سد النهضة الإثيوبي الملء الثاني

سد النهضة الإثيوبي الملء الثاني
مع اقتراب ميعاد ال ملء الثاني لبحيرة سد النهضة، الذي تتمسك به إثيوبيا، في موسم الأمطار، في يونيو المقبل، وترفضه مصر والسودان، قبل التوصل إلى اتفاقية ملزمة لإدارة وتشغيل السد، تتسارع احتمالات الصدام بين الدول الثلاث؛ فلا يبدو أن إثيوبيا ستتراجع عن مخططها، الذي تؤكد عليه، ليلًا ونهارًا، على لسان كبار مسؤوليها، وكذلك مصر والسودان، اللتان وحدتا رؤيتهما منذ إقدام إثيوبيا على الملء الأول بشكل منفرد. فما هو جديد الملف؟ وكيف سار طريق الوساطة الرباعية الذي كانت قد طرحته مصر والسودان سابقًا؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها..
أسباب إصرار إثيوبيا على الملء: هناك أبعاد عدة لعملية الملء الثاني، منها ما يتعلق بالسودان على مدى زمني قصير جدًا، وما يتعلق بخيارات القاهرة والخرطوم المستقبلية في التعامل مع الأزمة، إلى جانب بُعد الداخل الإثيوبي. فهناك صراع إرادات سياسة فرضته إثيوبيا في كل خطواتها في الأزمة، بطرحها مسألة السيادة، التي تريد من خلالها التحكم بشكل منفرد في كل ما يتعلق بالنهر و بناء السد، تمهيدًا لفرض هذا النهج على دولتي المصب مستقبلًا، وإلى جانب ذلك؛ هناك زاوية أخرى لأهمية الملء لإثيوبيا، تتعلق بتأمين السد من ضربة عسكرية سودانية مصرية، ففي حال حدوث الملء الثاني اليوم  يُعد ضرب السد تهديدًا بالغرق للسودان نظرًا لوجود كمية كبيرة من المياه ستسبب فيضانًا يدمر سد الروصيرص، ويغرق شرق السودان، وكلما زادت كمية المياه زادت المخاطر، التي تجعل الخيار العسكري مستحيلًا. وطرح خبراء سيناريوهات متعددة للعمل العسكري، والتبعات المتوقّعة جراء ذلك، معتمدين على دراسة دورية بصور الأقمار الصناعية لمنطقة السد، والاستعدادات العسكرية الإثيوبية حولها. ولا ينفصل تحرير السودان أراضيه في الفشقة عن أزمة السد، ويرى خبراء سودانيون؛ أن إثيوبيا تضغط على السودان بالملء الثاني، لإجباره على الانسحاب من الفشقة، التي تطمع في ضمها إليها، على الرغم من اعترافها السابق بها، وفق اتفاقية عام 1902. ويتمثَّل السيناريو الأول في خيار العمل العسكري بضربة موجهة إلى جسم السد الخرساني، بصواريخ ومقذوفات مُوجهة من الطائرات الحديثة التي تمتلكها مصر، بتسهيلات سودانية، والثاني عبر قصف صاروخي ومدفعي من الأراضي السودانية. وهناك تبعات عدة للعمل العسكري؛ أولها رد الفعل الإثيوبي العسكري، خاصة على السدود السودانية. ويأتي رد الفعل الدولي كثاني أهم التبعات.
