التحركات التركية لمواجهة التحالفات الموجهة ضدها في شرق المتوسط

لا تنظر تركيا إلى صراعها في منطقة شرق المتوسط على أنه صراع على النفوذ، وتقاسم الثروات، وترسيم للحدود البحرية فقط، ولكنها تنظر إليه على أنه صراع من أجل استعادة حقوقها التاريخية التى فقدتها منذ اتفاقية لوزان عام (1923). ولعل أبرز مثال يوضح حجم الظلم الذي تعرضت له تركيا وفقًا لهذه الاتفاقية ما يطلق عليها جزيرة “ميس اليونانية”، التي  تبعد (2) كم عن تركيا، وتبعد عن اليونان ما يقارب (580) كم، ولكن الاتفاقية أعطتها لليونان، كما أن تلك الاتفاقية تحصر الجرف القاري لتركيا بـ (12) ميلً بحريًّا كحدود بحرية، بدلًا من (200) ميل بحري.

لذا فإن تركيا تسعى إلى استعادة حقوقها التاريخية، خاصة وأن تلك الحقوق ستمكنها من استعادة دورها كدولة إقليمية مؤثرة؛ لأنها ستحررها من الارتهان لإمدادات الطاقة (حيث تستورد ما يقارب (95%) من احتياجاتها من الخارج؛ مما يكلفها أكثر من (50) مليار دولار سنويًّا)، التي تأتي من روسيا أو إيران[1].

أولًا: التحركات التركية لمواجهة التحالفات المضادة في شرق المتوسط:

وفي سبيل استعادة تلك الحقوق، تلجأ تركيا إلى مجموعة من الوسائل، سواء بالتتابع أو بالجمع بينهم، تتمثل في:

1– الخيار السياسي: فتركيا لا تزال متمسكة بالجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ لحل المشاكل العالقة بينها وبين اليونان، ولعل إعلان أنقرة بسحب سفينة “أوروتش رئيس”، التي تجري عمليات سيزمية في منطقة شرق المتوسط إلى ميناء أنطاليا، بالتزامن مع الاجتماعات التقنية العسكرية بين اليونان وتركيا برعاية حلف شمال الأطلسي “الناتو”، إشارة تركية على رغبتها في إنجاح تلك الاجتماعات. كما تهدف تركيا من خلف ذلك إلى إعطاء فرصة أخرى لجهود الوساطة التي تبذلها المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في تحييد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فمن المتوقع بعد خطوة أردوغان الأخيرة، أن تتحدث ميركل إلى ماكرون، وتطالبه بوقف حملته المناهضة لتركيا في شرق المتوسط[2].

وتدور الرؤية التركية في المسار التفاوضي حول ضرورة أن تكون تلك المفاوضات بدون شروط مسبقة. ومن الشروط المسبقة التي ترفضها تركيا أن يتم ترسيم الحدود البحرية أو تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة من خلال تطبيق معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار. حيث ترى أنقرة أنه من غير المنطقي أن تحصل بعض الجزر اليونانية على مساحة جرف قاري ومنطقة اقتصادية تعادل أضعاف مساحتها، في حين يتم حصر تركيا بمساحتها البالغة أكثر من 800 ألف كيلو متر وشواطئها الطويلة على البحر المتوسط في مساحة اقتصادية بَحرية محدودة، كما تريد اليونان، وكما ينص قانون البحار. وما يقوي موقف تركيا أن هناك العديد من الدول التي رفضت مثلَها التوقيع على المعاهدة الدولية للحدود البحرية، ومن بينها الولايات المتحدة نفسها، وعليه تنادي تركيا بالاستناد إلى التوجهات الأخرى في القانون الدولي التي تحدد حدود المناطق الاقتصادية بناء على المسافة من البر الرئيس وليس الجزر، وهو ما تستند إليه في اتفاقياتها مع ليبيا.

كما تطالب تركيا باللجوء إلى آلية التفاوض المباشر بين دول البحر المتوسط حول ترسيم الحدود البحرية، وهو ما ظهر في دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى عقد اجتماع تحضره دول البحر المتوسط كافة؛ لإيجاد صيغة مقبولة تحمي حقوق الجميع في المنطقة[3]. وفي هذا السياق، تتحدث تقارير إعلامية عن أن جهود الوساطة التي تبذلها ميركل تهدف إلى عقد مؤتمر جديد للطاقة في شرق البحر المتوسط، تشارك فيه تركيا، وهو ما أكدته تصريحات رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي تشارلز ميشيل، بشأن فكرة عقد مؤتمر متعدد الأطراف؛ لمعالجة المشاكل في البحر الأبيض المتوسط. وبالتالي فإنه على النقيض من “منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط “، الذي تم تشكيله في يناير 2020 دون تركيا، فإن الدخول في عملية تشمل تركيا أيضًا يمكن أن يؤدي إلى تكوين توازن جديد في شرق المتوسط[4].

