قوى الحرية والتغيير في السودان واللحظات الثلاث

التاريخ 28 أغسطس 2019

بدأت الثورة في السودان بتراكم المظالم المجتمعية جراء السياسات التقشفية والقمعية للنظام، إضافة إلى ترهل أجهزة الدولة والفشل والفساد في سائر حزم السياسات العامة، هكذا تبدأ الثورات عادة، أن تتراكم المظلوميات فتضج الجماهير على ما يحدث، ومع ترهل النظام ووجود نقاط مهترئة في الحصار المفروض على حركة الشارع تسمح للغاضبين بالخروج على دائرة الحصار المفروضة عليهم. تشهد دول الثورات في هذا التوقيت ميلاد نخب جديدة، وفي الغالب من خارج عباءة التنظيمات والكيانات التقليدية القائمة. بمرور الوقت تلحق التنظيمات القديمة بركاب الثورة وتتحالف أو تحاول التقارب مع النخب الجديدة القائدة للحراك. يظل التحالف قائماً حتى إذا نجحت الثورة في إزاحة رأس النظام تبدأ الخلافات تدب بين رفاق الأمس، وما تزال تتنامى الخلافات والصراعات وتتباين المصالح والأولويات، حتى تحدث القطيعة التي تستغلها الدولة العميقة في استعادة زمام المبادرة مرة أخرى. عادة هذا ما يحدث في سائر الهبات الشعبية ما لم تسفر عن قوى سياسية متماسكة ولها رؤية واضحة واستراتيجيات واعية ومحددة قادرة على توظيف الزخم الشعبي وتوجيهه والحفاظ عليه وعدم تبديده، واستخدامه في تحقيق مطالب المجتمعات التي خرجت من أجلها.

مما سبق يبدو أن هناك مراحل ثلاث للحراك الثوري؛ المرحلة الأولى: خروج الجماهير للشوارع مطالبة بالتغيير. تستمر هذه المرحلة حتى ينجح المنتفضون في اسقاط الجزء الظاهر من النظام، رؤوسه ورموزه. المرحلة الثانية: المرحلة الانتقالية، والتي تقع بين لحظة الثورة ولحظة الاستقرار أو الدولة، وهي اللحظة التي تشهد بدأ ظهور التباينات بين رفقاء لحظة الثورة، وهي التباينات التي تبدأ قوى الدولة العميقة في محاولة استغلالها في تفكيك الصف الثوري. المرحلة الأخيرة: مرحلة الدولة، وتبدأ مع نهاية المرحلة الانتقالية، وفي السنوات الأخيرة يكون اقرار دستور جديد وبدء عملية انتخابية هي صافرة البداية للولوج لمرحلة الدولة، أو النظام الجديد الذي تدشنه الثورة. وهي لحظة تشهد تحديات أساسية ترتبط بموضوع التقرير؛ التحدي الأول: أن تصبح نخبة الثورة في مواجهة الشارع مع توليها زمام الأمور كبديل للنظام الذي أقصاه الثوار. التحدي الثاني: أن تصبح نخبة الثورة في مواجهة مباشرة مع مشكلات السياسات العامة وتحديات إدارة المشهد السياسي.

نحاول في هذه الورقة استقراء رؤية “قوى الحرية والتغيير في السودان” وتفاعلها مع لحظتي الثورة والمرحلة الانتقالية، كما تحاول استشراف رؤية وموقف الحرية والتغيير من اللحظة الثالثة، وهي لحظة الدولة، وهي مرحلة مستقبلية لم تأت بعد. فالورقة بذلك تستكشف مرحلتين، مرحلة ماضية “الثورة” ومرحلة قائمة أو حاضرة “المرحلة الانتقالية”، وتستشرف مرحلة ثالثة لم تبدأ بعد، وهي مرحلة الدولة.