تصاعد حدة التصريحات بين أطراف الأزمة: تصاعدت التراشقات بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى، وارتفع سقف التصعيد الذي قد يؤدي إلى صدام تؤثر تداعياته على دول المنطقة، حيث أخذ الخطاب المستخدم من قِبل الدول الثلاث منحىً خطير في القضايا الخلافية. وبدت التصورات المقدمة متنافرة وتعكس الفحوى الحقيقي للمعادلة الصفرية المستخدمة في العلوم السياسية، أي مكاسب طرف خسارة للطرف الآخر، فإثيوبيا ترى أن أي تنازل في القضيتين يمثل مكسبًا لمصر والسودان، والعكس صحيح، ووصول الأزمة إلى هذا المستوى يعني وجود صعوبة هيكلية في التسوية السياسية لكل من الأزمتين. وقال وزير الموارد المائية والري المصري محمد عبد العاطي الاثنين الماضي، بمناسبة يوم المياه العالمي الذي يتم الاحتفاء به يوم 22 مارس من كل عام، أن بلاده لن تقبل إجراءات إثيوبيا الأحادية بشأن سد النهضة، وما ينتج عنها من تداعيات سلبية ضخمة تضر بـ الأمن المائي لمصر، في إشارة تنطوي على رسالة بعدم الصمت على التصرفات الحالية، والاستعداد لتبني إجراءات بعيدة عن المألوف. ونسج مسؤولون في الخرطوم عددًا من السيناريوهات لانعكاسات الملء الإثيوبي الثاني لسد النهضة في يوليو المقبل دون اتفاق مُلزم، واعتبره البعض بمثابة إعلان حرب على غرار المصطلح الذي كرَّره مصريون، ووصف بعضهم الأزمة مباشرة بأنها أزمة وجود ما يفتح الطريق أمام خيارات قد تلجأ إلى الخشونة في أيام قادمة.
التحركات المصرية والسودانية بعد إعلان الملء: على المستوى المصري؛ كانت التحركات دعائية؛ حيث صدرت تعليمات في الأربعاء 17 مارس  من الاستخبارات العامة المصرية إلى وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، بتصعيد الحديث عن ضرورة الحسم بالقوة، والإشارة الصريحة إلى مطالبات استخدام القوة العسكرية طالما استمرت أديس أبابا على موقفها المتشبث باستمرار العمل للملء الثاني المنفرد للسد، بدون اشتراط التوصُّل إلى اتفاق نهائي على قواعد الملء والتشغيل. أما على المستوى السوداني؛ فكانت تحركات إجرائية؛ حيث أعلن وكيل وزارة الري السودانية ضو البيت عبد الرحمن، أن مهندسي الوزارة في إدارتي الخزانات ومياه النيل، يعملون للتحسب لكل السيناريوهات المحتملة جراء الملء الأحادي لسد النهضة، وذلك للحد من الآثار السلبية المتوقعة. ويشمل ذلك تعديلات في نظم تفريغ وملء خزاني الروصيرص وجبل الأولياء. وحذر عبد الرحمن المزارعين والرعاة ومحطات مياه الشرب ومشروعات الري، وكل مستخدمي المياه والمواطنين عامة في النيل الأزرق من الدمازين إلى الخرطوم، بأنه من المرجح أن تنخفض كميات المياه الواردة من النيل الأزرق خلال الفترة من أبريل الحالي حتى نهاية سبتمبر. ويعني ذلك أيضًا أن مناسيب المياه في هذا القطاع، ستنخفض إلى رقم كبير من متر مكعب، كما ستتأثر مساحات الجروف المروية على طول هذا القطاع، وكذلك مداخل محطات مياه الشرب ومضخات الري.
