تعديلات قانون “صندوق تحيا مصر” وعلاقتها بتأميم العمل الخيري

 

أقرّت لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب الذي شكلته الأجهزة الأمنية لعبدالفتاح السيسي، رئيس الانقلاب العسكري، في جلسة 25يناير 2021م، تعديلاً تشريعياً على قانون إنشاء “صندوق تحيا مصر”. هذه التعديلات تقضي أولا  بإعفاء جميع عوائد الصندوق ومداخيله والتسهيلات الائتمانية الممنوحة له، من كل الضرائب والرسوم أياً كان نوعها، وكل رسوم الشهر العقاري والتوثيق، والرسوم الجمركية. كما نصّ التعديل ثانيا على عدم سريان أحكام قوانين ضرائب الدخل والدمغة، ورسم تنمية موارد الدولة، والضريبة على القيمة المضافة، وأي نوع آخر من الضرائب والرسوم المفروضة حالياً، أو التي تُفرض مستقبلاً، بقانون أو بقرار من الحكومة أو من أي سلطة عامة أخرى، على الصندوق.  ولم تتضمن التعديلات إعفاء الصندوق مما يقرره قانون الضريبة على الدخل من ضريبة على عوائد أذون الخزانة والسندات أو الأرباح الرأسمالية، الناتجة عن التعامل في هذه الأذون والسندات.[[1]]

وتعزو الحكومة هذه التعديلات في مذكرتها الإيضاحية إلى أنها اكتشفت مشاكل بيروقراطية ومالية تعرقل نشاط الصندوق في المشاريع التنموية.[[2]] رغم أن الصندوق لا يتمتع بأي رقابة من أي جهة، إضافة إلى ذلك فإن التعديلات توسعت أيضا لتنص على إعفاء الصندوق من رسوم المناطق الحرة لكل ما يستورده من معدات وأجهزة ومستلزمات وأي أصناف أخرى، وكل ما يَرِد إليه من الهدايا والهبات والتبرعات والمنح من الخارج. وبالتالي يبدو أن المزيا الكثيرة التي يتمتع بها الصندوق في القانون القائم لم تكن كافية ــ بحسب القائمين على إدارة الصندوق ــ لتمكينه من مباشرة الأنشطة الاجتماعية والتنموية المنصوص على إنشائه من أجلها. وبالتالي لجأت إلى هذه التعديلات لتتوسع في الإعفاءات الممنوحة للصندوق من جهة، وتوسيع سلطاته من جهة ثانية وتكريس وضع الصندوق الاستثنائي كصندوق “شبه سيادي” تابع للرئاسة والجيش من جهة ثالثة.

نشأة الصندوق وتحصينه من الرقابة

وصندوق “تحيا مصر” هو باكورة أفكار السيسي التي كشف عنه في يوليو2014، حيث دعا رجال الأعمال إلى ضخ تبرعات تصل إلى 100 مليار جنيه. وفي مشهد مسرحي أعلن السيسي أنه تبرع بنصف راتبه البالغ 42 ألف جنيه وعن نصف مملتكاته لصالح الصندوق ولم يعرف كم تبرع لأن ممتلكات السيسي لا تزال سرية حتى اليوم رغم أن الدستور يلزمه بالإعلان عن كامل ممتلكاته. ومنذ ذلك الوقت، لا توجد شركة عاملة في البلاد أو رجل أعمال أو فنان أو رياضي وحتى مؤسسات الدولة كالقضاء بفروعه، ومشيخة الأزهر، والأوقاف، إلا وتقدموا بتبرعات مرة تلو الأخرى، كان آخرها تبرع شركة “إعمار مصر” مجددا بمبلغ 90 مليون جنيه، وكذلك المجلس الأعلى للنيابة الإدارية الذي تبرع بثلاثة ملايين.

