جاءت تصريحات وزير الري بحكومة عبد الفتاح السيسي مؤخرا، خلال حواره مع الإعلامي رامي رضوان، بإخدى الفضائيات المصرية ، عن سد النهضة، لتكشف الكارثة والخيانة الكبرى التي يتعرض لها المصريون، جراء المقامرة التي أقدم عليها السيسي في مارس 2015، حينما قرر التوقيع على اتفاق المبادئ لبناء سد النهضة.
حيث قال محمد عبد العاطي، وزير الري أن مصر تفاوضت مع إثيوبيا عن سد آخر غير سد النهضة، وأنها فوجئت بسد آخر، غير الذي جرى التفاوض عليه، مضيفا، أن مصر لم تطلع إلا على رسومات وتصميمات المرحلة الأولى فقط، وأن تصميمات ورسومات المرحلتين الثانية والثالثة، لم تتمكن مصر عبر سنوات التفاوض من الاطلاع عليها، محذرا من أن السد في حال انهياره، سيسبب موجة مائية بارتفاع 26 متر بعرض 150 كلم، تجتاح السودان، وأن تلك الموجة تصل إلى 15 متر عند وصولها مصر، مع زيادة الارتفاع في مناطق الدلتا المنخفضة، تلك التصريحات الخطيرة، التي تعبر عن فشل النظام في الحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياة النيل، لم تختلف عن بعض الكلمات التي جاءت على لسان وزير الخارجية سامح شكري، خلال جلسة مجلس الأمن، ليل الإثنين الماضي.
ولتخطي هذه العقبات وإعطاء دفعة لمحادثاتنا، فقد أبرمت الدول الثلاث في 23 مارس 2015، اتفاق إعلان المبادئ حول سد النهضة الإثيوبي، وهو اتفاق دولي وضع التزامات واضحة لا غموض أو لبس في مضمونها، أهمها إعادة تأكيده على التزام إثيوبيا القانوني بإجراء دراسات فنية تفصيلية حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العابرة للحدود للسد، وعلى التزام إثيوبيا السياسي والقانوني بالتوصل إلى اتفاق على القواعد الحاكمة لعمليتي ملء وتشغيل سد النهضة بين الدول الثلاث، والالتزام بعدم المضي في ملء وتشغيل هذا السد إلا بعد التوصل لهذا الاتفاق، والذي سيضمن لإثيوبيا الاستفادة من الطاقة الكهرومائية لهذا المشروع مع الحد في الوقت نفسه من آثاره السلبية على دولتي المصب.
وللأسف، ورغم أن الدول الثلاث تعاقدت مع استشاري دولي للقيام بهذه الدراسات حول آثار السد، إلا أن عملية إجراء هذه الدراسات قد عُرقِلت، فلم يتم الانتهاء منها، كما أنه لا توجد لدينا ضمانات حقيقية حول أمان هذا السد وسلامته الإنشائية، ما يعني أنه، وعلى ضوء غياب البيانات العلمية والفنية الكافية عن هذا السد، فإن مجتمعات دولتي المصب مهددة بأن تعيش تحت وطأة تهديد لا يُعرف مداه ولا أبعاده، فإذا وقع مكروه – لا قدر الله- لهذا السد الضخم، فإن ذلك سوف يعرض الشعب السوداني الشقيق لمخاطر وجودية في غضون أيام قليلة، كما سيُعرض مصر أيضاً لمخاطر جمة، وهي المخاوف التي لها ما يبررها، ولعلنا نستذكر ما حدث عام 2010 في سد جيبي 2 على نهر “أومو” الذي انهار جزء منه بعد بضعة أيام من افتتاحه، والآثار التي ترتبت على ذلك“، وهي نفس الطروحات التي كان يطرحها الوطنيون والمعارضون للسيسي، وكانت سببا للزج بهم في أتون السجون والاعتقالات والقمع.
