العمل الخيري بمصر في زمن كورونا.. بين التأميم والتوظيف السياسي

تتكون الدول وفق أدبيات التنمية من ثلاثة قطاعات رئيسية: الأول هو الحكومة بجميع أجهزتها ومؤسساتها على المستويين المركزي والمحلي، والثاني هو القطاع الخاص، الذي يمثل رافدا أساسيا من روافد التنمية؛ وتمتد مظلته لتشمل قطاعات واسعة من الصناع والتجار ورجال الأعمال والمهنيين والحرفيين وأصحاب المشروعات الكبيرة والمتوسطة وحتى الصغيرة، والثالث هو المجتمع المدني بمنظماته وجمعياته الأهلية الخيرية ومبادراته ومؤسساته المحترفة على المستوى الوطني أو منظمات المجتمع المحلي.

وتحظى  منظمات المجتمع المدني برعاية خاصة من جانب حكومات الدول الديمقراطية التي تسن القوانين التي تضمن لمنظمات المجتمع المدني البقاء والنمو لما لها من دور شديد الأهمية في الوصول إلى شرائح مختلفة لا تحظى بالرعاية الكافية من جانب الحكومات؛ ولذلك ترى الحكومات الديمقراطية أن للمجتمع المدني دورا عظيما مكملا لدور الحكومة في تلبية الاحتياجات الأساسية لشرائح مختلفة من الناس من الفقراء والمهمشين وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية لملايين الفقراء والمحرومين.

ومنذ انقلاب 30 يونيو 2013مـ أجهز نظام الطاغية عبدالفتاح السيسي على جميع قطاعات الدولة؛ سيطر على الجيش والداخلية والمخابرات سيطرة مطلقة، وأمم الحياة السياسية والإعلامية؛ فلم تعد هناك أحزاب بالمعنى الحقيقي وتم العصف بكل الأصوات المعارضة والإعلام الحر؛ فلم يبق إلا صوت السلطة وحفنة من الإعلاميين المرتزقة الذين لا هم لهم إلا النفاق للسلطة و التزلف إليها، أما القطاع الخاص فتم التعامل معه بطريقة مختلفة عبر تمكين المؤسسة العسكرية من الهيمنة المطلقة واحتكار مفاصل الاقتصاد حتى بلغت نسبة تقترب من 60% وفق بعض التقديرات وتراجع القطاع الخاص أمام المؤسسة العسكرية التي باتت تضع يدها على المشروعات بالأمر المباشر بخلاف ما تتمتع به نفوذ واسع وإمكانات هائلة ومزايا تفضيلية تجعل من الصعوبة بل الاستحالة توافر بيئة اقتصادية تنافسية عادلة  تنعم بالمساواة أمام القانون.

أما الضلع الثالث؛ المجتمع المدني فقد ناله بمنظماته ومؤسساته من هذا التنكيل والتأميم الكثير؛ خصوصا المؤسسات الخيرية التي كان يديرها الإخوان المسلمون والتي كانت تمتد بمظلة الرعاية والتكافل إلى ملايين الفقراء والمحرومين، ولم يتوقف عند حدود غلق هذه المؤسسات الخيرية ومصادرة أموالها بل امتد الانتقام والتنكيل إلى القائمين عليها فمنهم من قتل ومنهم  من اعتقل ومنهم من صودرت أمواله وحيل بينهم وبين حرية التصرف في أموالهم لا لتهمة فعلوها سوى الإصرار على رفض انقلاب قادة المؤسسة العسكرية على المسار الديمقراطي والرئيس المنتخب والإجهاز على ثورة 25 يناير بالمحو والإزالة.