ومنذ ذلك التاريخ توالى إصدار القوانين والتعديلات الخاصة بالصندوق “السيادي” ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2014، أصدر السيسي قرارا بقانون رقم 139 لسنة 2014م، بإنشاء صندوق “تحيا مصر” الذي تكون له الشخصية الاعتبارية ويتبع رئيس مجلس الوزراء، ويكون مقره مدينة القاهرة، ويجوز له إنشاء فروع ومكاتب في المحافظات الأخرى.

لكن في يوليو/تموز 2015، صدر قرار آخر بقانون رقم 84 لسنة 2015 بتعديل بعض أحكام القرار بقانون رقم 139 لسنه 2014 بإنشاء “تحيا مصر” بحيث يتمتع بالاستقلال المالي والإداري. ومطلع عام 2016، وافق مجلس النواب على القرار بقانون رقم 139 لسنة 2014 بإنشاء “تحيا مصر”. وبموجب القرار الرئاسي الذي أقره مجلس النواب مطلع عام 2016، ألغيت الرقابة المالية على الصندوق ضمنيا بعيدا عن الموازنة العامة للدولة.

ويتمتع صندوق “تحيا مصر” بامتيازات وأعفاءات واسعة، ويعد في عرف القانون “صندوقا شاذا” في نشأته ووضعه القانوني؛ فالسيسي استحدث لأموال الصندوق مجالاً جديداً بين العام والخاص، فكل الأموال العامة يراقبها الجهاز المركزي للمحاسبات، ولا يجوز له مراقبة الأموال الخاصة، لكن أموال الصندوق تأتي في منطقة بينية، فهي بحكم المنطق أموال عامة تكلف الدولة بالتصرف فيها أو استثمارها، وبحكم القانون الذي أصدره السيسي لا تخضع لرقابة الجهاز المختص دستورياً بذلك”.[[3]]

ويوفر قانون أصدره السيسي في يوليو/ تموز 2015، أي بعد إنشاء الصندوق فعلياً بنحو عام، وأقره مجلس النواب من دون أي ملاحظات لدى انعقاده، سرية مطلقة على أعمال الصندوق وحصانة من جميع أنواع الرقابة. إذ ينصّ على تمتع الصندوق بالاستقلال المالي والإداري، وإسناد سلطة تحديد أساليب الإشراف عليه وإدارته وتصريف شؤونه إلى رئيس الجمهورية من دون التقيّد بالنظم الحكومية المنصوص عليها في أي قانون آخر، فضلاً عن إسناد الرقابة على أعمال الصندوق المحاسبية إلى مكتب مراجعة مسجل لدى البنك المركزي تختاره إدارة الصندوق، وقصر دور الجهاز المركزي للمحاسبات على “إعداد تقرير بمؤشرات أداء الصندوق سنوياً، في ضوء القوائم المالية المعتمدة من مراقب الحسابات”. وكان الهدف الرئيس لإصدار هذا القانون هو الإفلات من المواد الدستورية والقانونية التي تخصّ الجهاز المركزي للمحاسبات، بالرقابة على أموال الدولة والأشخاص الاعتبارية العامة، ومراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة والموازنات المستقلة ومراجعة حساباتها الختامية، أي كل ما له صلة بالمال العام تقريباً، وما نص عليه قانون الجهاز من ذكر للجهات التي يراقبها، ومن بينها الجهات الحكومية والهيئات العامة والمؤسسات العامة وهيئات القطاع العام، وأي جهة تقوم الدولة بإعانتها أو ضمان حدّ أدنى للربح لها أو تكون أموالها مملوكة للدولة. وبذلك، أُبعد الجهاز المركزي للمحاسبات تماماً عن مباشرة الدور الرقابي على الصندوق، وأصبحت المستندات الوحيدة التي يجوز له الاطلاع عليها هي ما يصدره مكتب مراقب الحسابات من قوائم مالية بعد اعتمادها، ما يعني أن الأعمال نفسها تظلّ بعيدة عن رقابة الجهاز المقررة دستورياً.