تعثُّر الوساطة الدولية: أعلنت مصادر دبلوماسية مصرية إن الاتصالات التي جرت خلال الأيام الأخيرة بالأطراف الأربعة، التي تمثل آلية الرباعية الدولية المقترحة لتولي جهود الوساطة في قضية سد النهضة، عكست ترددًا وقلقًا من كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بشأن انتهاء عمل الآلية من دون تحقيق تقدم، بسبب التعنُّت الإثيوبي من جانب، واتساع الخلاف الفني والقانوني بين كلٍّ من مصر والسودان وإثيوبيا من جانب آخر. وأن تلك الاتصالات أجرتها الخارجية المصرية والسودانية بصيغة مشتركة أحيانًا، وكل على حدة في أحيان أخرى، وتم التركيز على منح الآلية الرباعية سلطات أوسع في عدد من بنود المفاوضات، وذلك في خمسة ملفات رئيسية. الأول؛ هو صياغة اتفاق نهائي لقواعد الملء والتشغيل، بحيث ترعى الآلية صياغة نهائية وموحدة لجميع البنود التي شهدت المفاوضات السابقة خلافات واسعة بشأنها. والثاني؛ هو ضمان سياسي وتفاوضي لتقديم إثيوبيا خطتها طويلة الأمد للاستخدامات الخاصة بالمياه، سواء كانت مخصصة لإنتاج الطاقة أو الزراعة أو غيرها، تحقيقًا لمبدأ عدم الإضرار بدولتي المصب. والثالث؛ هو حسم المواضيع القانونية العالقة، والتي من بينها التوافق على آلية فض المنازعات التي ستنشأ مستقبلًا حول تشغيل السد والملء، والبت في اقتراح مصري سوداني بأن تظل الآلية الرباعية هي مرجعية فض المنازعات وليس الاتحاد الإفريقي فقط. والرابع؛ هو القيام بضمانة سياسية في المقام الأول لالتزام إثيوبيا بتنفيذ الاتفاق، واعتباره ملزمًا بشكل نهائي، وعدم التراجع فيه، أو الالتفاف عليه. والخامس؛ هو رعاية وضع أُسس تفاوضية لأي اتفاق مستقبلي بشأن التطورات التي ستطرأ على حوض النيل الأزرق، مثل السدود والمشاريع والبحيرات الصناعية. وتفويض آلية الرباعية الدولية برعاية الاتفاق على هذه الملفات الخمسة يحمل توسيعًا لسلطات مكونات الآلية وصلاحياتها. وعلى الرغم من أن بعض الأطراف، كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لديهما رؤى فنية يمكن البناء عليها في جميع هذه الملفات على خلفية مشاركتهما السابقة كمراقبين، إلا أنهما متخوفان من أن يفضي كل هذا العمل إلى لا شيء، وهو ما يدفعهما للتردد، انتظارًا لنداء جماعي بالمشاركة، أو اتفاق برعاية الاتحاد الإفريقي على استدعاء الأطراف الدولية للمشاركة في هذه الآلية الوسيطة. وحول موقف الاتحاد الإفريقي فإن بعض مسؤولي مفوضية الاتحاد يعارضون المقترح بشدة، ويعتبرونه تدويلًا للقضية، من دون سلك القنوات الطبيعية لذلك، لكن في الوقت نفسه هناك تعاطف من رئاسة الاتحاد الحالية (دولة الكونغو الديمقراطية) مع المقترح لأسباب عدة، منها أن الآلية ستقلل من المسؤولية المفترضة عليها، وستجعلها تتلافى حرج المواجهة مع مصر وإثيوبيا بشكل خاص، أخذًا في الاعتبار الحساسيات القائمة بين كينشاسا وأديس أبابا حاليًا بسبب ما تصفه الأخيرة بميلها للقاهرة.
مبادرات الوساطة الإقليمية: في خطوة لمحاولة حلحلة الأزمة؛ بادرت كلٌّ من الإمارات والسعودية عن استعدادهما للتوسط بين أطراف الأزمة. فأعلنت الحكومة السودانية موافقتها على مبادرة من الإمارات العربية المتحدة للتوسط بينها وبين إثيوبيا لحل خلافاتهما الحدودية ومشكلة سد النهضة المثير للجدل. حيث أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة ووزير الثقافة والإعلام حمزة بلول؛ مناقشة مجلس الوزراء الانتقالي للمبادرة الهادفة إلى التوسط بين السودان وإثيوبيا حول الحدود، وأكد بلول أن الإمارات عرضت كذلك الوساطة لحل خلافات السودان وإثيوبيا ومصر حول سد النهضة الإثيوبي.  كما أكَّدت مصادر دبلوماسية مصرية إجراء السعودية اتصالات غير معلنة مع القاهرة والخرطوم خلال الأيام الماضية، في إطار مساعيها لتحريك مبادرة فردية منها بشأن قضية سد النهضة. ويأتي ذلك بعد اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين والسفير السعودي في أديس أبابا، سامي جميل عبد الله، الأسبوع الماضي، والذي لم تعلن الرياض أي تفاصيل عنه. والسعودية تتحفظ على الطريقة التي تتعاطى بها إثيوبيا مع الملف، لكن الرياض قالت و أكدت و أيضًا في اتصالاتها على ضرورة عدم تطوير الأزمة إلى استخدام حلول غير دبلوماسية بالقوة.
