الإشكاليات الرئيسة التي تواجه تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا

 

أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، في 23 أكتوبر الجاري، عن توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين وفدي اللجنة العسكرية المشتركة الليبية (5+5) بجنيف، معتبرة ذلك تحولًا مهمًّا نحو تحقيق السلام، والاستقرار في ليبيا[1]. ويأتي هذا الاتفاق عقب انطلاق الجولة الرابعة من محادثات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، في 19 أكتوبر، بمقر الأمم المتحدة في جنيف، التي استمرت حتى الـ 24 أكتوبر.

وتمثلت القضايا محل النقاش -كما أشارت مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا بالإنابة ستيفاني وليامز، في 21 أكتوبر- في وقف دائم لإطلاق النار، واستمرار حالة التهدئة الحالية على جبهات القتال، وتجنب أي تصعيد عسكري، واتخاذ خطوات لإعادة هيكلة حرس المنشآت البترولية؛ لضمان استمرار تدفق النفط، ورحيل كافة المقاتلين والمرتزقة[2].

وعلى الرغم من حالة التفاؤل التي سادت الأطراف الليبية، وبرغم حالة الترحيب الدولي بهذا الاتفاق، إلا أن هناك مجموعة من الإشكاليات التي تحول دون نجاح تنفيذ هذا الاتفاق على أرض الواقع، لعل أهمها يتمثل في:

1- تكريس الاتفاق لفكرة وجود جيشين، مع خلو النص على عملية توحيد المؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من أن ذلك خطوة في طريق توحيد المؤسسة العسكرية؛ حيث يتعامل المتفاوضون مع اللحظة الراهنة من خلال عدم تناول الملفات الصعبة، التي قد تعوق التوصل إلى الاتفاق، بالنظر إلى المعضلة الهيكلية، وبناء إجراءات خطوات عملية على طريقة البناء من أسفل، كخطوات تمهيدية لنزع فتيل الأزمة، مع توفير آلية مستقبلية للحوار، والتفاوض حول القضايا الفنية.

ولكن في واقع الأمر، فإنه لا توجد ضمانات حقيقية لاتجاه عملية التوحيد على الأمد المتوسط، وما تم اعتماده بصورة أكثر وضوحًا في هذا السياق هو تشكيل آلية اتصال وتنسيق مشتركة، من خلال قوة عسكرية محدودة لغرفة عمليات، وإن كان النص ينطوي على غموض نسبي؛ لكن المهمة واضحة لهذه الغرفة، التي ستقوم بمهمة مراقبة وقف إطلاق النار[3]، دون التطرق لمسألة توحيد المؤسسة العسكرية، خاصة في ظل حالة عدم الثقة المتبادلة بين قوات الشرق والغرب؛ جراء دخولهما في حروب عسكرية على مدار السنوات الماضية.

2- على الرغم من أن الاتفاق نص على ضرورة إنهاء وجود المرتزقة الأجانب خلال 3 أشهر،  لكنّ هناك نقاطًا إشكالية واضحة، تتمثل في معضلات إخراج المرتزقة، منها: تركيز حفتر على اعتبار القوات التي وصلت للمناطق الغربية من تركيا بعد توقيع الاتفاق الأمني والعسكري مرتزقة، وهو ما ترفضه قوات الوفاق وتركيا، وتعتبرها قوات شرعية. في حين تركز قوات الوفاق على ضرورة إخراج المرتزقة الأجانب، سواء الأفارقة أو مرتزقة فاغنر، التي تقاتل إلى جانب حفتر، وهو ما يرفضه الأخير، منكرًا وجود مرتزقة من الأساس.

كما أن وجود مقاتلي “فاغنر” -على وجه الخصوص- في مواقع النفط، وفي قواعد عسكرية مهمة تشير إلى أن طموح روسيا يبدو أنه تجاوز الحفاظ على مصالحها الاقتصادية التي كانت تضغط للحفاظ عليها، من خلال ورقة النفط، إلى هدف وجود عسكري رسمي ومستدام، أضف إلى ذلك أن اتفاق وقف إطلاق النار -مهما كان الإجماع الليبي حوله- لن يكون قادرًا على حلحلة أي وجود عسكري أجنبي في ليبيا، ما لم يأخذ في حسبانه الصراعات الدولية. فواشنطن تسعى من خلف رعايتها لاتفاق وقف إطلاق النار؛ للحد من الوجود الروسي في ليبيا[4]. في حين أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على أن “وقف إطلاق النار في ليبيا تم بفضل الجهود الروسية والتركية، وأن البلدين مستمران في العمل على تقريب مواقف أطراف النزاع هناك؛ من أجل تسوية سياسية”.

وتتضمن تصريحات لافروف عدة رسائل واضحة؛ أولها موجه لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، ومن خلفها أمريكا، بأنه لا يمكن الوصول إلى حلول -أو إيجادها في ليبيا- إلا بمعرفة موسكو وأنقرة؛ بل وموافقتهما على هذا الحل وبنوده. وأنه لا يمكن تجاوز روسيا من ترتيبات مستقبل ليبيا، خاصة في ظل الحديث عن أن اتفاق وقف إطلاق النار يستهدف إخراج قوات فاعنر الروسية. فضلًا عن التأكيد على أن روسيا لن تتخلى أبدًا عن كل ما تحصلت عليه من موطئ قدم في ليبيا، وأنها ستكون حريصة على استمراريته، أو على الأقل تعويض مجز مقابل ما قدمته[5].

