سيناريوهات الأزمة في ليبيا.. هل تقف المنطقة على أعتاب حرب إقليمية؟

تعامل المجتمع الدولي بفتور واسع مع الحملة العسكرية التي أطلقها الجنرال الطامح خليفة حفتر منذ 4 إبريل 2019م للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس وإسقاط حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، ورغم الاستغاثات المتعددة التي أطلقتها الحكومة الشرعية برئاسة فايز السراج، إلا أن المجتمع الدولي سواء على مستوى المؤسسات الدولية والإقليمية أو الحكومات لم تكترث كثيرا، وسط ترقب بأن تفضي الحملة العسكرية إلى إعادة هندسة وتصميم المشهد الليبي من جديد وفقا لقواعد جديدة، يكون فيها الجنرال  حفتر ، الذي يقود مجموعات متنافرة من المرتزقة مدعيا أنه قائد الجيش الوطني الليبي،  استنساخا لسيسي جديد في ليبيا يحكمها بالحديد والنار، لكنه في ذات الوقت يكون قادرا على حماية مصالح القوى الكبرى والغربية في ليبيا وشمال إفريقيا.

ومنذ توقيع وزيري خارجية تركيا وحكومة الوفاق الليبية مذكرتي تفاهم في إسطنبول في 27 نوفمبر 2019م، الأولى تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري، والثانية بشأن تحديد مناطق النفوذ البحرية، والتي تهدف إلى حماية حقوق البلدين النابعة من القانون الدولي في ثروات شرق المتوسط، في خطوة اعتُبرت مكسبا لسياسات أنقرة؛ جرت تطورات كبرى في الملف الليبي وغيرت من تعاطي جميع القوى إقليميا ودوليا مع الملف الليبي الذي عاد ليتصدر المشهد الإقليمي من جديد.

وبحسب صحف يونانية في سياق تعليقها على مذكرتي التفاهم بين أنقرة و طرابلس فإن تركيا قالت لكل من مصر واليونان “كش ملك”، فأنقرة اكتسبت مساحة مائية كبيرة جداً، في حين كانت اليونان، ودول الاتحاد الأوروبي، ترغب بحصر حصة تركيا في حوض شرق المتوسط بمساحة تبلغ 41 كيلومتراً مربعاً فقط، فارتفع الرقم بعد هذه الاتفاقية إلى 189 ألف كيلومتر مربع. كما أنها تمنح أنقرة حرية الصيد، ما يمنع أي اعتداءات قد تحصل على سفن الصيد التركية، كما حصل على سواحل الجزائر في العام 2009.

على الفور عبرت كل من اليونان وحكومة العسكر في مصر وقبرص اليونانية والإمارات وبرلمان طبرق التابع للجنرال خليفة حفتر  رفضهم للاتفاق واعتباره بلا أثر قانوني، كما عبرت  الحكومات الغربية عن انزعاجها من تمدد النفوذ التركي في شرق المتوسط حيث حقول الغاز الضخمة والهائلة، وكذلك في ليبيا وشمال إفريقيا.

ويوم الخميس 2 يناير2020، صادق البرلمان التركي على مذكرة للرئاسة التركية تفوضها بإرسال قوات إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق  الشرعية ضد هجمات المرتزقة الذين يقودهم الجنرال خليفة حفتر مدعوما من الإمارات ومصر وروسيا وفرنسا والسعودية، بموافقة 325 نائبا، ورفض 184 معظمهم من حزب الشعب الجمهوري المعارض.  وتشمل المذكرة إرسال قوات تركية إلى ليبيا والتعاون في مجالات الأمن والتدريب العسكري، والصناعات الدفاعية، ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وغيرها من أشكال التنسيق العسكري، وهي تأتي بعد طلب حكومة الوفاق الوطني الليبية   الدعم  من تركيا.

وبحسب  تصريحات المبعوث التركي إلى ليبيا والنائب البرلماني أمر الله إيشلر، فإن الدفعة الأولى من القوات التركية (البشرية والمادية) ستصل إلى طرابلس؛ بهدف “ردع حفتر ومن يقف خلفه حتى يتوقفوا عن هجماتهم ضد الغرب الليبي وبالتالي يقف نزيف الدماء، كما تهدف إلى تدريب الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة لحكومة الوفاق في القواعد العسكرية بتركيا.  كما تتيح الاتفاقية لتركيا نشر قوات عسكرية قبالة السواحل الليبية في منطقة مهمة من شرق البحر المتوسط، موضحا أن بلاده مستعدة لممارسة حقوقها في شرق المتوسط وعرقلة الأنبوب اليوناني الإسرائيلي القبرصي في حال عدم التفاوض معها بشأنه.

