خرائط جديدة تتشكل والدين في قلب التفاعلات

 


الشرق الأوسط وصفقة القرن

خرائط جديدة تتشكل والدين في قلب التفاعلات


مؤشرات عدة في سياقات مختلفة، تؤكد أن هناك تغييرات تاريخية وكبيرة، يعد لها في المنطقة. يشارك في تخليقها، واشنطن، ومن وراءها تل أبيب، مع حلفائهم من دول المنطقة، في مصر والسعودية والإمارات على وجه الخصوص. هذه التغييرات تقابل بالرفض من تركيا، وإيران، وروسيا. وأيضاً من الإتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالتصعيد ضد إيران. ويبقى الموقف الصيني غير واضح المعالم حيالها.

هذه التغييرات هي: أن تصبح إسرائيل وكيل الولايات المتحدة وخليفتها ووريثة نفوذها في المنطقة؛ بعد الانسحاب الأمريكي –البادي للعيان – من المنطقة، تحت شعار أمريكا أولاً، الذي بات المحدد الأول للسياسات الخارجية الأمريكية في ظل حكم دونالد ترامب. وهو ما يستدعي تصفية تامة ونهائية للقضية الفلسطينية؛ عبر إعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وإسدال الستار على حق العودة، وإنشاء كيان هلامي بين مصر وفلسطين، كمعسكر إيواء للتخلص من الفلسطينيين، يشبه – للمفارقة – معسكرات الاعتقال الأوروبية في القرن العشرين، كنهج في التخلص من الزوائد البشرية، تحت رقابة مصرية إسرائيلية مشتركة. مع خلق عدو جديد، يقوي روابط التحالف بين الإخوة الأعداء (مصر، السعودية، الإمارات، إسرائيل)، ويغذي التعاون المشترك؛ باعتبار الخوف هو الداعم للتعاون على الصعيد الدولي، وفق الرؤية الواقعية. هذا العدو هو إيران، وجماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف والتنظيمات الجهادية، والموروث الديني المغُذي لايديولوجياتهم.

ومن المرجح أن هذا التحالف المدعوم أمريكياً – طور التشكل – رغم إعلانه الحرب على الإسلام السياسي، أو جماعات التطرف الإسلامي العنيف، كما يسميه مستشار الرئيس الأمريكي، مايك بينس، هذا التحالف رغم إعلانه الحرب على إيران وجماعات الإسلام السني المعارضة للتحالف المدعوم من واشنطن، إلا أنه –أي التحالف – غير قادر أو راغب في التخلص النهائي منها، لأن هذه القوى "قوى الشر"، هي التي تغذي هذا التحالف، وتمده بالشرعية اللازمة لاستمراره.

أما عن دور الدول العربية المشاركة في التحالف الجديد -الممهد لظهور الناتو العربي وصفقة القرن- فهو لا يتجاوز السير في ركاب تل أبيب؛ بحثاً عن شرعية خارجية، ودعم أمريكي/ إسرائيلي، يخولهم البقاء في مناصبهم، مع تنامي حدة السخط والرفض والتذمر، داخل بعض مجتمعات هذه الدول، من ممارسات نظمهم، وهروباً من مشكلات بنيوية تواجهها –تتعلق بالخلافة السياسية أو آليات تداول السلطة، ومحاولة منها جميعها، التجهز لسنوات قادمة يغلب عليها الضبابية واللايقين بشأن مستقبل النظام الدولي ككل، في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية، مع عجز بكين عن الحلول مكان واشنطن في قيادة النظام الدولي، وغلبة منطق الشبكية وتشتت القوة داخل هيكل النظام الدولي الذي بدأت ملامحه الصلبة تتلاشى ويتخذ شكل هلامي غير محدد.

خلال هذه السطور، سنحاول التقاط أجزاء الصورة التي تمكننا من تركيب المشهد ورؤيته كاملاً تمهيداً لاستشراف مآلاته.

