حدود الدور المصري وأبعاده في اتفاق التطبيع الإماراتي

 

بعد جريمة اغتيال الطفل محمد الدرة، برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي في سبتمبر2000، ساد العالم العربي غليان واسع، وتفاعل كثير من الساسة والمثقفين والفنانين مع الرأي العام، تنديدا بالجريمة وتأكيدا على وحدة الدم العربي والمصير المشترك وأن قضية فلسطين هي قضية كل العرب وكل حر ونبيل على وجه الأرض، وعلى المستوى الفني، جرى ترجمة هذا الشعور الجارف بعملين كبيرين[[1]]:

الأول، هو أوبريت «الحلم العربي» الغنائي، الذي شارك فيه مطربون ومبدعون من كل الوطن العربي تقريبًا، غير أن أكثر ما يلفت النظر في الأوبريت الذي صار من الممنوعات على الشاشات العربية، بعد خضوعها لقوانين الزمن الصهيوني، أن منتج العمل يخص بالشكر “دولة الإمارات العربية المتحدة متمثلة بهيئة الإذاعة والتلفزيون، التي ساهمت في تزويدنا بالمواد الأرشيفية”، حيث مدَّ التلفزيون الإماراتي القائمين على العمل بمشاهد البربرية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني على نحوٍ جعل العمل الغنائي أقوى وأوسع تأثيرًا من آلاف الخطب والبيانات والتصريحات السياسية، إلى الحد الذي عرّى الكيان الصهيوني أمام العالم، فصار يرى في إذاعة الأوبريت امتدادًا لانتفاضةٍ مشتعلةٍ في الأرض المحتلة، ما يجعله عملًا عدائيًا يهدد سياسيات التطبيع التي تبنتها دول عربية وقّعت اتفاقاتٍ مشبوهة معه، ونجحت الضغوط الصهيونية في  توقف بث الحلم العربي في الجماهير العربية، وامتنعت الفضائيات عن إذاعته، حتى باتت الأجيال الجديدة لا تعرف عنه شيئا.

الثاني، بعد ذلك بسبع سنوات، أنتجت السينما المصرية فيلمًا ضد التطبيع باسم “عندليب الدقي”، قدّم فيه الفنان محمد هنيدي شخصيتي شقيقين توأمين، أحدهما مصري من منطقة شعبية، والثاني إماراتي صاحب مؤسسات اقتصادية ضخمة، تفرّقت بهما السبل، ثم التقيا فجأة بعد أن أخبرت الأم المصرية ابنها بأن شقيقه التوأم يعيش في الإمارات، حيث أخذه والده وسافر بعد ولادته، النقطة الجوهرية في الفيلم هي رفض التطبيع، في إطار قصصي مشوق، وحين عرض الفيلم في ذلك الوقت اعتبره بعض المتابعين دعاية سياسية للإمارات عن طريق السينما، لكنه نوع محترم وإيجابي من الدعاية، مما قيل وقتها ليت كل الدول العربية تسعى إلى صنع دعاية سياسية لنفسها بهذا الشكل.

وبدأت العلاقات الإماراتية مع الكيان الصهيوني على خجل في أعقاب ضلوع شابين إماراتيين هما مروان الشحى وفايز بنى حماد فى هجمات 11 سبتمبر والتى راح ضحيتها ثلاثة آلاف أمريكى، تصورت الإمارات أن التعاون مع إسرائيل كان كافيا لمرورها إلى البوابة الملكية لواشنطن من خلال السماح بتعاون أمنى استخباراتى واسع مع إسرائيل واطلاع الدوائر الأمريكية عليه، ثم ضاعف الربيع العربى وما اعتبرته أبوظبى وتل أبيب خطرا وجوديا وتهديدا غير مسبوق لمصالحهما القومية، مثلت ديمقراطية الشعوب العربية خطرا لم يترك علاقات الدولتين إلا أكثر قوة وتنسيقا فاجأ حتى حليفهم الأمريكى.

