لماذا تخشى الأوساط الإسرائيلية من انفجار موجة جديدة من الربيع العربي؟

 

 

لا تزال الأوساط الإسرائيلية مرعوبة رغم مرور عقد على اندلاع ثورات الربيع العربي، الذي يجري سحقه عبر الثورات المضادة التي قادتها جيوش المنطقة ونظم الخليج الثرية مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. وخلال الأسابيع الماضية نظمت العديد من مراكز التفكير الصهيونية، مثل “بيجن ــ السادات”، و”الأمن القومي”، وغيرهما مؤتمرات وندوات عن مستقبل “الربيع العربي”، مؤكدة أن موجات الربيع العربي القادمة “حتمية وستكون أكبر قوة مما حدث نهاية 2010، وأن مصلحة إسرائيل كانت وما زالت مع بقاء الأنظمة الحالية”. إسرائيل ترى، عبر مراكز الأبحاث والتفكير الصهيونية، في الطغاة العرب كنزا إستراتيجيا لها، وأن التخلص منهم وتحول الدول العربية إلى الديمقراطية هو أكبر تهديد وجودي يمكن أن تتعرض له، لأن الشعوب ستعاديها وتقاطعها ولن تُطبع معها.

 

موجة ثورية ثالثة حتمية

في ذات السياق وبالتزامن مع الذكرى العاشرة للربيع العربي وخصوصا ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011م والتي أطاحت بحكم الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك الذي كان يمثل كنزا إستراتيجيا لإسرائيل، تذهب تقديرات «شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” إلى  أن حالة انعدام الاستقرار وعجز أنظمة الحكم العربية ــ تحديدا في الدول التي شهدت ثورات ولا سيما مصر ــ عن توفير الخدمات الأساسية للجمهور وفي ظل ثورة المعلومات، سوف تؤدي  إلى اندلاع موجات جديدة من الثورات العربية. ولا تتردد الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في التحذير من تداعيات اندلاع موجات جديدة من الربيع العربي على مستقبل “إسرائيل” وأمنها القومي. ولا تتردد “أمان” أيضا في الجزم بأن مصلحة (إسرائيل) تتطلب الحفاظ على نظم الحكم القائمة في العالم العربي “حتى لو كانت نظماً ديكتاتورية”. وفي سبيل ذلك؛ لم يكن مفاجئاً أن تسارع (إسرائيل) إلى الطلب من إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن عدم ممارسة ضغوط على نظم الحكم القائمة في المنطقة بشأن ملف حقوق الإنسان، على اعتبار أن  بقاء هذه النظم العربية الديكتاتورية يحقق”الاستقرار” الذي يخدم المصالح الإسرائيلية والأميركية.[[1]]

ووفقا للمعلق العسكري “أمير بوحبوط”، “هناك شبه إجماع في الأوساط الاستخبارية الإسرائيلية على أن الربيع العربي تراجع لكنه ما زال قائما، وأن الثورات من شأنها أن تندلع بشكل مفاجئ وبقوة وزخم أكبر بكثير مما كانت عليه الأمور في نهاية 2010، بسبب شيوع حالة انعدام الرضا في أوساط الجماهير العربية إزاء أداء أنظمة الحكم”. وينقل “بوحبوط” عن بعض مسؤولي المؤسسة الاستخبارية الإسرائيلية ــ وفق موقع “والاه” العبري، قولها: “إن أهم عاملين يدفعان نحو انفجار ثورات الربيع العربي مستقبلا، يتمثلان في الزيادة السكانية الكبيرة مقابل عجز نُظم الحكم عن توفير الخدمات والوفاء بمتطلبات الجماهير العربية، متوقعة تكرار تجربة “ميدان التحرير” في القاهرة؛ فالجماهير العربية ــ بحسب أحد قيادات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ــ لم تعد تقبل المعادلة القائلة إن العيش “في ظل الديكتاتوريات أفضل من الفوضى”، وأن انتشار وباء كورونا أسهم في توفير الظروف التي قد تسمح في المستقبل في تفجر الثورات على اعتبار أنه دلّ على “الفروق التي تسود في العالم العربي بين الجماهير والقيادة”.[[2]]