تكريس التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية:

في مؤتمر وارسو، الذي عُقد في العاصمة البولندية، يومي 13/ 14 فبراير 2019، بغرض تعزيز "السلام والأمن في الشرق الأوسط"، وبحضور ممثّلين عن نحو ستين دولة، وبعد مرور نحو شهر على دعوةٍ أطلقها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في خطاب ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة؛ لتنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة نشاطات إيران "المزعزعة للاستقرار" في منطقة الشرق الأوسط[1]. خلال المؤتمر طالب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بضرورة التقريب بين دول الشرق الأوسط، والابتعاد عن "التفكير التقليدي" الذي يعزل إسرائيل، وقال بومبيو أن الولايات المتحدة تهدف من خلال مؤتمر وارسو إلى جمع الدول التي لها مصالح مشتركة في المنطقة، وإن المؤتمر يؤسس للعمل المشترك لمواجهة التحديات والأزمات في الشرق الأوسط. وأضاف أن "هناك مصالح مشتركة بين السعوديين والإماراتيين والبحرينيين والأردنيين والإسرائيليين"[2].

وخلال مؤتمر صحفي جمعه بنظيره البولندي "ياتسيك تشابوتوفيتش" علي هامش هذا المؤتمر،  أشار بومبيو إلي أن مؤتمر وارسو يشكل خطوة إيجابية من أجل تنظيم الوضع في الشرق الأوسط، موضحا أنه «للمرة الأولي في التاريخ الحديث شهدنا وفدا إسرائيليا جنبا إلي جنب مع وفود عربية»[3].

ولعل صورة الوزير اليمني إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي، واللقاءات التي عقدها نتنياهو مع مسؤولين عرب مشاركين في المؤتمر، فضلاً عن حجم احتفاء دولة الاحتلال الإسرائيلي بمجريات المؤتمر، بما في ذلك قول نتنياهو "نصنع التاريخ"، تكفي للكشف عن الهدف الحقيقي للمؤتمر والمتمثل في التطبيع مع إسرائيل[4].

وقد نشر "نتنياهو" على حسابه في "تويتر" خبراً يتضمن صورة له إلى جانب اليماني، وكتب فوقها بالعبرية "نصنع التاريخ". كما قال لصحفيين، أن العشاء الافتتاحي للمؤتمر شكل "منعطفاً تاريخياً". وأضاف: "في القاعة جلس حوالي ستين وزيراً للخارجية يمثلون عشرات الحكومات، ورئيس وزراء إسرائيلي ووزراء خارجية دول عربية بارزة، وتحدثوا بقوة ووضوح ووحدة غير عادية ضد التهديد المشترك الذي يشكله النظام الإيراني". وتابع "أعتقد أن هذا يدل على تغيير وتفهم مهم لما يهدد مستقبلنا وما نحتاج إليه لضمان أمنه، وإمكانية التعاون ستتوسع إلى أبعد من الأمن لتشمل كل جانب من جوانب الحياة". وفي العشاء الذي أقيم في قلعة وارسو الملكية، قال مسؤولون، إن نتنياهو جلس على طاولة واحدة مع مسؤولين كبار من السعودية والإمارات والبحرين. وكان نتنياهو التقى في مقر إقامته في وارسو وزير الشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي. ومن جهته، قال وزير الخارجية البحريني خالد آل خليفة، رداً على سؤال إن كانت مملكة البحرين ستدعو نتنياهو للزيارة، لدى خروجه من جلسة المؤتمر، "سيحدث عندما يحدث"[5].

وخلال المؤتمر أعلن جاريد كوشنر أن الإدارة الأميركية ستقدم "صفقة القرن" بعد الانتخابات الإسرائيلية. كلام كوشنر نقلته عنه وسائل إعلام إسرائيلية خلال جلسة مغلقة، مع وزراء خارجية مشاركين في مؤتمر وارسو. وأضاف "سيتعين على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تقديم التنازلات"[6].