وخلال السنوات الــ13 الماضية، جرت تحولات ضخمة قادها ولي عهد أبو ظبي المثير للجدل محمد بن زايد، وتحولت أبو ظبي على يديه إلى أكبر عدو لدود للمقاومة الفلسطينية، وأمست عشيقة تمارس البغاء السياسي على فراش (إسرائيل)، وبعد إشهار العلاقة الحرام بين “أبو ظبي وتل ابيب” بعد اتفاق التطبيع في 13 أغسطس 2020م، جرى انتهاك براءة أطفال العرب بإجبارهم على ارتداء قمصان تحمل علم الصهاينة في قلب دبي وراح خدمة النظام يسوقون للجريمة ويصفون عار بن زايد ونظامه  بإنجاز يستحق الاحتفال!

كيف جرت هذه التحولات الضخمة؟ وما حدود الدور المصري وأبعاده في هذا العار الأبدي؟ وهل يتوقف الدور المصري على نظامي السادات ومبارك، أم أن لنظام انقلاب 30 يونيو وقائده الطاغية عبدالفتاح السيسي دورا قائدا في التطبيع الإماراتي؟

 

تطبيع مختلف

قبل الإجابة على هذه الأسئلة، يتعين التنويه على أن التطبيع الإماراتي يختلف كليا على نماذج التطبيع السابق، من زاوية أولى، فإن التطبيع الإماراتي، هو انعكاس لوضوح أولوية العديد من الأنظمة العربية خلل السنوات الأخيرة، ممثلة في مواجهة مطالب الإصلاح و”الربيع العربي”، و”الإسلام السياسي”، ومن ثم الصدام مع الداخل وجماهير الأمة، كان من الطبيعي أن يذهب البعض إلى أمريكا والصهاينة بحثا عن الدعم والشرعية، وبالتالي، فالاتفاق الإماراتي الصهيوني، يأتي تتويجا لهذه الحالة من خلال الأولويات، لا سيما بعد أن تم وضع تركيا كعدو رقم واحد (كونها داعمة لربيع العرب والإسلام السياسي)، تليها إيران، وكان طبيعيا في الحالة هذه أن يذهب أصحاب هذا المنطق إلى الصهاينة بحثا عن الدعم والشرعية.

من جهة ثانية، نحن الآن بإزاء تطبيع مختلف لأن المرحلة ذاتها مختلفة، فحين وقّع السادات معاهدته التي اعتبرها العرب قاطبة ضربا من الخيانة، كانت قصص السلام والحلول ما تزال في بداياتها، وكانت الحجج السائدة أن هناك حاجة إلى تقريب العدو من لغة السلام، واتفاق “وادي عربة”، وقبله اتفاق “أوسلو”، جاءا ووهمُ السلام ما زال قائما، وكان عرفات رحمه الله يأمل بدولة في حدود 67، فانتهى إلى الجدار المسدود في قمة كامب ديفيد؛ صيف العام 2000، فيما اعتبر الأردن أن توقيع الفلسطينيين يبرر توقيعه، بناء على وعود ثبت زيفها من الأمريكان والصهاينة، وهكذا يمكن القول إن هذا اللون من التطبيع  يختلف جوهريا عن سابقه، من حيث إنه يأتي بعد كشف أوهام السلام، ووضوح الصهاينة في كشف حقيقة سقفهم السياسي في الحل، بدليل أن التبرير الذي طرح للاتفاق هو تعليق مخطط الضمّ لأجزاء من الضفة الغربية، وذلك بعد الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان، والاعتراف بالاستيطان وشطب قضية اللاجئين، وحتى هذا التبرير؛ لم يُسمح به صهيونيا، إذ أعلن نتنياهو أن الضمّ قادم، وكذلك فعل صبي ترامب (كوشنر)، وكأن الصهاينة يستخفون بمن وقّع معهم، وهم دائما يفعلون ذلك على كل حال.