2– التوجه نحو روسيا: فقد أعلنت روسيا عن قيامها بمناورات بالعتاد الحي بالتنسيق مع تركيا بالقرب من سفن التنقيب التركية في شرق المتوسط. وبالرغم من نفي وزارة الدفاع التركية ذلك، إلا أنه المتوقع أن تلجأ تركيا إلى التنسيق مع روسيا في شرق المتوسط كردة فعل على الخطوات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي وأمريكا ضد أنقرة، المتمثلة في التهديدات الأوروبية بفرض عقوبات على أنقرة في نهاية سبتمبر الحالي (2020)، وقيام الولايات المتحدة بإلغاء حظر السلاح عن “قبرص اليونانية”، الذي فرض عام 1987. كما أن هذا التحالف قد يكون ردة فعل، خطوة مقابل خطوة، بدأتها اليونان بإدخال فرنسا في الصراع. وبالنسبة لروسيا فإنها قد تسرع في التحالف مع أنقرة؛ لإبعادها عن حلف شمال الأطلسي (ناتو)؛ أملًا في تفكيكه[5].

3– استمالة دول شرق المتوسط: فبعد أن نجحت تركيا في ضم ليبيا إليها في صراعها في منطقة شرق المتوسط عقب توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية معها في نوفمبر 2019، فإن أنقرة لا تزال تسعى إلى جذب دول أخرى من شرق المتوسط، خاصة مصر وإسرائيل.

حيث تشير تركيا إلى أن عروضها لتقسيم الحدود البحرية مع مصر وإسرائيل أفضل بكثير مما تقدمه لهما اليونان، وهذا أمر منطقي، فبما أن اليونان تريد رسم الحدود على أساس أن تكون للجزر مناطق اقتصادية مهما كان حجمها، فإن أي دولة من شرق المتوسط ترسم الحدود البحرية بالمعيار اليوناني، فإن الأمر سيكون لصالح أثينا؛ بسبب كثرة جزرها. وقد ظهر هذا في الاتفاقية التي أبرمتها تركيا مع ليبيا، التي أعطت مصر مساحة بحرية إضافية.

وفي حالة ما إذا رفضت هذه الدول ترسيم حدودها مع تركيا، وقامت بترسيمها مع اليونان مثلما فعلت مصر، فإن ذلك سيدعم أيضًا الموقف التركي في خلافه مع اليونان، فوفقًا لبعض الخرائط التي نشرتها بعض وسائل الإعلام اليونانية حول الاتفاق المصري – اليوناني، فقد تخلت اليونان عن ترسيم الحدود من جزيرة “ميس” الصغيرة، ورسمتها من جزيرة “رودس”، وهذا يعني أنها ستكون في موقفٍ أضعف أمام تركيا في أي حوار أو ترسيم مستقبلي[6]؛ لأنها بذلك تكون قد تخلت عن تمسكها بمبدأ الاستناد إلى قانون البحار في ترسيم حدودها البحرية (أي الترسيم من جزيرة ميس)، وقبولها بمبدأ التفاوض المباشر لترسيم حدودها البحرية (وهو ما تنادي به تركيا)، على الرغم مما نتج عنه من تنازلات من قبل اليونان لصالح مصر.

4– الخيار العسكري: لا تزال تركيا تقوم بإجراء مناورات عسكرية، ومسوح لاستكشاف الغاز، ومنع الشركات الأجنبية بالتنقيب في المناطق المتنازع عليها.

ففي إشعار بحري (نافتكس)، أشارت البحرية التركية إلى أنها ستجري “تدريبات إطلاق نار” في الفترة من 29 أغسطس إلى 11 سبتمبر في منطقة مقابلة لبلدة أنامور في جنوب تركيا، إلى الشمال من جزيرة قبرص[7].

وقد نشطت سفينة المسح التركية “عروج ريس” في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط ​​منذ بداية العام، تحت حماية فرقة بحرية تركية. كما تقوم سفينة “يافوز” التركية حاليًّا بالحفر قبالة ساحل غرب قبرص، كما تقوم سفينة “برباروس” التركية حاليًّا بإجراء أبحاث في المياه الإقليمية لشمال قبرص، التي تعترف بها تركيا جزءًا من منطقة التنقيب عن النفط التي تملكها شركة النفط التركية الحكومية. وفي عام 2018، منعت البحرية التركية شركة النفط الإيطالية “إيني” من التنقيب في منطقة “كتليفيش” الاستكشافية التي استلمتها الشركة من قبرص.

لكن مع دخول شركة “شيفرون” الأمريكية مؤخرًا إلى شرق البحر المتوسط -ففي 20 يوليو، أعلنت شركة “شيفرون” عن اتفاق للاستحواذ على شركة “نوبل إنرجي” للنفط والغاز ومقرها هيوستن، والتي تشغل كلًّا من حقل “ليفياثان” للغاز قبالة سواحل (إسرائيل) وحقل “أفروديت” للغاز قبالة ساحل قبرص- فمن المتوقع أن تتبنى أنقرة نهجًا يتضمن عدم الاشتباك مع الشركات العاملة في المنطقة، خاصة الأمريكية؛ حيث ستكون الولايات المتحدة أكثر استعدادًا لفرض عقوبات كبيرة على تركيا؛ ردًّا على جر الشركات الأمريكية إلى نزاعاتها البحرية[8].

