تفجير «بئر العبد» في ميزان الأمن القومي .. قراءة في الأبعاد والمخاطر

شهدت سيناء أسبوعا داميا جديدا، فقبل مدفع إفطار الخميس 30 إبريل 2020م تمكن مسلحون من تفجير مدرعة تابعة للجيش ما أسفر عن مقتل ضابط وصف ضابط وثمانية جنود، وتكرر المشهد يوم الأحد 3 مايو بتفجير مدرعة أخرى ما أسفر عن مقتل 5 عناصر من الجيش، ورد النظام على هذه الهجمات المسلحة بإعلان وزارة الداخلية في 3 مايو تصفية 18 سيناويا وصفتهم بالإرهابيين وهو البيان الذي قوبل بتشكيك واسع لاعتبارات كثيرة، بينما أعلن الجيش عن مقتل 126 شخصا  وتدمير عدد من العربات ومصادرة عدد من الأسلحة، مقرا بمقتل وإصابة 15 من عناصره.

تبنى تنظيم ولاية سيناء الهجومين، بينما أصدرت جماعة الإخوان المسلمين بيانا تدين فيه الهجوم وتصف ضحاياه بالشهداء وتحمل الطاغية عبدالفتاح السيسي المسئولية كاملة عن استمرار نزيف الدماء من الجيش والشرطة والمدنيين ليس في سيناء وحدها بل في كل ربوع البلاد. وحتى اليوم، لا يزال نظام انقلاب 3 يوليو، يفرض سياجا من السرية والتعتيم على كل ما يجري في سيناء، ولا يسمح لوسائل الإعلام أيا كانت التعاطي مع أي أخبار تتعلق بالعمليات العسكرية الخاصة بالجيش إلا من خلال بيانات المتحدث العسكري، وفق قانون “مكافحة الإرهاب” الذي صدر في أغسطس/آب 2015، ووصفته آنذاك منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية الدولية بأنه يقضي على الحقوق الأساسية.

وفي هذه الورقة البحثية نرصد أبرز الملاحظات والأبعاد لهجوم بئر العبد وعلاقته بالمخاطر التي تهدد الأمن القومي للبلاد في ظل نزيف الدماء الذي يصر عليه السيسي من جهة وتنظيم “ولاية سيناء” من جهة أخرى دون مراعاة لحرمة الدماء أو حتى أخلاقيات الحروب.

الملاحظة الأهم والأكثرة خطورة، هي أن الشهيد في عرف السلطة هو من كان ولاؤه للنظام وليس للوطن؛ هو من مات في سبيل السيسي وعصابته ونظامه السلطوي الشمولي وليس من مات في سبيل الوطن والدفاع عن ترابه وناسه؛ والبرهان على ذلك ما أقدمت عليه صحيفة “اليوم السابع” التابعة لجهاز المخابرات والتي نشرت تصميما للضحايا العشرة في تفجير بئر العبد تحت عنوان “لوحة شرف أبطال بئر العبد”؛ لكنها حذفت صورة الشهيد الجندي أحمد الكاملي بعدما اكتشفت أنه معارض لنظام السيسي، ونشرت الصحيفة على موقعها الإلكتروني وصفحتها على “فيسبوك” صورا لـ9 جنود فقط قضوا في التفجير دون صورة الكاملي!  وتداول ناشطون منشورات سابقة لـ”الكاملي” على فيسبوك تضمنت نقدا لاذعا لنظام “السيسي” وترحما على الرئيس الشهيد محمد مرسي تحت عنوان “وداعا سيدي”؛ وهو ما وضع الآلة الإعلامية للعسكر في حرج بلغ؛ ذلك أنها دأبت على وصف أنصار الرئيس مرسي والإسلاميين دوما على أنهم إرهابيون.([1]) ثم اكتشفوا أن شهيدا آخر من الضحايا العشر من أنصار الرئيس الشهيد وهو الجندي “محمد عوض” الذي رثى على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك الشباب التسعة الذين أعدمهم نظام السيسي في يناير 2019م ووصفهم بالشهداء منتقدا تنفيذ حكم الإعدام بحقهم؛ لكن فضيحة حذف صورة الكاملي والانتقادات التي تعرض لها النظام وضعتهم في حرج بالغ فلم يحذفوا صورة الشهيد محمد عوض.