أما الجانب الثالث لاختلاف هذا التطبيع عن سواه، فيتمثل في أنه لا يأتي بحثا عن السلام وأوهامه، لأن أوهامه انكشفت تماما، بل يأتي في سياق من تصفية القضية وفق المعطيات الجديدة، فضلا عن أنه يهيل التراب على المبادرة العربية التي جعلت الحل سابقا على التطبيع، وبالتالي فهو تطبيع يمهّد الطريق أمام حل تصفوي للقضية يرى الصهاينة أنه ممكن في ظل الحريق الراهن في المنطقة، وفي ظل الأولويات الجديدة للأنظمة التي تورطت وستتورط فيه،[[2]] ولعل هذا ما دفع نتنياهو إلى التباهي بنبرة ملؤها الغطرسة مؤكدا أن قاعدة “السلام مقابل الأرض” قد ولى زمانها، وأن الاتفاق الإماراتي يدشن مرحلة جديدة وفق قاعدة جديدة “السلام مقابل السلام”، ولم تعد “إسرائيل” في حاجة إلى التخلي عن أراض عربية مقابل السلام؛ فالتطبيع مع العرب يجري دول حل القضية الفلسطينية ودون الخروج من الأراضي المحتلة، وهو ما يمثل إنجازا عظيما لنتنياهو وحكومته.

هكذا نكون أمام مشهد خيانة لقضية الأمة المركزية، وليس مجرد تطبيع كالذي شهدناه من قبل، ويكفي أن تصف قيادة السلطة الفلسطينية الأمر على هذا النحو، وهي الوالغة في بيع الوهم، والتعاون الأمني مع العدو، حتى ندركه على حقيقته.

 

أبعاد الدور المصري

تذهب آراء إلى أن دور نظام الانقلاب في مصر في اتفاق التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني الذي  أعلن عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الخميس 13 أغسطس 2020م، هامشي ولا يتجاوز حدود الترحيب والتطبيل والتسويق، وكان رئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي من أوائل المباركين للتطبيع الإماراتي مهنئا ولي عهد أبو ظبي وحكومة الإمارات وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، ويعزو هؤلاء أسباب هامشية الدور المصري في اتفاق التطبيع إلى عدة أسباب[[3]]:

الأول، تراجع الدور المصري إقليميا منذ سنوات خصوصا في أعقاب انقلاب 3 يوليو 2013م، حيث بات الدور المصري تابعا للسياسات الإماراتية والسعودية في المنطقة.

الثاني، أن العلاقات الإماراتية مع الكيان الصهيوني تمتد لأكثر من عشرين سنة وتحديدا من سنة “2003م”، وما جرى مؤخرا هو مجرد إشهار لهذه العلاقة الحرام التي تمثل نوعا من البغاء السياسي الذي تمارسه أنظمه الاستبداد العربي، وبالتالي فإن صاحب الفضل الأول في العلاقة الإماراتية الإسرائيلية هو نظام الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وذلك لا يمنع وفق هؤلاء من أن السيسي عرَّاب للتطبيع في المنطقة ويحرض كل النظم العربية على الدخول في حظيرة التطبيع تحت الرعاية الأمريكية وفق تحالف (أمريكي ــ إسرائيلي ــ عربي) يتبنى دمج (إسرائيل) والعداء لتركيا وإيران وجميع الحركات والمنظمات الرافضة لإسرائيل في المنطقة وأبرزها الحركات الإسلامية وحركات المقاومة الفلسطينية.

الثالث، أن وضع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، تنامي بشكل لافت في أعقاب الربيع العربي والدور الكبير الذي قامت به أبو ظبي لإجهاض الربيع العربي وخصوصا في مصر وتمويلها مع الرياض لانقلاب الجيش في 3 يوليو 2013م،  بعشرات المليارات من الدولارات، وذلك بضوء أخضر أمريكي تبنته إدارة أوباما التي أشرفت فعليا على التخطيط للانقلاب ورسمت أدوار كل طرف،  لكن العداء الإماراتي للربيع العربي والديمقراطية والحركات الإسلامية بشكل خاص أذهل الصهاينة والأمريكان  حتى باتت أقرب إليهما من النظام المصري الذي تحول إلى تابع لأبو ظبي في أعقاب نجاح الانقلاب وحاجته باستمرار إلى التمويل السعودي الإماراتي.

