سحب جائزة «أوبرا دريسدن».. محاكمة ألمانية  للسيسي تنتهي بالإدانة

يوم الأحد 26 يناير2020م، تسلم رئيس  الانقلاب عبدالفتاح السيسي، وسام “سانت جورج” هذا العام، من مهرجان دار أوبرا “زيمبر أوبر” Semperopernball بمدينة  دريسدن الألمانية، وسلَّم الجائزة هانز يواخيم، رئيس مجلس إدارة المؤسسة الألمانية والوفد المرافق له. الجهة التي قدمت الجائزة للسيسي بررت ذلك بجهوده الحثيثة في شتى المجالات خلال السنوات الماضية، خاصةً على صعيد استعادة الأمن والاستقرار في مصر في ظل محيط إقليمي مضطرب، فضلاً عن الدور الريادي في تحقيق التطلعات التنموية للقارة الأفريقية بأكملها، إضافة إلى دوره في مكافحة الهجرة غير الشرعية، والتي كان لها أكبر الأثر على أمن واستقرار أوروبا، لكن الأكثر دهشة أنها أعربت عن تقديرها لجهوده في نشر ثقافة وقيم التعايش السلمي وقبول الآخر وحرية الاعتقاد والتسامح.

لا يمكن تفسير ذلك إلا باعتباره نموذجا من نماذج الجهل بمجريات الأمور في مصر وإفريقيا إذا افترضنا البراءة في موقف الجهة الألمانية، أو أنها تمثل نموذجا مفضوحا لدعم جهات غربية للطغيان والاستبداد وقيم الإقصاء والقمع والظلم؛ ذلك أن مصر منذ برز السيسي كقائد للثورة  المضادة في منتصف 2013م، لم تشهد سوى لغة التطرف والعنصرية والكراهية؛ الأمر الذي  أفضى إلى تمزيق النسيج المجتمعي على نحو مخيف وغير مسبوق ويحتاج إلى عشرات السنين لمحو آثار عدوانه على المجتمع وجيل ثورة 25 يناير.

السيسي بالطبع احتفى بالجائزة وبالغ في إكرام الوفد الألماني، واعتبر ذلك برهانا على قوة العلاقات المصرية الألمانية التي تطورت خلال السنوات الماضية، كما عدها دليلا على تقدير العالم لدوره خاصة في مجالات الفن والثقافة والتقارب بين الشعوب. في مساء هذا اليوم؛ احتفت فضائيات النظام وكتائبه الإلكترونية بالجائزة الألمانية؛ ونظمت حملة تسويق واسعة النطاق واعتبرتها برهانا على تقدير العالم للسيسي ودوره محليا وإقليميا. وفي اليوم التالي، تصدرت صورة الطاغية السيسي وهو يتسلم الجائزة الألمانية أغلفة الصحف الحكومة والخاصة، وراحت مانشيتات وعناوين الصحف تزف البشرى لأنصاره وشلته بأن الزعيم استلم جائزة ألمانية تقديرا لجهوده الكبيرة في دعم الأمن والاستقرار والتنمية  بمصر وإفريقيا؛ وجاء في مانشيت “الأهرام” «إشادة ألمانية بجهود السيسي في تحقيق الاستقرار والتنمية بمصر وإفريقيا .. الرئيس يتسلم وسام “سان جورج” ويؤكد دعم التعاون الثقافي بين البلدين»، وفي «مانشيت اليوم السابع»:.. (السيسى يتسلم وسام «سان جورج» الألمانى تقديراً لجهوده فى تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية).

 

محاكمة ألمانية للسيسي ولدار الأوبرا

في هذه الأثناء، تعرضت دار أوبرا “زيمبر أوبر” Semperopernball بمدينة  دريسدن الألمانية، التي منحت الوسام للسيسي لحملة انتقادات واسعة، في الأوساط السياسية والثقافية والحقوقية في ألمانيا، ما دفع جهة منح الوسام للدفاع عن قرارها.([1])

أولا، انتقد فرع منظمة العفو الدولية بولاية ساكسونيا في تغريدة على حسابه في موقع تويتر منح الوسام للسيسي واعتبر ذلك “تشجيعاً” لمن “يقمع النقد بالقوة، والمسؤول عن التعذيب والتعسف والاعتقالات ويدوس على حقوق الإنسان بالأقدام”. وأضاف مخاطبا جهة منح الوسام “نحن لا نتفهم إطلاقا قراركم هذا”.

