دلالات زيارة السيسي فرنسا.. توقيتها وانعكاساتها الإقليمية

 

جاءت زيارة عبد الفتاح السيسي إلى فرنسا “7-9 ديسمبر” في وقت بالغ الحساسية، في ظل هجوم موسع وعنصرية مقيتة تمارسها إدارة الرئيس ايمانويل ماكرون، ضد المسلمين في فرنسا،  وثوابت الدين الاسلامي بصفة عامة، من اهانة الرسول برسوم كاريكاتيرية مسيئة، وحملات اعتقال ودهم للمساجد والمراكز الإسلامية وتضييق على المحجبات، وهو ما استثار غالبية الشعوب العربية والإسلامية، ضد فرنسا، معبرة عن ذلك بحملات مقاطعة للمنتجات الفرنسية، ومقاطعة من قبل السلطات السياسية في الدول، ولكن بشكل غير معلن، وجاءت الزيارة على عكس المتوقع، من قبل النظام المصري، وكأنه يمد يد العون لمن يهين الإسلام والمسلمين، وهو ما مثل طعنة من قبل نظام السيسي لعموم الشعوب الإسلامية.

زيارة مبرمجة سابقا

وتأتي زيارة السيسي إلى فرنسا بعد نحو عامين من لقاء جمع ماكرون والسيسي في العاصمة المصرية القاهرة، حيث اختلفا خلاله حول قضايا تتعلق بحقوق الإنسان وأوضاعها في مصر. وعببرت الزيارة عن حاجة كلا من ماكرون والسيسي لبعضهما البعض،  تلك الزيارة التي كانت مبرمجة منذ فترة طويلة، إلا أن الإعلان عنها فاجأ الجميع، خصوصا نشطاء المنظمات الحقوقية الفرنسية والدولية، بما أن باريس تكتمت عن موعدها حتى قبل أربعة أيام من حدوثها، إذ تدرك أن زيارة من هذا القبيل هي تزكية مجانية لجرائم دكتاتور مصر. وحتى ساعات قليلة قبل نزول الطائرة الرئاسية المصرية في فرنسا، نددت عدة منظمات حقوقية فرنسية بمدّ “السجاد الأحمر” للسيسي في باريس. لكن الرئيس الفرنسي المتعجرف تحدّى، مرة أخرى، الجميع، وأصرّ على استقبال ضيفه، غير المرحّب به شعبيا، على الرغم من كل الاحتجاجات والاعتراضات التي رافقت زيارته، ليس فقط من أجل صفقات السلاح التي حاول ماكرون أن يبرّر بها سكوته عن جرائم ضيفه في مجال حقوق الإنسان، فقيمة الصفقات المبرمة في هذا المجال لم تتعدّ، حسب وسائل إعلام فرنسية، 1.4 مليار يورو خلال السنوات الماضية، وإنما لأسباب أخرى في نفسه!

أهداف الزيارة

وجاءت الزيارة لتحقيق العديد من الأهداف من قبل الطرفين الفرنسي والمصري:

-دعم خيار السلطوية الاستبدادية لماكرون قبيل الانتخابات الفرنسية:

