معركة “أيا صوفيا” انتصار سياسي لأردوغان نحو استقلال تركيا عن الهيمنة الأوروبية

جاء قرار المحكمة الإدارية العليا في تركيا، يوم الجمعة 10 يوليو الجاري، بإعادة متحف آيا صوفيا مسجدا، كما كان لخمسة قرون سابقة، لا تحويل آيا صوفيا متحف إلى مسجد، كما يتحدث البعض، ليعيد الأمور إلى نصابها  القانوني.

وقد اختار أردوغان لفتحه ذكرى سياسية وهي 24 يوليو، اليوم الذي أقرّت فيه معاهدة 1923 التي رسمت، بضغط من أوروبا، الحدود الحاليّة لتركيا، وتنازلت فيها عن مطالبها بجزيرة قبرص وجزر دوديكانيسيا، ومصر والسودان، والعراق وسوريا، وعن امتيازاتها في ليبيا، كما رسمت حدودها مع سوريا الحالية.

قرار المحكمة الإدارية العليا قوبل بتأييد واسع من الداخل التركي، سواء المعارضين أو المؤيدين، وبدا لافتاً ترحيب المعارضة بشقيها، أي رفاق أردوغان السابقين وخصومه الحاليين الرئيس عبد الله غل ورئيس الوزراء السابق رئيس حزب المستقبل أحمد داود أوغلو، ونائب رئيس الوزراء وزير الاقتصاد السابق زعيم حزب الديمقراطية والتقدم، علي باباجان، وخصومه الدائمين من اليمين واليسار، زعيمة حزب الجيد القومي (اليميني) ميرال أكشينار، ومرشح حزب الشعب الجمهوري اليسارى للانتخابات الرئاسية الماضية، محرم أنجي.

القرار في أصله قضائي، جاء من أعلى محكمة مختصة في تركيا، وفحصت القضية سنوات، وراجعت آلاف الوثائق، وقد اشتمل قرارها تسجيل مبنى آيا صوفيا في سند الملكية (الطابو) ضمن وقف السلطان محمد الفاتح، ولا يجوز قانوناً تغيير الصفة والمكانة، وبناء عليه نفذ الرئيس، رجب طيب أردوغان، الحكم القضائي، ناقلاً مرجعية المبنى وملكيته إلى مجلس الشؤون الدينية، وبالتالي إعادته إلى مسجد كما كان حاله مئات السنين.

وكتب السلطان محمد الفاتح، في ما يشبه الوصية، ومستشعراً بحسّه، القيادي والتاريخي، ما حدث بالضبط أن المبنى هو مسجد “ضمن الوقف”، ولا يجوز تحويله أو المساعدة في ذلك أو حتى السكوت عنه، حتى أنه لعن من قد يقوم أو حتى يفكر بفعل ذلك، وهو السند نفسه الذي استندت إليه المحكمة في حكمها التاريخي قبل أيام، والذي ألغى قرار مجلس الوزراء التركي، واتخذه في العام 1934 الرئيس السابق مصطفى كمال أتاتورك، وكان قرارا سياسيا اتخذ ضمن توجه عام للدولة، ولم يتعرض للفحص أو المراجعات القانونية، كما لم يمر أصلاً في بيئة ديمقراطية مؤسساتية، مثل قرارات أحادية جبرية وقهرية أخرى فرضها أتاتورك على الدولة والشعب التركيين، مثل إلغاء الخلافة العثمانية ووقف استخدام الحرف العربي في اللغة التركية، والاستعاضة عنه بالحرف اللاتيني، وقطع صلات تركيا الحضارية التاريخية العميقة والممتدة قرونا مع الشرق العربي الإسلامي، لصالح العلاقة مع الفضاء الحضاري الغربي، وقد زعم أتاتورك أنه يريد جعل آيا صوفيا إرثا للإنسانية جمعاء، وهذا لا يقتضي بالضرورة تحويله إلى متحف، لأن عديدا من المباني والمؤسسات ودور العبادة الإسلامية والمسيحية تعتبره إرثاً للإنسانية، وما كان يستلزم الأمر تغيير الصفة بشكل أحادي جبري وغير قانوني، كي تصبح كذلك، ومن هنا، تأتي أهمية الحكم الذي أعاد الاعتبار للقانون والمؤسسات، من جهة أخرى، فكرة أن ما فرضه أتاتورك بشكل أحادي جبري وقهري يتم تصحيحه، ولكن بشكل ديمقراطي قانوني ومؤسساتي.