أما عن موقف السلطة الفلسطينية، فقد أعلنت في وقت سابق مقاطعتها للمؤتمر، وأعربت عن استنكارها له. فقال مستشار الرئيس الفلسطيني نبيل شعث، في مقال نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، أن (بوقوفها كلياً في صفّ الحكومة الإسرائيلية، تسعى (إدارة ترامب) إلى تطبيع الاحتلال الإسرائيلي والإنكار المنهجي للحقّ الفلسطيني في تقرير المصير. ويدخل مؤتمر وارسو في هذا السياق)[7].

يكشف الرفض الفلسطيني عن توقعين؛ الأول: أن رغم قبول السلطة الفلسطينية بالتفاوض وسيلة لحل القضية الفلسطينية، وبمسار أوسلو، وبحل الدولتين، إلا أنها أعلنت مقاطعتها للمؤتمر، ما يظهر أن المؤتمر يتجاوز هذه الخطوط العريضة المتفق عليها بين الجانبين برعاية أممية، وأن ما يسعى إليه المؤتمرين، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لا يحقق مصالح السلطة الفلسطينية رغم تواضعها. وبالتالي فهو أقرب لتصفية القضية الفلسطينية منه إلى حلها بشكل يقبله الطرفين. التوقع الثاني: أن الرفض الفلسطيني للمساعي الأمريكية/ الإسرائيلية، المُباركة عربيا، من القاهرة والرياض وأبو ظبي، يهدد هذه المساعي ويعيقها، ويتهددها بالفشل. وهو ما يضيف عراقيل جديدة أمام الطموح الأمريكي بتصفية القضية الفلسطينية بصورة نهائية فيما يعرف بصفقة القرن.

تفكيك النفوذ الإيراني وحصار طهران:

قبل مؤتمر وارسو، اتهم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، إيران، بتهديد استقرار منطقة الشرق الأوسط، وبتنفيذ اغتيالات في أوروبا، وقبل ساعات من كلمته في المؤتمر، صرح بومبيو، لشبكة "بي بي إس"، أن "التهديد الناجم عن انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط حقيقي"، وإن إيران لها "تأثير ضخم على المنطقة المضطربة، لكن ليس بما يصب في أي شيء جيد". وأكد وزير الخارجية الأمريكي، أن بلاده ستعمل -خلال الأسابيع المقبلة- علي تطوير خطة بالتعاون مع العديد من الدول الحليفة، لوضع تصور حول كيفية وقف تمدد نفوذ إيران في الشرق الأوسط[8].

وخلال مؤتمر صحفي جمعه بنظيره البولندي "ياتسيك تشابوتوفيتش" علي هامش هذا المؤتمر، صرح "بومبيو"، «نحن 60 دولة هنا في وارسو نعتبر أن طهران تشكل أخطر تهديد في الشرق الأوسط، وأن العالم لا يستطيع تحقيق السلام والأمن في الشرق الأوسط دون مواجهتها». وأضاف: «العدوان الإيراني في المنطقة خطر حقيقي، ولذلك لابد من أن يتوحد العالم من أجل إدانة الأنشطة الإيرانية»[9].

وفي لقاء له مع محطة "بولسات" البولندية، قال وزير الخارجية الأمريكي، أن واشنطن ستشكل أوسع تحالف دولي لمواجهة المخاطر في الشرق الأوسط، وإن أحد عناصر هذا الخطر هو إيران التي تقود حملات إرهابية في سوريا ولبنان واليمن والعراق وتغتال أناسا في أوروبا، على حد قوله.

وفي ختام المؤتمر في العاصمة البولندية وارسو، أكد "بومبيو" في تصريحاته، أن «واشنطن» تريد التأكد من عدم توافر المال لدي طهران لنشر الإرهاب، وأن الولايات المتحدة تدعم الشعب الإيراني وتريد له النجاح، لكنها تدرك تماما أن النظام الإيراني يشكل خطرا علي المنطقة، وتعهد بأن تشدد بلاده العقوبات علي طهران وتمارس ضغوطا أكبر عليها[10].