تداعيات جيوسياسية

إزاء ذلك فإن التدخل التركي في الأزمة الليبية ينذر بتداعيات جيوسياسية  على عدة مستويات:

أولا: على مستوى الصراع على الغاز والنفط في شرق المتوسط وهو ما يشكل الدافع الرئيس للتدخل التركي وحماية ما تراه حقوقا لها في ثروات الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط. فتركيا ترى في الاتفاق ردا قويا على مساعي اليونان وقبرص الرومية لعزل أنقرة وإقصائها من شرقي المتوسط عبر تأسيس آليات تعاون ثلاثية مع كل من إسرائيل، ولبنان، ومصر والأردن، أو عبر مكوّنات مثل “منتدى غاز شرقي المتوسط”، كما تعتبر حماية لحقوق تركيا في حقول الغاز بشرق المتوسط والتي تكشف أحدث التقارير العلمية أنها تحتوى على ثروات تقترب من 700 مليار دولار بحسب وكالة رويترز. وهي الحقول التي تمثل أهمية كبرى لجميع دول المنطقة، إضافة إلى الكيان الصهيوني الذي بدأ فعليا في نهب هذه الثروات المصرية والعربية وتشغيل حقلي “لوفاثيان وتمارا” وتصدير الغاز المنهوب منهما لكل من مصر والأردن عبر صفقات طويلة الأمد. و«تبرز الاتفاقية التركية الليبية، كمكسب سياسي وقانوني هام لسياسات أنقرة في شرقي البحر المتوسط. صحيح أنها لا تجد حلا نهائيا للخلافات القائمة حول مناطق النفوذ البحرية في المنطقة، إلا أنها تحمل أهمية كبيرة من حيث دعم الأطروحات القانونية والسياسية لتركيا. كما أن تأكيد أنقرة على انفتاحها للحوار والطرق الدبلوماسية مع بلدان المنطقة باستثناء قبرص الرومية، تزامنا مع دفاعها عن حقوقها على أرض الواقع، يشكل نموذجا للمقاربة الدبلوماسية القوية على الطاولة وعلى الأرض».

ثانيا: القرار التركي شديد الصلة أيضا بصراع المحاور الذي تشهده المنطقة منذ سنوات على خلفية الانتكاسة التي منيت بها معظم الثورات العربية في أعقاب انقلاب  30 يونيو  2013م على المسار الديمقراطي في مصر وتحقيق تحالف الثورات المضادة نجاحات متتالية بدأت تنحسر وتتراجع في عدة دول ومناطق مع الموجة الثانية للربيع العربي في 2019م. فمع انطلاق الموجة الأولى للربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، رحبت بها كل من تركيا وقطر، بينما ناصبتها السعودية والإمارات والبحرين العداء. ومع توسع الموجة الثانية التي امتدت إلى كل من الجزائر والسودان والتي أدت فعليا إلى إسقاط نظامي بوتفليقة وعمر البشير، ثم العراق ولبنان حاليا؛  فإن معسكر تحالف الثورات المضادة المدعوم من إسرائيل والإدارة الأمريكية وكذلك روسيا حريص كل الحرص على وأد تطلعات الشعوب نحو الحرية وتكريس سلطوية النظم المستبدة وهو ما تراه تركيا  أردوغان جريمة كبرى  يتوجب معها دعم التحولات الديمقراطية في المنطقة واستعادة لحمة المنطقة لمواجهة الأطماع الأجنبية التي تستهدف شعوبها وثرواتها. هو ما يضع تركيا في حالة صدام مع القوى الغربية التي ترى في تفتت وتمزيق المنطقة وتصدر طغمة من الحكام الفسدة المستبدين فرصة كبرى تتيح لها ضمان مصالحها ومكاسبها.

ثالثا: لا يمكن الفصل بين التدخل التركي في ليبيا  وتطورات الوضع الميداني في سوريا خصوصا في المناطق الشمالية المتاخمة للحدود التركية؛ إذ لا يستبعد أن يكون من أهداف التدخل التركي في ليبيا إعادة تموضعها في سوريا من خلال دفع الروس إلى إعادة حساباتهم في ليبيا مقابل تنازلات ميدانية في معركة إدلب السورية.