الرابع، أن قرار التطبيع الإماراتي هو قرار سيادي يخص أبو ظبي، وبالطبع هي لا تحتاج إلى إذن من نظام السيسي الذي تراه أقل شأنا من أن يستأذن في هذا الأمر، لكن ذلك لا يمنع من أن نظام السيسي كان على علم تام بالخطوة الإماراتية باعتباره عضوا فعالا في تحالف الثورات المضادة، كما أن الهدف من الخطوة الإماراتية هو تعزيز فرص فوز الرئيس الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2020م، أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن، فعواصم تحالف الاستبداد العربي ترى في بايدن تهديدا بعكس ترامب الذي ينتمي إلى اليمين المتطرف حيث تره فرصة لدعمه الواسع للمستبدين العرب وتجاهله المطلق لجميع أشكال انتهاكات حقوق الإنسان بل دفاعه عن هذه الأنظمة باعتبارها ضمانة لأمن “إسرائيل” وحامية للمصالح الأمريكية.

 

السيسي أول المباركين

ويرى فريق آخر أن تراجع الدور المصري إقليميا لا يعني أن قائد الانقلاب بعيد عن القيام بدور فعال للتوصل إلى هذا الاتفاق؛ فمسارعة نظام السيسي إلى مباركة الاتفاق يؤكد أنه كان جزءا من الوصول لاتفاق التطبيع، وما مسارعته للتأييد والترحيب إلا تأكيد على بنية وأركان حلف الثورة المضادة الذي ترسخ بعد انقلاب 2013، والتطبيع بين الإمارات و(إسرائيل) هو فقط تأكيد المؤكد، فالعلاقات بين النظامين لم تتوقف منذ الثورات الشعبية التي شهدتها الدول العربية، وقد وقد وجدت (إسرائيل) في الإمارات الأداة المناسبة لها لضرب كل القوى الثورية والتيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية في المنطقة، ومن العبث الحديث عن اتفاق سلام بين الكيانين، لأن هذه الاتفاقات تكون بين الدول المتحاربة، كما أنه من العبث كذلك القول بأن هذا الاتفاق من أجل الدفاع عن الحقوق الفلسطينية ووقف خطة الضم الصهيونية، لأن هذا الاتفاق من شأنه ترسيخ وجود الكيان الصهيوني، وليس حماية الحقوق الفلسطينية.[[4]]

دور نظام الانقلاب لم يتوقف عند حدود المشاركة في إنتاج الاتفاق باعتباره عضوا في تحالف الثورات المضادة، بل امتد للقيام بدور احتواء توابع التطبيع وتسويق الاتفاق، وتحريض عواصم أخرى على اتباع خطوات شيطان العرب؛ يدلل على ذلك أن دوائر مصرية تجري حاليا اتصالات مكثفة لضم عواصم خليجية أخرى إلى اتفاق التطبيع الرسمي مع الاحتلال الإسرائيلي، وتستهدف الجهود المصرية ضم البحرين وسلطنة عمان، بما يتيح استنساخ اتفاق التطبيع “أبراهام” الموقع بين أبوظبي وتل أبيب.[[5]]

من جهة ثانية، وفي أعقاب إشهار بغاء التطبيع الإماراتي، تكفل نظام الانقلاب في مصر بالقيام بدور الإطفائي للغضب العربي والعمل على تزيين الاتفاق وتسويقه إعلاميا وسياسيا عبر الأدوات المختلفة، بل ممارسة ضغوط على السلطة من أجل وقف الحملة ضد الإمارات واتفاقها بل القبول بالاتفاق والعودة إلى طاولة المفاوضات مع الصهاينة، وللقيام بذلك زار وفد مخابراتي رفيع المستوى أراضي السلطة الفلسطينية مرتين خلال الأسبوع الأول بعد إعلان الاتفاق؛ ويلعب نظام السيسي دور الوسيط بين القيادة الفلسطينية وأبوظبي لـ”كبح” الغضب الفلسطيني ووقف المسيرات المناوئة في الضفة الغربية وقطاع غزة للاتفاق، خاصة أنه تخللها حرق علم الإمارات وصور محمد بن زايد، وحجة الوسيط المصري أن القطيعة مع الدول العربية والاشتباك السياسي والإعلامي معها يضر الفلسطينيين وقضيتهم لا غيرهم، وبدت زيارة الوفد المصري إلى غزة ضمن محاولته إطفاء لهيب التصعيد الميداني أو احتوائه بين غزة وإسرائيل دون حلول لمعاناة القطاع مع إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، كأنها تحمل رسالة ضمنية بأن النظام المصري هو الوحيد الي يقرر لغزة قرارها، لا تركيا ولا قطر. [[6]]

