (تجمع المهنيين الذي تحول إلى قوى الحرية والتغيير) قيادة المظاهرات التي أدت إلى الانقلاب العسكري على البشير، وبسبب اتهام حزب البشير بأنه حزب التيار الإسلامي (رغم ابتعاد الحركة الإسلامية عنه)، فقد جرى إقصاء الإسلاميين من أي اتفاقات.

 

بل وجاءت الاتفاقات بين العسكر وهذا التيار خالية من النص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، واللغة العربية كلغة رسمية، وغيرها من الثوابت، ما دعا تيارات إسلامية مختلفة إلى القيام بمظاهرات لدعم الشريعة دون جدوى ليتم استبعادهم من الاتفاقات الجارية لتقاسم السلطة.

وبسبب ظهور ولاء أعضاء المجلس العسكري لقوى خليجية، خصوصًا الإمارات، معادية للربيع العربي والإسلاميين، والصورة الشهيرة لعبد الفتاح البرهان وهو يعطي التحية العسكرية لقائد الانقلاب في مصر، بات واضحا أن مستقبل السودان سيكون إقصاء التيار الإسلامي، بعدما وضع اليساريون والليبراليون أيديهم في يد العسكر على الطريقة المصرية، وقبلوا بإقصاء الإسلاميين.

أيضا وبعد حملة الاعتقالات لرموز الحركة الإسلامية واقتحام الجيش مقرها واعتقال العشرات من المسئولين السابقين من أعضاء الأحزاب الإسلامية، بات التيار الإسلامي مكبلا وغير قادر على الحركة في ظل القمع العسكري المتتالي، ودعم التيارات اليسارية لهذا الإقصاء دون الاتعاظ من التجربة المصرية، حين وقف اليساريون والليبراليون مع العسكر ضد الإخوان، فأكلهم العسكر بعدما أكل الثور الأبيض.

 

انقسام الاسلاميين سهل تهميشهم

 

وينقسم التيار الإسلامي في السودان إلى 3 قوى رئيسية، وهي حزبا المؤتمر الوطني الحاكم سابقا، والمؤتمر الشعبي (حزب الترابي)، وجماعة الإخوان المسلمين، ولكنهم جميعا يشكلون تيار “نصرة الشريعة ودولة القانون“.

 

وبسبب إقصاء اليساريين في قوى الحرية والتغيير للإسلاميين، ورفض العسكر مشاركة إسلاميي الحزب الحاكم في أي مفاوضات، وتحفظ باقي القوة الإسلامية على الوثيقة الدستورية، خصوصًا عدم تضمنها مادة الشريعة الإسلامية، بات الإخوان والسلفيون وحزب الترابي السابق هم الطرف الأكثر ضعفًا.

 

وقبل عزل البشير، زار المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في السودان عوض الله حسن المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، وظهر في صور وهو يخط بيديه لافتات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين.

وبعد عزل البشير، أصدرت الأمانة السياسية للإخوان المسلمين بيانا رحَّبت فيه بتلك الخطوة، مؤكدة أن “هذه الثورة المباركة لا تستطيع أي جهة أو حزب احتكارها أو توجيهها، بل الكل مشارك دون إقصاء إلا من يُدان قضائيًا.

وقد اعتبر حزب المؤتمر الشعبي أن الوثيقة الدستورية بها العديد من الثغرات والتناقضات، مستهجنًا خروجها إلى النور بتلك الطريقة والكيفية، خصوصا أنها استبعدت الحركة الإسلامية.

 

وقال نائب الأمين العام لحزب «المؤتمر الشعبي»، الدكتور بشير آدم رحمة، في حوار مع وكالة سبوتنيك الروسية، إن الحزب الشيوعي السوداني، وبدعم خارجي أفلح في قيادة تجمع المهنيين والحراك ضد حكومة المؤتمر الوطني، إلى أن سقط نظام عمر البشير وقفز إلى قيادة الثورة السودانية.