ويرى “مايكل ميلستين”، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز “موشيه دايان للأبحاث الشرق الأوسطية والإفريقية”، في دراسة نشرت 27 أكتوبر/تشرين الأول 2020، بمناسبة مرور عقد على ثورات الربيع العربي، “أن موجة ثالثة من الربيع العربي قادمة لا محالة في دول الربيع الأول مثل مصر، ودول جديدة مثل الأردن وفلسطين ولبنان”. ويؤكد أنه “رغم انشغال العالم العربي بفيروس كورونا خلال العام الماضي، لا تزال هذه الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الأعمق تصيب جيل الشباب في جميع أنحاء المنطقة، ومن الممكن أن تتجسد في موجة ثالثة من الربيع العربي”. ويتوقع أن تنفجر هذه الموجة الجديدة في عدة مواقع مختلفة، وربما تتجدد في دول سبق أن شهدتها، وفي طليعة هذه الفئة مصر التي يُعتبر وضعها الاقتصادي الحساس على شفير الانهيار دائما. وحول تأثير هذا على إسرائيل، يعتبر الباحث الإسرائيلي أن “هذا التقلب في غالبية العالم العربي، وخصوصا في الدول المجاورة، يثير قلق إسرائيل، لكنها لا تملك إلا القليل من الأدوات الفعالة التي تستطيع من خلالها ممارسة أي تأثير كبير في تلك الساحات”.[[3]]

وعن تحديات الأمن القومي الإسرائيلي، نقل كتاب “العقل الإستراتيجي الإسرائيلي: قراءة في الثورات العربية واستشراف لمآلاتها” عن الخبراء الإسرائيليين قولهم: إن “المنطقة لم تشهد حدثا يحمل طاقة كامنة للتأثير على الأمن القومي لإسرائيل كما فعلت الثورات العربية”. ويخلص الكتاب إلى أن “أهم المخاطر كانت الخوف من تراجع مصر والأردن عن مواصلة الالتزام باتفاقيتي “كامب ديفيد ووادي عربة”، وأن أي حملة إسرائيلية على غزة أو لبنان قد تواجه بردة فعل عربية قوية وغير معهودة”، وهو ما تم التغلب عليه بانقلاب السيسي في مصر. وبحسب الكتاب فإن خبراء الأبحاث الإسرائيلية يرون أن جانبا من حماية أمنها القومي يتمثل في “توثيق التحالفات مع الأقليات في البلدان العربية، وتخويفها من تعاظم المد الإسلامي”.

 

أبعاد القراءت العبرية

ومن خلال رصد ما نشرته  مراكز البحث ووسائل الإعلام الإسرائيلية حول الربيع العربي فقد ركزت القراءات والتحليلات العبرية على القضايا الآتية:

أولا، ضرورة فرض وصاية على الرأي العام العربي ودعم نظم الحكم العسكرية والملكية التي تقهر الشعوب العربية وتحرمها من حق المشاركة في صناعة القرار، والحيلولة دون إقامة أي نظام ديمقراطي حقيقي خصوصا في البلاد العربية ذات التأثير الكبير؛ وقد رأى الكثير من النخب الإسرائيلية أن الربيع العربي سمح بالتعبير عن طابع المشاعر الحقيقية للجماهير العربية تجاه إسرائيل، وفي الوقت ذاته مهد الطريق أمام الجماهير العربية لإجبار النخب الحاكمة في العالم العربي على أخذ رأيها في الاعتبار عند بلورة سياساتها تجاه إسرائيل.ففي مقال نشره في صحيفة “معاريف” يجزم الجنرال عاموس جلبوع أن الربيع العربي أعاد إسرائيل للمربع الأول من حيث رفض شرعيتها لدى الجمهور العربي، لأنه منح الفرصة للجماعات التي تتخذ مواقف عدائية من الحركة الصهيونية للتعبير عن ذاتها وإبراز مدى التفاف الجماهير حول مواقفها. وقد انعكس الاهتمام بالرأي العام في العالم العربي على آليات عمل المنظومات الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية. وتنقل “هآرتس” عن محافل في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قولها إن تفجر ثورات الربيع العربي أسهم في زيادة اهتمام النخب الإسرائيلية الأمنية بالرأي العام العربي، حيث رأت أن تفجر هذه الثورات كان نتاج تعاظم مكانة وتأثير الجماهير العربية على دائرة صنع القرار في العالم العربي. وقد وصل المعلقون الإسرائيليون إلى استنتاج مفاده أنه يتوجب على تل أبيب ألا تستبعد استئناف حالة القطيعة مع العالم العربي، حيث إن الثورات العربية ستقلص فرص التقارب مع تل أبيب، ويجزم سفير إسرائيل الأسبق في الأردن عوديد عيران بأن الربيع العربي قضى على فرص تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي. وقد مثلت الروح التي جلبها الربيع العربي في كل ما يتعلق بتعاظم دور الرأي العام في العالم العربي معضلة أمنية لإسرائيل، حيث إنه بعد أن كانت محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب تتابع ما يجري في العالم العربي من خلال رصد سلوك الأنظمة وجس نبضها، فإن دخول الرأي العام كلاعب رئيس عقّد هذه المهمة. وتنقل “هآرتس” عن مصادر في الاستخبارات الإسرائيلية قولها إن تعاظم تأثير الرأي العام على صنع القرار في العالم العربي بعد الثورات قلص قدرة الاستخبارات على متابعة ما يجري في العالم العربي.

