أبعاد ومآلات وصاية السلطة على صناعة الدراما

تواجه الدراما المصرية ثلاث أزمات عاصفة:

الأولى: تتعلق بالتسويق في ظل الأزمة الاقتصادية وتراجع كثير من الشركات عن الدعاية والإعلان لتحقيقها خسائر ما أفقد الفضائيات بابا كبيرا للربح كان يسهم في تحقيق مكاسب كبيرة وتغطية نفقات الأعمال الدرامية.

الثانية: تتعلق بالقفزة الهائلة في أجور الفنانين والممثلين حتى إنها تضاعفت مرتين أو ثلاثة خلال السنوات الماضية منذ قرار تعويم الجنيه أمام الدولار وباقي العملات الأخرى.

الثالثة: هي احتكار شركات المخابرات لسوق الإنتاج الإعلامي وسوق التسويق أيضا؛ وهو ما أدى فعليا إلى حسم المنافسة وسيادة نزعة الاحتكار والتحكم في صناعة الدراما.

وثمة إجماع بين المهتمين بالفن أن الدراما المصرية تشهد منذ سنوات تراجعا ملحوظا لحساب أعمال درامية أخرى سواء التركية أو الهندية وحتى السورية واللبنانية والخليجية. وبعكس الأعمال المصرية الخالدة مثل ليالي الحلمية والمال والبنوك والسبنسة والوسية ولن أعيش في جلباب أبي وغيرها وهي الأعمال التي لا يمل المشاهد العربي من تكرار مشاهدتها حتى اليوم بعكس الدراما المصرية حاليا والتي باتت لا تقدم فنا راقيا ولا فكرا خلابا وتشاهد مرة واحدة ثم يلقى بها في سلة المهملات، دون أن يشعر بها المشاهدون.

ساهم في ذلك، أيضا ما آل إليه حال  مبنى الإذاعة والتلفزيون “ماسبيرو” وتوقف الأعمال في قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون وصوت القاهرة ومدينة الإنتاج الإعلامي، تاركا الساحة للإنتاج الخاص الذي باتت تهمين عليها أجهزة المخابرات.

ثالث العوامل التي أفضت إلى تراجع مستوى الدراما المصرية، التركيز على البطل أو البطلة دون النظر إلى الفكرة ومستوى السيناريو وباقي أدوات نجاح العمل الدرامي. وكذلك التركيز على ورش السيناريو بدلا من العمل الفني المتماسك في فكرته وأحداثه وتطورات شخوصه وأبطاله والدقة في رسم  السمات النفسية للأشخاص.  وبات كتاب كبار  وفنانون  لهم  جماهيرية عريضة على مقاعد المتفرجين. وأمسى مؤلفون وكتاب سيناريست مخضرمون قابعين في بيوتهم بلا عمل لأنهم يتسمون بشيء من الاستقلالية و يرفضون التدخل في أعمالهم أو كتابة سيناريوهات مفصلة على مقاس نجم بعينه.

 

احتكار سوق الدراما

يمثل احتكار أجهزة السلطة الأمنية وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة لسوق صناعة الدراما والسينما وشركات التوزيع والفضائيات التي يبث من خلال الأعمال الفنية شكلا صارخا من أشكال الوصاية المطلقة التي تجعل السلطة ممسكة بجميع أدوات العمل الدرامي من الألف إلى الياء.

وبحسب وكالة رويترز، تمثل الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، ذراع السلطة في الهيمنة على  جميع مراحل صناعة الدراما، والتي تتبع مباشر لجهاز المخابرات العامة. تأسست الشركة في 2017 واشترت ما لا يقل عن ست صحف ومواقع إخبارية على الانترنت وأربع شبكات تلفزيونية تدير 14 قناة وأربع محطات إذاعية وعدد من المسارح ودور السينما. وقال ثمانية أشخاص يعملون بصناعة الإعلام كانت لهم تعاملات مع الشركة المتحدة إن الدولة هي التي أنشأتها. ومع توسع الشركة أصبحت تهيمن على مواعيد إذاعة البرامج التلفزيونية وتحدد الأعمال التي تخرج منها للنور. وتطبق الشركة قواعد الرقابة الحكومية بحذافيرها.