وعبر سنوات التفاوض، تعامل السيسي –كما يقول سامح شكري- بحسن نية مع إثيوبيا في ملف سد النهضة، وهو أمر غير مقبول به في دنيا السياسة والعلاقات الدولية، التي ليس من مفرداتها “حسن النوايا”، وإنما حقوق وواحبات وقواعد حاسمة.
تدويل تأخر كثيرا
وسبق أن طالب خبراء مصريون ودوليون ، القاهرة، بالتقدم بشكوى دولية، لوقف الاستفراد الإثيوبي بالقرار بشأن سد النهضة، إلا أن السيسي كان يراهن على استغلال مكانته الأفريقية لإلزام إثيوبيا بالتفاوض المثمر، و هو ما ثبت أنه مجرد هراء، ويستند خطاب مصر إلى مجلس الأمن إلى المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة التى تجيز للدول الأعضاء أن تنبه المجلس إلى أى أزمة من شأنها أن تهدد الأمن والسلم الدوليين، وتنص الفقرة الثانية من المادة على أن “لكل عضو في الأمم المتحدة أن ينبه مجلس الأمن أو الجمعية العامة إلى أى نزاع يكون طرفا فيه، إذا كان يقبل مقدما التزامات الحل السلمى المنصوص عليها في الميثاق الأممي بخصوص هذا النزاع“.
وخلال الفترة التي ينظر فيها المجلس القضية، فإنه يملك من الناحية القانونية أن يصدر توصيات عديدة؛ من بينها وقف إثيوبيا لملء “سد النهضة” مؤقتا، وهو ما تستهدف مصر الوصول إليه، قبل أن تبدأ إثيوبيا ملء خزانات السد بشكل أحادي.
لماذا لجأت مصر لمجلس الأمن؟
تطمح مصر باعتبارها دولة المصب لنهر النيل، إلى إثارة حالة اهتمام وقلق على المستوى الدولي، بعدما تمكنت من كسب تأييد الولايات المتحدة لموقفها في المفاوضات التي جرت في واشنطن في فبراير الماضي، وأسفرت عن اتفاق وقعت عليه مصر بالأحرف الأولى، فيما تراجعت إثيوبيا عن التوقيع عليه في النهاية.
وبالنظر إلى أن إثيوبيا راهنت منذ البداية على كسب الوقت والاستمرار في بناء السد من أجل فرض الأمر الواقع، فمن الواضح أن مصر لا تملك في جعبتها أي حلول مباشرة، ولذا لجأت إلى مجلس الأمن الدولي، وأكدت أديس أبابا أنها ستبدأ المرحلة الأولى من بناء السد في يوليو المقبل، سواء جرى ذلك باتفاق مع مصر أو بدون اتفاق، بما يعني أن مفاوضات مصر وإثيوبيا وصلت لـ”مرحلة اللاعودة” ولم يكن أمام مصر إلا رفع الملف لمجلس الأمن باعتباره صاحب الاختصاص الرئيسى للتعامل مع كل حالات التهديد للسلم والأمن الدوليين.
وتسعى مصر فيما يبدو من خلال إحالة قضية “سد النهضة” إلى مجلس الأمن إلى انتزاع إلزام دولي لإثيوبيا بالتفاوض حول ملف السد “حتى الوصول إلى اتفاق عادل” تحت مظلة مراقبة دولية.
توجهات مجلس الأمن
وعلى الرغم من عدم حسم مجلس الأمن لقرار معين، باتجاه أزمة سد النهضة، إلا أن الاستقراء السياسي لما جرى ، يشيء أن القرار قد لا يكون لصالح مصر، ولن يقيد إثيوبيا في مساعيها، ويحيل الأمر للطرف الأكثر قربا جغرافيا ومناطقيا من الأزمة، الاتحاد الأفريقي، وهو بالأساس غير متحمس للموقف المصري.