ثانيا، في أعقاب الموجة الأولى للربيع العربي التي أطاحت بمبارك وبن علي والقذافي، دعت مراكز البحث ووسائل الإعلام الإسرائيلية إلى إعادة النظر في الصورة النمطية للإنسان العربي، وإعادة تقييم الانطباعات المسبقة عنه والأحكام الجاهزة التي تراكمت بشأنه، والتي رأت أنه “مستكين، جبان، يقبل الدونية”. وبالفعل فقد زادت ثورات الربيع العربي من احترام النخب الإسرائيلية للشباب العربي بسبب ثورته ضد أنظمة القمع. فحتى شخص مثل يوفال ديسكين الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية “الشاباك”، والمعروف بمواقفه العنصرية تجاه العرب، قد أبدى إعجابه بميل الشباب العربي للتضحية بالروح من أجل مبادئه.

ثالثا، أهمية التطبيع وضرورة حماية العلاقات مع النظم العربية؛ حيث اهتمت مراكز البحث العبرية باستشراف سيناريوهات المستقبل في أعقاب انفجار الربيع العربي، وأوصت بضرورة مواجهة الربيع العربي لما له من تداعيات كارثية على مستقبل (إسرائيل)، وكان أحد أهم مخاوف الأوساط الإسرائيلية هو انعكاسات الربيع العربي على مستقبل اتفاقية “كامب ديفيد” والأمن القومي الإسرائيلي بشكل عام. وحذرت مراكز البحث ووسائل الإعلام الإسرائيلية من أن تؤدي ثورات الربيع العربي إلى إيجاد بيئة داخلية مصرية تحول دون تواصل احترام اتفاقية “كامب ديفيد”، التي تعتبر أهم ركائز الأمن القومي الإسرائيلي، واهتمت الصحف الإسرائيلية بنقل تقييمات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إيهود براك، الذي أكد أن الثورة المصرية تمثل “خطرا حقيقيا على مصير معاهدة “كامب ديفيد”، متوقعا ــ حينها ــ أن تتنافس الأحزاب المصرية بعد الثورة في ما بينها على إظهار عدائها لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، حيث حذر من أن مثل هذا السيناريو يعني زيادة النفقات الأمنية بشكل جذري، وهذا ما يدفع تل أبيب للتحسب للأسوأ. واهتمت برصد تبعات الثورة المصرية الإستراتيجية والاقتصادية على إسرائيل؛ حيث عبرت الصحف الإسرائيلية عن خشيتها من أن تؤدي الثورة المصرية إلى انهيار مظاهر الشراكة الإستراتيجية التي أرساها نظام مبارك مع إسرائيل، وهذا ما أشار إليه معلق الشؤون الاستخبارية في صحيفة “هآرتس” يوسي ميلمان، الذي توسع في الحديث عن دور مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق عمر سليمان في دفع هذه الشراكة قدما. وقد أولى المعلقون الإسرائيليون الاهتمام بتداعيات صعود الإسلاميين وضرورة التحوط للأسوأ، وعدم استبعاد نشوب مواجهة عسكرية مع مصر. ودعا الكثير من الساسة والمعلقين الإسرائيليين إلى إعادة الاعتبار إلى قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي المسؤولة عن جبهة الحدود مع مصر، على اعتبار أن فوز مرشح الإخوان المسلمين يحمل في طياته إمكانية تفجر الجبهة الجنوبية. واعتبر وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أن الخطر الذي تمثله مصر بعد فوز مرسي أكبر بكثير من الخطر الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني، وإن الأمر بات يتطلب توجيه الموازنات لمواجهتها.