رابعا: أما التداعيات الأوسع للاتفاقية  أنها تضع تركيا على مسار تصادمي مع اليونان وقبرص اليونانية،  كما تزيد الاتفاقية من التوترات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، مما يزيد من النزاعات المستمرة حول سياسة الهجرة والأسئلة الأوسع حول دور تركيا في حلف شمال الأطلسي. كما أن الاتفاقية تثير المخاطر مع نظام العسكر في مصر والذي تحكمه علاقة متوترة بأنقرة من انقلاب 30 يونيو 2013م ضد حكم الرئيس الراحل محمد مرسي. إضافة إلى أن نظام السيسي  يتعاون في ليبيا بشكل وثيق مع حفتر، وهذا يعني أن القاهرة وأنقرة على طرفي نقيض بشأن الصفقة البحرية. وكانت «إسرائيل» أكثر تحفظا بشأن الخطوة التركية الليبية. ويشير المحللون إلى أن من بين أسباب هذا الموقف هو أنه إذا أصبح خط الأنابيب بين إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا غير قابل للحياة، فقد يتعين على «إسرائيل» استكشاف طرق لتصدير الغاز عبر تركيا. أما روسيا فهي قطعة أخرى في اللغز. ففي حين أنها على خلاف مع تركيا بشأن سوريا، فهي تنسق معها بشأن سياسة الطاقة، وموسكو حريصة على أن تكون تركيا محطة عبور للغاز الروسي. لكن الصفقة التركية الليبية تضعها على طرفي نقيض في ليبيا، حيث تميل روسيا نحو حفتر. ستناقش روسيا وتركيا الدعم العسكري الليبي في القمة المرتقبة في يناير الجاري بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

 

أهداف تركيا

توقيع مذكرتي التفاهم والتعجيل بتصديق البرلمان التركي تستهدف من خلاله أنقرة تحقيق عدة أهداف:

1)  أولا: دفع العواصم الأوروبية المعنية عن قرب بالملف الليبي (فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا) إلى قبول تفاهماتها مع طرابلس. وإشراك تونس والجزائر وقطر في قمة برلين التي ستدعمها في حال كان على جدول أعمالها وقف العملية العسكرية التي تشن ضد الحكومة الشرعية، والإعلان عن هدنةٍ عسكريةٍ حقيقية، برعاية وإشراف إقليميين، ومناقشة خريطة حل سياسي في ليبيا، يحمي استقلالية القرار والسيادة ووحدة البلاد.

2)  ثانيا: استباق عدة لقاءات هامة مثل زيارة كل من وزير خارجية فرنسا وإيطاليا وألمانيا إلى طرابلس والمفترض أن تحصل في 7 يناير2020، وقد وصل بالفعل إخطار رسمي لبعض الشخصيات الليبية الرفيعة المستوى بهذه الزيارة. ومحاولة تحقيق تقدم ميداني مؤثر قبلها لتفويت الفرصة على الدول الثلاث باتجاه ممارسة ضغط على المجلس الرئاسي الليبي والقوى المنضوية تحته لانتزاع موقف ما أو تنازل منه قد يربك تطبيق الخطة التركية في ليبيا. إضافة إلى اللقاء الثلاثي اليوناني الإسرائيلي والقبرصي اليوناني  الذي انعقد الخميس 2 يناير في أثينا، لبحث خطط نقل الطاقة، ثم اللقاء الثلاثي المنتظر السبت 4 يناير في القاهرة، والذي سيجمع مصر وفرنسا واليونان، لبحث استراتيجية التعامل مع الاتفاقيات التركية الليبية، ثم زيارة الرئيس الروسي بوتين لتركيا في الثامن من شهر يناير، لبحث تطورات الملف الليبي، والتي تريد أنقرة أن تأخذ منحىً جديدا، على ضوء الاتفاقيات الموقعة أخيرا مع طرابلس، وحسم موضوع إرسال قوات تركية إلى ليبيا.

3)  ثالثا: إفشال تحركات نظام السيسي ومن خلفه ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، والذي  بدأ بالمطالبة باجتماع طارئ للجامعة العربية انعقد بالقاهرة الثلاثاء وسط ترتيبات أخرى تستهدف دعم مليشيات حفتر.