من أهم الإشكاليات التي واجهها التقرير أن قوى الحرية والتغيير عبارة عن تحالف واسع يتشكل من قوى تمثل مختلف الطيف السياسي والايديولوجي، ومن ثم من الصعوبة بمكان رصد واستشراف رؤيتهم للحظات الثلاث “الثورة، والانتقال، والدولة” في هذه المساحة الصغيرة وفي الوقت القليل المتاح؛ لذلك لجأت الورقة إلى استراتيجية بديلة؛ وهي: رصد واستشراف موقف “تجمع المهنيين السودانيين” كدراسة حالة وذلك لأسباب ثلاث؛ الأول: أن بصمة التجمع واضحة على الوثيقة الدستورية التي بموجبها تم تقاسم السلطة بين قوى الحرية والتغيير وبين العسكريين السودانيين. هذه البصمة يمكن تلمسها من خلال المقارنة بين الوثيقة الدستورية وبين وثيقة للتجمع تطرح تصور المهنيين لإدارة المرحلة الانتقالية في السودان. الثاني: أن تجمع المهنيين هو المكون الأكثر تجانساً بين مكونات قوى الحرية والتغيير. الثالث: أن تجمع المهنيين السودانيين في صياغتهم لرؤيتهم للثورة والانتقال والدولة، أكدوا أنهم استعانوا بباقي قوى الحرية والتغيير في صياغة رؤاهم تلك عن الثورة والانتقال والدولة. كما لجأت الورقة إلى استراتيجية إضافية تتمثل في تقديم قراءة للوثيقة الدستورية التي بموجبها جرى الاتفاق على تقاسم السلطة بين قوى الثورة والعسكريين السودانيين. والدافع وراء تقديم هذه القراءة؛ أن الوثيقة بطريقة ما تعبر عن تطلعات قوى الثورة ورؤاهم بشأن الثورة والمرحلة الانتقالية والدولة.

تتناول الورقة هذه النقاط تحت محاور ثلاث؛ الأول: ويحاول تقديم صورة مختصرة ومصغرة للمكونات المُشكلة لقوى الحرية والتغيير. المحور الثاني: يقدم تصور تجمع المهنيين السودانيين للثورة والانتقال والدولة، من خلال وثيقة منشورة على موقع التجمع على الانترنت تثدم تصور التجمع لهذه القضايا الثلاث. المحور الثالث: يقدم قراءة للوثيقة الدستورية التي بموجبها جرى الاتفاق على تقاسم السلطة بين الثورة والدولة في السودان.

 

خريطة قوى الثورة في السودان:

تتكون قوى الثورة السودانية من خليط واسع من القوى، هذا الخليط الواسع نجده ممثلاً في قوى الحرية والتغيير التي قادت الحراك وفاوضت العسكريين، وكان ثمرة هذا التفاوض الوثيقة الدستورية، والمجلس العسكري المدني المشترك، والحكومة المدنية بقيادة الحمدوك. ومن ثم يكون السؤال عن خريطة القوى الثورية في السودان، هو في حقيقته، عن القوى المكونة للحرية والتغيير السودانية.

أُطلق «إعلان الحرية والتغيير» في الأول من يناير 2019، برعاية أربع قوى رئيسية: «تجمع المهنيين السودانيين»، «الإجماع الوطني»،«نداء السودان»، و«التجمع الاتحادي المعارض». بعدها وفي 11 أبريل 2019، أعلن الجيش السوداني بيانه الذي يُعلن فيه الانقلاب على الرئيس السوداني عمر البشير وتشكيل مجلس عسكري يقود البلاد لمدة عامين[1]. رفضت قوى الحرية والتغيير بيان الجيش وأعلنت استمرارها في الميدان حتى يتسلم المدنيين السلطة؛ حاول العسكريون قمع الثورة من خلال فض اعتصام الثوار بمحيط القيادة العامة للجيش[2]، لكن هذا الإجراء لم يحقق أهدافه واستمرت الفاعليات الاحتجاجية محتفظة بزخمها، ما الجأ العسكريين للتفاوض مع قوى الحرية والتغيير.