رابعا، الكلفة الاقتصادية العالية على (إسرائيل) جراء الربيع العربي؛ حيث تناولت الصحف الإسرائيلية في أعقاب ثورة يناير وصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم الكلفة المالية للجهد الحربي الإسرائيلي في عهد مرسي، حيث كشفت صحيفة “معاريف” النقاب عن أن هيئة أركان الجيش قد طالبت بإضافة 15 مليار شيكل (أربعة مليارات دولار) لموازنة الأمن من أجل إعادة تأهيل قيادة الجبهة الجنوبية في الجيش لتصبح قادرة على مواجهة التحولات بعد الانتخابات الرئاسية في مصر. كما جرى زيادة عدد الضباط في شعبة الاستخبارات العسكرية، حيث ارتفع عددهم بنسبة 25% لمواجهة التحديات الناجمة عن هذا التحول. وقد اهتمت صحيفة “ذي ماركير” الاقتصادية بإيضاح العوائد الاقتصادية الهائلة التي حصلت عليها إسرائيل في أعقاب اتفاقية “كامب دفيد”، وإبراز حجم “الكارثة” التي ستحل بتل أبيب في حال تم إلغاؤها. وأشارت الصحيفة إلى أن موازنة الأمن الإسرائيلية كانت قبل التوقيع على “كامب ديفيد” تشكل 47% من الموازنة العامة للدولة، في حين أنها أصبحت بعد التوقيع على الاتفاقية تشكل 16% من الموازنة، وهذا يعني أن الاتفاقية أتاحت لصناع القرار في إسرائيل توجيه موارد الدولة لمجالات أخرى بما يمنح إسرائيل القدرة على توسيع مجال الخدمات للجمهور الإسرائيلي من جهة، وفتح المجال أمام مرافق الإنتاج لتكثيف التصدير، مما يعزز النمو الاقتصادي من جهة أخرى.[[4]]

خامسا، المزيد من الاعتماد على الولايات المتحدة ، حيث كان من الواضح أن الأزمة الاقتصادية -في نظر الكثير من المعلقين- ستؤدي إلى تقليص هامش المناورة أمام القيادة الإسرائيلية، ولن يكون بإمكان دوائر صنع القرار في تل أبيب أن تتخذ قرارات بشكل مستقل عن الإدارة الأميركية، لحاجتها الكبيرة لدعم واشنطن. وحسب وزير الدفاع السابق إيهود براك، فإن تأمين النفقات الأمنية الناجمة عن تفجر الثورة المصرية يستدعي أن تقدم الولايات المتحدة لإسرائيل عشرين مليار دولار إضافية لموازنة الأمن. ويرى الباحث في الشؤون الإستراتيجية عومر جندلر أن طلب مساعدات أميركية يعني زيادة ارتباط إسرائيل بالولايات المتحدة بشكل يقلص من هامش المناورة السياسية لدى النخب الحاكمة في تل أبيب، مع العلم أن إسرائيل سعت قبل ثورات الربيع العربي إلى تقليص اعتمادها المادي على الولايات المتحدة.

سادسا، تناولت مراكز البحث العبرية أحد أهم مخاطر الثورة المصرية، وهو علاقة مصر الثورة بالمقاومة الفلسطينية، ورأت أن هامش المناورة المتاح أمام إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية سوف يتقلص بشكل كبير في حال صعد للحكم نظام يناصر المقاومة. وهو ما جرى فعلا بفوز الرئيس محمد مرسي بالرئاسة،  ويرى المعلق السياسي في صحيفة “معاريف” بن كاسبيت أن أكثر ما عكس “خطورة” حكم مرسي على الأمن القومي الإسرائيلي هو إسهامه في تحصين المقاومة الفلسطينية والدفاع عنها، كما حدث خلال حرب “عمود السحاب” في نوفمبر/تشرين الثاني 2012م.