4)  رابعا: تريد أنقرة وضع الجميع أمام الواقع الجديد، وإفراغ أي تحرّك استراتيجي أوروبي روسي عربي ضدها وضد حكومة الوفاق من مضمونه. وتريد أيضا أن ينتقل النقاش من محاولات إبطال (وعرقلة) مذكرتي التفاهم البحري والأمني مع طرابلس إلى نقاشٍ آخر، يتعلق بإنتاج حلٍّ سياسيٍّ في إطار مؤتمر إقليمي لإنهاء الأزمة الليبية قد يضع مؤتمر برلين «الذي لم يتم تحديد موعد له حتى اليوم» نواته.  وهو ما بدأ يتحقق من خلال تصريحات رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، الذي يرى أن على بلاده وتركيا بحث خلافاتهما بشأن المناطق البحرية في إيجة وشرق المتوسط، على المستويين، السياسي والدبلوماسي، وإنه في حال عدم تمكّنهما من التوصل إلى حل، عليهما أن تتفقا على أن الخلاف يجب أن يتم البت فيه لدى هيئة دولية، مثل محكمة العدل الدولية في لاهاي؟ رسالة قد تقوي موقف تركيا، وتخيّب آمال من يراهن على التصعيد اليوناني، والذهاب إلى الحرب من أجل إسقاط المعادلة الجديدة التي فرضتها أنقرة في شرق المتوسط.

5)  تذهب تفسيرات رصينة  إلى أن إرسال أنقرة قواتها إلى ليبيا ليس هدفا بحد ذاته بقدر ما هو ورقة ضغط  يمسك بها الرئيس التركي في مواجهة حفتر وداعميه من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، والروس من جهة ثالثة؛ بهدف دفع الغرب إلى التدخل لإجبار حفتر على القبول بالحل السياسي في ظل عناده وإصراره على مواصلة العدوان على طرابلس مدعوما من القاهرة وأبو ظبي وباريس والرياض.  ويعزز هذه الفرضية عدة شواهد، منها تصريحات نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي،  الأربعاء غرة يناير 2020م، التي أكد فيها أن بلاده ربما تحجم عن إرسال قوات إلى ليبيا في حال أوقفت قوات اللواء حفتر عدوانها على حكومة الوفاق المعترف بها دوليا في طرابلس وانسحبت إلى مواقعها السابقة قبل إبريل 2019م، وأضاف أوقطاي أن أنقرة تأمل أن يبعث مشروع القانون التركي برسالة ردع للأطراف المتحاربة. أيضا فإن حكومة الوفاق لا تحتاج إلى قوات نظامية بقدر ما تحتاج إلى دعم عسكري وأسلحة متطورة مثل الطائرات المسيرة وأسلحة دفاع جوي تكون قادرة على التصدي لطائرات حفتر المعتدية. المؤشر الثالث هو تغير نبرة الجانب المصري بشأن مؤتمر “برلين” الذي لم تكن متحمسة له من قبل حيث  أكد بيان لخارجية السيسي مساء الجمعة 3 يناير 2020 ترحيبها لأول مرة بالمؤتمر باعتباره مدخلا لحل الأزمة سياسيا. وذلك خلال اتصالات شكري هاتفيا مع كل من سكرتير عام الأمم المتحدة، ومستشار الأمن القومي الألماني، والممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.  المؤشر الرابع أن ثمة تسريبات دبلوماسية تؤكد أن القاهرة  باتت منفتحة على حل سياسي للأزمة وأنها أرسلت عبر وسطاء أوروبيين لتركيا  طلبات بالتهدئة على أن يتم إلزام حفتر بالتراجع عن هجومه على العاصمة طرابلس وعودة قواته إلى تمركزها على ما كانت عليه قبل إبريل 2019 مقابل عدم إرسال تركيا قوات إلى ليبيا.