وأعلنت إثيوبيا السبت، أنها تنوي بدء ملء سدها العملاق على نهر النيل في “الأسبوعين المقبلين”، متعهدة في الوقت نفسه بمحاولة التوصل إلى اتفاق نهائي مع مصر والسودان خلال هذه الفترة، برعاية الاتحاد الأفريقي، وكانت القاهرة والخرطوم قد أعلنتا في بيانين رسميين، الجمعة قبل الماضية عن اتفاق خلال قمة أفريقية مصغرة عقدت عبر الفيديو برئاسة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، على تأجيل البدء بملء خزّان سدّ النهضة الكهرمائي لحين إبرام اتّفاق بين الدول الثلاث.
لكن أديس أبابا لم تأت على ذكر الإرجاء في بيانها السبت، بل بدت متمسكة بالجدول الزمني الذي أعلنته من قبل، وينص على بدء تعبئة خزان السد في يوليو الجاري، وكانت مفاوضات ثلاثية حول تشغيل السد وإدارته استؤنفت في وقت سابق في يونيو، وتعثرت حول عمل السد خلال فترة الجفاف، وآليات حل الخلافات المحتملة.
وتقول إثيوبيا إن الكهرباء المتوقع توليدها من سد النهضة لها أهمية حيوية من أجل الدفع بمشاريع تنموية في البلد الفقير، البالغ عدد سكانه أكثر من 100 مليون نسمة، وتقول مصر إنّ السد يهدّد تدفّق مياه النيل التي ينبع معظمها من النيل الأزرق، حيث بني السد، وقد تكون تداعياته مدمّرة على اقتصادها ومواردها المائية والغذائية. وتستقي مصر 97% من حاجتها من المياه من النيل، ويمدّ النيل، الذي يمتد على حوالي 6 آلاف كيلومتر، حوالي عشر دول أفريقية بالمياه.
تعقد الموقف المصري
وعبّرت خطابات مندوبي الدول الأعضاء بمجلس الأمن الدولي، عن حساسية الموقف المصري وتعقّده، وصعوبة تحقيق اختراق داخل المجلس إذا أصرت القاهرة على المضي قدماً في الجمع بين التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، بما فيها من خطورة على المصالح الاستراتيجية المصرية المباشرة بسبب عدم وضوح معايير التفاوض، وإجراءاته التي تمّ الاتفاق عليها في قمة أفريقية مصغرة، بالتوازي مع اللجوء لمجلس الأمن.
تذبذب مواقف الفاعلين الدوليين
وقد كشفت مواقف أعضاء الأخير عن تذبذب واضح واتجاه للنأي بأنفسهم عن الصراع، مكتفين بالدعوة لاستمرار التفاوض الودي والالتزام بأن يكون النيل مصدر تعاون لا مصدر خلاف، وغيرها من العبارات الدبلوماسية التي كانت مصر تأمل بأكثر منها.
وجاء موقف الصين، العضو الدائم بمجلس الأمن، على رأس مجابهي الموقف المصري من دون أن تعلن ذلك صراحة، ولكن خطابها كان يهدف أكثر من غيره إلى إجهاض مشروع القرار الذي ترغب مصر في استصداره بدعم أميركي، حيث طالبت بعدم اعتبار جلسة مجلس الأمن لمناقشة أزمة دولية على المياه العابرة “سابقة يمكن تطبيقها مستقبلاً”، وذلك انطلاقا من أنّ الصين لديها بالفعل العديد من المشاكل الحدودية والسيادية المتعلقة بمناطق تشقها الأنهار، مما يجعلها تتخوف من أن تساهم اليوم في إرساء قواعد للتدخل الأممي لحل مثل هذه المشكلات، ولذلك فهي تفضل دائماً الترويج لفكرة حرصها على إجراء حوار خاص بين أطراف النزاع للتوصل إلى قواعد إطارية خاصة، بعيداً عن مجلس الأمن، كما تسعى هي حالياً لفرض الأمر الواقع في نزاعها الحدودي مع الهند.