وكانت إعادة آيا صوفيا مسجدا حلماً ومطلباً شعبياً في تركيا لعقود، وتحدّث الرئيس أردوغان عنه عندما انتخب رئيساً لبلدية إسطنبول قبل نحو ثلاثة عقود، ولكن ما كان بالإمكان تحقيق ذلك بشكل فوري أو جبري وصادم، أو غير قانوني كما فعل أتاتورك نفسه، وإنما بشكل ديمقراطي، وضمن سلّة أولويات، مع الانتباه إلى أن 12 سنة استغرقها أردوغان لإعطاء حرية لبس الحجاب في المدارس الإعدادية والمؤسسات الحكومية، و20 سنة تقريباً لإعادة آيا صوفيا إلى مسجد، وهو أمر ما كان بالإمكان فعله خلال السنوات الماضية، بقرار إداري من مجلس الوزراء المنتخب، وليس التابع لنظام الحزب الواحد، كما فعل أتاتورك، غير أن البيئة وسلّم الأولويات لم تكن مناسبة أبداً، تحديداً الداخلية منها.

 

رسائل القرار

 

وفي إعلانه القرار، كان الرئيس أردوغان حريصا على إظهار عدة أمور رمزية وجوهرية، منها وصية أو سند وقف مسجد آيا صوفيا بتوقيع السلطان محمد الفاتح، وصورة شهيرة لصحن المسجد بعدسة مصور تركي، وأغنية خاصة أيضاً من غناء مؤدٍّ تركي وتلحينه، أما في الجوهر فتحدث الرئيس عن الانتصار للقانون والمؤسسات والانعتاق وتحرير الإرادة والمكان، واعتبار المناسبة عيدا ومصدر فخر للأتراك والمسلمين، مع التركيز على استمراره مفتوحاً أمام مواطني العالم من دون استثناء، والحفاظ عليه إرثا حضاريا للإنسانية جمعاء.

 

أبعاد سياسية

 

وبحسب خبراء، كان بقاء هذا المسجد متحفاً رمزا لعصر الضعف والتدخلات الأجنبية في تركيا، إذ مثلت عودة المسجد انعتاقا من لحظة تاريخية بائسة واستكمال لاستقلال تركيا عن التأثير الأوروبي المهيمن، ولعل انتقال تركيا التدريجي نحو قوة إقليمية قائمة بذاتها جعل إعادة الجامع رسالة للخارج بأن زمن التبعية للغرب قد ولى!

البعد الأول للقرار: يكمن في أصل تحول المسجد إلى متحف عام 1934، فرغم الصبغة العلمانية المتطرفة لعصر تأسيس الجمهورية والحملة على المساجد في عام 1928 والتي تبعت مجموعة من القوانين العلمانية إلا أن سبباً سياسياً آخر كان الدافع الرئيسي خلف فقدان الجامع صفته كدار عبادة.

في بداية الثلاثينيات واجهت تركيا تهديداً إيطالياً وبلغارياً مع تنامي الفاشية وزيادة التوترات الناتجة عن الخلافات الحدودية التي خلفتها الحرب العالمية الأولى وكانت مجموعة من دول المنطقة قد بدأت الحوار حول ما سمي لاحقاً حلف البلقان والذي ضم كلاً من يوغسلافيا واليونان ورومانيا وتركيا وهدف إلى تحييد الخلافات بينها والوقوف جبهة واحدة أمام أطماع الدول المحيطة.