ثانيا، كتب النائب في البرلمان الألماني (البنديستاغ) عن مدينة دريسدن في تغريدة يقول “بعد أن حصل أحد أفراد العائلة السعودية المالكة وبوتين، جاء الآن دور السيسي لينال جائزة مهرجان زيمبر أوبر. إنه ضرب من السذاجة وضعف البصيرة. أنا مصدوم”.

ثالثا، صحيفة “سكسيشه إس تست” تناولت موضوع منح الوسام للسيسي بطريقة نقدية، وكتبت متسائلة “لماذا يمنح ديكتاتور وسام مهرجان زيمبر أوبر؟”.

رابعا، طالب ديرك هيلبرت عمدة مدينة درسدن الألمانية بإيضاح معايير حصول السيسي على الوسام. وأعلن أنه  يدرس عدم المشاركة في مهرجان دار أوبرا “زمبر أوبر” هذا العام (في 7 فبراير 2020) بعد منح السيسي وسام المهرجان هذا العام.

خامسا، طالب كل من النائب البرلماني كاي جيرينغ، العضو في لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان، عن حزب الخضر، و ايرهارد غروندل، الخبير الثقافي، رئيس دار أوبرا “زمبر أوبر” بالعدول عن قرار منح الوسام للسيسي، وذلك أيضا من أجل تفادي الأضرار التي قد تلحق بدار الأوبرا “المرموقة”، وقالا إن “السيسي مستبد ومعاد للديمقراطية بشكل لا تشوبه شائبة”، وإن منحه الجائزة يعد “إهانة” لجميع المنتقدين السلميين لنظامه.

سادسا، أعلن عدد من وسائل الإعلام الألمانية مقاطعة المهرجان كان أولها قناة MDR، ثم تبعتها صحيفة “زيكزيشه تسايتونج” التي كانت على مدى سنوات طويلة شريكا إعلاميا للمهرجان، حيث قالت مجموعة DDV الإعلامية المالكة للصحيفة، على حسابها بموقع تويتر: “إن عدم احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حق التعبير عن الرأي بحرية، لا يتفقان مع موقف دار النشر وفهمها لذاتها، ومع مجالس تحريرها”.

 

اعتذار غير كاف

أمام عاصفة النقد الضارية، دافع المدير الفني لـ”أوبرا زيمبر”، هانز-يواخيم فراي عن قرار اختيار السيسي، وقال في تصريحات لإذاعة وسط ألمانيا في ساكسونيا: “لدينا كشعار على وسام سانت جورج عبارة تقول ضد التيار، وهذا يعني أننا نتخذ أيضاً قرارات مهمة للغاية تتعلق بالتطورات المستقبلية”(ربما كان يشير إلى دور السيسي في صفقة القرن الأمريكية التي تم الإعلان عنها بعد منح الوسام للسيسي بيومين فقط). مضيفا أن هناك رغبة في “بناء جسور ثقافية لخلق لغة وسطية بين المناطق عبر الثقافة”. كما برر اختيار السيسي بأن الوسام ليس تكريما سياسيا بحتا، لأن الجهة المانحة ثقافية بحتة. وأضاف أن الأمر يتعلق في أنه سيتم افتتاح متحف وطني كبير في القاهرة يحتضن الحضارة المصرية. إضافة  إلى أن القاهرة ستشهد أيضا نهاية العام الجاري افتتاح دار أوبرا جديدة.

هذه الدفوع الهشة، لم تقنع أحدا، وارتفعت مستويات النقد؛ الأمر الذي أجبر رئيس الدار في 29 يناير2020م على الاعتذار عن منح السيسي وسام المهرجان، معترفا أن ذلك كان خطأ. وقال مدير دار أوبرا دريسدن: «نود أن نعتذر عن هذا المنح للوسام وأن نتبرأ منه، لقد كان منح الوسام خطأ». ([2])

 

مقاطعة شاملة

أمام الاعتذار غير الكافي من جانب دار الأوبرا الألمانية،  واصل مناصرو الحريات والديمقراطية انتقادهم وهجومهم اللاذع للدار([3]):

أولا، أعلن مغني البوب “رولاند كايزر” ويوديت راكرس المذيعة في القناة الأولى بالتلفزيون الألماني أنهما يعيدان التفكير في قرار إحياء المهرجان وذلك كرد فعل على منح الوسام للسيسي؛  حيث كتبت راكرس على حسابها بموقع تويتر تقول: “استثارني هذا المنح جدا، وأنا في نقاش منذ ذلك الحين، بصفتي مقدمة الحفل، بشأن ما يجب أن يترتب على هذه الخطوة”. وجاءت تغريدة راكرس عبر موقع تويتر قبل اعتذار فراي. وقال كايزر عبر حسابه على موقع فيسبوك إن “الحدث الثقافي الصاخب” تحول إلى “حدث سياسي”، مضيفا أنه ومنذ الإعلان عن منح الوسام للسيسي فإنه “في نقاشات بشأن النتائج المترتبة بالنسبة لي على المنح”.