أما نائب الرئيس الأمريكي، مايك بينس، فقد صرح خلال المؤتمر، أن السلطات الإيرانية تسعى إلى تكرار المحرقة اليهودية، (الإبادة الجماعية بحق اليهود في ألمانية النازية)، وتبحث عن وسائل لتحقيق ذلك. معتبراً  أن السلطات الإيرانية تكره اليهود مثل ما كان النازيون يكرهونهم. وقال بينس، أثناء تواجده ببولندا، عقب زيارته لمعسكر "أوشفيتس" النازي السابق في بولندا إن "النظام في طهران يطلق تهديدات قاتلة بنفس الكراهية المعادية للسامية التي ألهمت النازيين في أوروبا"[11].

دعمت هذه التصريحات، ما ذكره مراقبون، من أن فكرة المؤتمر الأساسية، جاءت كمقترح أمريكي لعقد اجتماع دولي من أجل الضغط على إيران/ شيطنة إيران، كمبرر ومشرعن للتطبيع، وللتحالف العربي الإسرائيلي في مواجهة المروق الإيراني الطائفي، الراغب في استعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية –كما يقول مايك بينس[12].

لكن مع عدم إبداء الحلفاء الأوروبيين حماساً حيال الفكرة؛ وبالتالي كان من شأن التركيز على إيران فقط خلال المؤتمر، أن يسلط الضوء على الانقسام في المعسكر الغربي؛ في أعقاب قرار إدارة ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي بين إيران وقوى الغرب. لذلك تم للتوسع في أجندة المؤتمر، ليكون اجتماعا على المستوى الوزاري، "يروج لمستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط، ويناقش بعض القضايا العامة مثل تحديات الأوضاع الإنسانية، وأوضاع اللاجئين، والحد من انتشار الصواريخ، وتهديدات القرن الحادي والعشرين مثل القرصنة الإلكترونية والإرهاب، والا يرد اسم إيران في جدول أعمال المؤتمر[13].

إلا أن المؤتمر ظل ضعيفاً؛ ولعل ضعف حضور القوى الأوروبية في المؤتمر، رغم إنعقاده في الاتحاد الأوروبي -باستثناء بريطانيا، التي أوفدت وزير خارجيتها جيريمي هانت، الذي أشار إلى أن أولوياته تتمثل بالتطرق إلى الأزمة الإنسانية التي تسببت بها الحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن- هو أبرز مؤشر على هشاشة الموقف الأمريكي[14]، وقد بررت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، عدم حضورها المؤتمر، لارتباطها بالتزامات مسبقة، حيث تعارض موعد مؤتمر وارسو مع موعد آخر لحلف شمال الأطلنطي "الناتو"[15].

وقد تبدى ضعف المؤتمر في التمثيل المنخفض لدول عديدة في المؤتمر، فكان حضور أكثر الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، إلا أن إسرائيل أوفدت رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو لتمثيلها، ومثّل الولايات المتحدة الأميركية نائب الرئيس مايك بنس. كما أنه باستثناء المظاهر الاحتفالية التي عبّر عنها المسؤولون الأميركيون، نتيجة تمكّنهم من جمع مسؤولين عرب إلى جانب رئيس حكومة إسرائيل، لم يخرج المؤتمر بقراراتٍ مهمّة؛ ما جعله يبدو كأن هدفه الرئيس توفير غطاء لتطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، بذريعة مواجهة تهديد مشترك تمثّله إيران[16].

إعلان الحرب على التصورات الإسلامية المناهضة للتطبيع:

لعل زيارة البابا فرانسيس للإمارات[17] واستقباله من قبل شيخ الأزهر والحديث عن حوار الأديان، كان أول المؤشرات على محاولات تكريس هذا الواقع الجديد القائم على التطبيع، وعلى العداء لكل القيم والطروحات الدينية الداعية لتحرير الأقصى، والمناهضة للإستبداد وحكم الفرد، والمنادية بحق الأمة في اختيار حاكميها[18].