وحسب الرواية التي نقلها جلال بايار، رئيس وزراء تركيا آنذاك، فإن رئيس الوزراء اليوناني أخطره بأن تحويل المسجد والذي يعتبره اليونانيون الأورثذوكس كنيستهم الأهم المسلوبة إلى متحف سيمثل بادرة حسن نية ستدفع ببقية الدول المنخرطة في المفاوضات للقبول بانضمام تركيا، وحسب المصدر نفسه عند نقل هذا الأمر إلى مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال استحسن الفكرة خاصة وأن إدارة الأوقاف في حينه أبلغته أنها ليست قادرة على ترميم المبنى.

وبالتالي اتخذ مجلس الوزراء قراراً بهذا الشأن وتحول المسجد إلى متحف ووقعت اتفاقية حلف البلقان في نفس العام بمشاركة تركية، وبالتالي ومنذ تلك اللحظة كان بقاء هذا المسجد متحفاً رمزاً لعصر الضعف في تركيا والتدخلات الأجنبية، عودة المسجد بالتالي تشكل انعتاقاً من تلك اللحظة التاريخية واستكمالاً لاستقلال تركيا عن التأثير الأوروبي المهيمن، فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى ظلت تركيا والتي نجحت في منع الاحتلال الأوروبي لمعظم أراضيها تحاول الاتجاه غربا.

وظل الغرب ينظر لها باعتبارها فرسا ينبغي ترويضه، ولكن الانتقال التدريجي لتركيا باتجاه أن تكون قوة إقليمية قائمة بذاتها في العهد الحالي والتوتر الحاصل مع أوروبا وخاصة بعد المحاولة الانقلابية ورفض الدول الأوروبية قبول استقلالية القرار التركي جعل من إعادة الجامع رسالة سياسية للخارج بأن زمن التبعية التركية للغرب قد ولى.

البعد الثاني: السياسات الداخلية، أما على المستوى الداخلي فالبعد السياسي لهذا القرار يكمن في جانبين الأول هو حاجة الرئيس التركي إلى إرسال رسالة بأنه مازال قادراً على اتخاذ قرارات شعبية جريئة تتوافق أكثر مع رغبات قواعده الانتخابية خاصة وأن الجيل الجديد من الأتراك والذي لم يعرف غير أردوغان حاكماً لم يره وهو يقوم بإصلاحاته الكبرى في الشأن التركي بل شهدوه يصارع خصومه بدءًا من قضية (انقلاب) أورغانكون وانتهاءً بصراعه مع حلفاء الأمس.

ويأتي هذا القرار ليعيد رسم صورة أردوغان كمجدد في تركيا، والأمر الآخر هو أن خسارة الانتخابات البلدية في إسطنبول مثلت ضربة للحزب الحاكم وشعبيته ومن خلال إحداث مثل هذا التغيير الضخم في إسطنبول نفسها يعاد إلى الأذهان أن أردوغان بدأ مسيرته بنجاحه في رئاسة بلدية إسطنبول علماً بأن عهده شهد مما شهد ترميم أيا صوفيا بعد أن تعرضت قبته النحاسية لشرخ هدد كل الآثار في المبنى.

وما سيثيره هذا القرار من ضجة إيجابية وسلبية حوله يسحب البساط من محاولة تسويق إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول المنتمي لحزب الشعب الجمهوري وما يقوم به في المدينة.

 

الحكم الرشيد

 

وقد جاءت ردود الفعل الدولية متوقعة ومسيّسة، إلا أنها مع الوقت ستتلاشى وتخفت، خصوصا مع التأكيد أن القرار شأن سيادي وداخلي تركي، كما على الحفاظ على معالم المكان واستمرار أبوابه مفتوحة أمام السياح والزائرين، تماماً كمسجد السلطان أحمد “مسجد القبة الزرقاء” البديع والمجاور، وفي كل الأحوال، كانت إعادة آيا صوفيا إلى وضعه الطبيعي مسجدا مسألة وقت، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل عقدين.