سابعا، ضرورة العبث بالهوية الإسلامية والثورية لمصر، وإجبار الجيوش العربية على تغيير عقيدتها القتالية لتصبح الحركات الإسلامية هي العدو بدلا من “إسرائيل”. وقد تكفل السيسي بذلك على نحو واسع؛ حيث يسعى نظام الانقلاب نحو تشكيل أجيال جديدة لا تستمد قيمها من الإسلام ولا تجري في دمائها أصول العروبة وشموخها، مع الإخلال بهذه التركيبة من أجل دمج الكيان الصهيوني لتتحول العلاقة مع الاحتلال من عدو إلى صديق في إطار تشكيل ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير؛ وذلك بعد أن تمكن جنرالات العسكر من تغيير العقيدة القتالية للجيش ليكون العدو هو من يرفض دمج “إسرائيل” في التركيبة الإقليمية برعاية أمريكية خالصة. وكان «مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي» قد أصدر في 28 يناير 2019م، دراسة أعدها الباحثان عوفر فنتور وأساف شيلوح، بعنوان «هوية مصر في عهد السيسي: السمات المميزة للإنسان المصري الجديد»، تناولت فيها مظاهر ومآلات الحملة الواسعة التي يشنها نظام زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي من أجل إعادة صياغة الهوية الوطنية لمصر؛ من خلال السعي أولا  لتقليص مركّبها الإسلامي والعربي، وثانيا احتواء سماتها الثورية، وثالثا العمل على بناء جيل مصري جديد يكون أكثر استعداداً للاصطفاف حول الأجندة التي يفرضها النظام، إلى جانب أنها ترمي رابعا إلى تحسين صورة النظام في الخارج. وفي يوليو 2018 كلف زعيم الانقلاب القوات المسلحة بتنبي ما أسماه بمشروع “الهوية المصرية”وذلك لأن عقيدة الجيش المصري تغيرت بالفعل وفقا لتصورات السيسي وأركان نظامه، فبات الإسلاميون والثوار هم “الآخر العدو” وأضحت “إسرائيل” هي الصديق الذي يتعين دمجه والتقرب منه والعمل على ضمان أمنه واستقراره بتوثيق العلاقات والتحالفات العسكرية والاقتصادية والسياسية!

 

لماذا الخوف من الربيع العربي؟

هذه التقديرات المذعورة من اندلاع موجة جديدة من الربيع العربي خصوصا في مصر، تعيد إلى الأذهان حالة الخوف الشديد التي سادت الأوساط العبرية في أعقاب الإطاحة بمبارك؛ وبالتالي لا تزال ذات المخاوف التي سادت الأوساط الإسرائيلية في أعقاب ثورة يناير قائمة في ظل الخوف المستمر من اندلاع موجة ثورية جديدة تؤكد المؤشرات أنها مسألة وقت.

فلماذا تخشى (إسرائيل) من اندلاع موجة ثورية جديدة  خصوصا في مصر؟

أولا، لأن تل أبيب تخشى من الروح الثورية كما جرى في أعقاب 25 يناير والتي مثلت نقطة تحول فارقة في العلاقة مع مصر، على اعتبار أنها قد تسمح بصعود قوى سياسية واجتماعية جديدة تتبنى أجندات إيديولوجية تدفع نحو إحداث تحول على طابع العلاقة مع تل أبيب. وكانت مراكز التفكير الإسرائيلي قد حذرت، في أعقاب ثورة 25 يناير من أنها سوف تقلص من قدرة إسرائيل مستقبلاً على التعاطي مع المقاومة الفلسطينية، بحيث إنها ستكون مطالبة بأن تأخذ بعين الاعتبار الموقف المصري قبل خوض أي عمل عسكري ضد غزة، كما حدث تماما في عدوان 2012م والذي شهد موقفا مصريا متشددا ضد العدوان على غزة وهدد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي “إسرائيل” من عواقب العدوان؛ وقام بتحركات نشطة أفضت إلى وقف العدوان بعد أسبوع واحد فقط.