بعد سلسلة من السياسات الاستبدادية من قبل ماكرون، باتت كثير من وسائل الإعلام الفرنسية، تلقبه بـ”الدكتاتور الصغير” و”الدكتاتور الناعم”، وتزيّن رسومه الساخرة، وهو يرتدي بزّة عسكرية، أغلفة مجلات فرنسية معروفة، مثل “لوكوييه أنترناسيونال”، ويتهمه كتاب الافتتاحيات بتحويل الجمهورية الفرنسية في عهده إلى “دكتاتورية قانونية”، كما جاء في افتتاحية صحيفة ليمانيتي، الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي الصادرة يوم وصول السيسي إلى باريس، أو كما جاء في أسبوعية لوبوان التي كتبت قبل يومين مشكّكة “يبدو أن فرنسا تعيش الآن في ظل نظام استبدادي”! وذلك وفق ما يذهب اليه الباحث المغربي علي أنوزلا، بـ:العربي الجديد”، بمقاله ” السيسي يستنجد بـ “دكتاتور” فرنسا الناعم”. ولعل أبرز ما يكمن وراء سر التقارب بين ماكرون والسيسي، هو تمسّكهما بالسلطة، فماكرون يُعدّ لها، بخبثٍ ومكر، انتخابياً، والسيسي يستعد لمواجهة تقلباتها متوجّساً من تقلب الإدارة الأمريكية الداعمة له طوال سنوات خكم ترامب، الذي يودع البيت الأبيض حاليا. فماكرون ومنذ وصوله إلى الحكم، أظهر، القادم إلى السياسة من عالم المال والأعمال، احتقارا كبيرا للطبقات الشعبية الكادحة، وأطلق تصريحاتٍ مستفزّة ضد مواطنيه، وواجه بعجرفةٍ وعنف شديدين احتجاجات أصحاب “السترات الصفراء”، وتعنّت في الاستجابة لمطالب حركة الإضرابات ضد تعديل قانون التقاعد. ويوما عن يوم، تتصاعد الاتهامات ضده برفض الأخذ بعين الاعتبار توجّه الرأي العام الرافض والمشكك في كثير من سياساته التي لا تخدم سوى الطبقات الميسورة داخل المجتمع الفرنسي. وأخيرا، باتت الصحافة العالمية تشير إلى تصاعد القلق داخل المجتمع الفرنسي من التحول الأمني الذي اتخذه ماكرون في بلاده، وتجسّد في مشروع قانون “الأمن الشامل”، المثير للجدل الذي قسم الفرنسيين إلى من يؤمن بقيم الديمقراطية ويجد نفسه في مواجهة عنف الشرطة في الشارع، ومن يعارضها ويجد نفسه مصطفّا في صف ماكرون. وقُبيل الإعلان عن زيارة السيسي باريس، فتح ماكرون على نفسه جبهة معارضة واسعة في العالم الإسلامي، عندما أطلق تصريحاته المستفزّة حول الإسلام، وطرح مشاريع قوانينه العنصرية حول ما يصفها بـ “الانعزالية الإسلامية”، وعرّض بلاده لحملة مقاطعة اقتصادية شعبية عمت أكثر من بلد إسلامي، من جاكارتا إلى طنجة، جعلته يتودّد إلى الرأي العام الإسلامي للتخفيف من وطأتها.

بجانب فشله الذريع في تدبير أزمة وباء كورونا وتداعياتها التي ما زالت تتفاعل سلبا، مؤثرة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرنسيين، هي التي دفعت ماكرون إلى الاستنجاد بالسيسي، في وقت يدرك فيه أن نظام السيسي  يواجه سيلاً من الانتقادات بشأن حالة حقوق الإنسان في مصر، ويعبر واحدةً من أشد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تنسفه مع أول انفجار اجتماعي يهزّ البلد. وقد أراد ماكرون أن يزكّي السيسي  تصريحاته، داخل فرنسا، حول الخطر الإسلامي الذي اتخذ منه حطبا لحمله الانتخابية السابقة لأوانها، وفي الوقت نفسه، يرسل رسائل اطمئنان إلى الخارج، وخصوصا إلى الرأي العام الإسلامي الغاضب، عندما يستقبل رئيس أكبر دولة إسلامية سنية وعربية، يقاسمه آراءه نفسها، حول ما يتفقان على وصفه بـ “الإرهاب الإسلامي”!. وبعيدا عن العناوين الكبرى التي طغت على لقاء ماكرون والسيسي، مثل الأزمة الليبية ومحاربة الإرهاب، ومواجهة التمدّد التركي في شرق المتوسط، وصفقات الأسلحة وحقوق الإنسان، فإن ما يشغل بال الرجلين هو تمسّكهما بالسلطة، ماكرون يُعدّ لها، بخبثٍ ومكر، انتخابيا، والسيسي يستعد لمواجهة تقلباتها متوجّسا من خيبات الأمل المفاجئة القادمة.