  • تجمع المهنيين السودانيين: من اسمه هو تجمع مهني يضم أطباءً، مهندسين، وأساتذة جامعيين، وغيرهم من مُختلف المهن. التجمع تشكل جراء “حظر القانون السوداني تشكيل نقابات مهنية مُستقلة، فبدأ 200 أستاذ بجامعة الخرطوم تكوين نقابة لهم بشكل غير رسمي عام 2012. شجَّع ذلك بقية المهنيين في السودان على الاقتداء بهم، ثم في 2016 قررت ثمانية تجمعات غير رسمية الانضواء تحت لواءٍ واحد اسمه «تجمع المهنيين السودانيين». من بين الثمانية يوجد البيطريون، الإعلاميون، الصيادلة، المعلمون، والمحامون”[3]. ولعل تبني البشير لسياسات تقشفية يكون تأثيرها الأكبر على الطبقة الوسطى، ومعظمها من الأفندية، فيه تفسير لظهور “تجمع المهنيين” بدون وجود هيكلٍ تنظيمي، وتأكيد “التجمع” أكثر من مرة أنه ليس لديه للتحول إلى حزب سياسي[4].
  • قوى الإجماع: هو تحالف تأسس في أواخر عام 2009، متكونًا من 17 حزبًا معارضًا. تتألف الأحزاب السبعة عشر من 4 أحزاب رئيسية، وعدة أحزاب يسارية صغرى. للتحالف هدف محدد وهو رفض بقاء “البشير” في السلطة، وعلى هذا الأساس أتخذ التحالف موقف بعدم المشاركة في الحياة النيابية السودانية[5]. أما الأربعة الكبار في قوى الإجماع، فهم: حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، الحركة الشعبية لتحرير السودان وهي الجناح السياسي لجيش التحرير الشعبي السوداني وقد غرس بذرتها جعفر النميري، حزب المؤتمر الشعبي السوداني الذي أسسه حسن الترابي سنة 1999 عبر انشقاقه عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم، الحزب الشيوعي السوداني.
  • نداء السودان: أطلق في 2014، من العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، كمنصة معارضة. يجمع في صفوفه بين قوى مدنية وقوى عسكرية مسلحة. الصادق المهدي وحزبه على رأس الجناح المدني، بينما يمثل القوى المسلحة “الجبهة الثورية السودانية”[6].

ثمة ملاحظات ثلاث بشأن خريطة قوى الثورة في السودان؛ الأولى: أن تجمع المهنيين هو الكيان الذي قاد الاحتجاجات في أيامها الأولى، ويمكن القول خرج من رحم الأزمة الناجمة عن السياسات التقشفية التي تبناها البشير بإيعاز من صندوق النقد، في حين لحقت به بعد ذلك القوى السياسية التقليدية في تحالفي قوى الإجماع ونداء تونس. الثانية: أن حركة الأحزاب السياسية السودانية بين هذه التجمعات كانت مستمرة؛ فعلى سبيل المثال أنضم الصادق المهدي بداية لتحالف قوى الإجماع ثم انسحب منه لينضم لتحالف نداء السودان، أما حزب المؤتمر المعارض بقيادة الراحل حسن الترابي أنضم بداية لنداء السودان بعدها انسحب منه ودخل في تحالف مع الحكومة والحزب الحاكم، ثم خرج من تحالفه مع الحكومة ليدخل في تحالف مع تحالف قوى الإجماع بقيادة الصادق المهدي[7]. الملاحظة الأخيرة: أن السلفية السودانية لم يظهر لها أي تفاعل لا مع هذه القوى ولا في أية فاعلية للثورة، ويبدو أن غياب المكون السلفي عن الثورة هو تغييب لهم ممن رصد الأحداث في السودان أكثر من كونه غياب لهذه القوى من على خريطة الأحداث، أما عن أسباب هذا التغييب تبدو للباحث غير معروفة.

 

رؤية تجمع المهنيين للثورة والانتقال والدولة:

عرض تجمع المهنيين رؤيته عن نموذج الحكم المثالي، أو نموذج الحكم الذي يرتضيه للسودان في المرحلة الانتقالية في ورقتين لـ “التجمع”؛ الأولى بعنوان (مقترح هياكل الحكم وصناعة الدستور، للفترة الانتقالية في السودان[8])، والثانية بعنوان (مقترح معالم برنامج إسعافي للسودان، في الفترة الانتقالية[9]).