وكشفت مصادر دبلوماسية مصرية أنّ وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” أبلغ نظيره المصري سامح شكري بموقف بلاده صراحة قبل ساعات من عقد الجلسة، ودعاه لأن تسحب مصر شكواها من مجلس الأمن لما تمثله من خطورة على مستقبل العديد من النزاعات التي قد تنشأ لدى الصين وروسيا وغيرهما من الدول، ملوحاً بإمكانية لعب الصين دوراً وسيطاً لحل الأزمة ودياً، وهو ما رد عليه شكري بأن مصر متمسكة بالسير في طريقي مجلس الأمن والمفاوضات معاً، حتى تضمن جدية الإثيوبيين الذين سبق لهم التلاعب وإهدار فرص الوساطات والمفاوضات أكثر من مرة طوال عقد كامل.
وذكرت المصادر أنّ الصين تواصلت أيضاً مع رئاسة مجموعة الـ77 النامية (والتي تضم بين أعضائها الصين ومصر وإثيوبيا والأعضاء الحاليين بمجلس الأمن وجنوب أفريقيا وتونس والنيجر والدومينيكان وإندونيسيا وساو تومي وفيتنام)، إذ استقر رأي معظم دول تلك المجموعة على دعم الموقف الإثيوبي، لكن الاتصالات المصرية المباشرة بجميع الدول الأعضاء بمجلس الأمن نجحت في استقاء مواقف جيدة لصالح مصر من كل من الدومينيكان وإندونيسيا وفيتنام، فضلاً عن بريطانيا والولايات المتحدة، وهي الدول التي تحدثت صراحة عن ضرورة وقف أي أعمال أحادية من شأنها تعقيد الأوضاع، والمقصود بذلك ضرورة امتناع إثيوبيا عن الملء الأول للسد لحين التوصل إلى اتفاق شامل.
ضعف الموقف الأوروبي
بيد أنّ الموقف الأوروبي الذي اكتفى بدعم ممثلي القارة الأفريقية بالمجلس، لناحية استمرار المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، ظهر أضعف بكثير مما كانت مصر تطمح إليه وتبدو قياداتها الدبلوماسية واثقة من تحقيقه، إذ لم تصدر أي عبارات حاسمة من ممثلي فرنسا وألمانيا وإستونيا وبلجيكا على الرغم من الاتصالات المستمرة بين القاهرة وعواصم تلك الدول وإبداء تفهمها أكثر من مرة للمطالبات المصرية، وعزت المصادر الدبلوماسية ذلك الأمر إلى عاملين اثنين؛ أولهما ما تناولته خطابات السودان والاتحاد الأفريقي وجنوب أفريقيا من التوصل بالفعل إلى حلول لأكثر من 90 % من المشكلات العالقة، وهي عبارة لم تكن مصر تريد تكرارها في ظلّ استمرار الخلاف على مسائل رئيسية سواء فنية أو قانونية.
لجوء مصر للمخاوف الفنية بعد انهيار رهاناتها السياسية
ولعل تلك المواقف غير المؤيدة لمصر، هو ما دفعها للتطرق إلى مسألة الكفاءة الفنية لسدّ النهضة وسلامته الإنشائية للمرة الأولى، فلم يسبق لمصر أن أشارت إليها باعتبارها نقطة تمّ حسمها أكثر من مرة بتقارير المكاتب الاستشارية، لكنها طرحت أخيراً من قبل السودان في إطار مطالبة الخرطوم لأديس أبابا بالاتفاق أولاً قبل الملء، باعتبار أن أي عيوب إنشائية في السد سوف تضرّ السودان قبل أي طرف آخر.
الاتفاق الافريقي وتأثيره السلبي على مصر
أمّا العامل الثاني، فهو الخطابات الجديدة التي رفعت للمجلس بشأن الاتفاق على استئناف المفاوضات، وبالتالي ارتأت دول عدة ضرورة إعطاء الفرصة لجهود الاتحاد الأفريقي، انطلاقاً من الموقف الأوروبي المتحرّج دائماً في السنوات الأخيرة من التدخل في نزاعات تحت مظلة منظمات إقليمية كبيرة.