الخُلاصة؛ انتشر مضمون المعادلة الصفرية في الكثير من الأزمات الإقليمية، وجعل بعض الدوائر تعتقد أن الوصول إلى مرحلة وسط فيها من خلال أعمال تسوية سياسية تحقق لكل طرف الحد الأدنى من أهدافه عملية صعبة، لكن عندما يصل الصراع أو الأزمة إلى مستوى مرتفع يمثل خطورة حقيقية على المنخرطين تضطر الأطراف إلى الرضوخ والعودة إلى طاولة التفاوض، وربما تتقدم جهات خارجية للتدخل من أجل منع اندلاع أزمة أشد. وتبدو الأوضاع بين مصر وإثيوبيا والسودان قريبة من الوصول إلى سيناريو من هذا النوع، فالدخول في دوامة صراع بين أطراف هذا المثلث بسبب سد النهضة أو الحدود سيكون كفيلاً بأن يؤدي إلى المزيد من المشكلات الإقليمية لن يخرج منها طرف بعينه رابحًا، حتى ولو انتصر في البداية بضربة عسكرية خاطفة، فأي معركة في منطقة تتسم بسيولة عالية لن تكون نتائجها النهائية مضمونة. ولا يعني الخلل في التوازنات بين الدول الثلاث الاشتباك المباشر من خلال حرب مسلحة تفضي إلى خسارة المنتصرين في ميادينها المختلفة، وتتحول الحصيلة النهائية إلى وبال، فقد يتم إجهاض استكمال مشروع سد النهضة ويتمكن السودان من إحكام السيطرة على إقليم الفشقة وتستسلم القيادة الإثيوبية الحالية للنتيجة، لكن لن تتحقق الأهداف المرجوة للطرفين، فتداعيات الخشونة غير هينة. ولذلك فالتلميحات التي راجت بشأن المعادلة الصفرية وأنها سوف تفضي إلى حرب بالطريقة التقليدية غير منطقية، لأن هذا الخيار مرفوض من قوى إقليمية ودولية ترى أن هناك بارقة أمل وإمكانية للحلول السياسية، كما أن مصر أو السودان ليستا على استعداد لتبنِّي سيناريو الحرب، ما يجعل المسار الذي تسلكه التوازنات الحالية يقتصر على لعبة مواصلة نزيف النقاط. فمن ناحية يبدو أن الجيش السوداني يرى في وقوع حرب أو أزمة مع إثيوبيا فرصة لتعزيز سيطرته، حيث لا يمكن استبعاد رغبة الجناح العسكري من السلطة السودانية في الاستفادة من الأزمة، سواء بالبقاء في السلطة، أو نيل مجد يتيح  له الترشح لأي انتخابات رئاسية قادمة، خاصةً أنه بقي نحو 3 أشهر أو أقل على موعد تسليمه رئاسة المجلس للمدنيين. ومن شأن إشعال التصعيد السوداني مع إثيوبيا أو حرب محدودة أن يفتح الباب لتأجيل تسليم السلطة، فعادة تلتف الشعوب حول قادتها في الأزمات، وخاصة إذا كانوا من العسكريين مثل البرهان رئيس المجلس الانتقالي. ومن ناحية أخرى يمر الداخل المصري بالعديد من الأزمات الاقتصادية الخانقة، والتي من شأن التصعيد في قضية سد النهضة التشويش عليها؛ لاسيما بعد ال حملة الدعائية التي بدأت مصر في شنِّها لتوجيه نظر الرأي العام بعيدًا عن القضايا الداخلية. والأمر نفسه في إثيوبيا التي تمر بانقسامات داخلية حادة؛ تساهم قضية سد النهضة في القفز عليها حاليًا، لتوحيد الجهود تجاه القضية التنموية الأكبر في الداخل الإثيوبي كما سوَّق لها النظام على مدار سنوات، وهي قضية سد النهضة.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022