 

تصعيد متبادل

في المقابل، لم يقف المعسكر المعادي لتركيا مكتوف اليدين:

أولا: دعت حكومة الجنرال عبدالفتاح السيسي الجامعة العربية لاجتماع طارئ؛ عقد بمقر الجامعة بالقاهرة الثلاثاء 31 ديسمبر 2019م، على مستوى المندوبين الدائمين، وانتهى إلى «التأكيد مجدداً على الالتزام بوحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها ولحمتها الوطنية»، وعلى رفض ما وصفه بـ«التدخل الخارجي أياً كان نوعه». كما أقر الاجتماع «التأكيد على دعم العملية السياسية من خلال التنفيذ الكامل لاتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، باعتباره المرجعية الوحيدة للتسوية في ليبيا، وأهمية إشراك دول الجوار في الجهود الدولية الهادفة إلى مساعدة الليبيين على تسوية الأزمة في بلادهم». وهو ما اعتبرته حكومة السيسي وتحالف الثورات المضادة مخيبا للآمال. إضافة إلى أن السرعة التي تم بها الاجتماع دفع حكومة الوفاق إلى انتقاد موقف الجامعة واتهامها بالكيل بمكيالين ذلك أن حكومة الوفاق دعت مرارا إلى اجتماع طارئ لبحث عدوان الجنرال حفتر، منذ إبريل 2019، ولكن الجامعة تجاهلت هذه النداءات بينما فزعت على الفور بمجرد توقيع مذكرتي التفاهم مع تركيا.

ثانيا: عقد الطاغية عبدالفتاح السيسي زعيم الثورة المضادة يوم الخميس 2 يناير 2020، اجتماعاً رفيع المستوى للنقاش في قضيتي ليبيا وسدّ النهضة وانعكاساتهما على الأمن القومي المصري. بحضور وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، واللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة، ومصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء وسامح شكري وزير الخارجية، ومحمد عبدالعاطي زير الري والموارد المائية. وكشف بيان من رئاسة الانقلاب أن الاجتماع تناول آخر المستجدات على صعيد التدابير والإجراءات الجاري اتخاذها لمكافحة الإرهاب في إطار حماية حدود الدولة وتأمينها، بالإضافة إلى عدد من الملفات الخارجية في سياق التحديات التي تهدد أمن المنطقة، وسبل مواجهتها بما يحفظ الأمن القومي. وسط أنباء عن رفع حالة الطوارئ بالجيش وتكثيف اللقاءات التي تستهدف الحشد والشحن ضد الدور التركي في ليبيا باعتباره خطرا يهدد الأمن القومي للبلاد.

ثالثا: شنت الآلة الإعلامية لنظام السيسي خلال الشهر الماضي ومنذ توقيع أنقرة مذكرتي التفاهم مع حكومة الوفاق هجوما ضاريا على تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان ونشرت تقارير تمهد لتدخل القوات المصرية في ليبيا  بحجة حماية الحدود الغربية من «الغزو التركي!». كما عبر برلمان السيسي عن انزعاجه من الموقف التركي وعده تدخلا سافرا في شئونها الداخلية ودعما للحركات والتنظيمات الإرهابية. كما  أمرت الشئون المعنوية  بالجيش والمخابرات العامة نفرا من الممثلين والفنانين ولاعبي الكرة القدامى للتعبير عبر صفحاتهم الخاصة بمواقع فيس بوك وتويتر عن دعم مواقف القيادة السياسية والجيش ضد ما أسموه بالبلطجة والمرتزقة والغزاة. كما تم تدشين وسم “كلنا_جيشنا” من أجل دعم  موقف النظام والترويج للتدخل في ليبيا تحت ذراع مواجهة الخطر التركي.  وتفسير ذلك أن نظام انقلاب 30 يونيو  يستهدف توظيف المشهد الإقليمي سياسيا والتخويف من الحروب والصراعات القائمة في المتوسط والحدود الغربية مع ليبيا من أجل تكريس حكمه لأن وضعه الداخلي وحتى داخل المؤسسة العسكرية يحول دون دخوله في حرب إقليمية واسعة. فالهدف من وراء هذه الحملات هو التوظيف السياسي لخدمة أهداف النظام وتبرير مزيد من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، وربما لجلب مزيد من المساعدات المالية والاقتصادية.