ويدرك العاملون في الوسط الفني على وجه اليقين أن الأمر جزء من سياسة الدولة التي تقرر من يعمل هذا العام ومن يوقف عن العمل. وأمام هذه التحولات الحادة والخطيرة ، لم تجد الشركات المنافسة في سوق الإنتاج الإعلامي والدرامي بدا من التوقف وتجميد مشروعاتها الفنية؛ لأنها تعجز عن تسويقها مع سيطرة مجموعة “إعلام المصريين” على نصيب الأسد من سوق الفضائيات المصرية.

وبحسب مصادر مطلعة بكواليس الشأن الفني فإن الإنتاج الدرامي تراجع إلى 14 أو 15 عملا  بعد أن كان يصل إلى 30 أو 40 في السنة، وأن نصف هذه الأعمال من إنتاج شركة “إعلام المصريين” المملوكة لجهاز المخابرات العامة. وأمام تراجع حجم الإنتاج الدرامي، قرر عدد من الفنانين الاتجاه نحو السينما والمسرح بعد سنوات من انتعاش سوق مسلسلات رمضان.

هذه الأبعاد المتعددة لأزمة الدراما؛ دفعت الناقد طارق الشناوي،  إلى التحذير من تدمير صناعة الدراما مشيرا إلى أن «الأزمة بدأت في 2017، حيث تم الإعلان عن بدء تصوير كثير من المسلسلات، ثم خرجت من السباق الرمضاني، ومن بينها مسلسل (بركة) لعمرو سعد، كما شهد الموسم قبل الماضي لأول مرة خروج أسماء كبيرة مثل يسرا من العرض المحلي». وتوقع الشناوي، أن ما يتم حالياً يستهدف تقليص الأجور والميزانيات، ولكنه يحدث بشكل عشوائي قد يضر بالصناعة، فالفضائيات المصرية التي تعد السوق الرئيسية للمسلسلات تشهد حالة من العشوائية وتعاني من الأزمات، وهذا انعكس بشكل كبير على الدراما، وأبدى أمله أن تحدث انفراجة خلال الفترة المقبلة، بظهور صوت عاقل من داخل النظام يعيد الأمور إلى نصابها، حتى لا تنهار صناعة الدراما في مصر، لأن ما يحدث حالياً ليس في صالح الصناعة على كل المستويات».

 

لجنة الدراما

ولم يكتف نظام 30 يونيو بالسيطرة المطلقة على شركات الإنتاج والتوزيع وحتى فضائيات العرض، وامتد حرصه الشديد على فرض الوصاية على الفن والإبداع إلى سن حزمة من القوانين التشريعات الشاذة التي تسهم بشكل فعال في فرض مزيد من المصادرة والتأميم والهيمنة المطلقة على سوق الدراما. وقبل أن ينتهي عام 2016  أصدر الطاغية عبدالفتاح السيسي (قرارات جمهورية) أرقام 158 و159 و160 بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام، وذلك طبقاً لنصوص ومواد القانون 92 لسنة 2016 والذي نص على تشكيل المجلس والهيئات المذكورة بناء على ترشيحات مجلس الدولة ومجلس النواب ونقابة الصحفيين والإعلاميين والعاملين بالطباعة والصحافة والإعلام والمجلس الأعلى للجامعات ووزارتي الاتصالات والمالية. وأن تختص “لجنة المعايير وميثاق الشرف الإعلامي” بـ: وضع ضوابط ومعايير ممارسة العمل الإعلامي، ووضع ميثاق الشرف المهني بالاشتراك مع النقابة المعنية. وفي ديسمبر 2017م أعلن عن تكوين لجنة الدراما بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام للقيام بدور الرقابة التي تصل حد الوصاية من الدولة تحت لافتة تطوير الدراما.