ثانيا، أعلن مؤسس شركة ساب الألمانية للبرامج الحاسوبية عدم مشاركته في المهرجان؛ ورأى أن منح دار الأوبرا، وسام القديس جورج للسيسي “ألقى بظلال مظلمة” على الحفل الذي تقيمه الدار، وقال إن منح هذا الوسام للسيسي أصابه بالدهشة، ولكنه قرر في البداية، وبعد اعتذار الأوبرا علناً عن هذه الخطوة، المجيء إلى درسدن لحضور الحفل، قبل أن يستقر رأيه على عدم الحضور. وديتمر هوب ملياردير ويعد من أغنى أغنياء ألمانيا وهو مؤسس شركة ساب SAP للبرمجيات التي تعد من كبرى الشركات العالمية في هذا المجال.

ثالثا، أعقب اعتذار هوب إعلان أولي هونيس، المدير السابق لنادي بايرن ميونخ، رفضه حضور الحفل، حيث كان هونيس هو الذي سيلقي كلمة الإشادة الخاصة بتكريم مؤسس شركة ساب، ديتمر هوب، وهو ما دفع دار الأوبرا للتأكيد مساء الاثنين 3 فبراير2020م  عزمها عدم منح أية أوسمة خلال الحفل السنوي الراقص للأوبرا، المقرر الجمعة المقبلة.

 

سحب الجائزة

أمام هذه الضغوط والانتقادات الحادة من جانب شركائها بسبب تكريم الطاغية عبدالفتاح السيسي؛ أعلنت دار الأوبرا عن تخليها عن منح المزيد من أوسمة القديس جورج، خلال الحفل المقرر يوم السابع من شباط/ فبراير 2020م، “وذلك احتراماً للنقاشات الكثيرة التي شهدتها الأيام الماضية، ولكي نتمكن من إعادة التفكير بهدوء في قرارات مستقبلية”، حسبما أفادت دار الأوبرا.

ولكن يبدو أن هذه الخطوة لم تكن كافية لمسح العار الذي لاحق مدير الدار، وفي مساء 4 فبراير2020م، أعلن مدير دار الأوبرا هانز يؤاخيم مافاي أن دار أوبرا زمبر بدريسدن قررت سحب وسام القديس جورج من السيسي. قرار مدير الدار الألمانية جاء في أعقاب لقائه بالمغني الألماني والناشط في مجال حقوق الإنسان بيتر مافاي. ولم يوضح المتحدث الرسمي لدار أوبرا دريسدن، هولغار ساستوف، الطريقة التي سوف يتم بها استرداد الوسام الذي حصل عليه السيسي سلفا قبل نحو أسبوع.

وفي تعليقها على قرار  سحب الجائزة من السيسي كتبت وكالة “دويتش فيلا” الألمانية «أثار اختيار السيسي غضبا واسعا في الساحة السياسية والثقافية الألمانية، حيث عبّر الكثيرون عن استياءهم من منح رئيس وصل عدد سجناء الرأي في بلاده إلى مستوى لا يطاق، ويعاملون بقسوة مفرطة، فكيف يتم تقديمه كـ”مصدر أمل وشجاعة لقارة بأكملها”، وفق ما ذكر التعليل الأولي لدار أوبرا دريسدن غداة الإعلان عن اختيار السيسي؟»([4]).