 

انكشاف الحكومة للمجتمع الأهلي

ظهور فيروس كورونا “كوفيد ــ19” في مصر بدءا من شهر فبراير 2020م، ثم توسعه في مارس وانتشاره في إبريل ، ثم التوقعات حول الوصول إلى مرحلة الذروة في مايو المقبل؛ لم يؤد إلى انكشاف المنظومة الصحية لحكومة الانقلاب وحدها لعدم قدرتها على مواجهة العدوى بأسلوب علمي صحيح؛ بل أدى أيضا إلى انكشاف المجتمع المدني، الذي تلاشى وسط  زحام الأخبار الكثيفة عن الوباء ومدى تفشيه، وظهرت منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الخيرية عاجزة مثل النظام تماما عن تقديم رؤية متماسكة  أو حتى القيام بجهود ومبادرات تطوعية تسهم في مكافحة مجدية للعدوى وتعزز من فرص الحد من انتشار الوباء وانحساره.

ويبدو المجتمع المدني المصري  صغير الدور والتأثير إذا علمنا أن منظمات المجتمع المدني في المجتمعات الديمقراطية تسهم بما يعادل 5 – 10% من الناتج القومي الأجمالي لهذه الدول، ويوجد في بريطانيا وحدها 170 ألف منظمة خيرية عاملة تدير تمويلات وأموال تزيد عن 50 مليار دولار سنوياً، ويوجد أكثر من 129 ألف منظمة في دول الاتحاد الأوروبي تنفق أموال وتبرعات تزيد عن 63 مليار دولار سنوياً في الدول النامية بخلاف ما تنفقه داخل الاتحاد نفسه، كما يوجد أكثر من 1.4 مليون منظمة غير حكومية في الولايات المتحدة تشغل أكثر من 11.4 مليون شخص وتدير أموال وتبرعات تزيد عن 1.7 ترليون دولار، أما استراليا ففيها 600 ألف منظمة توظف 8% من القوة العاملة في استراليا، وتنشط منظمات المجتمع المدني في تعزيز التنمية داخل مجتمعاتها والإسهام في تحسين مستوى معيشة الملايين من الفقراء والمحرومين عبر مشروعات الكفالة والتدريب والدعم وتستطيع الوصول بطرق فعالة للفئات الأكثر احتياجا وتنشط بشكل خاص في تقديم الخدمات في قطاعات الصحة والتعليم ودعم الفقراء وتوفير أساسيات الحياة لملايين الفقراء والمحرومين؛ ولهذه الأسباب تشجع الحكومات المختلفة على تعزيز الدور الفعال للمجتمع المدني وتسن القوانين التي تضمن تنمية هذه المؤسسات وتوسيع أنشطتها في خدمة الناس.

 

علامات الضعف والهشاشة

انكشاف المجتمع المدني المصري يبدو جليا أمام كل راصد؛ ويدلل على هذا الضعف وضمور التأثير عدة شواهد وأدلة يمكن رصدها في العناصر الآتية:

أولا، الاختفاء شبه التام لمؤسسات المجتمع المدني إلا من بعض التصريحات التي تحاول تجميل الصورة والزعم بأن للمجتمع المدني دورا ملموسا في مكافحة العدوى؛ لكن المتابع للمشهد المصري جيدا والراصد لما ينشر عن دور المجتمع المدني في جهود مكافحة العدوى  لن يجد شيئا ذا قيمة يمكن الاستناد عليه في تكوين صورة إيجابية لها تأثير فعال، ويكفي أن صحيفة “اليوم السابع”  التي تشرف عليها أجهزة المخابرات العامة، أشارت إلى حيرة النظام أمام اختفاء المجتمع المدني وضعف تأثيره؛  ونشرت تقريرا  في 28 مارس الماضي تساءلت فيه عن سر اختفاء دور منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية عن الجهود المطلوبة لمكافحة عدوى كورونا وجاء تحت عنوان (أين دور المجتمع المدنى من أزمة “كورونا؟”.. مقترحات لإطلاق مبادرة عاجلة مشتركة مع الدولة للتصدي للفيروس.. علاء شلبى: تؤدى دورا مهما فى التنمية.. وصلاح سليمان: الأمر أكبر من منظمات محدودة القدرات)..([1])

