حسابات الربح والخسارة بقمة “وارسو”

 


حسابات الربح والخسارة بقمة "وارسو"

 

هل طلق "عرب وارسو" قضية فلسطين والعُروبة إلى الأبد بعدما قبلوا الجلوس رسميا لأول مرة مع رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني وعكسوا بوصلة "العدو" ليصبح "إيران" و"التيارات الإسلامية" بدلا من "اسرائيل"؟

هل خرج نتنياهو من القمة باعتباره الرابح الوحيد، ومعه الحوثيين وأنصارهم بعدما سعوا للظهور بمظهر الداعم للقضية الفلسطينية مقابل وزير خارجية حكومة اليمن المدعومة خليجيا الذي ظهر منسجما ومبتسما مع نتنياهو ومساعديه؟

ومن هو اكثر الخاسرين من القمة إن لم يكن الشعب الفلسطيني والعروبة والامن القومي العربي، بعدما تبدلت العقيدة الاساسية لحكومات الخليج واليمن الذين شاركوا في القمة لتصبح دولة الاحتلال بموجبها "صديق" وتتحول المقاومة الفلسطينية الي "عدو"؟.

فالإنجاز الأساسي لمؤتمر وارسو بالنسبة إلى نتنياهو هو تثبيت صورته كزعيم وكرجل دولة علي مستوى عالمي، وأنه هو فقط القادر على إنقاذ العرب والعالم من براثن الوحش الإيراني، بحسب "رون بن يشاي" المحلل السياسي لصحيفة يديعوت احرونوت في تحليل نشره 15 فبراير 2019.

والتصريحات الحربية لنتنياهو وهو على سلم الطائرة التي أقلته إلى وارسو، وكلامه في وارسو هذا الأسبوع، رفعا مستوى احتمال انفجار المواجهة الإسرائيلية -الإيرانية في سورية ولبنان كان لأغراض انتخابية وايقاع العرب في فخ التطبيع والتعاون المشترك ضد إيران.

لذلك كان نتنياهو هو أسعد الحاضرين لأنه جلس لأول مرة على طاولة واحدة مع عدد لا بأس به من المسؤولين العرب، والمؤتمر كان يهدف إلى دمج إسرائيل بشكل أكبر في المنطقة العربية.

وكان أكثر سعادة لأنه "في وارسو قال ممثلو الدول العربية نعم، نريد أن نحل المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية ولكن لا يمكن حلها إلا إذا قمنا بصد العدوان الإيراني"، لأن هذا يشكل تغييرا كبيرا في الموقف العربي حسبما قال على حسابه على تويتر.

هذه المكاسب الصهيونية دفعت المراسل السياسي لصحيفة يديعوت أحرونوت"، "إيتمار أيخنر" للقول في 15/2/2019 أن "مؤتمر وارسو أثبت أن إسرائيل وصلت إلى مرحلة جديدة في كل ما يتعلق بالتطبيع مع الدول العربية"، وأن التهديد المشترك لإسرائيل ولتلك الدول العربية المتمثل في إيران أصبح الأهم للجميع أكثر من أي أمر آخر.

فهذه هي المرة الأولى منذ مؤتمر مدريد للسلام الذي عُقد سنة 1991، التي يشارك فيها رئيس حكومة إسرائيلية في مؤتمر دولي بحضور وزراء ونواب وزراء خارجية من 11 دولة عربية هي: السعودية، البحرين، قطر، اليمن، سلطنة عُمان، المغرب، الإمارات العربية المتحدة، الأردن، مصر، الكويت وتونس.

من ربح ومن خسر؟

كان مؤتمر وارسو محاولة أميركية غير ناجحة لبلورة معسكر دولي واسع مؤيد لأهداف السياسة الخارجية الشرق أوسطية والأوروبية لإدارة ترامب، أبرزها التحالف ضد إيران، بعدما شاركت دول اوروبية بمستوي منخفض ورفضت مثل ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا وإيطاليا اتخاذ خطوة معادية لإيران بصورة قاطعة، لذلك يعد ترامب أحد الخاسرين في وارسو، ولكن الامريكان عوضوا هذا الفشل بانسلاخ العرب من عروبتهم وارتمائهم في احضان نتنياهو وتخليهم عن القضية الفلسطينية ما يمهد الطريق بقوة لطرح "صفقة القرن" الامريكية.

والمكسب الامريكي هنا هو من المكوّن الاقتصادي في الصفقة المطلوب من الخليجيين تمويله، فالصفقة كلها تقوم على تحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، مقابل موافقتهم على السلام مع إسرائيل، وتطبيع العلاقات بين الدولة اليهودية وبين العالم العربي.