-البحث عن حليف قوي بديلا لترامب، تحسبا لتغيرات دراماتيكية في العلاقات الأمريكية مع القاهرة في عهد بايدن، فإن للسيسي هو الآخر، مآربه الخاصة من زيارةٍ فرنسا، التي يراهن عليها للتخفيف من عزلته، وتُكسبه صداقة جديدة في سياق بحثه عن “كفيلٍ” غربي يحميه، ويغطي على انتهاكاته حقوق الإنسان في بلاده، خصوصا بعد أن خبا نجم راعيه المفضل، دونالد ترامب، ووصول جو بايدن إلى الحكم الذي سبق أن غرّد علانية “لا مزيد من الشيكات البيضاء لديكتاتور ترامب المفضل”.

-دلالات الزيارة:

-تراجع مكانة حقوق الإنسان في صناعة السياسات:

وعلى الرغم من المحاولات الرسمية الفرنسية لإبقاء زيارة السيسي تحت الرادار تؤكد الطبيعة المتشابكة لاحتضان غير لائق، بين فرنسا التي تقدم نفسها على أنها نموذج لحقوق الإنسان والحرية، ومصر التي برزت كواحدة من أكثر الأنظمة وحشية وقمعًا على هذا الكوكب، مع سجل حقوق الإنسان المتدهور وسجون المعارضين. ولعل تهميش مبادئ حقوق الإنسان، وتحطم قيمها اقليميا ودوليا،  هو ما مكن السيسي من الوصول إلى فرنسا، رغم دعوات من قبل المنظمات والنشطاء والدوائر الثقافية والمجتمعية الدولية والمصرية، وهو ما ترجمته منظمة “هيومن رايتس ووتش” ببيانها بشأن الزيارة “في ظل حكومة عبد الفتاح السيسي، مصر تعاني من أسوأ أزمة حقوقية منذ عدة عقود، ومع ذلك، أصر ماكرون على أنه لن يمارس أي ضغط على مصر بشأن سجل حافل يشمل الاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون والتعذيب وظروف السجن الفظيعة والمحاكمات الجماعية”. ونقل عنه قوله مع بدء زيارة السيسي: “لن أشترط في مسائل التعاون الدفاعي والاقتصادي هذه الخلافات [حول حقوق الإنسان]”. ويعد رفض ماكرون زيادة الضغوط على السيسي لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، امتداداً للتصريح الذي أدلى به عام 2017 خلال مؤتمر صحفي مماثل مع السيسي، حين قال: “لن أعطي المصريين دروساً في حقوق الإنسان”. واكتفى الرئيس الفرنسي خلال زيارة السيسي هذه المرة بالحديث بإيجابية عن إطلاق سراح النشطاء الثلاثة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، يوم الخميس الذي استبق الزيارة، وأنه أعطى السيسي قائمة تضم أسماء لمعتقلين عدة، على رأسهم الناشط اليساري رامي نبيل شعث، لمتابعة حالتهم بـ”عناية ورفق”، على حدّ تعبيره.

وعلى الرغم من تراجع اهتمام رأس الدولة الفرنسية بملف حقوق الإنسان، إلا أن باريس تبقى العاصمة الوحيدة التي يمكن الرهان عليها باستمرار لممارسة أي ضغوط على السيسي. ففي السنوات الأخيرة خصوصاً، بعد تنامي صفقات الاستثمار والأسلحة الألمانية، تراجع بشدة اهتمام برلين بهذا الملف، رغم التعاطف المعلن من المستشارة أنجيلا ميركل ووزير خارجيتها هايكو ماس مع الحقوقيين والمعارضين المصريين. أما إيطاليا، فلا يمكن الرهان عليها، وهي تفشل في تدبير تنسيق أفضل بشأن القضايا التي تخصها مثل مقتل الطالب جوليو ريجيني في القاهرة، بينما تقتصر فاعلية الدول الأوروبية الأخرى على التلويح بوقف المساعدات الاجتماعية والثقافية والقروض في بعض المجالات. وبحسب التقارير الحقوقية، تحولت مصر إلى سجن ضخم، حيث مازال عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين والحقوقيين والإعلاميين يقبعون في السجون، فيما تزال مصر تسجل أرقاما قياسية في أحكام الإعدام المطبقة. وأفادت منظمة العفو الدولية في تقرير لها، أنه في أكتوبر ونوفمبر فقط، أعدمت السلطات المصرية ما لا يقل عن 57 رجلاً وامرأة، أي ما يقارب من ضعف الأشخاص الـ32 المسجل إعدامهم خلال عام 2019. وبحسب المنظمة الدولية فقد “شمل هذا الاعتداء المروع على الحق في الحياة ما لا يقل عن 15 شخصاً، حُكم عليهم بالإعدام في قضايا تتعلق بالعنف السياسي عقب محاكمات بالغة الجور شابتها اعترافات قسرية، وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك التعذيب والاختفاء القسري”.