وليس هذا الأثر السلبي الوحيد للقمة الأفريقية المصغرة الجمعة قبل الماضية على الموقف المصري، فعلى الرغم من الخطاب المصري المليء بالاستشهادات القانونية والفنية، إلا أنّ ممثل إثيوبيا طرح على الحضور مسألة سير مصر في المفاوضات الأفريقية وشكوى مجلس الأمن بالتوازي، كصورة للازدواج السياسي وسوء النوايا، وهو أمر يخالف الواقع، لأنّ مصر تمسكت في القمة الأفريقية بضرورة استمرار مجلس الأمن في طريقه لدراسة القضية، وأبلغت جميع الأطراف بذلك في حينه، لكن إثيوبيا استغلّت مظلة الاتحاد الأفريقي كفخ للمزايدة على مصر وإظهار أنها تتعمد التصعيد، وهناك أثر سلبي آخر لقبول مصر التفاوض في إطار الاتحاد الأفريقي، يتمثّل في عدم وضوح خريطة طريق للإجراءات في هذا الشأن حتى الآن.
فبحسب البيان الصادر عن القمة المصغرة، من المفترض أن يتم إعداد تقرير مشترك حول المسائل الفنية والقانونية العالقة وإرساله لرئيس جنوب أفريقيا والاتحاد الأفريقي سيريل رامافوزا نهاية الأسبوع الماضي، ثمّ التفاوض المكثف لأسبوع أو اثنين بعد ذلك، وصولاً إلى حلّ نهائي والتوقيع على صياغة متفق عليها من الجميع، وبحسب مصادر دبلوماسية وفنية مصرية، فلم يتم تحقيق أي تقدم في هذا السياق، بل إنّ اللجان الفنية المصرية انشغلت أخيراً في إعداد تقرير فني كبير لتقديمه قبل نهاية الأسبوع إلى الدول الأعضاء بمجلس الأمن لشرح النقاط التي طلبوا استيضاحها في الوثائق التي قدمتها مصر مرفقة بخطاب الشكوى.
وأوضحت المصادر الفنية أنّ الاتفاق على استئناف المفاوضات بهذه الصورة الهشة وبرقابة الاتحاد الأفريقي غير المتعاطف مع مطالب مصر على الإطلاق “يتسبب في حالة من التشاؤم بين المفاوضين واللجان الفنية بوزارة الري”، وكذلك بين المستشارين والخبراء الذين يعدون تقارير الموقف المصري في الإطار القانوني، والذين باتوا متأكدين من أنّ “إثيوبيا ترغب بشتى السبل في التهرب من أمرين اثنين: أن يكون الاتفاق إلزامياً لها، وأن يتضمن الاتفاق بنداً ينظّم فضّ المنازعات باللجوء للتحكيم الدولي أو الإقليمي“.
وتتمسك إثيوبيا بالاتحاد الأفريقي ليس فقط بسبب التعاطف والعلاقات القوية بين الطرفين، ولكن لأنّ لديها تصوراً بأنه يمكنها الزجّ بمادة في الاتفاق تجعل من الاتحاد الأفريقي مرجعية توفيقية “دبلوماسية” في حالة الخلاف مع مصر والسودان، وهر أمر ترفضه الدولتان اللتان تتمسكان بتنظيم آلية “قانونية” واضحة للتحكيم على ضوء الاتفاق الملزم المزمع الوصول إليه وكذا اتفاق المبادئ.
وأمام تلك المعطيات، فإنّ إصرار كل طرف على موقفه يجعل الوصول إلى اتفاق “حقيقي” و”يعالج كل المشاكل” ضرباً من المستحيل، وفي الوقت نفسه، فإنّ المهلة الضئيلة التي تفصل عن موعد بدء إثيوبيا في ملء السد، وفي ظلّ تعرض أديس أبابا لضغوط دبلوماسية كبيرة انعكست في توتر خطابها أمام مجلس الأمن بجانب انكشاف موقف مصر بمجلس الأمن.