وما زاد من التوجس بشأن هوية من يقودون الثورة هو كشف تجمع المهنيين السودانيين، أن زعيم التجمع هو محمد يوسف المصطفى، وهو قيادي سابق بالجبهة الشعبية لتحرير السودان (قطاع الشمال)، وهو الفصيل الذي قاد انفصال الجنوب، ويُتهم من قِبل الكثيرين في السودان بعدائه للتوجه الإسلامي والعروبي في السودان.

وتُعتبر الحركة الإسلامية السودانية الذراع الدينية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقا، ولكن الكثير من أعضائها ابتعدوا عن حكم البشير مؤخرا.

 

وتأسست الحركة عام 1954، واحتفظت باسمها الحالي منذ عام 2004 ، واستمرت كمرجعية فكرية لحزب المؤتمر الوطني الذي تأسس عام 1991، حتى بدأ الشقاق داخلها.

 

وقبيل إعلان وزير الدفاع السوداني السابق “بن عوف” عزل البشير، ثم تولي البرهان وعزله “بن عوف”، بادر الأمن السوداني بمداهمة مقر الحركة واعتقال عددٍ من عناصرها.

وفي عام 2013، انشقَّ عن البشير أبرز قادته الفكريين الإسلاميين غازي صلاح الدين، إثر تعامل الحكومة الفظّ مع هبة شعبية قتل فيها أكثر من 200 قتيل طبقاً لإحصائيات غير رسمية.

 

وأسَّس صلاح الدين حركة «الإصلاح الآن»، وتبعه بعض الإسلاميين الشباب الذين يرون أنفسهم أكثر انفتاحا وليبرالية على المستوى السياسي.

 

واتَّهم صلاح الدين قوى سياسية لم يسمّها بممارسة الإقصاء ضد الآخرين، في إشارة إلى «قوى إعلان الحرية والتغيير»، مؤكدا رفض الجبهة كافة أشكال الإقصاء.

ويبدو أن اليساريين كانوا يعدون للانقلاب على البشير عبر رموز في الجيش، ولكن جاء أنصار الإمارات والسيسي لينفذوا انقلابا ضده، مستغلين الثورة في الشارع، وهو ما يجعل التيار الإسلامي في كل الأحوال الطرف الأضعف، خاصة أن قوات الدفاع الشعبي “الجنجويد” باتت هي عصا الانقلاب وأداة الإمارات في قمع الثورة والإسلاميين معا بالتعاون مع اليساريين، يحسب كريم محمد بموقع “الحرية والعدالة”.

وقد أوضحت جماعة الإخوان المسلمين أنه لا علاقة لها بالبشير، وكانت معارضة له ولكثير من مواقفه الأخيرة، إلا أن قوى اليسار استمرت في تشويه صورتها وإقصائها بدعوى أنها جزء من النظام السابق.

ومع هذا تشير التطورات السودانية إلى صعوبة إقصاء الإسلاميين، خصوصا لو تمت انتخابات حرة ونزيهة بعد 3 سنوات، وعدم وجود انقلاب عسكري يجهض مكاسب ثورة السودانيين الاخيرة؛ نظرا لما يتمتعون به من علاقات ونفود بنوها  طوال الثلاثين عامًا الماضية ، في الدولة وأجهزتها…

 

اشكاليات مستقبلية

 

ومن الاشكاليات التي قد تثور مستقبلا، عدم تحديد آليات محددة للإجراءات الدستورية في المرحلة الانتقالية، فمثلا نصت الوثيقة على آليات إعداد دستور جديد، وهو أمر لم يتم تحديده، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه للخلافات حول القوى والأفراد المشاركة وصياغة النصوص الدستورية، وكيفية الترجيح بين الاقتراحات لها.

ومن الاشكاليات التي تهدد مستقبل الاتفاق، نص الوثيقة على استمرار التعامل مع الجرائم المختلفة التي ارتكبها النظام السابق خلال الثلاثين سنة الماضية من خلال لجنة إفريقية (وليس عربية)، وهذا يعني أن أطراف النظام السابق (أو من يمكن أن يصنف على هذه الشاكلة) سيعمل على عرقلة المسار بكامله..