وفي  مايو 2018، أعلن رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مكرم محمد أحمد، أن لجنة الدراما بالمجلس أعدت معايير مهنية للمسلسلات قائلا: «لسنا لجنة فاشية كل هدفنا العودة للقيم، لسنا فاشيين ولا نكبل الحريات».، مدعيا «عشنا 8 سنوات من الفوضى ويجب خضوع المسلسلات للرقابة كأفلام السينما.  معلنا عن غرامة قدرها 250 ألف جنيه للألفاظ الخادشة التي  ترد في المسلسلات مع توصية بتمجيد الدور البطولي للجيش والشرطة.

وتضمنت المعايير 24 بندا أهمها: إفساح المجال لتمجيد ما أسمته بالدور البطولي لرجال الجيش والشرطة. وعدم عرض صور العشوائيات والعشش بما ينقل صورة سلبية عن البلاد. وضرورة الانتهاء من تصوير  المسلسلات قبل 15 رمضان؛ قبل عرضه أو إذاعته حتى تتمكن الرقابة من المراجعة. والتزام الشاشات بالمعايير المهنية والأخلاقية وعدم اللجوء للألفاظ البذيئة. والتوقف عن تمجيد الجريمة وصناعة أبطال وهميين يجسدون أسوأ ما في الظواهر الاجتماعية. وفترة الإعلانات تكون  قبل وبعد المسلسل وللقناة حق القطع خلال المسلسل 3 مرات فقط في أوقات وصفتها بالمناسبة.

 

وصاية بالإكراه

تشكلت لجنة الدراما  في ديسمبر 2017م برئاسة المخرج محمد فاضل، أحد  أشهر مخرجي الدراما الذين تمردوا على عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي باعتباره  تهديدا لحرية الفن والإبداع؛ لكنه قبل أن يكون سيف السلطة و أداة وصايتها  على الفن والإبداع!

وبمجرد الإعلان عن تشكيلها شن فنانون ومخرجون وكتَّاب سيناريست هجوما ضاريا على اللجنة والفلسفة التي قامت عليها باعتباره شكلا صارخا من أشكال وصاية السلطة على الفن والإبداع. وتصدر موجة الهجوم شخصان شهيران للغاية الأول هو الزعيم عادل إمام، والثاني السيناريست البارز وحيد حامد.

أولا: أكد الزعيم  في مداخلة هاتفية على فضائية خاصة،  رفضه للجنة  واعتبرها وصاية سلطوية قائلا:”نحن لا نريد وصاية أحد علينا، الوصاية على الفن هو الفن نفسه، والفن المصري لا يريد “لجانا فاشية”.

ثانيا: اعتبر وحيد حامد في تصريحات متلفزة أن تشكيل لجنة الدراما “باطل ومعيب”. وقال إن هيئة الرقابة على المصنفات الفنية (رسمية) هي التي لها الحق في الرقابة والتطوير. و”الرقابة على المصنفات الفنية” هيئة رسمية تختص بالرقابة لمراعاة ألا يتضمن المصنف أو ينطوي على ما يمس قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية أو الآداب العامة أو النظام العام.

ثالثا: تساءل الناقد أمير العمري: “هل هيئة الرقابة على المصنفات الفنية في مصر لم تعد كافية الآن؟”. وانتقد العمري ما اعتبره “سيطرة على الأعمال الدرامية” على غرار البرامج السياسية والإخبارية التي تعارض خصوم النظام السياسي. وأوضح العمري أن فرض ضوابط على الدراما التلفزيونية “أمر فاشي”.

رابعا: قال السيناريست، عمرو سمير عاطف، على حسابه بموقع فيسبوك، “أظن أن الهدف الحقيقي من اللجنة هو خنق الدراما المصرية وإنهاء وجودها”.