والسؤال المشروع هنا، إن كانت الورقتين تتحدثان عن هياكل الحكم وبرنامج إسعافي للسودان خلال المرحلة الانتقالية فكيف يمكن استخدام الورقتين في استكشاف رؤية تجمع المهنيين للدولة بعد الخروج من المرحلة الانتقالية. الإجابة على هذا السؤال تظهر في ديباجة الورقة (مقترح هياكل الحكم وصناعة الدستور، للفترة الانتقالية في السودان[10]) حيث ترد هذه العبارة (تمر البلاد بمرحلة حرجة، تحتاج ترتيبات استثنائية في أوضاع الحكم وموجهاته حتى تتجاوز تلك الفترة بتوازن واستقرار، وحتى تعبر من تلك المرحلة إلى أوضاع مستدامة ومرضية للشعب، في دولة مدنية ديمقراطية ترتكز على قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، قوامها المواطنة المتساوية وفصل السلطات وسيادة حكم القانون). فكأن ديباجة الورقة وبدايتها فيها تصور تجمع المهنيين عن الدولة التي يرغبون في بنائها، دولة “مدنية ديمقراطية ترتكز على قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، قوامها المواطنة المتساوية وفصل السلطات وسيادة حكم القانون”. كما تظهر في المحاور الرئيسية للورقة؛ فبينما نجد أن المحور الأول يتحدث عن الترتيبات الخاصة بتشكيل السلطات الرئيسية في الدولة خلال المرحلة الانتقالية، نجد أن المحاور الثلاث المتبقية تتحدث عن الدولة السودانية المرغوبة؛ فالمحور الثاني عن العلاقة بين الدولة والمواطنين، والمحور الثالث عن توزيع (تسمية/ وتوضيح السلطات)، والمحور الرابع عن ترتيب مقتضيات السيادة، والمحور الأخير عن المبادئ والسمات الوطنية/ الهوياتية العامة.

وتعكس هذه النصوص موقف تجمع المهنيين من الانتقال ومن الدولة؛ فهي تكشف تعاطي المهنيين مع المرحلة الانتقالية باعتبارها نموذج مصغر ومجتزئ من نموذج الدولة المستهدف الوصول إليها، ومن ثم علاقة المرحلة الانتقالية بمرحلة الدولة هي علاقة الجزب بالكل.

تعاطى تجمع المهنيين مع مرحلة الانتقال والدولة أبدى قبول واسع لسائر القوى السودانية “السياسية، العسكرية، المسلحة غير النظامية، المجموعات الممثلة للمكونات المهمشة في السودان من غير الشمال والوسط. تحاول أن لا تستعدي المكون العسكري وإن كانت تظهر توجس وخيفة منه إلا أنها تحرص على إظهار رغبتها في التعاون معه والتوافق معه على المشتركات. لكنها أبدت عداء أكبر للمكون الأمني “الشرطة” حيث دعت إلى تفكيك المنظومة الحالية وإعادتها هيكلتها مجددا، وللغرابة جعلها خاضعة لسيطرة العسكريين، وهو توجه مفهوم في سياق خوف “التجمع” من خلق كيان مسلح جديد يضاف لعدد واسع من الكيانات المسلحة في السودان، وبالتالي اختار التجمع أن يعزز قوة الجيش بدل من خلق كيان جديد قد يسعى للاستقلال ويمثل فاعل جديد طموح في مجال يعج بالكيانات المسلحة. لم تهتم كثيراً بالحديث عن العزل السياسي وإن كانت تحدثت عن المحاكمات العادلة للمتورطين جرائم بحق الشعب. لم تهتم بإظهار العداء للإسلاميين بصورة سافرة لكنها اختارت أن تطرح رؤاها في الجوانب الثقافية والهوياتية كبديل للنظام الثقافي الإسلامي الهوياتي القائم في ظل حكم البشير، ما يعني أنها رفضت المنظومة ذات الإسلامي الديني في ظل حكم البشير، وطرحت منظومة جديدة، منظومة مختلقة بين الليبرالية واليسارية؛ فهي في الجانب السياسي والاجتماعي تتبنى منظومة القيم الليبرالية، وفي الجانب الاقتصادي تبدو أقرب للطرح اليساري المنادي بعدالة التوزيع وحق المجتمع كله في العمل والسكن والحياة الكريمة.

أما مرحلة الثورة فقد شهدت تنسيق جيد بين كل القوى التي لحقت بالمشهد الثوري، وإن كان هناك شد وجذب بين المكون العلماني والاسلامي في الثورة؛ مع إعلان المكون العلماني رفضه لـ “حكم الكيزان”.