3- على الرغم من أن الاتفاق نص على خروج أطقم التدريب إلى حين تسلم الحكومة الجديدة الموحدة لأعمالها. إلا أن هناك رفض لهذه النقطة، خاصة من قبل حكومة الوفاق؛ فقد  أشار “صلاح المنقوش” -وزير دفاع الوفاق المفوض- إلى أن هذا الاتفاق لن يلغي الترتيبات المتفق عليها مع أنقرة. كذلك أكد مدير إدارة التوجيه المعنوي اللواء “خالد المحجوب” -تعقبيًا على الاتفاق- بأن هناك اعترافًا واضحًا بالوجود التركي، بناء على الاتفاق المبرم مع الوفاق[6].

وربما كان ذلك (إخراج القوات العسكرية التركية) أحد العوامل المفسرة للموقف التركي، الذى بدا وكأنه استثناء وسط الترحيب الدولي بالاتفاق، حيث بدت أنقرة متشككة في إمكانية تطبيقه. فقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن الاتفاق “ضعيف المصداقية”، وإنه لم يبرم “على أعلى مستوى”، وإن الوقت سيظهر “إلى أي مدى سيصمد”، مؤكدًا أن التطبيق العملي هو الأهم، وليس التوقيع.

ويعود التشكك التركى في تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار لمجموعة من الأسباب، منها:

أولًا: الاتفاق ساوى ضمنًا بين الطرفين، رغم أن أحدهما حكومة نتجت عن اتفاق دولي ومعترف بها دوليًّا، والآخر قوة عسكرية حاولت الانقلاب عليها. كما أنه ثبّت المواقع الحالية لسيطرة الفريقين، ولم يلزم قوات حفتر بالعودة إلى ما قبل عمليتها العسكرية، فضلًا عن أن يخرج حفتر من معادلة الحل، كما طالبت أنقرة سابقًا.

ثانيًا: ترى أنقرة أن هناك علاقة طردية بين مستوى تمثيل الموقعين على الاتفاق وقدرته على الصمود. ولأن التوقيع لم يأت من السراج وحفتر، وإنما من ممثّليْن عسكريَّيْن لهما، رأى أردوغان أن ذلك من المؤشرات غير المبشرة بنجاح الاتفاق ودوامه.

ثالثًا: ليس هناك ما يدفع إلى رفع سقف التوقعات بخصوص نيات حفتر، ومن خلفه داعميه؛ إذ لديه سجل طويل من نقض الاتفاقات، والانقضاض عليها، حين يلمح إمكانية لتسجيل إنجاز عسكري. فضلًا عن أن خطواته نحو الحل السياسي حاليًّا أتت بعد الإنجازات الميدانية لحكومة الوفاق، بعد أن كان ماطل وتهرب من التوقيع على وقف إطلاق النار في محادثات موسكو، ثم مؤتمر برلين بداية العام.

رابعًا: تتضمن تجارب السنوات الماضية عددًا لا بأس به من الدعوات لوقف إطلاق النار، والاتفاق على ذلك، إلا أن مصيرها جميعًا كان الفشل، والعودة للاحتكام للميدان.

خامسًا: تبدو تركيا حذرة من محاولة عدد من الأطراف التأثير على اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي أبرمته مع حكومة الوفاق، من خلال تصويره على أنه “اتفاق أجراه أحد طرفَيْ الخلاف قبل الاتفاق”.

سادسًا: ترى تركيا أن نص الاتفاق على “تجميد العمل بالاتفاقيات العسكرية الخاصة بالتدريب في البلاد”، يستهدفها بالأساس، لا سيما أن أطرافًا كثيرة تستهدف تركيا، وتعنيها حصرًا لدى الحديث عن التدخلات الخارجية، أو نقل السلاح والأفراد، وما إلى ذلك[7].

4- ترك الاتفاق مصير ومستقبل حفتر، النقطة الأهم في الملف العسكري، ويبدو أنه تم ترحيلها إلى الحوار الوطني المزمع عقده في تونس. وهي المسألة التي قد تلقي بظلالها على تنفيذ الاتفاق.  فحفتر -بعد عدوانه على طرابلس- صار خطًّا أحمر لا خلاف حوله ضمن جبهة الوفاق، وحتى مع التنازلات التي قدمتها وفود التفاوض من جانب جبهة الوفاق في المسارات القائمة الآن، فإن حضوره طرفًا أساسيًّا في أي شكل جديد للمنتظم العسكري والأمني، ليس محل نقاش عند أغلب مكونات معسكره[8].

 

[1] “توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في ليبيا، والأمم المتحدة تصفه بـ “البشرى السارة””، العربي الجديد، 23/10/2020، الرابط: https://bit.ly/2HvhILs

[2] “رحيل المرتزقة والنفط والحفاظ على التهدئة .. أهم الاتفاقات التي توصَّل إليها طرفا الصراع في ليبيا”، عربي بوست، 21/10/2020، الرابط: https://bit.ly/3olTLHp

[3] “اليوم التالي: هل يغير اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار المشهد في ليبيا؟”، المركز المصري للفكر والدرسات الإستراتيجية، 28/10/2020، الرابط: https://bit.ly/3jEc1rG

[4] “مرتزقة “فاغنر” عقبة أمام تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا”، العربي الجديد، 25/10/2020، الرابط: https://bit.ly/2HEwL5U

[5] “ماذا تحمل تصريحات لافروف عن قوة تركيا وروسيا بملف ليبيا؟”، عربي 21، 26/10/2020، الرابط: https://bit.ly/3oDX5gX

[6] “اليوم التالي: هل يغير اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار المشهد في ليبيا؟”، مرجع سابق.

[7] “عن تشكك تركيا في وقف إطلاق النار بليبيا”، تي أر تي عربي، 28/10/2020، الرابط: https://bit.ly/3mzbn0G

[8] “اتفاق لجنة 5+5 ومستقبل الأزمة الليبية”، عربي 21، 25/10/2020، الرابط: https://bit.ly/2HFwbnX

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022