خطوة نحو تأميم العمل الأهلي

وبنظرة أكثر عمقا، يمكن الجزم بأن التعديل الجديد يستهدف بالأساس إعطاء الصندوق أولوية لقيادة العمل الأهلي في مصر من المنظور الخاص بالنظام، وليس بالمعنى التقليدي للعمل الأهلي، بأن يكون هذا العمل موازياً لممارسات الحكومة، وليس نابعاً من المجتمع كشريك للدولة في التنمية. ووفقاً للتعديل، لن تكون أي منظمة أهلية، بما في ذلك ما يتبع المخابرات العامة وغيرها من الأجهزة الحكومية، قادرة على منافسة “صندوق تحيا مصر” في أي مجال.[[4]]

فالتعديل يعالج مسألتين مهمتين يرغب النظام في إغلاقهما نهائياً وعدم إثارة الجدل بشأنهما مستقبلاً: الأولى، هي غياب الرقابة والتحصيل الضريبي عن التبرعات الضخمة التي أصبحت تنهال على الصندوق من رجال الأعمال. ويرى البعض أنها باتت بمثابة “قرابين” لضمان السلامة والاستمرار في العمل في المشاريع المختلفة مع الأجهزة، تحديداً الجيش.

فمنذ بدء تفشي وباء كورونا، كشفت مصادر مطلعة عن تلقّي الصندوق أكثر من نصف مليار جنيه (32 مليون دولار) في صورة تبرعات، بدأت منذ رفع وتيرة الهجوم الإعلامي على رجال الأعمال بغية حثهم على المشاركة بالتبرع للصندوق في مارس/آذار 2020. وحدث ذلك بعدما أعلن السيسي تخصيص جزء من أمواله للإنفاق على العمالة غير المنتظمة، وغيرها من أوجه الصرف الخاصة بالأزمة. وتلقى الصندوق تبرعات مباشرة من جهات ومستثمرين، كمجلس الشعب ومجلس الوزراء والمحافظين ومجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى ومشيخة الأزهر ومجلس الكنائس المصرية وهيئة قناة السويس، والعديد من رجال الأعمال، على رأسهم حسين صبور. ويضاف إلى ذلك تبرعات من شركة إعمار الإماراتية، وجاليات المصريين في الخارج. لكن عدداً من رجال الأعمال الذين سبق أن تبرعوا للصندوق منذ سنوات فضّلوا التبرع مباشرة لخزانة الدولة، كأسرة ساويرس التي تعهدت بدفع 100 مليون جنيه (6.4 ملايين دولار). وخلال يناير 2021م، الماضي، أعلن الصندوق تلقيه أكثر من 90 مليون جنيه (5.8 ملايين دولار) تبرعات من مستثمرين ومصارف خاصة، فضلاً عن 90 مليون من شركة “إعمار”، التي تراهن على نجاح الشراكة الخاصة مع الصندوق ممثلاً للدولة المصرية، تحديداً بعد تسوية نزاعها مع الحكومة على أرض هضبة المقطم لصالحها مقابل 100 مليون جنيه فقط.

أما المسألة الثانية التي يريد النظام الانتهاء منها، فهي التوسع الكبير في الأملاك الخاصة بالصندوق بمختلف أنواعها، عقارية ومنقولة، مع وجود اتجاه لتخصيص مساحات من الأرض في قرى مختلفة للشركات التابعة للشركة القابضة الجديدة التي أنشأها الصندوق العام الماضي، لاستغلالها في إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة ستؤجر للمواطنين وتبقى ملكيتها قائمة في النهاية للصندوق. كما يُسجل الصندوق ملكيته للمنشآت والأجهزة والأدوات المستخدمة في عدد كبير من المشاريع التي بدأ تنفيذها بالفعل، مثل تنظيم قوافل لتوزيع مواد غذائية وملابس وتجهيزات تكفي مليون مواطن، ومساعدة ودعم ألفي فتاة للزواج، وتنظيم قوافل طبية، وتوزيع أجهزة غسيل كلى، وكراسي متحركة للمعاقين، وحضانات للأطفال.