-الشعوب تبقى العامل الأساس في المعادلة:

ورغم العصف الأمني  بالحقوق والحريات في مصر وفرنسا، بقيت أصوات الشعوب حاضرة، ومصدر احراج للنظام الفرنسي والأوروبي، فخلال الزيارة، احتشد العشرات أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، وحمل المشاركون صورًا لسجناء سياسيّين
ولافتات كُتب عليها “حالة طوارئ لحقوق الإنسان في مصر” و”لا سجادة حمراء للديكتاتوريين”
وأخرى تُظهر السيسي بالزيّ العسكري كُتب عليها “جزار مصر”. وهتف أفراد من الجالية المصرية “السيسي قاتل، ماكرون شريك”، و”السيسي مجرم، أوروبا شريكة”، بينما طالب المدافعون عن حقوق الإنسان بمزيد من “الحرية والديمقراطية للشعب المصري”. وكانت 20 منظمة حقوقية فرنسية دعت للتظاهر أمام مقر الحمعية الوطنية الفرنسية، احتجاجا على زيارة السيسي. وفي رسالة نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية، قال 15 نائبا ينتمون لكتلة الخضر في البرلمان الأوروبي إن احترام حقوق الإنسان ينبغي أن يكون في صميم العلاقة مع حكومة “السيسي”، وهو مبدأ “لا يمكن التفاوض عليه” مشيرين إلى انتهاكات الحكومة المصرية لحقوق الإنسان ، التي وصفوها بأنها “لا حد لها، ولا يبدو أن هناك ما سيوقفها اليوم”.

-استهانة السيسي بالاعلام واعتماد الاتهامات:

وعلاوة على منع الاعلام الفرنسي من متابعة فعاليات الزيارة أوالاسئلة الصحفية المعتادة في ددولة الحريات، ضيق النظام الفرنسي بايعاز من النظام المصري على التغطيات الصحفية…وعلاوة عل ذلك- جاءت ردود السيسي على اسئلة الصحفيين، ضحلة وبلا منطقية وتثير الاستهزاء والسخية، لعدم اتفاق الاجابات على قواعد العقل والمنطق. ولجأ السيسي لتبرير انتهاكاته لحقوق الإنسان في مصر، والتي كان منها في وقت سابق، لماذا لا تسألون عن الصحة والتعليم والإسكان؟ وهي حقوق من حقوق الإنسان، وأيضا في 2019، حيث أكد أن مصر تقع في منطقة مضطربة،  تحتاج لتغليب الجوانب الأمنية على غيرها، ثم ردد خلال مؤتمر صحفي يوم 8 ديسمبر، في باريس، بقوله إنه “مطالب بحماية 100 مليون مواطن، من جماعة “الإخوان” المحظورة في البلاد”، زاعما أنه يحمي الفرنسيين أيضا من أفكار الإخوان، مضيفا “اهتمامكم ، في هذا الأمر، أمر يعني وكأننا لا نحترم الناس وعنيفين شرسين مستبدين والحقيقة هذا أمر لا يليق، مش لا يليق أنكوا تتكلموا فيه، لا يليق أن تقدمونا به، لا يليق أن تقدموا الدولة المصرية بكل ما تفعله من أجل شعبها وأجل استقرار المنطقة على أنها نظام مستبد، هذا الأمر ولى من سنين طويلة فاتت” وعلى عطس الواقع، الذي يعايشه المصريون، بمرور أكثر من 120 ألف مصري بتجارب اعتقالات سياسية منذ الانقلاب العسكري في 2013، ومكوث نحو 60 ألف معتقل في المعتقلات حاليا، قال  السيسي “لأن الدولة المصرية والشعب المصري إللي فيه أكثر من 65 مليون شاب حد يقدر يكبله أو يفرض عليه نظام لا يقبله هذا أمر انتهى مش موجود” وتابع: “أنا مش عايز أقول كلام يؤخذ على أنه كلام حماسي فقط ولكن أنا مطالب بحماية دولة من تنظيم متطرف (الإخوان) بقاله أكثر من 90 سنة موجود في مصر واستطاع خلال هذه المدة أن يعمل مش قواعد بقا في مصر بل قواعد في العالم كله”.