 

رابعا:  في ذات اليوم “الخميس 2 يناير 2020” وقع كل من رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، ورئيس قبرص الرومية نيكوس أناستاسيادس، اتفاقاً جديداً لتدشين أنبوب الغاز “East-Med”، الذي يفترض أن ينقل الغاز الذي تنهبه إسرائيل من حقول الغاز المصرية والعربية إلى أوروبا، حيث سيمر هذا الخط في المياه الاقتصادية لكل من قبرص واليونان. وهو بالطبع ما ينفي تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة ويستهدف بالأساس الحد من النفوذ التركي شرق البحر المتوسط. وعلى الرغم من أنّ ستة اجتماعات قمة قبرصية يونانية إسرائيلية، عقدت، خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أنّ القمة التي عقدت في أثينا لم يكن مخططاً لها وجاءت إثر خشية الأطراف الثلاثة من تداعيات الاتفاق التركي الليبي على مصالح إسرائيل. وأشارت وسائل الإعلام ومراكز التفكير الإسرائيلية، إلى أنّ تل أبيب تخشى بشكل خاص أن يؤدي تطبيق الاتفاق بين أنقرة وطرابلس، إلى تمكين تركيا من السيطرة على المياه التي يفترض أن يمر فيها أنبوب “East-Med”، مما يعني أنّ قدرة إسرائيل على تصدير الغاز ستتوقف على الموافقة التركية. ونظراً لـ”خطورة” التداعيات التي ينطوي عليها الاتفاق الليبي التركي، فقد تعالت الأصوات في تل أبيب التي تنصح بالعمل على إسقاط حكومة “الوفاق” في طرابلس المعترف بها دولياً. كانت وكالة رويترز كشفت في 2017م أن  «إسرائيل»  رفعت إنفاقها على القوات البحرية لحماية حقول النفط والغاز في المتوسط وتأمين منطقة بحرية شاسعة مجاورة للبنان. وتمضي في تعزيز قدرات قواتها البحرية عبر  شراء سفن حربية جديدة، وزوارق، وسفن مسيرة، إلى جانب أنظمة رادار، ومضادات صواريخ؛ لاستكشاف 24 قطاعا بحريا في شرق البحر المتوسط، مجاورة لحقل الغاز ليفياثان، حيث تشير التقديرات إلى وجود 2.137 تريليون متر مكعب من الغاز غير مكتشفة، إضافة إلى 6.6 مليار برميل من النفط.

خامسا:  أما بالنسبة للجنرال خليفة حفتر، فقد بلغ به الهذيان حدا مزمنا لا شفاء  منه، فقد دعا مساء الجمعة 4 يناير 2020 إلى ما سمَّاه بــ«بالجهاد» معلنا عن «ساعة صفر خامسة» ، رغم أنه لم يمض على ساعة الصفر الرابعة إلا أسبوعان فقط. وهو ما يعكس حالة الفزع من هذه التطورات وراح يستنجد بالقوى الإٌقليمية الداعمة لعدوانه، وقبل ذلك هرع إلى زيارة عاجلة إلى القاهرة يرافقه عقيلة صالح رئيس برلمان طبرق والتقى مثله الأعلى الطاغية عبدالفتاح  السيسي، وخلال اللقاء طالب حفتر بعدة إجراءات حتى يتمكن من مواجهة تطورات  الموقف العسكري والميداني حيث طالب بمزيد من الدعم العسكري لإحراز النصر، كما طلب من السيسي الدفع بقوات مشاة عسكرية مصرية لمحاور القتال، مؤكداً له أنه في حال دفعت القاهرة بجنود، فقد يحسم ذلك المعركة خلال ساعات قليلة، وعدم الاكتفاء بتقديم الدعم اللوجستي والخبراء. وسط توقعات بأن التدخل التركي ربما  يصاحبه تدخل مصري مباشر مدفوعا برعاية  سعودية إماراتية ودعم إسرائيلي غير محدود. كما يطالب حفتر بضرورة حشد الموقف الدولي والعربي لمنع إرسال قوات تركية إلى ليبيا، محذراً القاهرة من تلك الخطوة. وبالفعل تواصل سامح شكري وزير خارجية السيسي هاتفيا مع وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو؛ لبحث مستجدات الوضع في ليبيا والتأكيد على رفض أي تدخل عسكري أجنبي ، كما كثف السسيسي من اتصالاته مع القوى الأوروبية وأميركا من أجل عرقلة ومنع إرسال قوات تركية إلى ليبيا، حيث أجرى عدة اتصالات هاتفية بكل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ويطالب حفتر أيضا بضرورة ممارسة ضغوط على القوى الغربية لرفع حظر التسلح المفروض على ليبيا. وعلى هذا الأساس تستهدف تحركات تحالف الثورات المضادة مدعوما من إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية  تحريك الاتحاد الأوروبي لتصدّر المواجهة باتجاه سحب الاعتراف بحكومة السراج، وعرض البديل الذي يسقط هذا التقارب والانفتاح السياسي والأمني بين أنقرة وطرابلس، ويسقط اتفاقيات ترسيم الحدود التي أربكت حسابات دول كثيرة في شرق المتوسط.