الملاحظة الأخرى، هي التباين الكبير بين المبالغة الإعلامية في تناول ضحايا تفجير بئر العبد والتعتيم القسري على مقتل 4 طيارين في حادث غامض قبلها بأيام (26 إبريل 2020)، زعم المتحدث العسكري مقتلهم في سقوط طائرة هليوكوبتر فوق واحة سيوة، ذلك أن للطيار أهمية كبيرة داخل الجيش ؛ إنه مقاتل يحتاج إلى تجهيز خاص وتدريب متواصل ويصرف على تدريباته وتجهيزاته الكثير من الأموال، ورغم ذلك فإن زعيم الانقلاب نعى الأولين ضحايا تفجير بئر العبد كما نعتهم القوات المسلحة والحكومة، بينما تم تجاهل  الطيارين الأربعة،  وبينما بالغ الإعلام في تناول الأولين مر حادث مقتل الطيارين الأربعة مرورا عابرا دون اهتمام يذكر، وأقام النظام جنازة عسكرية لضحايا بئر العبد، لكن الطيارين الأربعة لم يخظوا بمثل هذا التكريم؛ وهو ما يثير كثيرا من علامات الاستفهام؛ إذا كيف يقتل أربعة طيارين دفعة واحدة في طائرة واحدة؟ ومن الذي أمر بجمع الطيارين الأربعة في طائرة واحدة؟  هل قتلوا أثناء دعم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا والذي تعرضت مليشياته لهزائم مدوية على يد حكومة الوفاق المعترف بها دوليا والمدعومة من تركيا؟ أم تخلص منهم السيسي لأسباب غامضة؟  فمقتل الطيارين الأربعة يعيد إلى الذاكرة حادث مقتل وزير الدفاع الأسبق المشير أحمد بدوي، برفقة 13 جنرالا من قادة المؤسسة العسكرية في حادث تحطم طائرة فوق واحة سيوة في 2 مارس 1981م، فبدوي الذي خاض حروب 48 و56 والاستنزاف وكان قائدا للفرقة السابعة مشاه ميكانيكا في حرب العاشر من رمضان أكتوبر 73 ثم تولى قيادة الجيش الثالث الميداني ثم وزيرا للدفاع سنة 1981م، أثار مقتله مع 13 جنرالا كثيرا من التساؤلات؛ حيث اتهم السادات ومبارك بالتخلص منه لأسباب تتعلق برفضه السمسرة من صفقات السلاح وقيل بل لرفضه توجيه ضربة عسكرية لليبيا إبان خلاف السادات والقذافي.