 

محاكمة وإدانة

ما جرى في ألمانيا خلال الأسابيع الماضية هو محاكمة علنية بصوت مرتفع بين فريقين:

الأول: هم  أولئك الذين يرون في السيسي بطلا يستحق التكريم والإشادة؛ فأنصار هذا الفريق يرى أن الجنرال بقمعه وطغيانه قد حقق الأمن والاستقرار المنشود، وأسهم في تحقيق التنمية المرجوة، إضافة إلى دوره في مكافحة الهجرة غير الشرعية وهي الجهود التي كان لها أكبر الأثر على أمن أوروبا واستقرارها. لكن أنصار هذا الفريق يتجاوزون ذلك إلى الزعم بأنه يمثل أملا لمصر وإفريقيا تقديرا لجهوده في نشر ثقافة وقيم التعايش السلمي وقبول الآخر وحرية الاعتقاد والتسامح؛ وهو ما يكشف عن جهل بمجريات الأمور إذا افترضنا البراءة في موقف الجهة الألمانية.  لكن تفسيرا آخر يذهب إلى أن الجهة المانحة تقصد ذلك بالفعل وتمثل صورة مفضوحة من صور دعم جهات غربية للطغيان والاستبداد في بلاد العرب والمسلمين؛ لأن جرائم السيسي أكبر من أن تحتاج إلى برهان أو دليل؛  فيكفي أنه صعد إلى الحكم عبر انقلاب عسكري تم بثه عبر الشاشات إلى العالم كله، وارتكب فظائع وجرائم وحشية في عشرات المذابح الدموية التي لا يمكن وصفها إلا بجرائم الإبادة البشرية، وكلها موثقة وتم بثها أيضا إما عبر شاشات التلفاز أو بالهواتف المحمولة التي مكنت الجماهير المطحونة من رفع صوتها وكشف الجرائم بحقها. إضافة إلى ذلك فإن السيسي أجهض مسار ثورة يناير العظيمة التي دعت إلى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وعدم التهميش،  وزج بمئات الآلاف من الإسلاميين والعلمانيين من أنصار ثورة يناير في السجون بتهم سياسية ملفقة وسط ظروف شديدة القسوة يحرمون فيها من أبسط الحقوق الإنسانية حتى اليوم. يعزز هذا التفسير أمران:

  • الوسام الذي منح للسيسي ثم سحب منه (وسام القديس سانت جورج)وفقا للجمعية الألمانية المانحة للجائزة، هو عبارة عن نسخة مقلدة من ميدالية ترجع إلى عصر “الباروك” مرسوم عليها صورة القديس جورج كبطل صارع التنين معلناً انتصارَ الخيرِ على الشر. وتوجد القلادة الأصلية في متحف “القبو الأخضر” بمدينة دريسدن عاصمة ولاية ساكسونيا شرقي ألمانيا. الأمر الذي يعكس إيمان الجهة المانحة بأن ما فعله السيسي من جرائم هو في تصور القائمين عليها صورة من صور الخير الذي ينتصر على الشر؛ وهو نفس تصورات وأفكار اليمين المتطرف في أمريكا والغرب عموما!.
  • السيسي تلقى الوسام قبل الإعلان عن تفاصيل ما تسمى بصفقة القرن الأمريكي التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب بعد ذلك بيومين فقط في 28 يناير2020م؛ ولمحت الجهة المانحة للوسام إلى ذلك على لسان مديرها “لدينا كشعار على وسام سانت جورج عبارة تقول ضد التيار، وهذا يعني أننا نتخذ أيضاً قرارات مهمة للغاية تتعلق بالتطورات المستقبلية”.

هذه الحقائق تؤكد أن أوبرا دريسدن وبعيدا عن صبغ الثقافة بالسياسة على نحو مخيف كانت تقصد ما جرى بكل وعي وإدراك؛ رغم السيسي   يمثل قيم الطغيان والدموية والإقصاء والعنصرية والكراهية؛ فمصر منذ  برز السيسي كقائد للثورة  المضادة في منتصف 2013م، لم تشهد سوى لغة التطرف والعنصرية والكراهية؛ الأمر الذي  أفضى إلى تمزيق النسيج المجتمعي على نحو مخيف وغير مسبوق ويحتاج إلى عشرات السنين لمحو آثار عدوانه على المجتمع وجيل ثورة 25 يناير.

أما الفريق الثاني، فقد كشف عن الوجه المشرق للغرب الأوروبي عندما يكون ضميره الإنساني حيا ولا تلوثه أموال الصفقات وأفكار التطرف والعنصرية؛ وعبر عن ذلك بكل وضوح ونبل مواقف رصدناها في هذا التقرير؛ ودون الكاتب الألماني المخضرم “راينر هيرمان”  أفكار هذا الفريق في مقاله المنشور في صحيفة “فرانكفورتر ألجماينه”، الذي أكد أن السيسي أبعد ما يكون عن التكريم، واحتوى مقاله على مضامين مدهشة تستحق الإشادة والتقدير([5]):

أولا، قارن الكاتب بين السيسي وآبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، فالأخير نال جائزة نوبل للسلام في العام الماضي بعد أن أبرم في الأخير سلاماً مع إريتريا إثر نزاع استمر عقداً من الزمن. وعلى الصعيد الداخلي قام آبي أحمد بإطلاق سراح معتقلين سياسيين، كما اعتقل مَنْ يخرق حقوق الإنسان وفتح البلاد سياسياً واقتصادياً.