ولذلك كي لا يفشل المؤتمر فشلاً ذريعاً، قرر كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية أن يضيفوا إلى أهدافهم تجنيد تأييد سياسي واقتصادي لـ "صفقة القرن" التي صاغوها من أجل حل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وهو ما ينسجم مع الهدف المعلن للمؤتمر المتعلق بتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، ما يعطي فرصة لجاريد كوشنير وجايسون غرينبلات، مهندسي "الصفقة" من أجل إدخال تحسينات عليها والحصول على تأييد الدول الخليجية والعربية "المعتدلة".

لهذا يبدو ترامب فائزا من زاوية صفقة القرن وخاسرا فيما يخص مواجهته روسيا او سعيهم لاستعادة التحالف مع أوروبا، ونتنياهو هو أكبر الفائزين، بينما العرب والقضية الفلسطينية هم أكثر الخاسرين.

فقد هدمت الانظمة العربية التي شاركت نتنياهو في وارسو علنا، ومن قبل في اللقاءات السرية، نظرية الامن القومي العربي، القائمة على الدفاع عن الارض المحتلة وهدمت شرعية هذه الانظمة القائمة على ادعاء سعيها لحل القضية الفلسطينية وإعادة الارض المحتلة.

ولم يكن هذا التطبيع العلني والتخلي عن القضية الفلسطينية ليحدث لولا انتصار الثورة المضادة وفرض هؤلاء الحكام رؤي استعمارية على شعوبهم وفرض التطبيع مع العدو واعتبار المقاومة الفلسطينية والحركات الاسلامية عدوا.

"صفقة القرن" جاهزة

ويقول الباحث الاسرائيلي "يوني بن مناحيم" في تقرير نشره "معهد القدس للشؤون العامة والسياسة"، 14/2/2019، أن مصادر رفيعة المستوى في الإدارة الأميركية، أكدت لتل ابيب أن خطة السلام الجديدة للرئيس ترامب المسماة "صفقة القرن" قد أنجزت.

وهو ما أكده أيضا مسؤولون كبار في الإدارة الامريكية قالوا لمحطة "فوكس نيوز" في 11 فبراير الجاري أن الخطة تتضمن 175-200 صفحة، وأن أكثر من خمسة أشخاص لديهم إمكانية الوصول إلى النص الكامل، لهذا بدأت الإدارة الأميركية تتحرك دبلوماسيا في محاولة للدفع قدماً بالخطة في الساحة الدولية والعالم العربي، وينوي الرئيس ترامب نشر الخطة مباشرة بعد الانتخابات في إسرائيل.

لهذا عرض جاريد كوشنير، صهر الرئيس ترامب وأحد مهندسي خطة السلام الجديدة، خلال مؤتمر وارسو صورة عن الصفقة و"أين أصبحت الأمور"، وماذا تتوقع الإدارة الأميركية تحقيقه في الأسابيع والأشهر القادمة، وسيبدأ زيارة اخيرة للمنطقة لاطلاع قادتها على التفاصيل.

وهذا ما دعا نتنياهو للقول: "أنتظر صفقة القرن وأنا مطمئن إلى أن الإدارة الأميركية تهتم بضمان أمن إسرائيل"، إنه ينتظر بفارع الصبر خطة الرئيس ترامب للسلام مع الفلسطينيين.

 

خلق تقسيمات جديدة في الشرق الأوسط

لأن صفقة القرن تنطوي على ترتيبات اقليمية وعربية بجانب الترتيبات على ارض فلسطين، يبدو من الواضح أن الهدف هو خلق تقسيمات جديدة في الشرق الأوسط، تصب في صالح واشنطن وتل ابيب، وهذا كان أحد اهداف مؤتمر وارسو ايضا.

فالهدف من الصفقة والمؤتمر هو حماية وتأمين المصالح الجيوسياسية الأمريكية عبر خلق تحالفات عربية اسرائيلية اوروبية لمواجهة تحالفات ايرانية روسية لها مصالح ونفوذ مضادة في المنطقة العربية.

واللافتة التي وضعت للمؤتمر تحت عنوان «دعم مستقبل سلام وأمن الشرق الأوسط» كانت خادعة، فلم ينعقد المؤتمر من أجل مناقشة جادة لقضايا الشرق الأوسط"، ولم تُطرح خلاله القضية الفلسطينية أو الوضع في سوريا، ونتائج المؤتمر كانت عبارة عن محاولة إطلاق منصة موازية لصياغة قرارات أحادية الجانب، كي تؤثر الولايات المتحدة على سياسات الدول التي حضرت المؤتمر تجاه الشرق الأوسط.