 

تصميم المشهد الإقليمي

حدود الدور المصري في اتفاق التطبيع الإماراتي لا يقف فقط عند المشاركة في إخراجه وإنتاجه وتسويقه والقيام بدور رجل الإطفاء لإخماد جذوة الغضب العربي، بل يمتد إلى إعادة تصميم المشهد الفلسطيني والإقليمي بما ينسجم مع الرؤية الأمريكية الإسرائيلية.

ويسعى تحالف الثورات المضادة لاستغلال كبر سن رئيس السلطة محمود عباس أبو مازن من أجل تصعيد القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان مستشار ولي عهد أبو ظبي الأمني ليكون على رأس السلطة بعد رحيل أبو مازن، وبالتالي فإن ما ترفضه سلطة أبو مازن سوف تقبل به سلطة على رأسها دحلان، لا سيما وأن أجهزة الاحتلال الأمنية تمكنت من تجنيد معظم قادة أجهزة السلطة الأمنية وبات ولاء الكثيرين منهم لمن يوفر لهم السلطة والنفوذ والامتيازات وضمان استمرار مكاسبهم المادية الضخمة التي حازوها في أعقاب تشكيل السلطة بعد اتفاق أوسلو وبعد أن جرى تغيير العقيدة الأمنية لهم عبر التنسيق الأمني مع الاحتلال والذي أشرف عليه الخبير الأمني الأمريكي كيث دايتون.

وبالتالي فإن التحركات المصرية إنما تأتي في سياق وقوف نظام السيسي خلف الترتيبات الإقليمية الجديدة، والهادفة إلى مواجهة الدور التركي أولاً، ثم الإيراني.

وفي واشنطن يزداد الحديث عن «التحالف العربى الإسرائيلى» كواقع جديد، وهو ما يمثل وسيلة ضغط مباشرة وفعالة على العقل الجمعى العربى للتأقلم على وضع مخالف لما آمنت به شعوب العرب لعقود، كذلك تشتد الجهود الإسرائيلية داخل واشنطن لاستغلال حالة الضعف العربى غير المسبوق من أجل تحسين وضعها التفاوضى فى أى عملية سلام مستقبلية مع الفلسطينيين، وتركز هذه الجهود على القضاء على أى مسوغات قانونية دولية دعت فى السابق لانسحاب إسرائيل من الأراضى الفلسطينية التى احتلتها فى حرب يونيو 1967 عن طريق المطالبة بتجاهل تام لقرار مجلس الأمن 242، وغيره من القرارات الدولية، وموازاة مع الشق السياسى يأتى الشق الأكثر خطورة مما نشهده الآن فى نطاق الهرولة العربية «للسلام» مع إسرائيل، وهو ما سيرتبط بتغيير المناهج الدراسية التعليمية العربية خاصة فى مواد التاريخ والجغرافيا، وللمرة الأولى يظهر استعداد دول عربية اعتبار النزاع العربى الإسرائيلى منتهيا، والدخول فى اتفاقيات سلام مع إسرائيل بهدف تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة بدون شرط الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة عام 1967، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 مقابل تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، إلا أن المطبعين الجدد لم يعد هناك ما يلزمهم بهذا الحد الأدنى من ضرورة إقرار الحقوق الفلسطينية.[[7]]