خامسا: انتقدت جمعية نقاد السينما، في بيان، تشكيل لجنة رسمية للدراما، معتبره إياها “حَجْرا واضحا على حرية التعبير”. كما عدها البيان معولا من معاول هدم صناعة الدراما التلفزيونية.

وأمام هذه الموجة الضارية من الرفض اضطر فاضل وباقي أعضاء اللجنة إلى الاستقالة في يونيو 2018م، أي بعد حوالي 6 شهور فقط من تشكيلها وعزت أسباب استقالتها إلى عدم الأخذ بتوصياتها إضافة إلى تضارب الصلاحيات مع «هيئة الرقابة على المصنفات الفنية»، ما يجعل من اللجنة شكلا بلا معنى ولا قيمة. وطرح اسم الفنان محمد صبحي لكنه وضع شروطا للقبول حالت دون توليه وتم الاستقرار على تعيين المخرج مجدي لاشين لرئاسة لجنة التكميم والوصاية على الدراما منذ إبريل 2019م.

 

المحرمات السبع

ورغم النقد الضاري للجنة واعتبارها حجرا على الفن وفرضا لوصاية السلطة على الإبداع إلا أن الأعلى لتنظيم الإعلام برئاسة مكرم محمد أحمد أرسل قبل رمضان الماضي “1441هــ  مايو  2019، خطابات لشركات الإنتاج الفني تحتوي على  7 بنود للممنوعات خلال الأعمال الدرامية في شهر رمضان، وتم الأمر بشكل غير معلن حتى لا يتم اتهام المجلس بمحاولة فرض وصاياه على المبدعين والفنانين. وتسلمت شركات الإنتاج تلك الخطابات بالفعل، وتضمن الخطاب تحذيراً بعدم عرض الأعمال التي سيوجد بها أي مشهد يحتوي على أشياء تمت الإشارة إليها كمحظورات من قبل المجلس. ووفقا لأحد المنتجين الذين تلقوا هذه التعليمات فإن  تلك البنود لابد من الالتزام بها بشكل جاد ولا يوجد مجال لمخالفتها أو التفاوض حولها مع المجلس الأعلى، فكل شركات الإنتاج ستلتزم بها برغبتها أو رغماً عنها لتضمن تسويق أعمالها وعدم الدخول في مشاكل.

1)  الامتناع عن مشاهد العري والرقص ممنوع في دراما رمضان.

2)  منع ظهور مشاهد تتم داخل الملاهي الليلية والكباريهات، وما يتبعها من رقص ومشاهد خمور ومخدرات، لعدم مناسبتها للشهر.  وسيتم رفض تلك المشاهد حتى ولو كانت في أعمال كوميدية بهدف الإضحاك فقط.

3)  لا يجب أن يرى أحد العشوائيات.

4)  ضباط الداخلية إما أبطالٌ صالحون أو غير موجودين. حيث تمت أيضاً مطالبة شركات الإنتاج بعدم إظهار أي نموذج غير جيد للضباط، أياً كانت الجهة التي يتبعونها، كما كان يحدث في بعض الأعمال في السنوات السابقة. إذ لن يسمح بظهور ضابط فاسد أو مرتش أو متواطئ أو مخالف للقانون أو يقوم بأي أعمال تخالف مهنته. وبالتالي لن تحتوي الأعمال الرمضانية على أي نماذج سلبية لضباط شرطة وسيكون الخيار ما بين إظهارهم بنماذج إيجابية أو استبعادهم من الأعمال تماماً.

5)  من يقدم مشاهد البلطجة والأسلحة البيضاء قد يجد نفسه متهماً وقد يتم اتهام  صناع العمل الدرامي بالترويج للبلطجة وأعمال العنف.

6)  المخدرات والخمور مرفوضة حتى لو تم تناولها بشكل عام. فأي مشاهد بها خمور ومخدرات سواء في ملاه ليلية أو شوارع أو منازل أو أي مكان مرفوضة.