 

قراءة في الوثيقة الدستورية السودانية:

في البداية وبإيعاز من قوى إقليمية حاول العسكريين السودانيين إخماد جذوة الاحتجاج والانقلاب على قوى الحرية والتغيير من خلال فض اعتصام القوى الثورية، لكن مع استمرار التظاهرات بعد الفض، اجبر العسكريين وداعميهم في القاهرة والرياض وأبو ظبي على القبول بالدخول في عملية تفاوض مع قوى الحرية والتغيير. أسفر هذا التفاوض بين الجبهة الواسعة لقوى الحرية والتغيير والعسكريين السودانيين عن الوثيقة الدستورية التي جاءت معبرة عن أوزان هذه القوى ورؤاها وقدرتها على فرض مصالحها وتوجهاتها على باقي الطيف.

وفيما يتعلق بالدور الذي لعبه الخارج في تحديد المسار الذي اتخذته الاحتجاجات في السودان، ثمة من تحدث عن “عقد اجتماع سري لممثلين عن الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، مع ممثلين للطرفين، مهّد الطريق للاتفاق الذي جرى الإعلان عنه بإشراف مندوب الاتحاد الأفريقي والحكومة الإثيوبية في 5 يوليو 2019، والذي كان مقدمة للاتفاق السياسي في 17 يوليو، الماضي ثم الوثيقة الدستورية الأخيرة 4 أغسطس التي تعكس إلى حد كبير ثقل كلا الجانبين”[11].

جاءت الوثيقة معبرة عن هذا القوى المشاركة في تدشينها، وقد عكست بنود الوثيقة موازين القوى بين الكيانات المشاركة في صياغتها، على هذا النحو:

الهوية: عدم النص على هوية الدولة، أو على نصوص الشريعة الإسلامية أسوة بدستور 2005 الذي جعلها مصدر التشريع للمسلمين، حيث اكتفت الوثيقة بالقول بأن السودان دولة ديمقراطية برلمانية تعددية لا مركزية، ونفس الأمر فيما يتعلق بعدم النص على اللغة الرسمية للبلاد. في المقابل نجد أن الوثيقة تركز على فكرة المواطنة وعدم التمييز بين السودانيين على أي أساس ” اللون، الجنس، النوع، الدين، العرق،….[12]. جاء هذا الجزء من الوثيقة متماشي مع اختيارات وميول تجمع المهنيين ومن خلفه المكون العلماني. لكن هذا الجزء سيمثل مشكلة مستقبلاً في حال النص عليه في دستور دائم في البلاد، فمن الراجح أن يرفض الشارع الهوية العلمانية للسودان خاصة مع سيادة الطابع المحافظ على السودانيين، وهو ما سيؤجج الخلافات بين المكون الاسلامي والمكون العلماني وسيفتح المجال لتدخل أكبر للعسكريين للفصل بين المتخالفين، كما سيبطل الشرعية الثورية التي بموجبها صار لتجمع المهنيين هذا الدور في صياغة مستقبل السودان.

الفترة الانتقالية: هي 39 شهر، ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر، هي أقرب لاقتراح الحرية والتغيير التي طالبت بإطالة الفترة الانتقالية لحين استقرار المؤسسات السيادية والحياة السياسية بصفة عامة. لكنها من جهة أخرى جاءت لتكشف نجاح المجلس العسكري في فرض وجهة نظره إلى حد كبير في هذا الشأن؛ حيث سيحكم العسكر 21 شهرا، والمدنيين 18 شهرا.

الثورة: مما يمثل الثورة ككل في بنود الاتفاقية، البنود الخاصة بالغاء القوانين والنصوص المقيدة للحريات أو التي تميز بين المواطنين على أساس النوع. والبنود الخاصة بتفكيك الدولة العميقة منذ حكم الإنقاذ، وبناء مؤسسات جديدة.

المجلس السيادي: جاء يعكس توازن في القوى بين الطرفين.

القوات المسلحة: كشفت المواد الخاصة بالقوات المسلحة عن اعلاء شأن قوات الدعم السريع التي يرأسها حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري واعتبارها أحد فرعي القوات المسلحة شأنها في ذلك شأن الجيش السوداني، ولكل منهما قانونه الخاص، ويخضعان للقائد العام للقوات المسلحة “المجلس السيادي”.