وكلها تبدو مقدمات لحالة يكون فيها الجميع مضطرين لإبرام اتفاق لمجرد إعلان التوصل لاتفاق، بغض النظر عن محتواه، وهو ما يصب بالتأكيد في مصلحة إثيوبيا حال حدوثه، باعتبارها الدولة المالكة والمديرة سيادياً لعملية ملء وتشغيل السدّ.
إثيوبيا تضرب مصر بسلاح القاهرة!
وكان لافتاً أنّ إثيوبيا حاولت في خطابها استغلال بعض المواقف والعبارات التي سبق لمصر استخدامها، لمصلحتها، فأشار ممثلها “تايي أثقلاسيلاسي”، والذي كان سفيراً في مصر منذ عامين، إلى أنّ الأخيرة لديها إمكانية تحلية مياه البحر كبديل لتقليل حصتها من النيل، علماً بأنّ من أشار لهذه الإمكانية سلفاً ولكن في إطار الحديث عن شحّ مصادر المياه في مصر، هو عبد الفتاح السيسي، بجانب ما روجته الصحافة الاثيوبية قبل الجلسة من كلمات الخبير والعالم فاروق الباز، حول ملكية مصر لمخزون كبير من المياة الجوفية.
اشكاليات
يذكر أنّ المفاوضات الفنية انتهت حتى الآن إلى الاتفاق فقط على قواعد الملء الأول، وحجم التدفق البيئي، والمبادئ التوجيهية للملء الأول، والقواعد العامة لإدارة فترات الجفاف، وقواعد سلامة السد والمساعدة في استمرار تشغيله، ودراسات التقييم، وموعد تطبيق تلك القواعد، وهي لا تتعارض مع البنود التي ما زالت في إطار التفاوض، والتي هي بطبيعتها أكثر تفصيلية، وأبرزها منسوب المياه المطلوب ضمان استمراره لبحيرة سد النهضة في حالات الشحّ المائي والجفاف الممتد.
وسبق وقدمت مصر مصفوفة توضح أنّ التدابير التي تضمنتها مسودة اتفاق واشنطن التي وقعت عليها مصر منفردة، تبقي منسوب المياه، إذا توافرت كل حالات الاستثناء من جفاف وتمرير لأعلى نسبة مطلوبة من المياه، عند 605 أمتار تقريباً، علماً بأنّ نقطة الجفاف النظرية هي 603 أمتار، وأوضحت المصفوفة أيضاً أنّ تمرير كمية تتراوح بين 37 و38 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف ستبقي السد ممتلئاً بكمية تصل إلى 23 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي تماماً لتوليد الطاقة المطلوبة، الأمر الذي يتعنت فيه الإثيوبيون.
أمّا الإشكاليات القانونية العالقة، فتتمثل في عدم قبول إثيوبيا بإلزامية كل بند في الاتفاق المزمع توقيعه، متذرعة بأنّ مثل هذا الاتفاق سيكون عرضة في أي وقت للتعديل والتغيير بناء على تنسيق الأطراف الثلاثة، وبالتالي فهي تطالب باللجوء فقط لاتفاق المبادئ الموقع في مارس 2015. لكن مصر ترغب في تلافي المشاكل العملية التي أظهرها اتفاق المبادئ، وبما يمنع الركون إلى افتراض “حسن النوايا” الذي كان مسيطراً على العلاقات بين الجانبين وقت توقيع الاتفاق، فهم يريدون أن يتم التوافق على طريقة واضحة للتحكيم بناء على طلب أي طرف، واختيار عناصر محددة لهيئة التحكيم أو جهة دولية موثوقة لجميع الأطراف، وإزالة العوائق التي تجعل اللجوء السريع للتحكيم مستحيلاً مثل اتفاق الدول الثلاث.
