تركيا وتجاوز الخطوط الحمراء

بقلم: حازم عبد الرحمن

منذ إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924 , تم وضع خطوط حمراء أمام الجمهورية التركية الجديدة  حتى لا تفكر في استعادة قوتها من جديد, يوم كانت الدولة العظمى الوحيدة في العالم صاحبة القرار الذي لم تكن دولة تستطيع مراجعته, وقد ذاقت أوروبا مرارة هذه القوة حتى في رسائل السلطان العثماني إلى ملوكها وحكامها, حيث كان يخاطب ملكة بريطانيا بـ ” أيتها الملكة الخاضعة لسلطاننا …”, وقد استغرقت أوربا فترة طويلة في التآمر على دولة الخلافة,  حتى نجح مصطفى كمال أتاتورك ومجموعة من العسكر واليهود في إسقاط الخلافة, ومن ساعتها وضعت أوروبا خطوطا حمراء حتى لا تعود هذه القوة مرة ثانية لتهدد المصالح الأوروبية؛ فعمل أتاتورك ورفاقه على التغريب ومحو الهوية الإسلامية, وسحق أي توجه نحو ماضي الأمة التركية وتراثها, كما جرى تغيير الحرف العربي في اللغة التركية ليتم كتابتها بحروف أجنبية , وقد طالت هذه المأساة أذان الصلاة, ما مثل جرأة غير مسبوقة على الدين في بلد إسلامي.

وبرغم كل ذلك كان الإسلام حاضرا في ضمير الشعب التركي, حتى جاء نجم الدين أربيكان ووصل إلى رئاسة الحكومة, لينقلب عليه العسكر, ويغلقوا له الحزب تلو الآخر, ليظهر واحد من أنبغ تلاميذه هو رجب طيب إردوغان, ويشكل حزبا جديدا ” العدالة والتنمية” ويخوض الانتخابات ويكسب ثقة الجماهير التركية, وينفذ برنامجا غير مسبوق في نهضة البلاد, ويناصر قضايا العالم الإسلامي والحريات, دون مواءمات سياسية, وهو أمر لم يحدث منذ إسقاط الخلافة العثمانية؛ حيث كانت تركيا تسير في ركاب أوروبا بحكم العسكر. 

وحققت تركيا في عهد إردوغان نجاحات كبيرة في مجالات التصنيع والسياحة وسائر المجالات؛ ما جعلها قوة اقتصادية كبرى تحوز مكانة مرموقة ضمن أقوى عشرين اقتصادا في العالم, كما أصبحت قوة عسكرية كبيرة تتقدم على ألمانيا في ترتيب ميزان القوى العسكرية.. كل هذا جعل أوروبا وأمريكا وروسيا تنظر بحذر شديد إلى تركيا وقوتها المتنامية على الصعد كافة؛ فكان لا بد من إشغالها بمشكلات داخلية وحدودية مع تنظيمات كردية انفصالية, وتهديدها بين الحين والآخر بعقوبات اقتصادية, لكنها صمدت ونجحت في التصدي للعقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو العقوبات التي يهدد بها الاتحاد الأوروبي, وكان الرضا الأمريكي الأوروبي عن محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها بعض العسكريين من أتباع فتح الله جولن المقيم بالولايات المتحدة كاشفا عن حالة التآمر على تركيا لإسقاط إردوغان وتجربته غير المسبوقة في تركيا التي تغري الكثير من الشعوب الإسلامية بتكرارها؛ فكان لا بد من محاولة وقف هذا النمو التركي المطرد الذي بات يجذب إليه أنظار قيادات ودول مهمة في العالم مثل باكستان وماليزيا بالإضافة إلى الشعوب المسلمة التي ترى في تجربة إردوغان نموذجا ناجحا جديرا بالاحتذاء.

لذلك عندما شنت تركيا عملية “نبع السلام” في الشمال السوري انطلقت صرخات الرفض من أوروبا وأمريكا, وظهر الهجوم الإعلامي على تركيا التي تعهدت بالخروج من الشمال السوري فور انسحاب الأكراد الانفصاليين إلى مدى 30 كيلو مترا, ورغم موافقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البداية إلا أنه عاد ليدعم مجددا قوات “قسد” الانفصالية التي سرعان ما وجدت دعما كبيرا غير متوقع من أوروبا وروسيا, التي خانت اتفاقاتها وتعهداتها السابقة لتركيا, كما فعل دونالد ترامب بالضبط, وأخذت روسيا في دعم قوات “قسد” والتوسط بينها وبين بشار الأسد الذي بادر بالموافقة على طلبات الانفصاليين عن سورية , رغم أن واجبه أن يقاتلهم حتى يفرض سلطة الدولة السورية على كامل ترابها الوطني, لكن لأن الرأي هنا ليس لبشار الأسد وإنما لصاحب القوة المسيطرة على سورية وهو الرئيس الروسي بوتين الذي لا يطمئن لصعود تركيا, ولا يرتاح إلى قوتها المتعاظمة, مثله في ذلك مثل أوروبا وأمريكا فبدا الجميع متفقين ضد تركيا, كما انضم إليهم حلف الثورة المضادة المتمثل في السعودية والإمارات, وذلك حتى لا  تكمل القوات التركية عملياتها ضد الانفصاليين الأكراد؛ لتخرج بعدها من شمال سورية, كما تعهدت .