الملاحظة السادسة، أن السيسي ــ على وجه اليقين ــ هو المجرم والمتهم الأول في نزيف الدم المصري؛ وتصريحات ومواقف السيسي تدينه. فقبل سبع سنوات سربت فضائيات معارضة للانقلاب مقطع فيديو للسيسي عندما كان وزيرا للدفاع وقبل انقلابه المشئوم في 30 يونيو 2013م، يحذر فيه من انفصال سيناء إذا تم استخدام العنف وسيلة لمواجهة الأزمة بها قائلا: «ممكن نحاصر رفح وبئر العبد والشيخ زويد ونخرج أهلها منها، ثم ننسف المنازل، وإذا خرجت نار نواجهها بمائة نار؛ لكن إذا قتل 3 أبرياء؛ فأنت بذلك تشكل عدوا لك ولبلدك، وهذا ممكن يؤدي إلى انفصال سيناء كما انفصل جنوب السودان». هذا الكلام الموزون الذي يتمتع بحس وطني وأمني وسياسي على قدر كبير من الصحة والتوازن، بات من الماضي عندما  كان السيسي وزيرا للدفاع في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي. فالسيسي بعد الانقلاب ليس هو السيسي قبله؛ فقد قاد انقلابا دمويا سفك فيه دماء الآلاف وزج بالرئيس المنتخب وأركان حكومته في السجون، وهو ما ترك كلابه تنهش ليس في سيناء وحدها بل في كل مصر وزج بعشرات الآلاف في السجون والمعتقلات بتهم ملفقة، وأعدم المئات بمحاكمات سياسية تفتقد إلى أدنى معايير العدالة، وترك الإهمال الطبي ينهش في مئات آخرين بالسجون حتى فارقوا الحياة. وفي سيناء تأسس في عهده تنظيم “ولاية سيناء”، ردا على جرائم مليشياته. واتسعت رقعة المواجهة المسلحة حتى تحولت إلى حرب مفتوحة، تستنزف الآلاف من الضباط والمسلحين والمدنيين الأبرياء؛ فمن المسئول؟ من أباد “رفح” وهجر أهلها قسرا؟ ومن دمر المساجد والمدارس والمزارع ؟ أليس هو السيسي؟! ألا يعلم السيسي أن العنف المفرط يولد الثأر الأعمى؟ ألم تحول سياساته الدموية قطاعا عريضا من أهالي سيناء إلى مشروعات انتحار ثأرا لذويهم الذين مزقتهم قواته أو ثأرا لمنازلهم ومزارعهم التي دمرها السيسي؟ أم أنه يريد فعلا انفصال سيناء وفق مخططات صفقة القرن؟! الأرقام تؤكد أن السيسي هو المجرم الأول؛ فقد وثقت المنظمة العربية لحقوق الإنسان خلال الفترة بين يوليو/تموز 2013 ويوليو/تموز 2018، مقتل (4010) مدنين بسيناء منهم 3709 قال عنهم الجيش إنهم قُتلوا نتيجة مواجهات أمنية، والبقية قتلوا بصورة عشوائية، ودون فتح تحقيق في أي واقعة، وفي أبريل/نيسان 2019، أظهر تحليل أجرته وكالة رويترز لبيانات الداخلية المصرية على مواقع التواصل أو التي نشرتها وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية في الفترة من أول يوليو/تموز 2015 حتى نهاية 2018، أنه لم يبق على قيد الحياة سوى ستة فقط من المشتبه بهم من بين 471 رجلا في 108 وقائع، أي أن نسبة القتلى بلغت 98.7%،  بخلاف اعتقال أكثر من 7 آلاف آخرين؛ فكيف يستمر الصراع المسلح حتى اليوم؟ وكيف يفشل الجيش والشرطة رغم هذه الأرقام؟ أم أن سياسات السيسي وإجرام مليشياته حول قطاعا عريضا من أهالي سيناء إلى عدو للنظام؟!([2])

الملاحظة الرابعة، تتعلق ببيان وزارة الداخلية بحكومة الانقلاب، التي ادعت فيه قتل 18 وصفتهم بالإرهابيين المتورطين في تفجير بئر العبد الأخير، في تبادل لإطلاق النار،  وهو ما قوبل بتشكيك واسع  وأدلة وبراهين تعصف بمصداقية البيان منها:

  • منصة “نحن نسجل” الحقوقية أثبتت أن صورا نشرتها الداخلية تعود لأفراد تم قتلهم في سنوات سابقة وخصوصا في اشتباكات الواحات في 16 أكتوبر 2017م لكل من عماد الدين عبدالحميد وعبدالرحمن أسامة وادعت الداخلية أن صور الجثمانين تعود لأشخاص تورطوا في حادث بئر العبد الأخيرة في 30 إبريل الماضي!  ووضعت المنصة صورة بيان الداخلية القديم ما اضطرها إلى تعديل بيانها على صفحتها على فيس بوك. وطالبت المنصة وزارة الداخلية بتحري الدقة وضرورة نشر الأسماء والصور الحقيقية للعناصر التي لاقت حتفها بالفعل في الاشتباكات المزعومة التي تحدث عنها بيان الداخلية.([3])
  • ثانيا، بحسب بيان الداخلية فإن “معلومات توافرت لقطاع الأمن الوطني في الوزارة، حول اتخاذ مجموعة من العناصر الإرهابية أحد المنازل بمحيط مدينة بئر العبد في شمال سيناء، وكراً، ومرتكزاً، للانطلاق لتنفيذ عملياتهم العدائية”، مشيراً إلى “استهداف منطقة اختبائهم، وقتل 18 عنصراً منهم، والعثور بحوزتهم على 13 سلاحاً آلياً، و3 عبوات معدة للتفجير، وحزامين ناسفين”!، فإذا كانت الداخلية تعرفهم وتعرف مكان اختبائهم؛ فلماذا تركتهم حتى يرتكبوا هذه الجريمة المروعة؟! ولماذا لم تمنع وقوعها من الأساس؟ ولماذا لم تنشر أسماء وصور القتلى كنوع من الشفافية والمصداقية؟ وإذا كان تم قتلهم في تبادل لإطلاق النار فهل قتل أو أصيب أحد من عناصر الشرطة؟ ولماذا لم يتم اعتقالهم والتحقيق معهم بدلا من تصفيتهم دفعة واحدة؟  فكل هذه الشكوك التي يصل بعضها إلى مكانة الدليل المنطقي تعصف برواية الداخلية وتحيلها إلى هشيم تذروه الرياح.
  • قدمت تقارير صحافية نقلا عن مصادر من أهالي سيناء رواية أخرى تخالف تماما رواية الداخلية، وتؤكد أن ما جرى مجرد اغتيال وقتل خارج إطار القانون لمجموعة من المعتقلين والمخطوفين قسرا، جيء بهم إلى منزل مهجور بمنطقة الرواق في بئر العبد وجرى إغلاق المنطقة مع انتشار الشرطة في كل مكان، ولاحقا سمع دوي إطلاق نار لمدة 10 دقائق قبل أن تهرع سيارات الإسعاف لنقل القتلى إلى جهة غير معلومة، وهو ما يتسق تماما مع ما جرت عليه عادة الداخلية في بياناتها. وهو ما يترامن مع حملات اعتقال واختطاف قسري لعدد من أبناء بئر العبد خلال الأيام الماضية بدعوى التحرير رغم أنهم لا علاقة لهم بالتنظيمات المسلحة أو تلك العمليات بحسب مصادر سيناوية.([4])
  • عدم كشف اسماء ووجوه القتلى التي يتحدث عنها الجيش أو الداخلية يثير كثيرا من الشكوك؛ فإذا كانوا إرهابيين فلماذا لا يتم الكشف عن أسمائهم ووجوههم؟ أم أن الجيش والداخلية يتعمدان طمس الوجود وعدم نشر الأسماء الصحيحة لعدم فضح بهتان وكذب هذه البيانات؟  تفسير ذلك يعود إلى سنة 2017م، حيث  دأب الجيش والشرطة من يومها على طمس الوجوه ومنع نشر الأسماء وذلك في أعقاب “كمين المطافي” الذي استهدفه تنظيم “ولاية سيناء” وأسفر عن مقتل وإصابة العشرات من عناصر الشرطة وتدمير الكمين بشكل كامل. وعلى الفور اغتالت الداخلية 10 من شبان سيناء في شاليه بالعريش بدعوى أنهم المتورطون في الحادث؛ ونشرت صورهم وهو ما مكن الأهالي من معرفتهم وإثبات أنهم كانوا مخطوفين قسريا ومعتقلين قبل الحادث بأسابيع ؛ مدللين على ذلك بأوراق وتقارير رسمية؛ وهو ما فضح كذب رواية الداخلية وأثبت بشاعة الجريمة التي ارتكبتها بحق أهالي سيناء.([5])