ثانيا، أمام  غياب دور المجتمع المدني، أعلنت  الوحدة المركزية لمقدمي شؤون الخدمات الطبية بوزارة الصحة والسكان بحكومة الانقلاب العسكري بمصر في 25 مارس الماضي، عن فتحها باب التطوع لمن يرغب في الانضمام إلى فريق العمل الخاص بمواجهة تفشي فيروس “كورونا”  المستجد “كوفيد ــ19″، وتحت شعار “كن بطلا” طالبت الراغبين بملء بياناتهم من خلال استمارة إلكترونية وتقديمها على رابط إلكتروني، وفي تفاصيل الإعلان أوضحت الوزارة أن التسجيل مفتوح لكل العاملين بالمهن الطبية أو طلبة الكليات الطبية أو العاملين بوظائف غير طبية ويمكنهم التطوع أو طلبات الكليات غير الطبية ويمكنهم التطوع، وأرفقت الميل التالي ([email protected])، وفي محاولة لحث الراغبين على التطوع أعلنت في ذات اليوم أنها تلقت 10 آلاف طلب بعد ثلاث ساعات فقط،([2]) ولم يظهر لهذه المبادرة صدى بعد ذلك ولم تشر إليها الصحف والمواقع الإخبارية الموالية للنظام مطلقا بعد انتقادات وجهت للحكومة لأسباب منطقية، أهمها:

  • وزارة الصحة تضم نحو «46,763» طبيبا وفق دراسة أعدتها وزارة الصحة بالتعاون مع المجلس الأعلى للجامعات المصري، في أواخر عام 2019 ، إضافة إلى “187,090” هم إجمالي طاقم التمريض الحكومي في سنة 2016 بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهناك أيضا “20,053” ممرضا وممرضة بالقطاع الخاص ومستشفيات الجيش والشرطة ورجال الأعمال، ويبلغ عدد المقيدين بالنقابة العامة للتمريض “243,529”، هذا بخلاف مئات الآلاف من الإداريين والعاملين والموظفين بالوزارة؛ فلماذا تطلب متطوعين ولديها كل هذا الجيش الجرار الذي يصل إلى نصف مليون موظف حكومي ما بين أطباء وممرضين وإداريين وموظفين؟!
  • اللافت أيضا أنه عندما أعلنت الحكومة عن حاجتها لمتطوعين في 25 مارس لم يكن عدد المصابين يزيد على 450 والوفيات 21 حالة فقط؛ الأمر الذي أثار كثيرا من الألغاز الأخرى؛ لأن مستوى انتشار العدوى وقتها لم يكن مخيفا إلى حد الإعلان عن حاجة لمتطوعين؛ ولم يكن قد وصل إلى مستويات لا يمكن السيطرة عليها أو احتوائها؛ وهو ما يفهم منه أمران:  الأول أن  ما تعلنه الحكومة عن عدد الإصابات أقل بكثير من الحقيقة ولذلك تحتاج إلى متطوعين رغم ما لديها من جيش جرار من الأطباء والممرضين والعاملين يصل إلى نصف مليون، والثاني أن الإعلان ربما يعكس حالة عصيان بين الطواقم الطبية لم يتم الإعلان عنه لأسباب تعود إلى تهديدات الأجهزة الأمنية وأن الهدف من المتطوعين هو سد الفجوة المحتملة بناء على رفض كثير من الطواقم الطبية العمل في ظل عدم توافر أدوات الوقاية والحماية من العدوى، وربما كانت هذه التحفظات سببا في غلق هذا الباب فلم يسمع أحد شيئا عن هؤلاء المتطوعين حتى اليوم رغم سقوط المئات من الطواقم الطبية مصابين بالعدوى وسط شكاوى لا تتوقف كشفت حجم الإهمال الجسيم وتركهم متجردين من أي أدوات تحميهم وتوفر لهم الوقاية من الإصابة بالعدوى.
  • لماذا تطلب الحكومة متطوعين وهناك أكثر من نصف مليون مجند في صفوف الجيش ومثلهم في صفوف الشرطة؟ وإذا كانت الحكومة تحتاج إلى متطوعين يعرضون نفسهم للخطر في مكافحة عدوى فيروس كورونا؛ فلماذا تحتاج إلى  متطوعين وهناك شباب البرنامج الرئاسي، وهم بالآلاف ينعمون بخيرات النظام ومغانمه وينفق عليهم بسخاء؛ واستعان بهم النظام في مواقف كثيرة ومؤتمرات شبابية بلا جدوى أنفق عليها الطاغية عبدالفتاح السيسي ببذخ شديد؛ فلماذا لا يتم استدعاؤهم مثل كل مرة؟ ولماذا في المغانم يتصدرون الصفوف وفي وقت المغارم لا نسمع لهم حسا ولا ركزا؟!