7)  عدم التعرض  لكل ما يناقش أو يستعرض الجنس والسياسة والدين.

 

قيود أمنية صارمة وتلميع الجيش  والشرطة

ورغم احتكار سوق صناعة الدراما وسن القوانين والتشريعات الشاذة والمنحرفة وإنشاء جهات رقابية جديدة  تستهدف مزيدا من الحجر والوصاية فإن النظام أطلق العنان لأجهزته الأمنية في فرض مزيد من القيود على صناعة الدراما على أرض الواقع؛ حالت دون عمل المنتجين والمخرجين الذين يتمتعون بشيء من الاستقلالية.

الحالة الأولى جرت مع المنتج جمال العدل الذي يؤكد أن هذه الأجواء مسمومة وطاردة لأي كفاءة فنية إبداعية، مقرا بصعوبة إنتاج الأعمال الدرامية وبيعها بفعل هيمنة الشركة المتحدة كمشتر للأعمال وبسبب ظهور هيئة تنظيمية جديدة متشددة. ويعترف أنه في العام الماضي انتظر دون جدوى صدور تصاريح التصوير المعتادة. ويقول إنه قرر لضيق الوقت البدء في العمل على مسلسلين مفترضا أن التصاريح ستصل قريبا وأنه لن يواجه أي مشاكل إذا تجنب السيناريو في العملين موضوعات الجنس والسياسة المحرمة. لكنه يضيف أنه بعد تصوير ثلاث حلقات داهمت الشرطة موقع التصوير التابع لشركة إنتاج منافسة، وأوقفت العمل بحجة عدم وجود تراخيص. وعلى الفور  أوقف العدل العمل في المسلسلين. ويتأسف  العدل على هذه الأوضاع مقرا أن السلطات الآن هي التي تحدد من يعمل في الإنتاج الفني ومن لا يعمل.

الحالة الثانية، يعترف مخرج آخر ــ رفض ذكر اسمه ــ  أنه اضطر لتوقيع وثيقة يتعهد فيها بعدم إدراج أي مشاهد في أعماله تنطوي على إساءة للشرطة. وقيل له إنه إذا كان يصور مشهدا فيه تبادل لإطلاق النار فيجب ألا يموت ضباط الشرطة فيه لأن ذلك سيؤثر سلبا في معنويات رجال الشرطة. وامتثل المخرج للأمر. ويرى  هذا المخرج أن مساعي السيسي قد تأتي بنتائج عكسية. إذ يتجه المشاهدون على نحو متزايد إلى قنوات يديرها مصريون خارج البلاد تعرض وجهات نظر أخرى بقدر أقل من الرقابة مثل قناة مكملين التي تبث إرسالها من تركيا وقناة الشرق التي تتخذ من تركيا مقرا لها.

الحالة الثالثة، أن قيادات أمنية وإعلامية رفيعة “وفقا لرويترز” شددت خلال اجتماع مع مجموعة من الكتاب والمخرجين الموثوق بهم، وحدد المسئولون الحكوميون الموضوعات والأفكار التي يريدون عرضها في المسلسلات التلفزيونية والموضوعات التي لا يريدون تناولها. وقال المسئولون للكتاب والمخرجين: إن الأعمال الدرامية يجب ألا يظهر فيها ضباط الشرطة وأفرادها بمظهر سيئ كأن يكون أحدهم خائنا لزوجته على سبيل المثال.

وتدليلا على حجم الهيمنة المطلقة فقد تراجع عدد الأعمال الدرامية خلال  مايو 2019 (شهر رمضان1441)  إلى 25 عملا بدلا من 40 عملا أو أكثر ومن بين هذه الأعمال أنتجت شركة “سينرجي” التابعة للمخابرات 15 مسلسلا. وفي العديد من هذه المسلسلات ظهر ضباط الشرطة في صورة أبطال يحاربون “قوى الشر” وهو مصطلح يستخدمه السيسي لوصف الشخصيات المعارضة  وخصوصا الإسلاميين.