الملاحظة الخامسة، تتعلق بالتوقيت فإنّ هجوم بئر العبد تزامن مع شهر رمضان وعرض مسلسل “الاختيار”  الذي أنتجته إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، ويتحدث عن حياة الضابط أحمد منسي، الذي قتل في هجوم دموي للتنظيم على ارتكاز أمني جنوب رفح عام 2017″. ويمكن تفسير توقيت هجوم تنظيم “ولاية سيناء” بأنه يستهدف ضرب الصورة التي يحاول الجيش رسمها لمقاتليه في أذهان الشعب،  بإعتبارهم أبطال خارقون، يمثلون جانب الخير في الصراع؛ لكن الحقيقة عكس ذلك تماما؛ فإنهم يتساقطون أمام حفنة مسلحين لا يتمتعون بأي إمكانات مقارنة بإمكانات الجيش والشرطة والمخابرات لا في العدد ولا في العتاد؛ كما أن الحادث سلط الضوء مجددا على الجرائم البشعة التي يرتكبها الجيش والشرطة بحق الأهالي وعمليات الحرق والقتل والتهجيرالقسري والاغتيالات الجماعية وآخرها مقتل الــ18 خارج إطار القانون بلا تحقيقات أو محاكمات. كما يستهدف التنظيم التأكيد على أنه رغم قلة الإمكانات إلا أنه قادر على إيذاء الجيش والشرطة بشكل مؤلم ومباشر ودائم.

الملاحظة السادسة، ترتبط بتعليق رئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي على الحادث؛ إذا كتب على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”: «إن يد الغدر نالت اليوم من أبنائنا الأبطال بجنوب مدينة بئر العبد، فقوى الشر لا تزال تحاول خطف هذا الوطن، لكننا بفضل الله ثم بفضل أبناء مصر وجيشه القوي، صامدون بقوة وإيمان»؛ فاستخدام عبارة “صامدون” تدل على موقف الدفاع، وهو ما يثير كثيرا من الألغاز والتساؤلات حول عدم قدرة الجيش المصنف التاسع عالميا وفق تصنيف موقع “جلوبال فاير باور” منذ سنوات على حسم صراع مسلح مع حفنة مقاتلين لا يتمعتون بما يتمع به الجيش من خبرات وتسليح وتدريب وإمكانات هائلة؛ إذا كيف يقف الجيش والشرطة موقف الدفاع أمام حفنة مسلحين؟! وكيف يفشل الجيش رغم دعمه بصفقات سلاح مليارية في تحقيق الأمن والاستقرار في سيناء؟ فملعوم أن مصر تحتل الترتيب الثالث عالميا في شراء السلاح بعد كل من السعودية والهند وفق آخر تقرير لمعهد استوكهولم الدولي. ولعل هذه الانتقادات هي التي أجبرت السيسي على إضافة عبارة «وقادرون على أن نحطم آمال تلك النفوس الخبيثة الغادرة» على التعليق الذي نشره، لكن ذلك لا يخفي الحقيقة، فقد مضى على تعهد السيسي  في نوفمبر 2017م بالقضاء على «الإرهاب» في سيناء في غضون ثلاثة اشهر فقط،  أكثر من سنتين  فلم تفلح إستراتيجية “القوة الغاشمة” في تحقييق شيء؛ وبعد انتهاء المدة  المحددة؛ لم يعلن السيسي القضاء على الإرهاب كما تعهد بل أطلق في 9 فبراير2018م «العملية الشاملة» التي توصف بكبرى العمليات المسلحة ضد المسلحين في سيناء كلها؛ والتي امتدت حتى اليوم دون أن تحرز أي تقدم ملموس فضلا عن النصر الحاسم الذي وعد به السيسي، وكما روجت وسائل إعلام النظام مرارا وتكرارا منذ انطلاقها. لكن الفشل المستمر في سيناء يعصف بكل هذه التصنيفات ويطرح الكثير من الأسئلة والألغاز حول عدم قدرة الجيش المصنف التاسع عالميا في القضاء على عدة مئات من المسلحين وفق تقديرات الأجهزة الأمنية التابعة للنظام  وخبراء عسكريين؛ فلماذا يستمر الفشل؟ ولماذا لم تحقق الاستراتيجية القائمة على استخدام «القوة الغاشمة» أهدافها؟ وكيف تمكن عدة مئات من المسلحين في إلحاق كل هذه الخسائر بأقوى تاسع جيش عالميا؟ ولماذا فشلت العملية الشاملة وقبلها 6 عمليات عسكرية موسعة في القضاء على التمرد المسلح في سيناء؟