وقد حان توقيت القرار، وفق ترتيب الحكم الرشيد سلم الأولويات، وإعادة بناء المؤسسات بشكل سلمي وديمقراطي، بما فيها التعديلات الدستورية التي حجمت العسكر ومنعهتم من التأثير على الحياة السياسية، ثم إخضاعهم للقيادة المنتخبة، كما الحال في أي نظام ديمقراطي، وعدم خوض معارك فاشلة داخلية وخارجية، أو القيام بخطوات واتخاذ قرارات لا يمكن تنفيذها أو الدفاع عنها، ومواجهة الضغوط الخارجية تجاهها.

وفي السياقات السياسية القانونية والمؤسساتية، لا يختلف الأمر عن تنفيذ عمليات عسكرية خارجية في سورية، أو توقيع التفاهمات البحرية والأمنية مع ليبيا، والتدخل لدعم حكومة الوفاق الشرعية في طرابلس، والدفاع عنها، كما عن المصالح التركية المتماهية مع مصالح الليبيين والعرب شرق المتوسط، وعموماً يمكن وضع المعطيات السابقة جميعها في سلة واحدة، عنوانها حكم القانون والمؤسسات والقيادة الديمقراطية المنتخبة التي تدافع عن آمال مواطنيها في الداخل والخارج، وحقوقهم ومصالحهم.

 

رفض غربي

 

ولعل المواقف الدولية التي بدت متشنجة، تنطلق من مواقف سياسية وتاريخية متعددة، بدءا من اليونان، التي تعتبر نفسها وريثة الإمبراطورية البيزنطية، والتي لا يمكن للأتراك نسيان أن جيوشها وصلت خلال الحرب العالمية الأولى إلى أنقرة، وروسيا التي كانت موعودة بالقسطنطينية، وإسرائيل التي تتحالف مع مصر والإمارات لمنع امتداد نفوذ تركيا في المنطقة.

ومن ثم تعددت اتجاهات الرؤية إلى القرار، حسب المصالح السياسية والاتجاهات الأيديولوجية، ولكن ذلك لا يمنع من ملاحظة المفارقات الكبيرة التي تحوط المتخاصمين على المسألة، ومن ذلك أن اليونان تمنع إنشاء أي مسجد للمسلمين على أراضيها، رغم أن عددهم أكثر من ثلاثة ملايين، وأن إسرائيل «العلمانية» تسعى لفرض رؤية «الدولة اليهودية» على العالم، وأن اسبانيا حوّلت مسجد قرطبة -وهو معلم تاريخي شهير أيضا- إلى كنيسة، وأن الإمارات وحلفاءها مشغولة بقضايا «التسامح» مع الإسرائيليين الذين يهددون المسجد الأقصى.

وكما هو متوقع أغضبت الخطوة التركية العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن وباريس، وكانت الولايات المتحدة عبرت عن “خيبة أملها” من قرار أنقرة ، مطالبة السلطات التركية بأن تكون زيارة هذا المعلم التاريخي متاحة أمام الجميع على قدم المساواة.

وكان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أعلن أن بلاده “تأسف لقرار السلطات التركية تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد”. وقال لودريان في بيان إن “فرنسا تأسف لقرار مجلس الدولة التركي تعديل وضع متحف آيا صوفيا، ولمرسوم الرئيس أردوغان بوضعه تحت سلطة مديرية الشؤون الدينية، هذان القراران يشكّكان في أحد أكثر الإجراءات رمزية لتركيا العصرية والعلمانية.

وفي السياق ذاته، أعلن رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أن بلاده “تدين بأشدّ العبارات” ما أسماه “تحويل” آيا صوفيا إلى مسجد، محذّرا من أن هذه الخطوة سترتدّ سلبا على العلاقات بين أثينا وأنقرة.