وحاول “السيسي” استمالة الفرنسيين بتذكيرهم بما يواجهونه من تطرف، قائلا: “إذا كنتم تتكلموا على أنكم تعانون هنا في فرنسا أحيانا من التطرف، فهذا جزء من الأفكار التي تم نقلها لبعض التابعين لهم هنا في فرنسا وفي أوروبا يمكن، أنا مطالب أن أحمي الـ100 مليون” وتابع: “كنت أتمنى من اللي بيسأل السؤال، يقول لي أخبار ليبيا إيه؟ وأخبار العراق إيه؟ وأخبار سوريا إيه؟ وأخبار اليمن إيه؟ وأخبار لبنان إيه؟ وأخبار أفغانستان إيه؟ وأخبار باكستان إيه؟ إحنا معندناش أي حاجة نخاف منها أو نحرج منها نحن أمه تجاهد من أجل بناء مستقبل شعبها في ظروف في منتهى القسوة في منطقة شديدة الاضطراب” وهو منطق بعيد عن اللياقة الدبلوماسية ، يصجر من رئيس دولة، ناهيك عما يحمله من مغالطات، تكشفها أوضاع المصريين ومعاناتهم مع القمع والقتل خارج اطار القانون، وزيادة نسب الفقر في اوساطهم، قدرهم البنك الدولي في تقريره عن العام 2019 بـ60% من المصريين.

-تكريم السيسي في جنح الظلام عار على فرنسا والسيسي:

ولعل ما يؤكد الحرج الذي سببته زيارة السيسي لفرنسا، على مستوى الدولة الفرنسية، كرم ماكرون، عبد الفتاح السيسي، بوسام الشرف وهو أعلى وسام في البلاد، والذي أسسه نابليون بونابرت منذ 218 عاما،بشكل سري وبدون وجود الإعلام على غير المعتاد في هذه التكريمات. وحسب قناة الحرة الأميركية، الجمعة الماضية، لم يكن هناك إعلان عن منح التكريم من قبل حكومة باريس، ولم تتم دعوة أي مراسلين فرنسيين لتغطية الحفل، وكذلك الأحداث الأخرى خلال الزيارة، بسبب الاتهامات للحكومة المصرية بانتهاك حقوق الإنسان. وهو ما عبر عنه زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس، في حديثه لـ”الحرة”، بأن  المسؤولين الفرنسيين محرجون، وهذا هو السبب في عدم وجود كاميرات “لقد أرادوا القيام بذلك دون الترويج للحدث نفسه أو الزيارة”. وأضاف أن فرنسا قد تحتاج إلى مصر أكثر من العكس، ومع تراجع نفوذ باريس الدبلوماسي العالمي وقوتها العسكرية وتأثيرها الاقتصادي، فإنها بحاجة إلى حلفاء مثل مصر لإظهار القوة والنفوذ، كما تساعد مصر فرنسا في الحفاظ على نفوذها في ليبيا وشرق البحر المتوسط وحتى السودان.