 

ارتباك الموقف الأمريكي والأوروبي

بالنسبة للموقف الأمريكي، فإن الارتباك والترقب هما سيد الموقف؛ فليبيا كانت الدولة الوحيدة من بين كل دول ثورات الربيع العربي التي حصل فيها تدخلٌ عسكريٌّ أميركي مباشر، حسم الصراع مبكرا لصالح أحد أطرافه. إذ قادت واشنطن تحالفا من دول غربية وعربية للإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، متسلّحةً بقرار مجلس الأمن رقم 1973، الذي نصّ على حماية المدنيين. في المقابل، اقتصر التدخل العسكري الأميركي في سورية واليمن على مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي ظهر على هامش الصراع الرئيس الدائر في البلدين. لكن واشنطن فقدت بعد ذلك الاهتمام بليبيا ونفضت يدها منها، على الرغم من أن ليبيا تملك أكبر احتياط نفط في أفريقيا والتاسع عالمياً، ما يعني أن النفط لم يعد العامل المركزي الذي يحكم حسابات واشنطن بشأن المنطقة. جاء الانسحاب الأميركي نتيجة الهجوم الذي استهدف السفارة الأميركية في بنغازي، وأسفر عن مقتل السفير كريس ستيفنز في سبتمبر 2012. وقد دفع ذلك القوى الدولية والإقليمية الأقل حجماً، إلى محاولة ملء الفراغ، ما أدّى إلى انهيار العملية السياسية الوليدة، وانقسامها إلى معسكرين: معسكر حكومة الوفاق المعترف بها دوليا والمدعومة من تركيا وقطر وإيطاليا. ومعسكر حفتر الراغب في استنساخ نموذج السيسي والمدعوم من الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا.

وخلال الخمس سنوات الماضية، اكتفت واشنطن بمراقبة الصراع الدائر بالوكالة بين حلفائها حول ليبيا، لكن المستجدات التي طرأت أخيرا على الأرض أيقظت واشنطن على واقع جديد، أربكها، إذ دخلت روسيا على خط الصراع في محاولة لتكرار السيناريو السوري، من خلال إرسال قوات غير رسمية (مرتزقة فاغنر) لحسم الصراع لصالح حفتر. في المقابل، قرّرت تركيا أن تضاعف دعمها حكومة الوفاق في طرابلس، وفتحت الباب أمام احتمال إرسال قوات للقتال إلى جانبها. وما زاد من تعقيد الصورة أمام واشنطن أن بعض حلفائها (الإمارات ومصر) يقاتلون في خندق خصمها الروسي، فيما تبدو الإدارة الأميركية نفسها منقسمةً بين رئيس مشتت لا يخفي ميله لحفتر، وإعجابه بنموذج السيسي الذي وصفه بدكتاتوره المفضل، والرئيس الروسي، بوتين من ورائهما. أما المؤسسة الأميركية (الخارجية والدفاع خصوصا) فهي تعارض سياسات بوتين وأردوغان معا، فيما تحاول الموازنة بين موقفها الذي تعترف بموجبه بشرعية حكومة السرّاج وتوجسها من قوى محلية تدعمه.

أما الموقف الأوروبي، فقد تحول من دور اللاعب الخجول إلى المتفرج المتردد بحسب توصيف الوكالة الألمانية دويتشه فيله. والتزمت العواصم الغربية بدور المتفرج على العدوان الذي يشنه حفتر منذ إبريل 2019م على العاصمة طرابلس وحكومة الوفاق،  بل إنها لم تعلن حتى عن إدانة هذا العدوان والاكتفاء بدعوة جميع الأطراف لوقف إطلاق النار”. وكان قادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا، إيمانويل ماكرون وأنغيلا ميركل وجوزيبي كونتي، حضوا – في الثالث عشر من ديسمبر 2019 على هامش قمة الاتحاد الأوروبي-، كافة أطراف النزاع في ليبيا على وقف القتال، وسط يقين تام بأن أوروبا باتت عاجزة عن القيام بأي دور محوري في الأزمة. وقد شوش على الموقف الأوروبي التنافس وصدام المصالح بين فرنسا وإيطاليا.  وتعتبر روما  ليبيا منطقة نفوذ لها؛ نظراً لقربها الجغرافي وماضيها كقوة مستعمرة لليبيا. ومن هنا كانت تنظر دائماً للتدخل الفرنسي، الذي كان عراب الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011، بعين الريبة. ويغذي التنافس الفرنسي الإيطالي سعي شركات النفط، وخاصة توتال الفرنسية وإيني الإيطالية، للفوز بعقود استثمار الذهب الأسود.