سيناريوهات ما بعد مجلس الأمن
وفي حال فشلت جهوض التفاوض الدولي بشكل نهائي، يمتلك مجلس الأمن سلطة إجراء التحقيق في أي نزاع أو موقف، حال التأكد من ما إذا كان النزاع قد تحول فعلا إلى تهديد حقيقى للسلم أو فى طريقه إلى إشعال مواجهة عسكرية، وهو ما يبدو منطبقا على حالة ملف “سد النهضة“.
وحسب المادة 38 من ميثاق مجلس الأمن، فإن المجلس يستطيع أن يؤدي دورا توفيقيا وشبه تحكيمي حال طلب جميع المتنازعين بأن يقدم توصيات بقصد حل النزاع حل سلميا، وهناك سابقة في ذلك خاصة بالنزاع البحري بين إنجلترا وألبانيا، عندما أوصى مجلس الأمن الدولتين بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية بشأن قضية مضيق كورفو، وأصدرت المحكمة حكما شهيرا عام 1949 في هذا الشأن، كما أصدرت المحكمة ذاتها حكمين شهيرين في مجال الأنهار الدولية؛ الأول بين المجر وسلوفاكيا في 1997، والثاني بين أوروغواي والأرجنتين في 2010.
وإذا ما صدر حكم دولي لصالح مصر (وهو ما تتوقعه القاهرة استنادا إلى تحسن موقفها الدولي بعد مفاوضات واشنطن إضافة إلى تقاربها مع السودان مؤخرا)، فمن شأن بقاء ملف “سد النهضة” بحوزة مجلس الأمن تزامنا مع قيام حكومتي مصر والسودان بسحب توقيعهما على إعلان المبادئ الذي تم توقيعه عام 2015 بين الدول الثلاث، والذي يعطي شرعية لبناء السد، أن يمكن الدولتين من مطالبة المجتمع الدولي بإصدار قرار بموجب “الفصل السابع”؛ بوقف ملء السد إلى حين التوصل إلى اتفاق، حسبما يرى الخبير في القانون الدولي، والعضو المستقيل من اللجنة الرسمية السودانية حول سد النهضة “أحمد المفتي“.
وإذا كانت القرارات الصادر عن مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السادس تتمتع بـ”إلزامية أدبية”، فإن تلك التي تصدر عن المجلس بناءً على الفصل السابع ذات طبيعة إلزامية، وتمكن المجلس من اتخاذ “إجراءات رادعة”، بما ذلك استخدام القوة العسكرية، وإذا ما لجأت مصر إلى استخدام القوة العسكرية ضد محاولات إثيوبيا ملء السد منفردة تحت مظلة “الفصل السابع” فإن تدخلها سيحظى بـ”الشرعية الدولية”، وهو آخر سيناريو يمكن للقاهرة اللجوء إليه، ويستبعده وزير الموارد المائية المصري اﻷسبق “محمد نصر الدين علام”؛ “لأنه سيكون مدمرا للجميع”، وأيضا يرفضه اعلام السيسي ويصف من يطالب به بأنه “إخواني يريد توريط السيسي!!”.
وعليه فإن مصر تراهن في نزاعها حول “سد النهضة” على تعزيز موقفها الدولي بالأساس، بينما تراهن إثيوبيا على فرض الأمر الواقع على الأرض، وفيما تأمل مصر أن يغير اللجوء على مجلس الأمن موازين الصراع، فإن عامل الوقت يصب في صالح إثيوبيا، التي تبدو عازمة على بدء ملء السد دون اتفاق بعد أيام قليلة.
خاتمة
في دراسة نشرتها “الجمعية الجيولوجية الأمريكية” في مايو 2017، توقعت أن مصر ستعاني من نقص 25 % من حصة المياه السنوية في حالة الملء في مدى زمني من خمس إلى سبع سنوات؛ وهذا سيمثل خطرا كبيرا على دلتا مصر، كما أشارت العديد من التقارير إلى أن عملية الملء خلال ثلاث سنوات ستدمر نحو 51% من أراضي مصر الزراعية، وتقل هذه النسبة إلى 17 % في حالة الملء خلال ست سنوات، وبعد ست سنوات من اتفاقية مبادئ السد، وماراثون مفاوضات؛ من الواضح أن إثيوبيا ترى أنها غير مجبرة على تقديم تنازلات، لذلك استمرت في بناء السد واستخدمت سياسة تمديد الوقت كما لم تُجد معها الوساطات حتى الآن.