من جهة ثانية، ينطرح تساؤلا مهما، حول ماذا لو تبين مع التحقيق أن بعض أعضاء المجلس السيادي شاركوا في جرائم النظام السابق، فهل سيتم عزلهم؟ ومن سيعزلهم؟ ومن سيحل مكان المعزول؟ مع العلم أن معظم العسكريين في المجلس السيادي الجديد هم من أعمدة النظام السابق، بحسب مراقبين للشأن السوداني..

على أية حال يبقى ملف دماء ضحايا الثورة السودانية أمام مبنى القيدة العامة أحد الاشكالات المستقبلية، التي تثبت نزاهة وثورية قوى الحرية والتغيير ، الذين رفعوا شعار “الدم قصاد الدم لو حتى مدنية”، ولا سيما في ظل خروج لجنة تحقيق شكّلها مكتب النائب العام بنتيجة حمّلت عسكريين متفلتين المسؤولية عن مجزرة الخرطوم، ونجح الطرفان في عبور هذا التحدي بالاتفاق على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، قوامها عناصر مشهود لها بالنزاهة والكفاءة.

وهو ما قد يتلاعب بهم العسكريون، الذين طالبوا بحصانات مطلقة، وهو ما جرى تجاوزه بإمكانية رفع الحصانة في حالة موافقة ثُلثي أعضاء المجلس التشريعي، الذي سيُشكّل من عناصر الثورة بنسبة 67%…

 

مستقبل الثورة مجهول

وإزاء تعقيدات المشهد السياسي السوداني، بعد الاتفاق على بدء المرحلة الانتقالية، ينطرح سؤال محوري، حول؛ هل نجحت الثورة السودانية؟

وهو أمل للجميع أن تنججح ، بغص النظرعما يشوب مراحلها من اقصاء للبعض، أو تصعيد لقوى عملت ضدد مصالح السودان ووحدتها وعروبتها، فنجاح الثورة السودانية هو أمل كل القوى الحية في البلاد العربية، لأنها ستشكل دعما للتجارب الثورية القائمة..

إلا أن الثورة السودانية ما زالت في مرحلة مخاض عصيب، يصعب من الآن الحكم على نجاحها، فهي بالكاد دخلت مرحلة تجسيد أهدافها، وهذا مشوار طويل، لا يقدّر بالحساب الزمني، وإنما بمدى استمرار وجود الإرادة الصلبة في بلوغ مراميه.

وحتى يكتب للثورة السودانية النجاح، وهي التي ألهمت الجميع دروسا كثيرة في الإبداع والتنظيم والقدرة على الصمود والتحدي، لا ينبغي فقط التهليل بنجاحها الرمزي، وإنما التنبيه إلى المخاطر المحدقة بها، وتلك التي ستتربص بها لاحقا لإفشالها، كما حصل مع ثورات شعبية سابقة أجهضت في مهدها، أو تم وأدها، قبل أن يشتد عودها.

ثمة عدة أسباب تدفع إلى عدم التسرّع في الحكم على نجاح الثورة السودانية، أولها أن ما سقط هو رأس النظام، أما النظام فما زال قائما، ولا أدل على ذلك من أن قادة المجلس العسكري هم جزء من النظام الذي حكم به الرئيس السوداني المعزول البلاد ثلاثة عقود ونيف بقبضة من حديد ونار، فرئيس المجلس العسكري الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، كان عقيدًا للمخابرات العسكرية، وهو متورّط في جرائم ارتكبت ضد سكان إقليم دارفور. والرقم الثاني داخل المجلس العسكري، محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، هو القائد بلا منازع لقوات الدعم السريع، وهي وحدة مكونة في الأصل من مليشيات الجنجويد التي نشرت الموت والرعب والخراب في إقليم دارفور، ومتهمة بقتل متظاهرين ورمي جثثهم في نهر النيل.