في النهاية جاءت الوثيقة تعكس اختيارات القوى المشاركة في صياغتها وأوزان هذه القوى، وجاءت تظهر كيف استفادت قوى الحرية والتغيير من الاحتجاجات السودانية في فرض نفسها كرقم جديد وهام في معادلة الحكم في السودان، لكنها لم تعكس الثورة في السودان، وكأنه جرى اختزال الثورة في قوى الحرية والتغيير، وجاءت الحرية والتغيير معبرة بصورة كبيرة عن تجمع المهنيين. طوال السنوات الثلاث للمرحلة الانتقالية من الراجح أن تتفجر الخلافات بين التنويعة الواسعة من القوى المشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية، وسيكون شرعية المرحلة الانتقالية والقوى المشاركة فيها على المحك في أول اختبار انتخابي أمام الشعب.

 

 

الخاتمة:

حاولت الورقة أن تستعرض خريطة القوى السياسية في السودان التي شاركت في المشهد الثوري هناك. وتكون هذه الخريطة مدخل للوقوف على مواقف القوى الثورية السودانية من الثورة نفسها ثم من المرحلة الانتقالية ثم من مرحلة استقرار النظام السياسي الجديد الذي يعبر عن الثورة. لكن مع هذا الطيف الواسع من القوى السياسية السودانية التي شاركت في الثورة؛ لجأت الورقة لمسارين؛ الأول: دراسة تصور وموقف تجمع المهنيين السودانيين من الثورة ثم الانتقال ثم الدولة. الثاني: دراسة الوثيقة الدستورية المنبثقة عن الاتفاق الذي رعته اثيوبيا بين قوى الحرية والتغيير والعسكريين السودانيين؛ لأن الوثيقة تعكس رؤى هذا الطيف الواسع وموقفهم من المرحلة الانتقالية ومن الدولة التي يرغبون بها. لكنها من جهة أخرى هي تمثل أوزان هذه القوى وقدراتهم المتباينة على فرض رؤاهم وتوجهاتهم.

في النهاية، هناك من يرى أن مخرجات العملية السياسية في السودان لا تعكس توجهات القوى السياسية المشاركة في المشهد، إنما تعكس حالة من “توازن الضعف، إذ بلغ استخدام القوة الصلبة بواسطة المجلس العسكري مداها بفض اعتصام القيادة العامة، وما ترتب عليه من سقوط ضحايا عقدت من الموقف السياسي والأخلاقي للمجلس، في المقابل بلغ استخدام القوة الناعمة بواسطة قوي اعلان الحرية والتغيير مداها بتحقيق العصيان المدني، وهي اعلي مراحل الاحتجاج الثوري السلمي. وعليه فقد استخدم كل طرف اقصي أدوات سياسة حافة الهاوية، ومع وصول الطرفان لحالة توازن الضعف في استخدام أدوات القوة الصلبة والناعمة، يستحيل أن يمضي كل طرف إلي نهاية الشوط، لأنها تعني معادلة صفرية zero sum game

[1] عصام الزيات، إعلان الحرية والتغيير: 4 قوى تقود الثورة السودانية، إضاءات، 12 أبريل 2019، الرابط: http://bit.ly/2MN22Vh

[2] الحرة، السودان.. 30 قتيلا والحصيلة مرشحة للارتفاع، 3 يونيو 2019، الرابط: https://arbne.ws/2U7JKP6

[3] عصام الزيات، مرجع سابق.

[4] ينظر في هذا السياق أيضا، ‘لى تقرير على موقع الحرة، بعنوان ” ما هو تجمع المهنيين السودانيين؟، صدر في 11 أبريل 2019، الرابط:

[5] عصام الزيات، مرجع سابق.

[6] مجدي الجازولي، سقوط البشير: رسم خريطة قوى الاحتجاجات في السودان، مبادرة الإصلاح العربي، 12 أبريل 2019، الرابط: http://bit.ly/2KLKSHg

[7] المرجع السابق.

[8] رابط الورقة على موقع تجمع المهنيين السودانيين: http://bit.ly/32aspYS

[9] رابط الورقة على موقع تجمع المهنيين السودانيين: http://bit.ly/2PeTEzG

[10] رابط الورقة على موقع تجمع المهنيين السودانيين: http://bit.ly/32aspYS

[11] المحبوب أبو علي، الوثيقة الدستورية السودانية: قراءة قانونية سياسية، 15 اغسطس 2019، الرابط: http://bit.ly/2NAHIpx

[12] المرجع السابق. كما يمكن الرجوع إلى نص الوثيقة ذاتها.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022