ثانيًا: التحديات التى تحول دون نجاح التحركات التركية:

فيما يتعلق بالتحديات التي تواجه تلك التحركات التركية، التي تحول دون تحقيق أهدافها في منطقة شرق المتوسط، تتمثل أهمها في:

1– قيام الدول المتشاطئة في حوض شرق المتوسط بتأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط” عام 2019، الذي يضم كلًّا من: مصر، واليونان ، وقبرص، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل، الذي يهدف بصورة أساسية إلى استبعاد تركيا.

2– دخول دول من خارج حوض شرق المتوسط، تعمل على إذكاء الصراع وجر المنطقة للتصعيد العسكري، فهناك اصطفاف وحملة تحريض واضحة ضد تركيا، تقوم بها كل من “فرنسا”، و”الإمارات” بالدرجة الأولى؛ حيث يقود الرئيس الفرنسي حملة منظمة ضد النفوذ التركي، ليس في شرق المتوسط فقط؛ بل في ليبيا وسوريا والعراق، وقد قام بإحباط مساعي المستشارة الألمانية “ميركل” لإطلاق محادثات ثنائية بين تركيا واليونان؛ بل زاد على ذلك أنه عرض حمايته العسكرية لليونان؛ حيث دفع بحاملة الطائرات الفرنسية “تشارل ديغول” بالإضافة لعدد من طائرات الرافال، وسفينتين تابعتين للبحرية الفرنسية إلى شرق المتوسط؛ لزيادة الوجود العسكري الفرنسي، ولدعم اليونان، وهي محاولة لاستعراض القوة لردع تركيا، وقد رافق الحاملة الفرنسية العديد من السفن، والغواصات، والقطع الحربية التابعة للجيش اليوناني.

كما أعلنت اليونان عن وصول (9) طائرات مختلفة الأنواع من دولة الإمارات العربية إلى قاعدة “سودا” اليونانية، منها (4) طائرات مقاتلة (إف 16)، وطائرة نقل (سي 130)، و(3) طائرات نقل نوع (سي 17)؛ للمشاركة بمناورات عسكرية مشتركة مع اليونان، بالإضافة إلى موقف “الولايات المتحدة الأمريكية” الداعمة للموقف “اليوناني” – “القبرصي”، من خلال رفع حظر تصدير السلاح عن الأسلحة الدفاعية لقبرص لمدة سنة[9]، ويمكن القول إن الدور الفرنسي والإماراتي يتحرك مدفوعًا بأمرين اثنين: الأول: استخدام هذا الملف بشقيه (ترسيم الحدود والمشكلة القبرصية) في مواجهة تركيا، في ظل احتدام صراعهما البيني، ورغبة في نقل الصراع للعمق الإستراتيجي التركي، بما يمثّل أداة ضغط على الأخيرة.

الثاني: هو أن تركيا -بما تمثله من ممر رئيس للغاز إلى أوروبا، وفي ظل علاقاتها الوثيقة مع قطر (من أكبر منتجي الغاز الطبيعي)، والأدوار التي يمكن أن تلعبها تركيا في نقل احتياطات الطاقة في شرق المتوسط إلى أوروبا- ستضيف قوة جيوسياسية إضافية للدولتين في مقابل الإضرار بالدور الفرنسي والإماراتي في المنطقة[10].

——————————

[1] “التصعيد العسكري في شرق المتوسط: لترسيم حدود بحرية؟ أم لكبح جماح المارد التركي!”، مركز راسام، 8/9/2020، الرابط: https://bit.ly/3iCm0OC

[2] صحيفة: سحب “أوروتش رئيس” استجابة لميركل وتحييد لماكرون”، عربي 21، 14/9/2020، الرابط: https://bit.ly/33Aplaz

[3] “مصر وتركيا واليونان وإسرائيل .. أهدافها الحقيقية من صراع شرق المتوسط مختلفة عما يُعلن، إليك ما تريده كل دولة”، عربي بوست، 12/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3c6Kih2

[4] “صحيفة: سحب “أوروتش رئيس” استجابة لميركل وتحييد لماكرون”، مرجع سابق.

[5] “التصعيد العسكري في شرق المتوسط: لترسيم حدود بحرية؟ أم لكبح جماح المارد التركي!”، مرجع سابق.

[6] “مصر وتركيا واليونان وإسرائيل .. أهدافها الحقيقية من صراع شرق المتوسط مختلفة عما يُعلن، إليك ما تريده كل دولة”، مرجع سابق.

[7] “مناورات عسكرية تركية جديدة في شرق المتوسط”، فرانس 24، 29/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3hDjqq8

[8] “معضلة شرق المتوسط .. لماذا تتمسك تركيا بموقفها رغم شبح الحرب؟”، الخليج الجديد، 13/9/2020، الرابط: https://bit.ly/33yE3il

[9] “التصعيد العسكري في شرق المتوسط: لترسيم حدود بحرية؟ أم لكبح جماح المارد التركي!”، مرجع سابق.

[10] “لعبة الصراع على الغاز والنفوذ شرق المتوسط”، مدونات الجزيرة، 3/9/2020، الرابط: https://bit.ly/2FDyVBg

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022