السبب الثاني الذي يدفع إلى التنبيه من مغبة المبالغة في التعبير عن الفرح في وقت يستدعي كثيرا من الحذر واليقظة، موضوعي، مرتبط بموازين القوى على أرض الواقع ما بين العسكر وقوى الحرية والتغيير، فالعسكر يستند إلى مؤسسة نظامية قائمة، هي التي حكمت البلاد منذ استقلال السودان، وحتى إن اختلفت الآراء بين قادته، فهو يبقى وحدة متماسكة تعرف كيف تتجنّب المخاطر في الأوقات الصعبة، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية ببعض رموزها، كما حصل مع رئيسها السابق عمر البشير الذي اعتقله زملاؤه حفاظا على المؤسسة نفسها. تكرّر السيناريو نفسه في مصر إبّان ثورتها، عندما تم التخلي عن الرئيس المخلوع حسني مبارك، من أجل أن تبقى المؤسسة العسكرية تحكم البلاد، حتى بعد انتخاب رئيس مدني، إلى أن قامت بالانقلاب عليه، وفي المقابل، تتكوّن حركة الحرية والتغير من قوى مختلفة، لحمتها في لحظة تاريخية فاصلة حرارة الثورة الشعبية، وكلما انخفضت درجة هذه الحرارة أو ابتعدت عن مركز قوتها، وهي هنا اللحظة الثورية التي خرج فيها الشعب السوداني إلى الشارع كتلة واحدة للمطالبة بإسقاط النظام، إلا وبرزت الخلافات بين مكوناتها واحتدّت الانقسامات داخل صفوفها.

السبب الثالث الذي يدعو إلى مزيد من الحيطة والحذر مرتبط بطول الفترة الانتقالية التي  ستستمر 39 شهرا، وهي مدة طويلة قياسا إلى المهام المفترض أن تنجز خلالها، وقد يمكّن طولها العسكر من ربح مزيد من الوقت، لاسترجاع أنفاسهم وإعادة تنظيم صفوفهم واستعادة زمام المبادرة من المدنيين، لإعادة الوضع إلى ما كان عليه. وفي المقابل، من شأن طول هذه الفترة أن يفتّ في عضد وحدة الحركة، ويضعفها من الداخل، بسبب الاختلافات بين مكوناتها، والتي بدأت بالظهور، وقد يعمل العسكر في المستقبل على مزيد من شق الصفوف داخل الحركة، لإضعافها وإفقادها مصداقيتها داخل الشارع، لفصلها عن الشعب الذي تستمد اليوم شرعيتها من تمثيله أمام المجلس العسكري، وداخل المجلس السيادي.

السبب الرابع مرتبط بالتحدّيات الخارجية التي قد تواجه الثورة، ومصادرها غير خافية، تتمثل في محو الثورات المضادة التي لن يهدأ لها بال، حتى تجهض الثورة السودانية، وتفشل تجربة الانتقال الديمقراطي السوداني. ولا ينبغي الاطمئنان للترحيب الصادر عن عواصم الدول المعادية لثورات الشعوب العربية، فقد سبق لها أن رحّبت بانتصارات شعوب أخرى في وقتٍ كانت تعمل فيه جاهدة لإخماد ثوراتها وإشعال الحروب المدمرة في بلدانها.

ما تحقق حتى الآن في السودان نصف انتصار للثورة السودانية، وهو انتصار رمزي بكل المقاييس، ولن يصبح نجاح الثورة حقيقة قائمة على أرض الواقع، حتى تتم إزاحة جميع رموز النظام السابق، وتقديم المجرمين منهم إلى العدالة، وإقامة نظام ديمقراطي حر تكون فيه السيادة الحقيقية للشعب، والشرعية الوحيدة هي تلك المستمدة من الشعب.

كما تبقى المشكلة الأبرز التي ستواجه الحكومة الانتقالية هي إدارة الاقتصاد السوداني وإخراجه من أزماته التي خلفها النظام السابق والتي لا تخفى على أحد، ومدى صعوبة الوضع الذي تركه النظام السابق من تكدس في الديون وبيع الموارد الحية التي تساعد في نهضة الاقتصاد السوداني من مشاريع زراعية استراتيجية وغيرها من المشاريع.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022