المؤشر الثاني، هو ما جاء في خطاب نائب الرئيس الامريكي، مايك بنس، في قمة وارسو، حافل بالاشارات والايماءات الدينية، حيث توظيف الدين لخدمة الأجندة الأمريكية في الشرق الأوسط؛ فألمح إلى أن أتباع الديانات الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام) يعودون في جذورهم إلى إبراهيم؛ فمن نسله خرج إسماعيل (أبو العرب) وإسحق (أبو اليهود)، فإبراهيم هو الجذر الذي تفرعت عنه الديانات الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام). كما تحدث عن تاريخ جديد للمنطقة، يجري تدشينه، يصنعه عمل مشترك بين أبناء اسماعيل (العرب) مع أبناء إسحق (إسرائيل). وأن هدف واشنطن في الشرق الأوسط، هو بناء تحالف بين دول في المنطقة، تتشارك هدف القضاء على التطرف الإسلامي العنيف؛ واصفاً زيارة نتنياهو لسلطنة عمان، وزيارة البابا فرانسيس للإمارات، مؤشرات على تطوير المساعي (العربية الامريكية الاسرائيلية المشتركة) في هذا المسار[19].

وبعيداً عن أن هذه التصريحات تزيل آخر الحدود – المختلقة – بين الدين والسياسة، كما هو سائد في الأعراف الدولية. وبعيداً عن الحديث عن برجماتية أمريكية مستعدة لتوظيف كل شيء في تحقيق مصالحها وتبرير مساعيها. وبعيداً عن أن تصريحات بينس تشعر القارئ بأنه يعيش في أجواء تقارب الأجواء السائدة في The Lord of the Rings، بعيداً عن كل هذا، فإن تصريحات مستشار الرئيس الأمريكي، تؤكد ما ذهبت إليه هذه الورقة، من مساعي أمريكية/ إسرائيلية لتطبيع العلاقات العربية مع تل أبيب، وتصفية القضية الفلسطينية، عبر عدد من الإجراءات، منها: إعلان الحرب على التصورات الإسلامية المناهضة للتطبيع والداعية لتحرير القدس من الاحتلال الإسرائيلي. فـ "بينس" يدعو لتدين جديد، يعيش المسلمين واليهود والمسيحيين، في الشرق في رحابه، تحت سيادة إسرائيلية على الإقليم وبالتأكيد على القدس، تدين يقبل بالتطبيع ويعادي إيران.

في هذا السياق ذاته، نٌسكن تصريحات السيسي، في مؤتمر ميونخ للأمن (msc)[20]. فعلى الرغم من أن المؤتمر اهتم بشكل أساسي بالحديث عن "الإنقسام الحاد على جانبي الأطلنطي، بين الولايات المتحدة في ناحية، والإتحاد الأوروبي في ناحية أخرى، وباختلاف نظرة أوروبا، إلى طبيعة العلاقات مع روسيا عن نظرة الولايات المتحدة، وبتزايد عدم ثقة أوروبا في النهج السياسي للرئيس الأمريكي، خصوصا فيما يتعلق بنزعته "الإنسحابية" من ترتيبات عالمية محورية، يقوم على أساسها النظام العالمي الحالي، ومنها إعلان انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وانسحابه من الإتفاق النووي مع إيران، وانسحابه من اتفاقية الشراكة مع دول المحيط الهادي وآسيا، وانسحابه من اتفاقية الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا، إضافة إلى قرارات انسحابه العسكري من سورية ومن أفغانستان بدون التشاور مع حلفائه، ونزعته العدوانية ضد إيران وفنزويلا، وغيرها من التحديات التي تواجه العالم"[21].

إلا أن الرئيس المصري –على الرغم من أنه أتى على ذكر التحديات التي تواجه العالم – آثر أن يٌذكر القادة الأوروبيين المشاركين بالمؤتمر الدولي السنوي بخطورة التطرف والإرهاب، وبدعوهم إلى ضرورة وحتمية الرقابة على دور العبادة باعتبارها حاضنة للأفكار المتطرفة التي تروج لدى البسطاء، مشيراً إلى وعيه بوجود مشكلة حقيقية في الفكر الديني والثقافة الإسلامية لشعوب المنطقة يدفعهم للتطرف والإرهاب، وأنه لهذا السبب دعا لتجديد الخطاب الديني بغرض تجاوز هذه القيم والأفكار المتطرفة[22].