نتائج الزيارة

-صفقات اسلحة:

وفي مقابل تهميش الملف الحقوقي، تركزت الجهود الدبلوماسية، في المباحثات سواء في الإليزيه أو الخارجية، وبالطبع في وزارة الجيوش الفرنسية، حول تطوير التعاون العسكري بين البلدين، على ثلاثة أصعدة: الصادرات العسكرية، وخلق شراكات ممتدة ومؤقتة بين الشركات الفرنسية والجيش المصري لإقامة مصانع وورش حربية في مصر، وتنويع وزيادة المناورات التدريبية بين البلدين. ففي ما يتعلق بصفقات الأسلحة، شهدت المباحثات التأكيد على رغبة فرنسا في الاستمرار كالمورد الأول للأسلحة المصرية خلال السنوات الخمس المقبلة، كما كانت في الأعوام من 2015 إلى 2019، مع إبداء القلق من توجيه مصر نسبة كبيرة من إنفاقها العسكري في العامين الأخيرين إلى إيطاليا وألمانيا لجلب أسلحة لها مماثلات فرنسية، خاصة القطع البحرية والعربات البرمائية. كما جرى توقيع اتفاقيات مبدئية مع ثلاث شركات فرنسية كبرى للتعاون في إنشاء مصانع مستدامة لإنشاء القطع البحرية الصغيرة والكورفيت الشبحي (فرقاطات صغيرة صعبة الترصد الراداري) والعربات المدرعة، بحيث يتم الاتفاق على تفاصيلها خلال زيارات لاحقة من مسؤولي تلك الشركات للقاهرة. وجاء ذلك على ضوء التجربة الناجحة التي نفذتها مصر مع شركة “نافال غروب” الفرنسية لإنتاج ثلاث قطع من الكورفيت الشبحي “غوويند 2500” خلال السنوات الثلاث الماضية بعد استيراد قطعة أولى، حيث ما زالت هناك قطعتان لم تدخلا الخدمة في القوات البحرية المصرية حتى الآن.

ومن أهداف هذا التعاون الذي يعتبره المصنعون العسكريون في باريس استراتيجياً، فتح آفاق لتوريد القطع التي تصنع في مصر بصورة أسرع وتكلفة أرخص إلى الأسواق المعتادة لتلك الأنواع في الخليج العربي وشرق آسيا، وفتح أسواق جديدة في أفريقيا. كما أن من الأهداف، استغلال رغبة السيسي المتصاعدة في تضخيم أسطول أسلحة الجيش المصري بالساحلين الشمالي والغربي، لتسويق صورته كنظام قادر على حماية حقول وخطوط الغاز والتجارة بالمنطقة. وبحسب وثائق حكومية، فإن مصر استوردت حوالي 40%  من أسلحتها في السنوات الخمس الأخيرة من فرنسا، تليها الولايات المتحدة وروسيا. ومن المقرر بعد الصفقة التاريخية بقيمة 10 مليارات يورو الموقعة مع روما، أن تدخل إيطاليا في المركز الثالث على اللائحة بدلاً من روسيا، الأمر الذي يشكل مصدر قلق للفرنسيين الذين يرغبون في الاحتفاظ بالريادة في هذا المجال. وفي ملف الاسلحة، تبرز انتهازية ماكرون، حيث يدرك النظام الفرنسي أن العديد من الأسلحة الفرنسية مختلفة الأصناف يجري تسريبها إلى قوات خليفة حفتر في ليبيا ، لتغذية الاحتراب الأهلي، فلا تُستخدم في معارك نظامية ضد حكومة الوفاق فقط، بل ضد الإنسان الليبي المواطن المدني في غالبية المناطق الخاضعة لسلطة حفتر. وليس بعيداً في الزمان انكشاف أمر الأسلحة الفرنسية المباعة إلى السعودية واضطرار وزيرة الدفاع فلورانس بارليه إلى الإقرار بأنها تُستخدم ضد أبناء الشعب اليمني في نهاية المطاف ورغم ذلك يجري التسليح على قدم وسساق لنظم الاستبداد العربية…

– اتفاقات اقتصادية:

وخلف ملف التعاون العسكري، فتح ماكرون مع السيسي بشكل مكثف ملف الاستثمارات الفرنسية في مصر والشراكات المرغوب عقدها مع الهيئات الحكومية المصرية على الصعيد الخدمي والإداري والمرفقي. وفي هذا الإطار، كشفت “الاندبندنت”  أنه سيتم الاتفاق قريباً على حصول فرنسا على “كوتا” من التعاقدات الحكومية المخصصة للمستثمرين الأجانب، خصوصاً في مجالات الصحة والتعليم والرقمنة، كما تم الاتفاق على تبادل الزيارات الحكومية لوضع أسس لهذا التعاون خلال الشهرين المقبلين. وكانت فرنسا قد سجّلت ملاحظات بشأن تفضيل مصر لمستثمرين من دول أخرى للتعاقد معهم في أعمال حكومية مختلفة وضخمة، لأسباب سياسية في إطار رغبة السيسي في تنويع أطراف التعاقدات الأجنبية لإرضاء أكبر عدد من العواصم، وكذلك في أعقاب الخلاف حول حقوق الإنسان بين السيسي وماكرون منذ عامين.

-بناء تصورات مشتركة حول القضايا الاقليمية بالشرق الأوسط والمتوسط:

واحتلت قضايا الصراعات في منطقة الشرق الأوسط حيزا كبيرا، لكنه غير معلن ، خلال الزيارة، التي استمرت ثلاثة أيام. وبحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس “خطار أبودياب”، ، وفق حواره مع “DW عربية  “،  كانت الملفات الإقليمية، خاصةً تطورات الأوضاع في كل من شرق المتوسط وليبيا وسوريا هي التي أخذت حصة الأسد في النقاشات بين الطرفين. وهو ما عبر عنه في تصريحاته خلال المؤتمر الصحفي مع السيسي، بقوله، أن مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر في المستقبل لن تكون مشروطة بتحسين حقوق الإنسان هناك، وعزا ذلك إلى أنه لا يرغب في إضعاف قدرة القاهرة على مكافحة الإرهاب في المنطقة، موضحاً أن اتباع سياسة الحوار سيكون أكثر فعالية من سياسة المقاطعة. ويشهد ملف العلاقات الثنائية حول ملف الصراعات الاقليمية، تقاربا في وجهات النظر بين الدولتين في أكثر من ملف: مكافحة الإرهاب، السياسيات التركية في شرق المتوسط، والوضع في سوريا. كما أن مصر بوابة لأفريقيا، التي تحظى باهتمام خاص لدى فرنسا، وفق ما يؤكده الباحث بمركز الأهرام للدراسات الاسراتيجية بشير عبد الفتاح، في حوار مع “الشرق الأوسط” السعودية.

وتسعى كلا من إدارة  السيسي وماكرون على صياغة تحالفات سياسية واقتصادية،  في منطقة شرق المتوسط، حيث تدعم فرنسا ومصر اليونان وقبرص اليونانية، ضد المصالح التركية في شرق المتوسط، ومؤخرا زار السيسي كلا من قبرص واليونان واحتتم  بزيارته الاخيرة لفرنسا، مستكملا مشاورات ، نحو خلق تحالف عسكري وسياسي واقتصادي مضاد لتركيا في المنطقة. وتتشابك العلاقات بين مصر وفرنسا واليونان من جهة مع تركيا، حول خطوط الغاز والثروات النفطية في شرق المتوسط، وتدعم مصر وفرنسا اليونان في صراعها الحدودي مع تركيا…وقد عملت تركيا على مكافحة عزلها في المتوسط عبر اتفاق ترسيم الحدود والتعاون الاقتصادي مع حكومة ليبيا ، وهو ما تعارضه مصر وفرنسا واليونان، وسط تهديدات عسكرية جوبهت بحشود عسكرية تركية وتهديدات بالدفاع عن حقوق تركيا التي يريد اليونانيون والفرنسيون والسيسي هضمها. ومن ثم سيتصاعد التنسيق المصري الفرنسي اليوناني لمواجهة تركيا، في المتوسط،، وايضا في ليبيا. ومؤخرا، تصاعدت حدة التوتر بين تركيا وفرنسا في الأشهر القليلة الماضية على خلفية قضايا مختلفة من بينها عمليات التنقيب التركية عن الغاز في البحر المتوسط والدور التركي في الشمال السوري إضافة إلى التدخل التركي العسكري في ليبيا.