“30” يونيو وتدمير العمل الخيري

ويعزز توجهات النظام نحو تكريس صندوق “تحيا مصر” كقاطرة للعمل الأهلي الخيري في مصر، أن نظام السيسي بعكس نظام مبارك  الذي ترك الملف الخيري للإسلاميين والإخوان باعتباره مكملا لدور النظام عبر تقديم الرعاية الصحية والخدمات التعليمية لملايين الفقراء؛ لكن نظام السيسي شن حرب استئصال شاملة ضد الإخوان والعمل الخيري ومنظمات المجتمع المدني التي يديرونها بينما عمل على تقييد حركة منظمات المجتمع المدني التي يديرها علمانيون لتبقى شكلا بلا جوهر وصورة بدون مضمون أو نشاط جاد ومثمر. في المقابل فإنه ترك المجال مفتوحا على مصراعيه للمنظمات التي تحركها أجهزته من وارء ستار.

ويسعى النظام إلى ملء الفراغ الذي تركه الإخوان والذين كانت لهم مظلة تكافل اجتماعي تضم ملايين المصريين. فقد تم تم حل مئات الجمعيات الخيرية بعد الانقلاب مباشرة، وتجميد أرصدتها بناء على حكم من محكمة الأمور المستعجلة في سبتمبر 2013م بحل جمعية الإخوان والتحفظ على أموالها. وتوسع نظام 30 يونيو في قرار الحل والتجميد حتى وصلت إلى تعليق عمل ما بين 1055 إلى 1300 جمعية، وحرم القرار ملايين البسطاء من الانتفاع بخدمات تلك الجمعيات الصحية والتعليمية والخيرية أيضا. وكان نشاط تلك الجمعيات منصبا على رعاية الفقراء وتقديم خدمات صحية وتعليمية وخيرية، مثل الإعانات المالية الشهرية، وتجهيز العرائس للزواج، وتوزيع كسوة وأغطية الشتاء على المحتاجين، وإطعام الطعام، وإغاثة الملهوفين سواء في الظروف العادية أو الصعبة. وحتى يعرف القراء حجم الكارثة وكيف انعكس هذا القرار سلبيا على ملايين الناس؛ نضرب مثلا بإحدى مؤسسات الإخوان الخيرية في مجال الصحة وهي «الجمعية الطبية الإسلامية»، فهي ليست مجرد جمعية بل صرح خيري من أعظم المؤسسات الخيرية في العالم؛ تضم أكثر من 38 مستشفى ومستوصفا و10 مراكز متخصصة للغسيل الكلوي و12 صيدلية، وتعالج أكثر من 3 ملايين مريض، وتجري أكثر من 75 ألف عملية جراحية سنويا، وتتركز فروعها في المناطق الشعبية الفقيرة، حيث يشكل الفقراء غالبية المستفيدين من خدماتها، وتقدم خدماتها للجميع بالمجان.  ولم يتمكن النظام مطلقا من ملء الفراغ الذي تركته هذه المؤسسات الخيرية بفروعها الممتدة في آلاف المدن والقرى والأحياء، بخلاف تجميد النشاط الخيري في المساجد الصغيرة خشية الملاحقات الأمنية التي لم تتوقف ساعة واحدة منذ الانقلاب حتى اليوم. وكانت تلك الجمعيات تقوم بدور مكمل للحكومة منذ عقود، بسبب قدرات الحكومة المحدودة والقاصرة، من خلال تشجيع العمل الخيري خاصة في محافظات الصعيد والمناطق الفقيرة بالقاهرة والمحافظات الريفية، وهو ما وفر مظلة كبيرة لملايين الفقراء لم تكن الدولة قادرة على الوصول إليهم (32 مليون شخص وفق بيانات رسمية عام 2018).([5])