 

تشنج محور الشر العربي

 

وجاء الرفض الغربي مفهوما، في ضوء الاختلافات الدينية والحضارية، إلا أن الأكثر حيرة ودهشة أن عواصم تحالف الثورات المضادة في القاهرة وأبو ظبي والرياض انحازت للموقف الغربي على حساب الموقف الإسلامي، ففي مصر، عبر الاعلام الحكومي والخاص الخاضع للسطوة العسكرية عن غضب شديد، بجانب تحريض كبير على تركيا، بل وصل الأممر، بشيوخ واساتذة بالأزهر كسعد الهلالي، وعباس شومان، الوكيل السابق لشيخ الأزهر ، الذي اعتبر أن الخطوة لا تتفق مع الإسلام ويتنافي مع تعاليمه السمحة التي تحترم دور العبادة لكل الأديان؛ متجاهلا أن “آيا صوفيا” كانت تمارس فيه الشعائر الإسلامية لمدة خمسة قرون كاملة قبل أن يحوله أتاتورك إلى متحف اتساقا مع توجهات فرض العلمانية على الشعب التركي المسلم.

وتناست اجهزة الأمن والمؤسسسات الدينية الرسمية في مصر والإمارات والسعودية أن الكثير من مساجد المسلمين في الأندلس تحوّلت لكنائس وبارات ونوادٍ ليلية، وتحول مسجد بابري في الهند إلى معبد للأصنام، ويريدون تحويل القدس بكل مقدساتها عاصمةً للصهاينة، وكان الأغرب هو حشد الحملات على السوشيال من قبل الامارات والسعودية وعبر الذباب الالكتروني، ضد سلطنة عمان وموقفها المؤيد للخطوة التركية، وتنوعت الهجمات الالكترونية ضد مفتي عمان تارة وضد النظام العماني تارة أخرى.

ولعل ردود الأفعال الناقدة لقرار أردوغان من العديد من الحكومات الغربية والشرقية لا يمكن فهمها إلا في سياق رفض أمرين:

  • الأول هو أن تحقق تركيا استقلالاً كاملاً في القرار.
  • والثاني هو المركزية السياسية الإسلامية لتركيا.

 

لذلك نجد أن التصريحات لم تأتِ من الدول ذات الأغلبية الأورثذوكسية فحسب بل جاءت من كل من استفاد من التبعية أو الضعف التركي مثل دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية الرافضة لمواقف أردوغان الإسلامية والداعمة للتغيير في المنطقة.

ومثل الموقف الفرنسي ، قمة التناقض، حيث لم تنس سنُدكِّر البشرية ما فعلته فرنسا بالجزائر، حينما قامت بتحويل مسجد “كتشاوة” في الجزائر إلى كنيسة من طرف الدوق دو روفيغو، تحت إمرة قائد الحملة الفرنسية دي بولينياك الذي عمد إلى قتل 4 آلاف مسلم اعتصموا في المسجد؛ اعتراضاً على قرار تحويله إلى كنيسة، ثم حوّل الجامع إلى إسطبل للخيول بعدما قال جملته الشهيرة “يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبداً لإله المسيحيين”، تم هدم المسجد وبُنيت فوقه كاتدرائية سانت فيليب 1832.

وعلى أية حال، إن رمزية آيا صوفيا حضاريا هو ما يهمنا بشكل استراتيجي، فتوقيت عودته مسجدا رسالة مبطنة للغرب بعودة الإمبراطورية العثمانية وامتدادها الحيوي في البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا.