وقبل هذه الأحداث الأخيرة لم يكن توجه الإعلام في روسيا وأوروبا ينظر بعين الارتياح إلى تركيا, فقد كان إعلام هذه الدول يهاجم إردوغان باستمرار, وتصريحات الساسة الأوروبيين ومواقفهم ضد إردوغان مشهورة,  لكن إردوغان كان يرد لهم الصاع صاعين, وقد قاطع المستشارة الألمانية عندما أساءت إلى الإسلام, وأجبرها على الاعتذار, كما هاجم الرئيس الفرنسي ماكرون عندما تحدث بلهجة غير مناسبة, وأوقف الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي عند حده عندما اعترض على استضافة تركيا للرئيس السوداني السابق عمر البشير وقال له: احذر أنت تتدخل في سيادة تركيا؛ فصمت ساركوزي دون تعقيب.

لذلك لم يكن غريبا أن يتوحد الجميع من أوروبيين وأمريكيين وروس ومحور الشر العربي, وكذلك إيران للوقوف في وجه تركيا التي باتت تنحاز إلى القضايا العادلة دون أي حسابات, ومن أبرزها انحيازها إلى خيارات الشعوب العربية في ثوراتها ضد أنظمة القمع والاستبداد, وقد استعصت على مؤامرات إخضاعها التي وصلت حد محاولة الانقلاب العسكري بتمويل إماراتي سعودي ورضا أوروبي أمريكي.              

*تركيا تواجه الجميع

وردا على تراجع أمريكا وروسيا عن تعهداتهما السابقة وانحيازهما مع الاتحاد الأوروبي إلى قوات ” قسد” الانفصالية فاجأ إردوغان الجميع بتصريح غير متوقع قال فيه: إننا “لن نتوقف حتى يغادر آخر إرهابي المنطقة، ولن نرحل من سوريا إلى أن تخرج الدول الأخرى”, وربط انسحاب قواته من سوريا بانسحاب الدول الأخرى، مضيفا للصحفيين أثناء عودته من زيارة أجراها إلى المجر،  أن قوات بلاده ستواصل عملياتها العسكرية شمال شرق سوريا، والتي بدأتها في أكتوبر الماضي؛ حتى تتمكن من طرد المقاتلين الأكراد من كل المناطق الحدودية.

والحقيقة أن هذه رسالة مباشرة إلى جميع الأطراف التي تقف في وجه المشروع التركي لتأمين حدوده, وتحديدا روسيا وأمريكا وإيران، مفادها أن تركيا ليست الدولة التي يمكن أن تترك أمنها القومي عرضة للخطر.

وهذه المواجهة اضطرارية بالنسبة لتركيا التي وجدت نفسها مجبرة على أن تؤكد مرة أخرى أنها لن تتهاون في أمن أراضيها، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي حيال عدم التزام روسيا وأمريكا، بما تم التفاهم عليه, وأن لديها الحق في استكمال أي عمل عسكري في الأراضي السورية، تراه ضروريا لحماية أمنها خاصة في ظل الخروقات التي تقوم بها قوات ” قسد” خاصة أن هذا حق شرعي لها وفق اتفاقية أضنة الموقعة في العام 1998 .

وهناك هدف آخر أعلنته تركيا وهو إعادة ما يمكن من اللاجئين السوريين إلى الشمال السوري, ولا شك أن بقاء هؤلاء اللاجئين في تركيا سيجلب المزيد من الصعوبات أمام الحكومة التي تصاعدت أمامها المشكلات بسبب هجوم المعارضة التركية ورفضها استضافة ملايين السوريين كلاجئين, ولا يغيب ذلك بالطبع عمن توحدوا ضد تركيا؛ فهدفهم قد تجدد في إثارة المتاعب الداخلية لإردوغان وحزبه.

وهناك سؤال مهم لماذا يطالب الجميع بخروج القوات التركية من الشمال السوري.؟ وإذا اعتبرنا الوجود الروسي والإيراني جاء بطلب من نظام بشار الأسد فما شرعية وجود الأطراف الأخرى في سوريا، مثل أمريكا، وفرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني .

إنها لحظة الحقيقة التي تكشفت الآن تماما, وهي أن المشكلة في تركيا تتمثل في تجاوزها الخطوط الحمراء من النمو الاقتصادي والعسكري وانحيازها لثورات الشعوب ضد أنظمة الاستبداد, ما جعلها نموذجا يخشى من تكراره على مصالح أوروبا وأمريكا وروسيا وإيران التي وقفت جميعها ضد الربيع العربي وانحازت إلى الثورات المضادة.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022