ثانيا، تكلفة وجود نظام حكم ثوري في مصر له تكلفة عالية على الكيان الصهيوني، ويضع حكومتها أمام ورطة كبيرة؛ ولعل ما يؤيد ذلك ما فعله إيهود باراك أثناء ثورة 25 يناير؛ حيث كان يشغل منصب وزير الأمن وقتها، والذي طالب إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في ذلك الحين بمساعدات عسكرية إضافية بقيمة 20 مليار دولار لمواجهة التبعات المحتملة للثورة على “الأمن القومي” الإسرائيلي، فيما حثّ زميله أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية في ذلك الوقت، على إعادة بناء قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، على اعتبار أنها القيادة التي يمكن أن تتحمل مستقبلاً العبء العسكري الناجم عن التحولات في مصر، التي أكد أنها باتت “أخطر من إيران نووية”. وعلى الرغم من أن الثورة لم تؤثر بالالتزام المصري باتفاقية “كامب ديفيد” حتى في عهد الرئيس محمد مرسي، إلا أن النشاطات المرتبطة بالعلاقات السياسية، التي كانت تتمثل بزيارة مسؤولين إسرائيليين لمصر قد توقفت تقريباً بعد الثورة، فيما تراجعت مظاهر التعاون الأمني إلى حدّ كبير.

ثالثا، تخشى (إسرائيل) من اندلاع موجة ثورية جديدة والإطاحة بنظام العسكر في مصر ليس فقط حرصا على العلاقات الأمنية الوثيقة التي تربط نظام 30 يونيو بتل أبيب، وضبط بوصلة  السياسة المصرية لتصب في نهاية المطاف في خدمة الأمن القومي الإسرائيلي،  وليس خشية من توقع قطار التطبيع وهرولة نظم عربية نحو تل أبيب باعتبارها البوابة نحو الرضا الأميركي، ولكن أيضا خوفا من تكوين تحالف (مصري ــ تركي)، يهدد تل أبيب ويضعها بين فكي كماشة؛ وهو ما حذَّر منه المدير السابق للدائرة السياسية والأمنية في وزارة الأمن الإسرائيلية عاموس جلعاد، الذي كان مسؤولاً عن ملف العلاقة مع مصر، في كتابه “النذير”، الذي صدر أخيراً، عن أن إسرائيل خشيت من أن تمهّد ثورة 25 يناير لولادة تحالف تركي مصري، يمثل تحدياً غير مسبوق.

خلاصة الأمر أن هذه المخاوف دفعت (إسرائيل) إلى توظيف كل  نفوذها العالمي من أجل دعم انقلاب الجنرال عبدالفتاح السيسي على المسار الديمقراطي وسحق ثورة يناير، وعملت حكومة الاحتلال جاهدة على تأمين اعتراف أميركي بنظام السيسي بعد الانقلاب الذي أدى إلى إزاحة الرئيس محمد مرسي، وإجهاض المسار الديمقراطي، كذلك فإنها عملت جاهدة لمنع إدارة باراك أوباما من وقف المساعدات الأميركية السنوية للجيش المصري، وهو ما ترجمه نظام السيسي فيما بعد من خلال تعزيز العلاقات العسكرية والأمنية والاقتصادية مع تل أبيب؛ حتى إنه سمح لطيران الاحتلال بقصف مواقع في سيناء بدعوى الحرب على  الإرهاب.

وإذا كانت هذه المخاوف لا تزال قائمة حال اندلاع موجة ثورية جديدة؛ فإن حكومة الاحتلال سوف تبذل قصاري جهدها من أجل وأد أي تحركات يمكن أن تفضي إلى اندلاع موجة ثورية جديدة خصوصا في مصر وسوف تتحرك بكل عزم وتصميم على ضمان بقاء نظام العسكر  الذي يمثل ضمانة وحماية لأمن  “إسرائيل” القومي؛ ولعل هذا يعتبر هو السبب الرئيس لفهم حملة الكراهية والاسئتصال التي تتعرض لها جماعة  الإخوان المسلمين في مصر  على يد جنرالات العسكر المتحالفين مع “إسرائيل”.

 

 

————————-

[1] صالح النعامي/ في ذكرى ثورة 25 يناير: مخاوف إسرائيلية من مخاطر التغيير/ العربي الجديد 25 يناير 2021

[2] إسرائيل تتوقع موجة جديدة من الربيع العربي قريبا/ الخليج الجديد الأحد 20 ديسمبر 2020

[3] مراكز التفكير الإسرائيلية.. لماذا تتنبأ بموجة ثالثة من الربيع العربي؟/ الاستقلال  ديسمبر 2020م

[4] صالح النعامي/ إسرائيل.. فزع من الربيع العربي واحتفاء بالثورات المضادة (ج1)/ الجزيرة نت 18 يونيو 2014

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022