من زاوية مقابلة، فإن اتفاق التطبيع الإماراتي يمثل تهديدا محتملا يمكن أن يسهم في مزيد من تهميش الدور المصري؛ فوفقا لدراسة أعدها معهد واشنطن، فإن قادة النظام في مصر قلقون بشكل واضح بشأن اتفاق التطبيع، باعتباره يعزز اعتقاد القاهرة بأنّ مركز القوة في العالَم العربي، بدأ يتحوّل نحو دول الخليج في السنوات الأخيرة، وكانت مصر ركيزة أساسية في عملية السلام في الشرق الأوسط لعقود من الزمن، وقد منحتها معاهدة السلام مع (إسرائيل) في عام 1979 نفوذاً كبيراً مع واشنطن والعواصم الأوروبية، إلا أن هذا النفوذ مهدد الآن، نتيجة التعاون العلمي والتبادل السياحي والتعاون الأكاديمي بين (إسرائيل) والإمارات، وتوقعت الدراسة، أن يتبع الإعلان عن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي بسرعة، إلى زيادة خفوت نفوذ مصر، لا سيما بالنظر إلى القدرة المالية والتكنولوجية للإمارات على تسريع مثل هذه المبادرات.[[8]]

 

 

الخلاصة،  بعد تكريس صفقة القرن، يأتي التطبيع الإماراتي في هذا التوقيت لتعزيز فرص ترامب الانتخابية من جهة، ودعم موقف نتنياهو من جهة ثانية، كما يمثل مؤشرا على التحالف العربي الأمريكي الصهيوني الذي يواصل التشكل في محاولة لإعادة تصميم المشهد الفلسطيني والإقليمي بما يضمن تكريس الزعامة الإسرائيلية للمنطقة تصفية تامة للقضية الفلسطينية التي أسقطتها عواصم تحالف الثورات المضادة من أجندتها نهائيا.

سيُقال إن الرد على ذلك ينبغي أن يكون عبر تفعيل لجان مقاومة التطبيع في الفضاء العربي، وهو مطلوب ومهمٌ بالتأكيد، لكن ذلك لن يكون كافيا، إذ من دون انتفاضة شاملة تقلب الطاولة في وجوه الصهاينة والمتآمرين معهم، فإن الوضع سيكون صعبا، لأن ما يجري هو ترجمة لما يُعرف بـ”الحل الإقليمي” الذي يعني تطبيعا عربيا واسعا، مع إبقاء واقع الحكم الذاتي القائم على حاله، أو مع بعض التحسينات، ولو من دون توقيع، ثم يتحوّل المؤقت إلى دائم بمرور الوقت، والصراع إلى مجرد نزاع لا أكثر.

 

 

[1] وائل قنديل/ عندليب الدقّي الذبيح في أبو ظبي/ العربي الجديد 24 اغسطس 2020
[2] ياسر الزعاترة/تطبيع ليس كالتطبيع.. لماذا؟/ “عربي 21”الجمعة، 14 أغسطس 2020
[3] محمد سندباد/هل لعب السيسي دورا في تطبيع الإمارات مع الاحتلال؟/ “عربي 21” السبت، 15 أغسطس 2020
[4] انظر تصريحات أستاذ العلوم السياسية رئيس أكاديمية العلاقات الدولية عصام عبد الشافي للجزيرة نت// عراب الاتفاق ومصير مشترك.. لهذه الأسباب سارع السيسي لتهنئة الإمارات وإسرائيل/ الجزيرة نت 14 أغسطس 2020
[5] بعد الإمارات.. مصر تعمل على بلورة تطبيع دولتين خليجيتين مع إسرائيل/ الخليج الجديد  الثلاثاء 18 أغسطس 2020
[6] موفَداً من الإمارات لاحتواء توابع التطبيع.. ما الرسائل التي حملها وفد الاستخبارات المصري للسلطة في رام الله؟/ عربي بوست 18 أغسطس 2020
[7] محمد النشاوي/«التحالف العربى الإسرائيلى».. كواقع جديد/ بوابة الشروق الخميس 20 أغسطس 2020
[8] مصر قلقة من التطبيع الإماراتي الإسرائيلي.. لماذا؟/ الخليج الجديد الجمعة 21 أغسطس 2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022