حتى أنه أعاد تفسير أحداث انقلاب 3 يوليو 2013، فقدمها باعتبارها ثورة على الحكم الديني المبني على التطرف والتشدد الذي سيؤدي إلى حرب أهلية. محذراً قادة العالم من الحكم الديني وخطورته، وهو ما اعتبره مراقبون سيراً على خطى محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي ومحمد بن سلمان ولي عهد السعودية، في حملتهم على التصورات الدينية السائدة لدى المجتمعات المسلمة، كجزء من سياسات التطبيع التي يتبنوها طلباً لرضا واشنطن وحلفائها في تل أبيب[23].

الخاتمة:

تسعى واشنطن للتراجع نسبياً عن تحمل عبء إدارة شئون كامل المنطقة بمفردها؛ بعد أن أصبحت تكلفة البقاء فيها عالية. وهي حريصة على أن تتسلم تل أبيب قيادة المنطقة خلافة للولايات المتحدة. وهو ما يستلزم خلق عدو جديد (إيران، وجماعات الإسلام السياسي)، بما يضمن إلتفاف دول المنطقة حول تل أبيب والتطبيع معها؛ مدفوعين بالخوف من هذا العدو. خاصة أن هذه الدول باتت تعتمد على تحالفها مع واشنطن وتل أبيب في الحفاظ على بقائها والإبقاء على مواقعها؛ جراء تآكل شرعيتها وتراجع شعبيتها داخل مجتمعاتها؛ نتيجة تراكم فشلها وقمع أجهزتها واستبداديتها، وعجزها عن تحقيق وعودها بتوفير حياة حرة وكريمة لمجتمعاتها. تستوجب هذه التغييرات إعلان الحرب على التصورات الدينية (الإسلامية) لدى شعوب المنطقة؛ لأنها المغذية لتوجهات رفض التطبيع والعداء للإحتلال الإسرائيلي، ولأنها المغذية لرؤي وأفكار جماعات الإسلام السياسي والمقاومة الحضارية. مع طرح تصورات (دينية) جديدة، تشرعن التطبيع وتقبل بسيادة إسرائيل كسلطة وثقافة على المنطقة، وتشيطن إيران وجماعات الإسلام السياسي وكل ما من شأنه أن يرفض أو يعرقل المشروع الأمريكي، الإسرائيلي، العربي المشترك.

لكن التراجع الأمريكي من المنطقة؛ نتيجة عجزها عن الوفاء بالتزاماتها حيال حلفائها، حتى وإن إدعت أنه انسحاب تكتيكي. والعجز الإسرائيلي المتوقع عن ملأ الفراغ الناجم عن انسحاب واشنطن. وهشاشة النظم الحليفة لواشنطن وتل أبيب في مشروعيهما الطموح. وقدرة القوى الإسلامية على البقاء. وقدرة الثقافة الإسلامية في صيغتها الراهنة الرافضة للتطبيع على الاستمرار. ورفض قوى كبرى لهذه المشروعات (روسيا، إيران، تركيا). وحالة السيولة والغموض التي تشي بأن المستقبل مفتوح على كل السيناريوهات. كل هذه العوامل تقف كعقبات وعراقيل أمام التصور الأمريكي الإسرائيلي المشترك، الجاري تنفيذه.

من جانب آخر، تكشف هذه التطورات عن عودة الأفكار والأيديولوجيات والهويات كمحددات رئيسية للعلاقات الدولية. وعجز التفسيرات الواقعية عن تفسير التطورات الراهنة على الصعيد المنطقة. كما أن هذه التطورات تعيد مجدداً إحياء إطروحة "صدام الحضارات" كمدخل تفسيري "راديكالي" قادر على قراءة الواقع الراهن والتنبؤ بمآلاته.