ثالثا، أطلقت حكومة الانقلاب مبادرة طلبت فيها من رجال الأعمال والمواطنين التبرع لمواجهة فيروس كورونا وخصصت الحكومة لذلك حسابا خاصا تابعا لصندوق “تحيا مصر” يتلقى المساهمات والتبرعات بكل البنوك المصرية، وبالفعل جمعت المبادرة أكثر من 100 مليون جنيه من رجال الأعمال لكن الغريب هو تبرع مؤسسات حكومية! وهي المبادرة التي تزامنت مع تخصيص الحكومة 500 جنيه لعدد قليل من العمالة غير المنتظمة ما يعني أن الحكومة حملت المجتمع ورجال الأعمال جميع مصاريف المبادرة التي تم التسويق لها على إنها إنجاز للحكومة؛ فالسمعة الحسنة لها والتكاليف على حساب المجتمع.([3])

رابعا، مع اختفاء دور الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني برزت الجهود الفردية والتي انبرى أصحابها إلى التسويق لأنفسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي من جانب رجال أعمال وممثلين عبر تدشين مباردة “تحدي الخير” تتضمن كفالة عشرات أو مئات الأسر الفقيرة من المهمشين أو أسر العمالة المنتظمة وهي المبادرات التي انطلقت في منتصف مارس وتزامنت مع دعوة الحكومة للمواطنين الالتزام بالبيوت وعدم الخروج  كإجراء وقائي من العدوى في ظل انتقاد الكثيرين لذلك لأن ملايين الأسر الفقيرة لا تستطيع البقاء في المنازل وإلا مات أفرادها جوعا وفقرا؛ لكن هذه المبادرات لم تكن بالحجم المأمول الذي يمكن أن يسهم في نجاح مبادرة البقاء في المنازل من جهة، كما أنها توقفت بمجرد تغير استراتيجية الحكومة وسماحها بتخفيف قيود حظر التجول بناء على ضغوط من رجال الأعمال ومخاوف من الإفلاس الذي يمكن أن يؤدي إلى فوضى اجتماعية تهدد بقاء النظام ذاته من جهة أخرى.

 

“30” يونيو وتدمير العمل الخيري

بعكس نظام مبارك الذي ترك الملف الخيري للإسلاميين والإخوان باعتباره مكملا لدور النظام عبر تقديم الرعاية الصحية والخدمات التعليمية لملايين الفقراء؛ شن نظام السيسي حرب استئصال شاملة ضد الإخوان والعمل الخيري ومنظمات المجتمع المدني التي يديرونها بينما عمل على تقييد حركة منظمات المجتمع المدني التي يديرها علمانيون لتبقى شكلا بلا جوهر وصورة بدون مضمون أو نشاط جاد ومثمر.