ثانيا، سن النظام قانون العمل  الأهلي سنة 2017م والذي قيد نشاط منظمات المجتمع المدني

ووضع لها أغلالا تحول دون    القيام برسالتها في خدمته المجتمع وأمام الانتقادات الواسعة للقانون أجرى النظام عليه تعديلات في يوليو 2019م وصادق عليه السيسي في 21 أغسطس 2019م تحت مسمى القانون 149 لتنظيم ممارسة العمل الأهلي. والذي صدرت لائحته  التنفيذية في 11 يناير 2021م. ورغم التسويق الواسع من جانب الآلة الإعلامية للنظام لهذه التعديلات إلا أن هناك شبه إجماع بين منظمات العمل المدني على أن قانون 2019 حوى تعديلات غير كافية إضافة إلى وجود قوانين أخرى تفرض قيودا مشددة على منظمات العمل الأهلي والمجتمع المدني  تحتاج إلى تعديل. وأكد بيان لعشرة منظمات حقوقية مصرية ودولية أن القانون الجديد  ما هو إلا إعادة تسويق القانون القمعي الذي يحمل الفلسفة العدائية لمنظمات المجتمع المدني”، ويجعلها تحت رقابة دائمة من جانب الأجهزة الأمنية، بحسب بيان لمنظمة هيومن رايتس ووتش.([6]) كما اعتبر بيان لستة أحزاب و22 منظمة أهلية القانون الجديد قبل المصادقة عليه بأنه يعكس فلسفة الحكومة التي تتعامل مع المجتمع المدني باعتباره عدوا تحاط الخطط والقوانين السرية للقضاء عليه ووصفه بالمذبحة لجميع الجمعيات الأهلية في مصر.​([7])

ثالثا، حصر العمل الأهلي والخيري في المقربين من النظام

والمرضي عنهم من جانب الأجهزة الأمنية التي باتت تهمين على كل شيء؛ كما يتم توظيف نشاط هذه المؤسسات الخيرية توظيفا سياسيا لخدمة أهداف النظام ومآربه؛ فبعد غلق آلاف الجمعيات وتجميد نشاطها ونهب أموالها وأصولها خلت الساحة من الجمعيات التي يديرها موالون للنظام مثل جمعية رسالة والأورمان وبنك الطعام ومؤسسة مصر الخير وكلها جمعيات يديرها لواءات سابقون أو شيوخ موالون للنظام. وحتى الجمعية الشرعية التي أعلن عن تجميد نشاطها في أعقاب الانقلاب تم إعادة نشاطها بعد وضع آليات تضمن سيطرة الأمن الوطني على جميع أنشطتها سواء في المقر الرئيس أو المقار الفرعية في جميع المحافظات خصوصا المشروعات الخيرية التي تقوم بها الجمعية.

رابعا، تدشين حملة إعلامية للترويج للدور الاجتماعي لصندوق “تحيا مصر”، 

ويمكن رصد ذلك في صحف ومواقع السلطة الإخبارية؛  وقد جرى تعميم تقرير على جميع صحف ومواقع النظام في أكتوبر 2020 لسرد ما وصتفه بجهود صندوق “تحيا مصر” في مواجهة الكوارث والأزمات ووصفت دوره بالمعاون لأجهزة الدولة.   وتحدثت صحيفة الوطن المقربة من جهاز المخابرات عن جهود الصندوق ووصفتها برحلة عطاء بأرقام قياسية. وموقع آخر يكتب عن دخول الصندوق موسوعة “جينيس” بأكبر قافلة إنسانية.[[8]] وعلى الرغم من الطابع الإنساني لتلك المبادرات، إلا أن تعمّد تقديمها بديلاً لدور الدولة، ومكمّلاً لدور الجيش في التنمية، مع الابتعاد التام عن الرقابة، يطرح تساؤلات عديدة حول كفاءتها وسلامة تسييرها.