 

الخاتمة والسيناريوهات

أفضى التوقيع على مذكرتي التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية إلى خلط الأوراق في المشهد الليبي وإعادته إلى صدارة المشهد من جديد، وسط تداعيات جيوسياسية على عدة مستويات سياسيا واقتصاديا وإقليميا، وأدى ذلك إلى تصعيد المواقف من جانب الكيان الصهيوني واليونان وقبرص اليونانية من جهة  تتعلق بالصراع على ثروات الغاز الهائلة في شرق المتوسط والتي سيطر على معظمها هذه الدول التي تسعى لعزلة تركيا واقتسام ثروات الغاز بعيدا عنها. بينما أفزع الاتفاق تحالف الثورات المضادة  الداعم للجنرال الدموي خليفة حفتر وعلى رأسه مصر والإمارات والسعودية وفرنسا. وأمام ارتباك الموقف الأمريكي وعجز الأوروبيين يبقى المشهد الليبي مفتوحا على عدة احتمالات:

الأول: التدخل التركي لدعم حكومة الوفاق من جهة، والتدخل المصري الإماراتي الفرنسي السعودي لدعم الجنرال الدموي حفتر إضافة إلى  الدور الروسي  الداعم للجنرال حفتر عبر مرتزقة  شركة “فاجنر” الروسية  يمكن أن يفضي إلى دحرجة الموقف الليبي إلى سيناريو المشهد السوري وتصعيد الصدام؛  وذلك كفيل بتواصل الصراع المسلح مع عدم قدرة أي فريق على الحسم وهو ما يعني مزيدا  من الاستنزاف لليبيا وشعبها. أما إذا تغلب معسكر حفتر؛ فإن ذلك من شأنه أن يفضي إلى موجة لاجئين ضخمة على غرار ما جرى في سوريا تكون أوروبا أكبر ضحاياها، إضافة إلى أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى حرب إقليمية خصوصا بعد إعلان الجزائر دعمها لحكومة الوفاق ووصف ما يقوم به حفتر باعتباره عدوانا يجب توقفه فورا لتحقيق الاستقرار في المنطقة.

الثاني: أن يؤدي التدخل التركي إلى لجم مواقف الطامعين في ليبيا وحكومة الوفاق وإقناع جميع الأطراف بضرورة التوجه نحو حل سياسي ؛وهو ما يعني أن التدخل التركي دفع الجميع نحو الحل والتسوية وتعزيز فرص نجاح مؤتمر برلين المرتقب والذي لم يتم تحديد موعد له حتى اليوم وإعادة مسار العملية السياسية للخروج من الأزمة.

الثالث: هو تراجع تحالف الثورات المضادة أمام الإصرار التركي، وإجبار حفتر على العودة إلى وضعية القوات قبل العدوان السافر وهو ما أشارت إليه تصريحات مسئولين تركيين رهنوا عدم إرسال قوات إلى طرابلس بوقف عدوان حفتر على العاصمة.

وإزاء المعطيات القائمة فإن المرجح هو السيناريو الثالث وعودة جميع الأطراف إلى ما كانت عليه قبل عدوان حفتر إبريل 2019م، ويبقى احتمال ضعيف لنجاح السيناريو الثاني وهو التوصل إلى تسوية سياسية شاملة؛ لاعتبارات تتعلق بطبيعة قادة تحالف الثورات المضادة وأطماع حفتر في السيطرة على  السلطة والثروة وكل شيء في ليبيا دون شريك مدني، إضافة إلى أن قرار  حفتر ليس بيده بقدر ما تحركه عواصم تحالف الثورات المضادة وهم إقصائيون إلى أبعد مدى ممكن.

السبت 4 يناير2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022