ثانيا، في مصر ــ بحسب المقال ــ فالوضع يبدو مختلفا؛  فالجيش الذي قاده السيسي كمشير حتى انتخابه كرئيس في 2014، يشارك في حروب، كتلك الدائرة في ليبيا وكذلك في اليمن. وفي مصر أيضاً يتحكم هذا الجيش في نصف الاقتصاد على الأقل، ليضمن الجنرالات الامتيازات ويمنعون المنافسة.

ثالثا، أوضح المقال أن عدد المعتقلين السياسيين يفوق 60.000 شخص. ولم تكن السجون في مصر أبداً مليئة بهذا العدد من السجناء من قبل، ناهيك عن التقارير المسربة إلى الخارج التي تتحدث عن أشكال التعذيب الفظيعة. كما لم تعد في مصر أية معارضة تستحق أن يُطلق عليها اسم “معارضة”. ووسائل الإعلام، الرائدة سابقاً في العالم العربي، تدهورت إلى أبواق دعاية موالية للحكام، وفقدت بالتالي أهميتها. كما أن القانون القمعي لعمل المنظمات غير الحكومية يسلب المجتمع المدني الحي سابقاً كل بريق هواء للحرية. ومن يدافع عن هذه السياسة لا يُعد باني جسور وناشر سلام وليس حامل أمل ولا يشجعه.

رابعا، أكد الكاتب أن ما كان في 2011 سيئاً وأدى إلى الاحتجاجات الشعبية في ميدان التحرير وفي كافة أرجاء مصر هو اليوم أسوأ. فالبنية التحتية لا تواكب نمو السكان ونظام التعليم في وضع كارثي وفقط جزء من بين أكثر من مليون من الشباب المصريين الذي يدخلون كل سنة سوق العمل، يجد عملاً. في 2011م، كانت توجد متنفسات لتفريغ الضغط، كالوسطاء السياسيين وأحزاب المعارضة وكذلك المجتمع المدني ووسائل الإعلام الحرة. وهذه المتنفسات باتت منغلقة اليوم، والضغط الداخلي في تزايد وغليان، خصوصاً في الطبقة الوسطى التي تكافح من أجل البقاء اقتصادياً. وفي عام 2011 كانت هناك ثمة فرصة لتحول منتظم. فهذا الباب انغلق منذ الثورة المضادة في 2013. وتحولت قبضة اليد الحديدية إلى قبضة خنق.

خامسا، رغم تراجع أوبرا دريسدن عن منح الجائزة للسيسي، لكن السياسة الغربية تواصل تدليل نظامه، لأنه في النهاية يمنع تسلل اللاجئين من إفريقيا. وهذه النظرة إلى مصر تبدو قاصرة، لأن ثمن هذا الاستقرار الخادع القصير المدى هو خطر أن تفشل مصر على المدى المتوسط. فالحكام العسكريون المعاصرون لا يقومون بما يجب القيام به كي لا تغرق البلاد في التحديات الهائلة التي تواجهها.

 

دلالات  وأبعاد

أولا، سحب الجائزة من السيسي يمثل قمة الإهانة للنظام العسكري في مصر والجيش المصري ذاته كما يمثل  انتصار رواية 25 يناير على رواية 30 يونيو، وهو ما ينعكس في قوة الحجة والبراهين والأدلة الساطعة التي عصفت بكل مبررات الجهة الألمانية المانحة للجائزة حتى أجبرتها على التراجع وسحب الوسام. كما مثل ذلك فضحا للجهات المدنية الغربية الداعمة للطغاة العرب؛ فقد امتنع كثيرون عن حضور مهرجان  أوبرا دريسدن هذا العام كما رفع نشطاء لافتات ضخمة أمام الدار تندد بحكم السسيسي باعتباره يسجن أصحاب الرأي الآخر ويخنق الحريات.