خامسا، دعوة دار الإفتاء المصريين للتبرع للصندوق ودفع الزكاة للقائمين عليه،

حيث أوجب الدار التبرع لصندوق “تحيا مصر”، وبل أفتت بوجوب دفع أموال الزكاه للصندوق، وقال مجدي عاشور، مستشار المفتي، عبر برنامج تلفزيوني: «لدينا فتوى رسمية من دار الإفتاء -تعود لمنتصف عام 2016- بإخراج أموال الزكاة وزكاة الفطر إلى صندوق تحيا مصر، لأن هذا الصندوق مخصص للوقوف بجانب الفقراء والمساكين والمحتاجين». وقال إنه “يجب إعطاء الزكاة للفقراء والمحتاجين، ودفع أموال الزكاة للمؤسسات المعروفة مثل صندوق تحيا مصر، بجانب المؤسسات الخيرية المعتمدة، وتعتبر مؤسسات قانونية، وتعمل من أجل خدمة الوطن والمواطنين، ولديها قاعدة بيانات بالقرى الأكثر فقرا، فهي تستحق أموال الزكاة”. في المقابل، أفتى عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور وصفي أبوزيد، بقوله: “في ظل ما تحياه مصر من حالة سياسية مضطربة وأوضاع اجتماعية متحللة، وظروف اقتصادية متردية أوصلها إليها من توسدوا الأمر وهم ليسوا أهله، ومن انقلبوا على إرادة الشعب المصري بفسادهم وكذبهم وخياناتهم للأمانة والإيمان التي أقسموا عليها؛ فإنه لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يضع زكاة ماله تحت تصرف سلطة مثل سلطة السيسي، ولا أن يأتمنهم على أي شيء يتصل بدين أو دنيا”.[[9]]

سادسا، التوظيف السياسي للعمل الخيري،

فأنشطة الصندوق يجري تقديمها باسم السيسي في توظيف سياسي سافر للعمل الخيري من أجل تجميل صورة الطاغية المشوهة وغسل يديه الملطختين بدماء آلاف الأبرياء، من جانب آخر فإن النظام يستهدف تكريس انفراد النظام والمؤسسة العسكرية باعتبارها حزبا سياسيا وليس جيشا نظاميا للوطن كله، ولذلك هناك حالة من الإصرار على حرمان المجتمع من  تعزيز قدراته المناعية وإجهاض أي دور شعبي؛ فنظام 30 يونيو ينظر إلى العمل الأهلي باعتباره دورا موازيا للدولة وليس مكملا لها كما هو في النظم الديمقراطية وشبه الديمقراطية وحتى في النظم المستبدة التي تتمتع بهامش من الرشد والحكمة، كما كان موقف نظام مبارك من الإخوان حيث حاصرهم سياسيا ونقابيا لكنه أبقى على ملف البر والجمعيات الخيرية التي كانت تديرها الجماعة باعتباره تقوم بدور  مكمل للنظام في خدمة المجتمع وتصل إلى ملايين الفقراء الذين لا يتمكن النظام من رعايتهم والاهتمام بشئونهم المادية والصحية والتعليمية. وحتى عندما نظم الإخوان مؤتمرا في 5 إبريل 2020م يمدون فيه يد المساعدة والمساهمة للمجتمع من أجل تعزيز قدرات المجتمع في مكافحة العدوى أجهز السيسي بتصريحات شاذة واستفزازية على هذا الموقف وجدد وصفه للجماعة بالفصيل الشرير الذي يجب استئصاله.