[1] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مؤتمر وارسو: دلالات المكان والأهداف والخلفيات، 18 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2V4SRzg

[2] الجزيرة نت، مؤتمر وارسو.. بومبيو يروج للتطبيع مع إسرائيل ويهاجم إيران، 14 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2BAYmOW

[3] الأهرام، مؤتمر وارسو: إيران الخطر الأكبر فى المنطقة، 16 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2GMgzwq

[4] رجا طلب، وارسو.. وخبزها "المر"!!، الرأي، 17 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2SGYS8S

[5] العربي الجديد، مؤتمر وارسو: التطبيع أولاً، 14 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2S9DovU

[6] العربي الجديد، مؤتمر وارسو: التطبيع أولاً، 14 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2S9DovU

[7] العربي الجديد، مؤتمر وارسو: التطبيع أولاً، 14 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2S9DovU

[8] الأهرام، مؤتمر وارسو: إيران الخطر الأكبر فى المنطقة، 16 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2GMgzwq

[9] الأهرام، مؤتمر وارسو: إيران الخطر الأكبر فى المنطقة، 16 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2GMgzwq

[10] الأهرام، مؤتمر وارسو: إيران الخطر الأكبر فى المنطقة، 16 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2GMgzwq

[11] روسيا اليوم، نائب الرئيس الأمريكي يشبه إيران بـ "ألمانيا النازية"، 15 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2BIa1vt

[12] Remarks by Vice President Pence at the Warsaw Ministerial Working Luncheon | Warsaw, Poland, 14 feb 2019, link: http://bit.ly/2T3zXvr

[13] جوناثان ماركوس، مؤتمر وارسو: أول محفل دولي يضم عرباً وإسرائيليين منذ تسعينيات القرن الماضي، BBC عربي، 14 فبراير، الرابط: https://bbc.in/2UXdLjP

[14] العربي الجديد، انطلاق أعمال مؤتمر وارسو… وعريقات يؤكد أنه محاولة لشرعنة الانتهاكات الإسرائيلية، 13 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2tpxtZP

[15] الأهرام، مؤتمر وارسو: إيران الخطر الأكبر فى المنطقة، 16 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2GMgzwq

[16] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مؤتمر وارسو: دلالات المكان والأهداف والخلفيات، 18 فبراير 2019، الرابط: https://bit.ly/2V4SRzg

[17] مسلم عبدالودود، بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر يزوران الإمارات: الدلالات والتفاصيل، حفريات، 3 فبراير 2019، الرابط: http://bit.ly/2T6iYbV

[18] أول بابا يزور الجزيرة العربية، بناء على دعوة من ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد؛ للمشاركة في مؤتمر لحوار الأديان، يجمعه بشيخ الأزهر، أحمد الطيب ، وبمشاركة قيادات دينية وشخصيات فكرية وإعلامية من مختلف دول العالم، بهدف؛ التصدي للتطرف الفكري وسلبياته وتعزيز العلاقات الإنسانية، وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان والعقائد المتعددة –بحسب ما هو معلن.

[19] Remarks by Vice President Pence at the Warsaw Ministerial Working Luncheon | Warsaw, Poland, 14 feb 2019, link: http://bit.ly/2T3zXvr

[20]هو أحد أكبر وأهم المؤتمرات التي تناقش السياسة الأمنية على مستوى العالم، يلتقي خلاله المئات من صناع القرار من مختلف دول العالم وفي مختلف المجالات الأمنية والسياسية والعسكرية للتباحث حول أوضاع العالم والتحديات التي تواجهه على مختلف الصعد. وينعقد المؤتمر بشكل سنوي ويستمر ثلاثة أيام، وقد تحوّل من التركيز على قضايا الدفاع فقط إلى منتدى للسياسيين والدبلوماسيين والباحثين.Munich Security Conference, link: https://www.securityconference.de/e

[21] إبراهيم نوار، هل كانت مصر حاضرة في ميونيخ؟، فيس بوك، 17 فبراير 2019، الرابط: http://bit.ly/2XeDENX

[22] شبكة رصد، السيسي لأوروبا: راقبوا المساجد، الرابط:  http://bit.ly/2XdTlFj

[23] الشرق القطرية، على خطى بن زايد وبن سلمان.. السيسي يطالب أوروبا بمراقبة المساجد، 16 فبراير 2019، الرابط: http://bit.ly/2ElqAz5

adminu

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022