الملاحظة السابعة، أن تنظيم “ولاية سيناء” بالتوازي مع تكثيف هجماته المسلحة ضد الجيش والشرطة، بدأ أيضا في تنفيذ إعدامات ميدانية وخطف للعشرات من المتعاونين مع قوات الأمن في وسط وشمال سيناء بإعتبارهم عيون وجواسيس، وكان التنظيم قد دعا هؤلاء إلى وقف ما وصفه التخابر لحساب الأمن، لكن بعضهم رد بالدعوة إلى الاحتشاد للقضاء على التنظيم بعد رمضان؛ فاستبقهم بتوجيه ضربة قاسية؛ واختطف وأعدم عددا منهم ميدانيا كسليم عطية أبو سحبان وعواد أبو الرقيع الذي قتل حرقا وأضرمت النيران في منزله وسيارته؛ ليكون عبرة لغيره، والعجيب أن الجيش والشرطة لم يكترثا لهذه الأحداث ولم يفرضا سياجا من الحماية للمتعاونين معهم! والأدهى أن النظام لا يعترف بالقتلى المدنيين المتعاونين معه ولا يتم منحهم أي امتيازات مادية أو معنوية كما يحصل مع العسكريين المقتولين في المعارك مع ذات العدو؛ في تأكيد على التمييز الحاصل في التعامل مع المشاركين في الحرب على ما يسمى بالإرهاب، وبالتالي فإن المدني المتعاون مع قوات الأمن لا يحظى بالتكريم لا في حياته ولا بعد مماته،([6]) وتتزامن هذه الأحداث مع انتشار حالة من التذمر بين عائلات المواطنين الذين تضرروا من ممارسات الجيش في سيناء  سواء من قتلوا عن طريق الخطأ أو أصيبوا بشظايا الجيش العشوائية؛ فقد اقتطعت الحكومة (500 جنيه) من رواتبهم الشهرية  التي يحصلون عليها بشكل دوري كتعويض عن استهدافهم بطريق الخطأ في مناطق العمليات برفح والشيخ زويد والعريش وبئر العبد، دون توضيح من الجهات المختصة، خصوصاً أن القرار يأتي في وقت حرج تمر فيه المنطقة بأكملها، في ظل دخول شهر رمضان من جهة، وانتشار فيروس كورونا  من جهة أخرى. ([7])

الملاحظة الثامنة، أن الآلة الإعلامية للنظام توجه السخط الشعبي نحو المسلحين دون الإشارة مطلقا إلى ضرورة محاسبة المسئولين عن الفشل المتكرر والإخفاق المتواصل، ورغم انكشاف المؤسسة العسكرية سواء على مستوى الاستعداد القتالي أو حتى على مستوى السلوك الأخلاقي بخلاف الداخلية التي لا يحتاج الشعب إلى برهان على إجرامها وانحراف قادتها وعناصرها، ورغم سقوط مئات الضحايا من عناصر الجيش والشرطة والمتعاونين معهم إلا أن أحدا لم يقدم للمساءلة ولم يحاسب مسئول واحد على هذا الفشل المتكرر؟! والراصد يمكن أن يكتشف بسهولة أن النظام يقوم بالتغطية على هذا الفشل المتجذر عبر استراتيجية تقوم على ثلاثة أضلاع:

  • الأول هو التمترس خلف صناعة الدراما (مسلسل الاختيار نموذجا) وذلك بهدف تزييف الوعي وصناعة واقع بديل يقوم على الخيال والتوهم للتغطية على الواقع المرير والفشل المتواصل، وتكوي صورة بطولية لعناصر الجيش لرفع الروح المعنوية المتردية لعناصره بسيناء.
  • الثاني، هو التزييف والتخفي خلف البروباجندا والصراخ الإعلامي الذي تمارسه فضائيات السلطة كل يوم في برامج “التوك شو” التي تستهدف تزييف الوعي وتشكيل وعي يقوم على نشر الأكاذيب وطمس الحقائق وتشويه المعارضين وتسويق الخونة والفاسدين باعتبارهم يمثلون منتهى الوطنية والانتماء.
  • الثالث، هو الاغتيالات الجماعية لنشطاء وشبان، وهي عادة ما تحدث لأبرياء معتقلين أو مخطوفين قسريا في محاولة لرفع الروح المعنوية للجنود في سيناء أو لأنصار النظام ويبقى الفاعلون الحقيقيون على الأرض يواصلون دق كمائن الجيش واصطياد عناصره.

خلاصة الأمر، أن السيسي  هو المجرم الأول والمتهم الأول في كل ما يجري بمصر، فانقلابه مزق النسيج المجتمعي، ومذابحه كرست هذا التمزق، وانتهاكات أجهزته ومليشياته حولت البلاد إلى ساحة حرب تفشت فيها الكراهية والعنصرية. أما بشأن سيناء، فإن عمليات القتل والتهجير القسري والاعتقالات العشوائية والتعذيب الوحشي حولت أهلها إلى عدو وهو ما يتسق تماما مع خلاصة ورقة بحثية لمركز “ستراتفور” الأمريكي للدراسات، في أبريل 2018م، في أعقاب إطلاق العملية الشاملة، حيث وصف موقف أهالي سيناء من النظام بعبارة واحدة  فهم “عدو صنعته مصر”، وبناء على التسريب الذي حذر فيه السيسي من استخدام العنف في سيناء حتى لا يؤدي إلى انفصالها كما جرى مع جنوب السودان؛ فإن السيسي يدين نفسه ويدين سياساته الحالية التي تستهدف تقسيم مصر بانفصال سيناء عبر تحويلها إلى عدو وهو ما يخدم على صفقة القرن الأمريكية وخدمة المشروع الصهيوني.

تم الانتهاء منه فجر الخميس 7 مايو2020م

 

[1] اليوم السابع يحذف صورة أحد ضحايا بئر العبد لانتقاده السيسي/ الخليج الجديد  السبت 2 مايو 2020

 

[2] الداخلية المصرية تنفي صحة بيان نشرته على صفحتها الرسمية.. ما القصة؟/ الجزيرة مباشر  الأربعاء 6 مايو 2020

[3] نحن نسجل: صور الداخلية المصرية عن حادث سيناء مفبركة/ الخليج الجديد الاثنين 4 مايو 2020// الداخلية المصرية تنفي صحة بيان نشرته على صفحتها الرسمية.. ما القصة؟/ الجزيرة مباشر  الأربعاء 6 مايو 2020

[4] محمود خليل/ تصفية 18 “إرهابياً” في بئر العبد: تشكيك بالرواية الأمنية/ العربي الجديد 4 مايو 2020

[5] محمود خليل/ تصفية 18 “إرهابياً” في بئر العبد: تشكيك بالرواية الأمنية/ العربي الجديد 4 مايو 2020

 

[6] محمود خليل/ المتعاونون مع الأمن المصري هدف لـ”ولاية سيناء”/ العربي الجديد 29 أبريل 2020

[7] محمود خليل/ عائلات ضحايا سيناء يشكون اقتطاع الرواتب/ العربي الجديد 16 أبريل 2020

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022