ويرى الفنان عمرو واكد الذي نال جوائز فنية على أعماله حتى وصل إلى العالمية عندما ظهر في 2005م في فيلم “سيريانا”  مع الممثل العالمي جورج كلوني وهو من أفلام الإثارة والتشويق، أن أعمالا كهذه تؤكد مدى اضمحلال صناعة الترفيه في مصر، و«كأن هذه المسلسلات كتبها ضابط شرطة». ولذلك فقد قضت محكمة عسكرية غيابيا على واكد بالسجن ثماني سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة والإساءة لمؤسسات الدولة، وبات مستهدفا في منفاه الاختياري بإسبانيا بسبب تغريداته عن الديمقراطية ومساوئ حكم العسكر. مضيفا “في حياتي كلها ما شفتش مصر أسوأ من كده”.

وعلى الوتيرة نفسها التي تسير عليها الدراما الرمضانية منذ عام 2014، تصنع مسلسلات رمضان 2019 من رجال الشرطة والجيش أبطال مثاليين وخارقين لا يخطئون ويضحون بكل ما يملكون من أجل المجتمع. وربما هذا يكون مقبولا إذا تم العمل عليه دراميا، لكن الأمور تبدو في غالبية الأعمال وكأن فكرة رجل الأمن المثالي مستنسخة ومفروضة على سياق أحداث المسلسلات كلها، كما في مسلسلي “قابيل” و”آخر نفس”. مقابل ذلك يتم تشويه أي معارضين للسلطة وإلباسهم ثوب العمالة للخارج وتلقي التمويل من جهات أجنبية كما جاء في مسلسل “كلبش”، الذي عرض الجزء الثالث منه  في رمضان “مايو 2019”.، وهو العمل الذي صار أيقونة لتلميع رجل الشرطة وشيطنة المعارضة. أيضا لا يخلو مسلسل مصري يُعرض خلال شهر رمضان الحالي من شكر لمجهودات وزارة الداخلية على إنجاز عملها.

 

الضج بالشكوى

إزاء هذه الأوضاع فقد ضج عدد من الفنانين والفنانات بالشكوى، فقد أطلقت الممثلة غادة عبدالرازق، لجمهورها يوم السبت 17 نوفمبر 2018م استغاثة بعد منعها من العمل؛ حيث كشفت عن تعرُّضها لـ «حرب شرسة» من قبل مؤسسة إنتاج فني معروفة تابعة لجهاز المخابرات، بهدف منعها من المشاركة في أي عمل درامي خلال الفترة المقبلة. وكتبت غادة رسالة استغاثة عبر حسابها على موقع إنستغرام وقالت فيها: «يا جمهور أنا بتحارب من مجموعة اسمها (الإعلام للمصريين) مش عايزيني أشتغل السنة دي في الدراما، مش أنا بس ناس كتير جداً فنانين وبيقولوا هنقعدكم في البيت ولو عاجبكم». وأضافت: «ولو سألتهم بتتكلموا باسم مين يقولك باسم الجيش أو المخابرات، هل ده صحيح؟ مجرد سؤال علشان الوسط الفني كله بيسأل معايا ده حقيقة ولا كذبة، أرجو الرد علي وعلى زملائي وشكراً» .

الثاني:  رفض الرقابة على المصنفات الفنية لسيناريو مسلسل لعادل إمام كان مقررا عرضه في رمضان “2019” تدور أحداثه حول طبيب نفسي يلعب دوره عادل إمام والذي يعمل بالقصر الرئاسي، ويستعين به رئيس الجمهورية للإشراف على حالته الصحية والنفسية، حيث يظهر الرئيس بشخصيه مهتزة غير متوازنة ويحتاج إلى علاج نفسي؛ وجاء رفض الرقابة باعتبار المسلسل مساسا بشخصية زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي.