 

لمحة مكانية وتاريخية

 

ويقع “آيا صوفيا” في منطقة “السلطان أحمد” بمدينة إسطنبول، واستخدم كمسجد لمدة 481 عاماً ، وتم تحويله إلى متحف عام 1934، وهو من أهم المعالم المعمارية في تاريخ الشرق الأوسط، ويمتد تاريخ “آيا صوفيا” لقرابة 1500 عام، وللمبنى شأن كبير في الإمبراطوريتين البيزنطية والعثمانية، واحتل موقعا مرموقا كمكان عبادة للمسيحيين ومن بعهدهم المسلمون.

لذلك فإن أي تغيير يخصه سيكون له أثر بالغ على أتباع الديانتين، علاوة على ذلك فإن المبنى مدرج على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، واكتمل بناء “آيا صوفيا”، التي تعني “الحكمة الإلهية”، في اللغة اليونانية، سنة 537 في عهد الإمبراطور البيزنطي “جستنيان.

ويطل المبنى الضخم على ميناء القرن الذهبي ومدخل البوسفور امتدادا من قلب القسطنطينية، وكان المبنى مركزا للأرثوذكسية، وظل أكبر كنيسة في العالم، على مدى قرون، وظل المبنى تحت السيطرة البيزنطية، باستثناء فترة وجيزة في قبضة الصليبيين في القرن الثالث عشر، حتى فرضت قوات المسلمين بقيادة السلطان العثماني “محمد الفاتح” سيطرتها عليه، وحولته إلى مسجد، بنى العثمانيون أربع مآذن، وغطوا رموزا مسيحية وقطع فسيفساء مذهبة، ووضعوا لوحات ضخمة تتزين بأسماء الله الحسنى واسم النبي “محمد”، والخلفاء الراشدين المسلمين بالأحرف العربية.

وفي عام 1934، أقام “مصطفى كمال أتاتورك” أول رئيس لتركيا، جمهورية علمانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المهزومة، وحول “آيا صوفيا” إلى متحف، يزوره الآن ملايين السياح كل عام.

 

حالات عديدة لتحويل دور العبادة

 

وتضاف خطوة إعادة “أيا صوفيا” إلى طبيعتها كمسجد، إلى قائمة عمليات تغيير مماثلة لمواقع دينية جرت على مرّ القرون، في ما يلي بعض الأمثلة عليها:

  • الجزائر:
    بني جامع كتشاوة حوالي العام 1612 ووسّع في 1794، ما جعله أحد أكبر مساجد البلاد، لكن حوّله الفرنسيون بعد عام من بدء استعمارهم البلد (1830-1962) إلى كنيسة كاثوليكية باسم سانت فيليب، وعند استقلال الجزائر عام 1962، حوّل الصرح إلى مسجد مرة أخرى، وأقيمت فيه أول صلاة جمعة بعد 130 عاما، جرى منذ ذلك الحين تجديده بتمويل تركي.

 

  • قبرص:
    كان مسجد السليمية في شمال نيقوسيا في الأصل كاتدرائية تحمل اسم آيا صوفيا، وقد شيّدها بناؤون فرنسيون رافقوا الصليبيين، بني المعلم في القرن الثالث عشر خلال حكم سلاسة لوزينيان في الجزيرة الواقعة شرق المتوسط، حوّلت الكاتدرائية إلى مسجد عقب فتح العثمانيين نيقوسيا عام 1570، بدورها، بنيت كاتدرائية سانت نيكولاس في مدينة فاماغوستا شمال الجزيرة في القرن الرابع عشر خلال حقبة لوزينيان، وهي أبرز مثال للهندسة القوطية في قبرص، جرى تحويلها إلى مسجد باسم “لالا مصطفى باشا” مع فتح العثمانيين للمدينة الساحلية عام 1571.

 

  • مصر:
    كان مسجد العطارين في مدينة الإسكندرية المتوسطية كنيسة تعود إلى عام 370 وتحمل اسم القديس أثناثيوس، وهو وجه مهم في الكنيسة القبطية الأرثودكسية، حول المعلم الديني إلى مسجد مع وصول المسلمين في القرن السابع، وسمي نسبة إلى موقعه في سوق البهارات القديم في الإسكندرية، خلال حملة نابليون، اعتقد مستكشفون أن الإسكندر الأكبر مدفون داخل المسجد في تابوت أخضر، جدد الصرح عدة مرات خلال الحقبة العثمانية، وفتح إلى العموم منذ أحدث ترميم له عام 1976.