خلاصة الأمر، أن التعديلات الجديدة لصندوق “تحيا مصر” تستهدف تحويله إلى صندوق سيادي آخر، يمثل بوابة للسيسي للسطو على المال العام محصنا من أي مساءلة أو رقابة بموجب القانون الذي سنه بنفسه ليمنح لنفسه هذه الصلاحيات المطلقة في عصف سافر للقوانين التي وضعت ضوابط وشروط لحماية المال العام. كما يستهدف السيسي بهذه التعديلات أن يجعل من الصندوق قاطرة للعمل الخيري؛ وبالتالي فإن ذلك يعني أن النظام حريص على فرض وصياته على العمل الأهلي كما بسط وصايته على جميع مناحي الحياة في مصر. الملاحظة المهمة أن السيسي لديه شغف كبير بتشكيل الكيانات الموازمة المتحررة من أي مساءلة أو رقابة؛ فما تسمى بأجهزته الأمنية السيادية (المخابرات ــ الأمن الوطني ــ دائرة السيسي الضيقة ـ هيئة الرقابة الإدارية) تقوم بدور مواز للحكومة والجهاز الإداري للدولة. أما صندوق “تحيا مصر” فيقوم بدور مواز للخزانة العامة للدولة لكن الفارق الجوهري هو سهولة تدفق الأموال إليه وإنفاقها منه، متحرراً من أي رقابة، ومؤتمراً بقرارات السيسي نفسه، وإدارة جرى تحديثها مرات عدة لتصبح مكونة من الشخصيات الموثوقة بعد استبعاد الشخصيات التكنوقراط التي كان الصندوق معتمداً عليها في بدايته. وبالتالي، فإنّ التحكم السلطوي المباشر في الصندوق وأمواله، وحجب طبيعته ونشاطاته عن الرقابة وانعدام الشفافية، هي السمات الأبرز لعمله حتى الآن بعد نحو 6 سنوات من تأسيسه، في الوقت الذي حافظت فيه الدولة على وجود مجلس شرفي للأمناء، نُحِّي بصورة شبه كاملة عن واجهة العمل.

 

 

 

 

—————————————-

[1] محمد فتحي وعلي كمال/ الشروق تنشر تعديلات قانون إنشاء صندوق تحيا مصر: إعفاء من الضرائب والرسوم/ بوابة الشروق الثلاثاء 26 يناير 2021

[2] تعرف على أهداف تعديلات قانون “صندوق تحيا مصر” فى 9 معلومات/ اليوم السابع الثلاثاء، 26 يناير 2021

[3] كورونا يكرّس الوضع الاستثنائي لصندوق “تحيا مصر”: الرقابة معدومة/  العربي الجديد 19 ابريل 2020

[4] أهداف غير معلنة لتعديل قانون “صندوق تحيا مصر”/ العربي الجديد 04 فبراير 2021

[5] ملايين المتضررين من كورونا.. هل تدفع الحكومة المصرية ثمن تأميم العمل الأهلي؟/ الجزيرة نت 3 إبريل 2020

[6] منظمات حقوقية مصرية ترفض قانون الجمعيات: يعادي المجتمع المدني/العربي الجديد 11 يوليه 2019

[7] فريق التحرير/ قانون الجمعيات الأهلية في مصر.. جدل مستمر رغم التعديلات/ نون بوست 16 يوليو 2019

[8] أحمد عاشور/ تعرف على جهود صندوق تحيا مصر في مواجهة الكوارث والأزمات وكيف لعب دوره كمعاون لأجهزة الدولة في مواجهة تداعيات فيروس كورونا المستجد/ المال نيوز الثلاثاء, 13 أكتوبر 2020م// ماريان سعيد/ بعد موافقة النواب على تعديلات «تحيا مصر».. رحلة عطاء بأرقام قياسية/ الوطن الثلاثاء 26 يناير 2021// صندوق «تحيا مصر» يدخل موسوعة جينيس بأكبر قافلة إنسانية/ إكسترا نيوز19 نوفمبر، 2020

[9] لماذا أوجبت الإفتاء المصرية الزكاة لصندوق” تحيا مصر”؟/ “عربي 21” الإثنين، 18 مايو 2020

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022