أولا تم حل مئات الجمعيات الخيرية بعد الانقلاب مباشرة، وتجميد أرصدتها بناء على حكم من محكمة الأمور المستعجلة في سبتمبر 2013م بحل جمعية الإخوان والتحفظ على أموالها، وتوسع نظام 30 يونيو في قرار الحل والتجميد حتى وصلت إلى تعليق عمل ما بين 1055 إلى 1300 جمعية، وحرم القرار ملايين البسطاء من الانتفاع بخدمات تلك الجمعيات الصحية والتعليمية والخيرية أيضا، وكان نشاط تلك الجمعيات منصبا على رعاية الفقراء وتقديم خدمات صحية وتعليمية وخيرية، مثل الإعانات المالية الشهرية، وتجهيز العرائس للزواج، وتوزيع كسوة وأغطية الشتاء على المحتاجين، وإطعام الطعام، وإغاثة الملهوفين سواء في الظروف العادية أو الصعبة، وحتى يعرف القراء حجم الكارثة وكيف انعكس هذا القرار سلبيا على ملايين الناس؛ نضرب مثلا بإحدى مؤسسات الإخوان الخيرية في مجال الصحة وهي «الجمعية الطبية الإسلامية»، فهي ليس مجرد جمعية بل صرح خيري من أعظم المؤسسات الخيرية في العالم؛ تضم أكثر من 38 مستشفى ومستوصفا و10 مراكز متخصصة للغسيل الكلوي و12 صيدلية، وتعالج أكثر من 3 ملايين مريض، وتجري أكثر من 75 ألف عملية جراحية سنويا، وتتركز فروعها في المناطق الشعبية الفقيرة، حيث يشكل الفقراء غالبية المستفيدين من خدماتها، وتقدم خدماتها للجميع بالمجان، ولم يتمكن النظام مطلقا من ملء الفراغ الذي تركته هذه المؤسسات الخيرية بفروعها الممتدة في آلاف المدن والقرى والأحياء، بخلاف تجميد النشاط الخيري في المساجد الصغيرة خشية الملاحقات الأمنية التي لم تتوقف ساعة واحدة منذ الانقلاب حتى اليوم، وكانت تلك الجمعيات تقوم بدور مكمل للحكومة منذ عقود، بسبب قدرات الحكومة المحدودة والقاصرة، من خلال تشجيع العمل الخيري خاصة في محافظات الصعيد والمناطق الفقيرة بالقاهرة والمحافظات الريفية، وهو ما وفر مظلة كبيرة لملايين الفقراء لم تكن الدولة قادرة على الوصول إليهم (32 مليون شخص وفق بيانات رسمية عام 2018).([4])

ثانيا، سن النظام قانون العمل  الأهلي سنة 2017م والذي قيد نشاط منظمات المجتمع المدني ووضع لها أغلالا تحول دون القيام برسالتها في خدمته المجتمع وأمام الانتقادات الواسعة للقانون أجرى النظام عليه تعديلات في يوليو 2019م وصادق عليه السيسي في 21 أغسطس 2019م تحت مسمى القانون 149 لتنظيم ممارسة العمل الأهلي، ورغم التسويق الواسع من جانب الآلة الإعلامية للنظام لهذه التعديلات إلا أن هناك شبه إجماع بين منظمات العمل المدني على أن قانون 2019 حوى تعديلات غير كافية إضافة إلى وجود قوانين أخرى تفرض قيودا مشددة على منظمات العمل الأهلي والمجتمع المدني تحتاج إلى تعديل، وأكد بيان لعشرة منظمات حقوقية مصرية ودولية أن القانون الجديد ما هو إلا إعادة تسويق القانون القمعي الذي يحمل الفلسفة العدائية لمنظمات المجتمع المدني”، ويجعلها تحت رقابة دائمة من جانب الأجهزة الأمنية، بحسب بيان لمنظمة هيومن رايتس ووتش،([5]) كما اعتبر بيان لستة أحزاب و22 منظمة أهلية القانون الجديد قبل المصادقة عليه بأنه يعكس فلسفة الحكومة التي تتعامل مع المجتمع المدني باعتباره عدوا تحاط الخطط والقوانين السرية للقضاء عليه ووصفه بالمذبحة لجميع الجمعيات الأهلية في مصر.​([6])