ثانيا، ما جرى في ألمانيا يؤكد يقظة الضمير الإنساني هناك، وقوة القيم الديمقراطية في المجتمع المدني، ورفض الغالبية الساحقة لطغيان الحكام العرب واستبدادهم؛  وكم كان لافتا أن الاعتراضات على الخطأ الذي اقترفته أوبرا دريسدن لم يقتصر على نشطاء وحقوقيين وسياسيين، إنما شارك فيها أيضا مثقفون وفنانون ورياضيون ورجال أعمال كبار، الأمر الذي يعكس الحجم الهائل للسمعة السيئة للسيسي ونظامه العسكري داخل مختلف شرائح المجتمعات الغربية. لكنه في ذات الوقت يعكس انتصار لغة المصالح على القيم الإنسانية والديمقراطية؛  فالحكومة الألمانية تربطها بنظام السيسي العسكري علاقات وثيقة ومصالح تعلو على هذه القيم النبيلة. وهو ما يتعين معه تكثيف التوعية وضرورة دعوة نبلاء الغرب للضغط على حكوماتهم من أجل تحجيم العلاقات إلى أدنى مستوياتها مع نظام السيسي باعتباره تهديدا لأمن مصر وإفريقيا والعالم على المستويين المتوسط والبعيد.

ثالثا، ما جرى من تفاصيل وأحداث ونقاشات مفتوحة تمثل محاكمة علنية للسيسي ونظام انقلاب 30 يونيو 2013م، وأمام عجز العدالة في مصر بعد أن تم العصف بمسحة الاستقلال التي كانت تتمتع به فإن المثقفين الألمان أقاموا على نظام السيسي الحجة وأثبتوا التهم وأصدروا الحكم بالإدانة. كما أن صمت نظام العسكر وإعلامهم يعكس حجم الصدمة الهائلة التي وقعت عليهم كالصاعقة؛ الأمر الذي يتوجب تسليط الأضواء عليه بكثافة فضحا للنظام وكشفا لمدى التدهور الجاري في البلاد.

رابعا، جهود فريق ثورة يناير  والمسار الديمقراطي لا تذهب سدى، فربما كانت لغة الحكومات تقوم على المصالح وتعلو فوق القيم الإنسانية والديمقراطية، لكن تأثير الوعي بالقضية المصرية كقضية حريات مصادرة وعدالة مفقودة  وحقوق إنسان تم سحقها بعنف تجد لها صدى واسعا في المجتمعات الغربية والإعلام الغربي عموما وهو ما يتعين تعزيزه بتكثيف التواصل مع هذه الجهات والتوعية المستمرة بالقضية وصولا إلى دعوة هؤلاء إلى الضغط على حكوماتهم من أجل حصار نظام السيسي والنظم العربية المستبدة باعتبار ذلك مصلحة للشعوب قبل  الحكومات على المديين المتوسط والبعيد. فالعلاقات الدائمة تبنى بين الشعوب؛ بعكس العلاقات مع الحكومات والتي تشبه العلاقات العابرة والسريعة.

خامسا، الموقف النبيل من الحقوقيين والمثقفين الألمان وكل شرائح المجتمع الألماني، تثير كثيرا من الأسى على حال مثقفي السبوبة في مصر والذين باتوا أبواقا للسلطة العسكرية الغاشمة  يتهربون من واجبهم بالثرثرة حول تجديد الخطاب الديني رغم أن الجميع يدركون أن الأزمة كل الأزمة في الخطاب السياسي؛ لأن الحرية والعدالة كفيلان بحل باقي الأزمات فلماذا يصرون على وضع العربة أمام الحصان؟!

الأربعاء 12 فبراير2020م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] منح السيسي وسام “القديس جورج” يثير انتقادات واسعة في ألمانيا/ دويتشه فيله الألمانية 25 يناير2020

 

[2] بسبب موجة احتجاجات.. دار أوبرا ألمانية تعتذر عن منح السيسي وساما/  دويتشه فيله الألمانية 29 يناير2020// دار أوبرا ألمانية تسحب وساماً منحته للسيسي/ العربي الجديد 29 يناير 2020

[3] بسبب السيسي.. مشاهير ألمان يرفضون تكريم أوبرا دريسدن!/ دويتشه فيله الألمانية 4 فبراير2020

 

[4] دار أوبرا دريسدن تتراجع وتسحب وسام القديس جورج من السيسي/ دويتشه فيله الألمانية  5 فبراير2020

 

[5] راينر هيرمان/وجهة نظر: السيسي ليس باني جسور ولا تُعلَّق عليه الآمال/ دويتش فيلا الألماني 8 فبراير2020// كاتب ألماني: السيسي أبعد ما يكون عن استحقاق التكريم/الجزيرة نت 9 فبراير2020

 

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022