الثالث: كانت المخرجة كاملة أبو ذكري قد أثارت نقاشا مماثلا في أكتوبر2018، حينما كتبت على صفحتها على فيسبوك معترضة على ما يحدث في سوق الدراما المصرية، موضحة أن هناك ما يقرب من ثلاثمائة فرد يعملون في المسلسل، وليس النجوم والمخرج والمؤلف فقط. مضيفة أن “المسلسلات المصرية صناعة كبيرة.. أكتر من ٢ مليون بني أدم بيأكلوا عيش منها..السنه دي الناس دي كلها حتقعد في البيت.. تم إيقاف أغلب المسلسلات والحقيقة ماعنديش معلومة أكيدة إيه السبب.. إلي عارفاه إن الناس دي كلها مش حتلاقي تأكل والأسعار زادت ودخلهم توقف.. لو حد فاهم ليه بيحصل كده يا ريت يفهمونا ويقولولنا إيه البديل علشان نعيش بعد ما السينما كمان قفلت أبوابها والأسعار زادت بجنون؟” .

الرابع: كتب المنتج عمرو قورة معلقا على توقف صناعة الدراما في مصر: “لو متابع بوستات العاملين في مجال الإعلام وصناعة المحتوى، ستجد كمّا غير طبيعي من الأدعية والآيات والابتهالات والحسبنة… الجميع في البيت في انتظار معجزة إلهية.. باقي 174 يوما على رمضان…كل عام وأنتم بخير”.

وتسببت هذه المواقف في ردود فعل واسعة على الساحة الفنية، حيث شن الموالون للأجهزة الأمنية حربا إلكترونية واسعة على عبدالرازق وصعد وسم “#غاده_عبدالرازق_أفشل_ممثله” على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، وأصبح خلال ساعات قليلة الوسم الأول في مصر. وتضمن الوسم هجوما واسعًا عليها على خلفية تصريحاتها حول السيطرة الأمنية على الأعمال الدرامية . وكتبت مخرجة الأفلام التسجيلية عزة سلطان:” أنا مش بشتغل في الدراما، لكن بشتغل في الميديا، وشايفة اننا واحد ورا التاني بنقعد في بيوتنا بلا أفق ولا مجالات أخرى ممكن نستبدل أشغالنا بها”.

 

خلاصة الأمر:  إن الدراما المصرية تشهد تراجعا حادا مثل باقي قطاعات المجتمع التي تشهد تدهورا حادا منذ انقلاب 30 يونيو 2013م، ويسعى نظام السيسي إلى تشديد قبضته الأمنية على كافة مفاصل الإعلام والعمل الدرامي لما له من تأثير واسع على تشكيل وعي الجماهير.  ومن خلال احتكار شركات الإنتاج والتوزيع والهيمنة المطلقة على الفضائيات وشركات الدعاية والإعلان، ثم سن التشريعات الشاذة والمنحرفة وتأسيس جهات رقابية  جديدة مثل لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام فإن النظام يفرض وصايته المطلقة على الفن والإبداع وسط صمت كامل باستثناء أصوات قليلة  من أولئك الذين تمردوا على الرئيس الشهيد محمد مرسي خوفا على حرية الفن والإبداع فإذا بالسيسي الذي حملوه على الأعناق يفرض عليهم حجرا ووصاية لا مثيل لها من قبل حتى في عهد الدكتاتور جمال عبد الناصر.

ورغم القبول ببعض القواعد التي وضعتها لجنة الدراما للحد من مشاهد الانحرافات والعري والبلطجة والمس بالدين أو ترويج مشاهد جنسية بل الترحيب بها اتساقا مع قيم المجتمع وأخلاقياته؛  إلا أن وضعها يأتي في سياق تمرير الأهم وهو السيطرة على محتوى العمل الدرامي بما لا يمس الوضع السياسي أو ينتقد الوضع الراهن. فالدراما لا تنجح إلا في أجواء الحرية ومصر الآن سجن كبير محكوم بالحديد والنار.

الثلاثاء 7 يناير 2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022