ثالثا، حصر العمل الأهلي والخيري في المقربين من النظام والمرضي عنهم من جانب الأجهزة الأمنية التي باتت تهمين على كل شيء؛ كما يتم توظيف نشاط هذه المؤسسات الخيرية توظيفا سياسيا لخدمة أهداف النظام ومآربه؛ فبعد غلق آلاف الجمعيات وتجميد نشاطها ونهب أموالها وأصولها خلت الساحة من الجمعيات التي يديرها موالون للنظام مثل جمعية رسالة والأورمان وبنك الطعام ومؤسسة مصر الخير وكلها جمعيات يديرها لواءات سابقون او شيوخ موالون للنظام، وحتى الجمعية الشرعية التي أعلن عن تجميد نشاطها في أعقاب الانقلاب تم إعادة نشاطها بعد وضع آليات تضمن سيطرة الأمن الوطني على جميع أنشطتها سواء في المقر الرئيس أو المقار الفرعية في جميع المحافظات خصوصا المشروعات الخيرية التي تقوم بها الجمعية.

رابعا، احتكار التبرعات بــ”صندوق تحيا مصر”:  مع بدء ظهور وباء “كورونا” كوفيد ــ19  في مصر ؛ اتجه نظام السيسي نحو تكريس وضعية صندوق “تحيا مصر” الذي أسسه السيسي في 2014م، وهي وضعية شاذة تمثل دورا موازيا لدور الدولة، حيث يتم إجبار رجال الأعمال والوزارات الحكومية والمؤسسات الأهلية على تقديم الدعم والتبرعات للصندوق الذي يجمع الأموال وينفقها متحررا من أي رقابة لأن الإنفاق منه يتم بأوامر مباشرة من السيسي نفسه الذي يكرس وضعية شاذة تخالف الدستور والقانون، وخلال شهر إبريل 2020، تلقي الصندوق أكثر من 100 مليون جنيه (6.3 ملايين دولار) كتبرعات مباشرة من جهات ومستثمرين، مثل مجلس الشعب ومجلس الوزراء والمحافظين ومجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى ومشيخة الأزهر ومجلس الكنائس المصرية وهيئة قناة السويس، والعديد من رجال الأعمال، على رأسهم حسين صبور وشركة إعمار الإماراتية،  وبعد 6 سنوات من تأسيسه فإن حصيلة الصندوق تقترب من 30 مليار جنيه بحسب مصادر حكومية رغم أن السيسي تحدث عن أمله في جميع 100 مليار جنيه في أول 3 سنوات من تأسيس الصندوق، وحصن السيسي أنشطة الصندوق بقانون في يوليو 2015م أقره مجلس النواب يوفر للصندوق سرية مطلقة وحصانة من جميع أنواع الرقابة وحتى الجهاز المركزي للمحاسبات يقتصر دوره على “إعداد تقرير بمؤشرات أداء الصندوق سنوياً، في ضوء القوائم المالية المعتمدة من مراقب الحسابات”.([7])

خامسا، التوظيف السياسي للعمل الخيري من أجل تكريس انفراد النظام والمؤسسة العسكرية باعتبارها حزبا سياسيا وليس جيشا نظاميا للوطن كله، ولذلك هناك حالة من الإصرار على حرمان المجتمع من  تعزيز قدراته المناعية وإجهاض أي دور شعبي؛ ذلك أن نظام 30 يونيو ينظر إلى العمل الأهلي باعتباره دورا موازيا للدولة وليس مكملا لها كما هو في النظم الديمقراطية وشبه الديمقراطية وحتى في النظم المستبدة التي تتمتع بهامش من الرشد والحكمة، كما كان موقف نظام مبارك من الإخوان حيث حاصرهم سياسيا ونقابيا لكنه أبقى على ملف البر والجمعيات الخيرية التي كانت تديرها الجماعة باعتباره تقوم بدور مكمل للنظام في خدمة المجتمع وتصل إلى ملايين الفقراء الذين لا يتمكن النظام من رعايتهم والاهتمام بشئونهم المادية والصحية والتعليمية، وحتى عندما نظم الإخوان مؤتمرا في 5 إبريل 2020م يمدون فيه يد المساعدة والمساهمة للمجتمع من أجل تعزيز قدرات المجتمع في مكافحة العدوى أجهز السيسي بتصريحات شاذة واستفزازية على هذا الموقف وجدد وصفه للجماعة بالفصيل الشرير الذي يجب استئصاله.