إن أزمة سد النهضة (الذي أصبح واقعا بمرور الوقت)، تبين الآن أن كثيرا من المحطات في قطار الخيارات قد فاتت الدولة المصرية، وإن صانع القرار يتحمل مسؤولية ذلك، فقد باتت يد المفاوض المصري خالية من أوراق الضغط في ظل ظروف محلية وإقليمية بالغة الصعوبة، وفي قضية مصيرية وجودية كانت تتطلب يقظة أكثر من صانع القرار منذ اللحظة الأولى، لقد باتت مصر في أزمة سد النهضة حبيسة سيناريوهين أو خيارين، كلاهما مر؛ الأول هو الاستمرار في التفاوض؛ وهو ورقة إثيوبيا الرابحة التي حولت بها السد إلى أمر واقع دون التفات للعروض المصرية، في ظل خلو يد المفاوض المصري من أوراق ضغط، كما أنه ليس في قدرة الإدارة المصرية الحالية تقديم رؤية استراتيجية سياسية واقتصادية قابلة للتطبيق للربط التنموي بين البلدين، ناهيك عن أنه لن تتجاوب إثيوبيا.
وأما الخيار الثاني؛ فهو خيار صعب لكنه ليس مستحيلا ويحتاج الإرادة الحاسمة، وهذا الخيار هو العمل العسكري الذي يواجه تحديات ترتبط بواقع داخلي وتفاعلات وتحالفات إقليمية ودولية لكل من مصر وإثيوبيا؛ اللتين يجمعهما حلفاء استراتيجيون مشتركون يمكنهم كبح الجماح، وكذلك لن يميلوا لمصلحة مصر على حساب إثيوبيا؛ لأن العلاقات الدولية لا تقوم على العشم، بل تقوم على المصالح الصرفة، وهناك من مصالحه تقتضي أن تعيش مصر تبعات هذه الأزمة، ومنهم من دفع إثيوبيا لبناء السدود لأن ذلك يخدم فكرة تطويق مصر وتطويعها عبر ورقة المياه، والاحتلال الصهيوني ليس من ذلك ببعيد، حيث تؤكد كثير من الدراسات أن فكرة تسليع المياة وبيعها لإسرائيل عبر مصر لحساب اثيوبيا، هو الهدف الأبعد لبناء السد، وتبقى الخطوة المصرية الأخيرة بإحالة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن هي إدراك متأخر في الوقت الضائع أن الأمن المائي المصري مهدد بالسياسات الأحادية لإثيوبيا تجاه نهر النيل، التي شجعتها عليها اتفاقية المبادئ.
وكان موقف الرئيس الشهيد محمد مرسي حين تعامل مع هذه القضية بروح وطنية حقيقية، واعتبرها قضية وطنية لا تنفرد بإدارتها مؤسسة الرئاسة، ولكنه دعا قادة القوى السياسية (مختلف الأطياف) إلى القصر الجمهوري في 3 يونيو 2013 (قبل شهر من الانقلاب) للتشاور في هذا الأمر، والبحث عن أفضل الخيارات للتعامل مع الأزمة، وهو الاجتماع الشهير الذي بثه التلفزيون الرسمي (بطريق الخطأ)، لكنه حمل رسائل قوية عن إصرار المصريين على حقوقهم المائية مهما كلفهم ذلك من أثمان، ولو كانت الحرب التي من أجلها وُجدت الجيوش، وقد سبق للرئيس مرسي أن قال قولته الشهيرة أيضا: “إذا نقصت قطرة من مياه النيل فدماؤنا هي البديل“.