واتخذت فرنسا مواقف رافضة بقوة لسياسات تركيا وخطواتها في اطار تلك القضايا وهو ما جعل قائمة الخلافات تتسع بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب أردوغان وكان أخطر هذه الخلافات ما يتعلق بالنزاع التركي اليوناني حول التنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة المتنازع عليها بين البلدين. وأدى اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز في السنوات الأخيرة في شرق المتوسط إلى إحياء نزاع إقليمي طويل الأمد بين تركيا واليونان المختلفتان حول ترسيم حدودهما البحرية المشتركة. وتفجر النزاع بين البلدين العضوين في حلف الناتو عندما وقعت تركيا في نوفمبر 2019 اتفاقا مع حكومة السراج في ليبيا يؤسس لمنطقة اقتصادية تمتد من الساحل الجنوبي لتركيا حتى شمال شرق ليبيا، واعترضت اليونان ومعها مصر وفرنسا على هذا الاتفاق ووصفته بإنه غير قانوني فيما قالت اليونان أنه منافياً للمنطق إذ لم يأخذ في الاعتبار وقوع جزيرة كريت اليونانية في المنطقة. ثم هناك الاتفاق المصري اليوناني بترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط الذي أثار غضبا  في أنقرة التي كانت تأمل أن تكون الأولى في التوصل إلى اتفاق مع القاهرة بشأن الحدود البحرية بين البلدين، وقد رفض الرئيس التركي هذا الاتفاق واعتبره “باطلا ولا قيمة له ولا يحق لليونان توقيع هذا الاتفاق” وفي نهاية مايو الماضي قالت تركيا إنها تعتزم البدء في التنقيب خلال الأشهر التالية في مناطق عدة أخرى في المتوسط ، مما أثار انزعاج اليونان وقبرص العضوتين في الاتحاد الأوروبي وكان قد تم منح عدة تراخيص لشركة تيركيش بيتروليوم التركية للنفط للتنقيب في شرق المتوسط، بما في ذلك قبالة سواحل جزيرتي رودوس وكريت اليونانيتين. وتدهور الوضع عندما قامت تركيا في 10 أغسطس الماضي بنشر سفينة استكشاف ترافقها سفينتان عسكريتان في المنطقة المتنازع عليها في جنوب شرق بحر إيجه، حيث تتواجد البحرية اليونانية من أجل “مراقبة” الأنشطة التركية، وفق ما قالت أثينا التي تقول أن المنطقة التي نشرت فيها السفينة التركية تابعة لها وتعهدت بالدفاع عن سيادتها هو بالضبط ما كان وراء التصعيد الحالي. وفق تقدير استراتسجس لوكالة “سبأ” اليمنية. وقد أجرى الجانبان مناورات عسكرية بالقرب من المنطقة المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط.

خاتمة:

تأتي الزيارة التي قام بها السيسي لفرنسا، لتمثل تحديا لمشاعر المسلمين في معظم دول العالم، الزيارة التي كان يحتاج اليها كل من السيسي الذي يتعرض لمخاطر جمة مع الإدارة الامريكية الجديدة، باحثا عن داعم دولي بديلا عن ترامب، وايضا ماكرون الذي يحتاج لمن يصادق على انتقاداته للاسلام والمسلمين، ويمنح اجراءاته العنصرية ضد المسلمين تصديقا من ممثل أكبر دولة مسلمة سنية، ونتج عن الزيارة المزيد من التعاقدات على صفقات تسليح ومشروعات اقتصادية تمنح فرنسا ميزات نسبية في مصر، وتبقى الزيارة خير معبر على اهدار فرنسا لقيم حقوق الإنسان التي باتت تحت مقصلة المصالح الاقتصادية.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022