 

الإخوان بين أمس واليوم

وتبقى المقارنة بين موقف الإخوان اليوم وبين موقفهم الإيجابي عندما تفشي وباء الكوليرا في مصر في سبتمبر 1947م، كفيلا  لإدراك خطورة النظم المستبدة على قدرات المجتمعات وقتل مواطن المناعة الذاتية بها؛ وقتها  تواصل الإخوان مع وزارة الصحة بالحكومة وأعد مكتب الإرشاد 40 ألف متطوع ووضع في خدمة الحكومة والمجتمع مقرات وعناصر 1500 شعبة، وقاموا بدور كبير في نشر التوعية عبر المساجد والصحف والنوافذ الإعلامية وشاركوا في إسعاف المصابين وتطعيم المواطنين باللقاح، وتوزيع أدوات التعقيم والتطهير؛ حتى انتهى الوباء في ديسمبر، وقد أسفر عن مقتل نحو 12 ألف مصري، هذا الدور العظيم دفع وزير الصحة وقتها الدكتور نجيب إسكندر باشا إلى تقديم الشكر للجماعة في رسالة رقيقة لفضيلة المرشد العام الأستاذ حسن البنا قال فيها: (حضرة صاحب فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين.. تحية طيبة وبعد.. بالإحاطة إلى خطابكم الخاص باستعداد مستوصفات الإخوان المسلمين بجميع نواحي القطر بعمليات التطعيم في مناطقها ضد الكوليرا فإني أقدر بالعرفان هذا الواجب الوطني لما ينطوي عليه من عاطفة كريمة وروح طيبة نحو مواطنينا الأعزاء وسوف لا تتأخر الوزارة عن قبول مساهمتكم في العمل الذي أشرتم إليه في خطابكم في الوقت المناسب، ولا يسعنا إزاء هذه الوقفة الكريمة إلا أن نبعث لفضيلتكم بموفور الشكر مقدرين حسن معاونتكم لنا في مقاومة وباء الكوليرا. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام). ([8]) أما اليوم فقد حيل بين الجماعة بين الناس، وحيل بين الجماعة وبين المجتمع، حيث أوغل نظام الانقلاب فيهم قتلا واعتقالا وتشريدا ونهبا لأموالهم، ويكفي أن من بين المعتقلين كفاءات طبية وطنية وقامات مكانها الطبيعي هو تصدر صفوف المجتمع في مكافحة العدوى لكن النظام يصر على إبقائهم معتقلين معرضين للإصابة بالعدوى، وهو انتقام وتنكيل لا يمكن فهم أبعاده وتفسيره إلا باعتباره ضمن سياق إقليمي يستهدف القضاء على كل من يعارض الوجود الصهيوني في المنطقة، ورغم ذلك تصر الجماعة على خدمة المجتمع ودشنت مبادرة “نعم .. شعب واحد نستطيع” من أجل تعزيز  قدرات المجتمع المناعية في مكافحة الوباء بعيدا عن موقف النظام الذي يؤكد كل يوم أنه حريص على نفسه وبقائه في السلطة أكثر من حرصه على حياة الناس وحماية الأمن القومي للبلاد.

خلاصة الأمر، انتشار فيروس كورونا أدى إلى انكشاف المجتمع المدني والانهيار الحاد في العمل الأهلي في مرحلة ما بعد انقلاب 30 يونيو2013م؛ حيث أجرى نظام الانقلاب أكبر عملية تأميم للعمل الخيري في مصر ؛وهو ما انعكس بشكل سلبي على مشهد مكافحة الوباء الذي تقف فيه الحكومة وحيدة وعاجزة دون مساندة حقيقية وجادة من المجتمع بعد أن أجهز النظام العسكري على قدرات المجتمع المناعية وأطاح بمصادر قوته وكرس معاني السلبية واللامسئولية عبر عقود من التجريف والتأميم والطغيان حتى تبقى المؤسسة العسكرية وحدها القادرة على الفعل والتأثير حتى لو كان عملها محدود النجاح يقوم على اللقطة والشو الإعلامي أكثر من مكافحة جادة لتفشي الوباء واحتوائه.