بعبارة أخري جاء المؤتمر كتعبير عن شكل جديد من اشكال سعي الإدارة الأمريكية لرسم خطوط فاصلة جديدة في الشرق الأوسط، تضمن تعزيز مصالحها ومصالح تل ابيب على حساب العرب وحتى الحلفاء الغربيين في اوروبا المستائين من الحليف الامريكي وتفرده بقرارات ومواقف لا ترضي عنها اوروبا.

وهذه الأساليب الأحادية الجانب مثل "صفقة القرن"، و"ناتو الشرق الأوسط" المعادي لإيران المخطط لتشكيله، تستهدف وتؤدي الي مزيد من الانقسامات وربما الحروب في المنطقة العربية، بدلا من لافتة السلام التي يحملها مؤتمر وارسو، ما يجعل من مؤتمر وارسو اشبه بسايكس بيكو لتقسيم النفوذ هذه المرة مع اعطاء الاحتلال الصهيوني نصيبا أكبر علي حساب العرب ايضا.

فقد تسببت الحرب العالمية الاولي وما نتج عن مؤتمر سايكس بيكو عن تقسيم العالم العربي بين قوي الغرب وتفتيته الي دويلات بحدود مصطنعة تسببت في العديد من المشكلات العرقية والفئوية والدينية التي يعاني منها العالم العربي حاليا، ومهدت لحشر الدولة الصهيونية بين هذه الدويلات العربية المصنوعة.

والان تسعي ادارة ترامب لتكرار نفس التقسيمات على حساب العرب ايضا ولكن بشكل مختلف، فإذا كان تقسيم العرب، في المعاهدة الاولي اعتمد على القوميات العربية مقابل التركية، فهو هذه المرة، لن يجري إلى قوميات؛ وإنما هو تقسيم طائفي ديني مذهبي.

إلا أنه تظهر بالمقابل ارهاصات هزيمة لتيار الثورة المضادة العربي منذ واقعة قتل خاشقجي وتداعياتها، وتقدم تيار الربيع العربي، يعززه قناعة الشعوب بانها تعرضت لخديعة من تيار الثورة المضادة الذي فشل في تحقيق تطلعاتها، وقناعتها بأن حكامها يقدمون مصالح الصهاينة على مصالح بلادهم وشعوبهم، وأن "الشعوب" لن تُلدغ هذه المرة من جحر سيايكس بيكو مرة أخري.

الخلاصة

لم يسفر مؤتمر وارسو عن شيء ملموس، ولكنه بدا كمجرد حملة دعائية ضخمة أو "زفة بلدي" يقودها نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بمناسبة عقد قران رئيس الوزراء الإسرائيلي على عروس عربية جديدة من الخليج هذه المرة، بمباركة وحضور أهل العروس والأقارب والأصدقاء، ولكن دون خطوات رسمية للزفاف (التطبيع) حتى الان، مثل فتح سفارات وتبادل زيارات رسمية.

وبرغم القلق على القضية الفلسطينية بتخلي العرب عنها، وقبولهم المتوقع بصفقة القرن التي تضيع ما تبقي من اراضي فلسطين، إلا أن القضية الفلسطينية ليست في وارسو، ولكنها في يد الفلسطينيين والمقاومة فقط، وبدونهم لا قيمة للصفقة وستظل مجرد حبر علي ورق.

والمؤكد أن ترامب ونتنياهو يدركون ذلك، وأنهم سعوا لاستغلال الحدث ككل وكذا التهديد الايراني لدفع الانظمة الحاكمة في الخليج نحو المزيد من الارتماء في احضان اسرائيل تحت دعاوي "مواجهة التهديد المشترك".

لهذا دعا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، العالم العربي والإسلامي إلى عدم التفريط بالقدس وفلسطين وعدم تحريف البوصلة نحو الاتجاه غير الصحيح كما حدث في مؤتمر وارسو.

ودعا "خليجيون ضد التطبيع" لرفض كافة أشكال التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي "أيًا كانت مبرراته"، معتبرًا اللقاءات التي جرت مع نتنياهو "تراجعًا واضحًا في المواقف الخليجية التاريخية من القضية والحقوق الفلسطينية، لا سيما في ظل الهجمات الصهيونية المتزايدة على الحقوق الفلسطينية المتمثلة في استمرار الاحتلال وبناء المستوطنات، وحملات الاعتقال والقتل".

 

 

 

 

 

adminu

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022