 

  • لبنان:
    كان يوجد في موقع المسجد العمري الكبير وسط بيروت معبد روماني أو حمامات، قبل أن يبني البيزنطيون كنيسة هناك، عقب مجيء المسلمين، جرى تحويله إلى مسجد يحمل اسم الخليفة الثاني “عمر بن الخطاب، لكن عند سيطرة الصليبيين الفرنجة على بيروت بداية القرن الثاني عشر، حولوا المسجد إلى كنيسة، قبل أن يعيد “صلاح الدين الأيوبي” السيطرة على المدينة عام 1187 ويحول المعلم إلى مسجد مرة أخرى، سيطر الصليبيون على بيروت من جديد عام 1197، وحولوا المعلم إلى كاتدرائية، أخيرا، بسط المماليك سيطرتهم على المدينة في 1291 وأعادوه إلى مسجد، وبقي الأمر على ما هو عليه منذ ذلك الحين.

 

  • فلسطين:
    تعكس المساجد في مدينة نابلس بالضفة الغربية تاريخها طوال الحقبتين البيزنطية والإسلامية، الحملات الصليبية والحقبة المملوكية، يرتبط عدد منها باليهودية والمسيحية المبكرة، على غرار جامع الخضراء الذي صار معلما إسلاميا منذ 1187 بعد أن كان كنيسة خلال الحملات الصليبية، أما الجامع الصلاحي الكبير في المدينة فقد كان كنيسة بناها الإمبراطور “جوستينيان الأول” في القرن السادس، عام 1186، حُوّل الصرح إلى مسجد من طرف الأيوبيين عقب فتح “صلاح الدين الأيوبي” للمنطقة.

 

  • إسبانيا:
    كان جامع قرطبة، المعروف باسم “ميزكيتا”، في منطقة الأندلس جنوب إسبانيا، أقدس موقع ديني إسلامي في الغرب خلال فترة حكم الأمويين في القرنين العاشر والحادي عشر، حوّل المعلم إلى كنيسة كاثوليكية منذ سيطرة المسيحيين على المدينة عام 1236، ثم شيّدت كاتدرائية داخل الموقع، يعتبر المعلم أحد أبرز أمثلة الهندسة الأندلسية، وأضيف المسجد-الكاتدرائية إلى لائحة اليونيسكو للتراث العالمي عام 1984.

 

  • سوريا:
    يعتبر الجامع الأموي في المدينة القديمة بدمشق أحد أقدس المواقع الإسلامية، بني الجامع في موقع معبد لـ”جوبيتر” حوّله الإمبراطور الروماني “ثيودوسيوس الأول” إلى كنيسة في القرن الرابع، صار المعلم جامعا في القرن السابع، وهو يحوي ضريح يوحنا المعمدان.

 

وهكذا تتعدد الحالات والوقائع المتعلقة بتحول دور العبادة في الكثير من مناطق العالم، دون أن يشهد العالم ضجيجا ، كما في حالة أيا صوفيا,إلا أن مشهد اليوم يعبر عن صراع سياسي، يشوبه التضادات الحضارية بين الغرب بحضارته المسيحية وتركيا بشخصيتها الاسلامية الحالية، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام الكثير من التحديات المنتظرة للنظام التركي.

بينما يتوقف تأثيراته السلبية على التمسك الشعبي بالخيار الديمقراطي، بجانب براجماتية ومرونة نظام أردوغان في امتصاص الصدمات الدولية والاقليمية، والصمود أمامها، بل وتحقيق انجازات سياسية واقتصادية واجتماعية للشعب التركي.

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022