الجمعيات الخيرية التي كان يديرها الإخوان كانت تقوم بدور مكمل للحكومة منذ عقود، بسبب قدرات الحكومة المحدودة والقاصرة، من خلال تشجيع العمل الخيري خاصة في محافظات الصعيد والمناطق الفقيرة بالقاهرة والمحافظات الريفية، وهو ما وفر مظلة كبيرة لملايين الفقراء لم تكن الدولة قادرة على الوصول إليهم (32 مليون شخص وفق بيانات رسمية عام 2018)([9])، والآن وبعد أزمة جائحة كورونا، وفرض حظر التجول الجزئي وإغلاق المقاهي والمطاعم، وتعطل السياحة، وتوقف أو تقليص عدد العمالة في القطاع الخاص، وتضرر الاقتصاد غير الرسمي الذي يشكل نحو 40% من الاقتصاد المصري، باتت الحاجة إلى دور تلك الجمعيات أكبر، لكنه لم يعد موجودا بالشكل الذي كان عليه قبل عام 2013م، في ظل إصرار نظام السيسي على تأميم العمل الأهلي واحتكار النشاط الخيري وتوظيفه سياسيا لخدمة أهداف النظام وتكريس وجوده وضمان بقائه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] محمد السيد/ أين دور المجتمع المدنى من أزمة “كورونا”.. مقترحات لإطلاق مبادرة عاجلة مشتركة مع الدولة للتصدي للفيروس.. علاء شلبى: تؤدى دورا مهما فى التنمية.. وصلاح سليمان: الأمر أكبر من منظمات محددوة القدرات/ اليوم السابع السبت، 28 مارس 2020

 

[2] شيماء عادل ومريم الخطري/عاجل.. “الصحة” تطلب متطوعين لمواجهة فيروس كورونا المستجد: كن بطلا.. لكل العاملين بالمهن الطبية أو طلبة الطب أو العاملين بوظائف غير طيبة/ بوابة الوطن الأربعاء 25 مارس 2020// أحمد جمعة/ الصحة: 10 آلاف شخص تقدموا للتطوع لمواجهة كورونا في 3 ساعات// مصراوي الأربعاء 25 مارس 2020

[3] فيديو| الحكومة: التبرع لمواجهة كورونا على هذا الحساب/ مصر العريبة 21 مارس 2020// أحلام حسنين/109 ملايين.. حصيلة تبرعات «الخميس» لدعم مواجهة كورونا/ مصر العربية 16 إبريل 2020

 

[4] ملايين المتضررين من كورونا.. هل تدفع الحكومة المصرية ثمن تأميم العمل الأهلي؟/ الجزيرة نت 3 إبريل 2020

[5] منظمات حقوقية مصرية ترفض قانون الجمعيات: يعادي المجتمع المدني/العربي الجديد 11 يوليه 2019

[6] فريق التحرير/ قانون الجمعيات الأهلية في مصر.. جدل مستمر رغم التعديلات/ نون بوست 16 يوليو 2019

 

[7] كورونا يكرّس الوضع الاستثنائي لصندوق “تحيا مصر”: الرقابة معدومة/ العربي الجديد 19 أبريل 2020

[8] أبو العربي مصطفى/ الإخوان المسلمون وإحياء العمل الإغاثي..  دراسة حصرية للمنتدى الإسلامي العالمي للتربية/ المنتدى الإسلامي للتربية  13 يناير 2019

 

[9] ملايين المتضررين من كورونا.. هل تدفع الحكومة المصرية ثمن تأميم العمل الأهلي؟/ الجزيرة نت 3 إبريل 2020

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022