فوضى وعنف واحتجاجات مستمرة.. كيف يهدد أصحاب «الرايات السود» عرش “نتنياهو”؟

تشهد شوارع الاحتلال الإسرائيلي  منذ منتصف إبريل 2020م موجة من الاحتجاجات المُستمرة اشتدّت وتيرتها في الأسابيع الماضية، هذه الاحتجاجات تُنظّم بشكل شِبه أسبوعي من جانب حركتي “الرايات السود” و”العقد الجديد” وغيرهما، وهي موجة غير مسبوقة منذُ بدء تفشّي فيروس كورونا في (إسرائيل).

هذه الاحتجاجات جاءت في البداية كتعبير عن رفض المتظاهرين للمفاوضات التي كانت جارية في منتصف إبريل بين حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، وحزب أزرق أبيض برئاسة بيني غانتس، لتشكيل حكومة طوارئ، حيث قادت أحزاب المُعارضة الإسرائيلية المظاهرة حينها وأُطلق عليها تسمية “الرايات السود”، نسبةً لُمنظّميها، الذين رفعوا شعارات تُندّد بتقويض نتنياهو وحكومته للديمقراطية في (إسرائيل)، وتمكّن المنظّمون من حشد أكثر من 2000 مُتظاهر في ميدان رابين وسط مدينة تل أبيب، حيثُ ألقت فيها بعض الشخصيات السياسية المُعارضة لنتنياهو وبعض نواب المعارضة – موشيه يعلون ويائير لبيد عن تحالف “يوجد مستقبل- تلم” وعضو الكنيست أيمن عودة عن القائمة المُشتركة- خطابات مُندّدة باستمرار نتنياهو في منصبه كرئيس للحكومة بعد أن وُجّهت له لائحة اتهام في ملفات الفساد المُختلفة، مُتّهمةً إيّاه بمحاولة تدمير الديمقراطية الإسرائيلية.

ومع تشكيل حكومة نتنياهو الخامسة بالتحالف بين “الليكود وأزرق أبيض”، وبعد موجة الانتشار الثانية لفيروس كورونا مؤخراً، أخذت الاحتجاجات منحى مُختلفا؛ حيث أصبح الحراك أكثر تنظيماً من ذي قبل، وواظب بعض المتظاهرين على الاعتصام والتظاهر في شارع بلفور بالقرب من مقرّ إقامة نتنياهو بشكل شبه مُنتظم منذ بداية شهر يوليو تقريباً.

وتعززت شرعية هذه  الاحتجاجات بتحقيق جديد كشف المزيد من التفاصيل الخاصة بما يعرف بـ”قضية الغواصات” التي كشف عنها قبل سنوات وفي نطاقها تم توجيه تهم بالفساد لنتنياهو من خلال استئجار خدمات ابن عمه المحامي في إتمام صفقة شراء غواصات من ألمانيا، تبين لاحقا أنه تقاضى لقاء ذلك 13 مليون يورو، وهناك من  يتهم نتنياهو وابن عمه باقتسام هذه “الغنيمة” من وراء ستار، وكان مكتب نتنياهو يدعي دوما أن عملية شراء الغواصات من شركة “تيسنكوروب” الألمانية قد تمت وفقا للقانون وطبقا لاحتياجات الجيش، غير أن التماسا للمحكمة العليا قدمته قبل أيام “الحركة من أجل جودة الحكم” قد كشف أن هناك عددا كبيرا من ضباط الجيش في الاحتياط قدموا شهادات تؤكد تعرضهم لضغوط سياسية من جهة مكتب نتنياهو تدفع باتجاه اقتناء الغواصات المكلفة جدا رغم عدم حاجة الجيش لها. ووفقا لصحيفة “يديعوت أحرونوت” التي نشرت تحقيقا حول ذلك في أحد ملحقاتها أواخر شهر يوليو، فإن هناك معطيات وأدلة كثيرة تفضح تدخلا عميقا من قبل نتنياهو بهذه الصفقة بشكل مريب، لاسيما أن المؤسسة الأمنية كانت ترفض اقتناء هذه الغواصات بمليارات الدولارات.[[1]]

وتظهر استطلاعات الرأي تراجع الثقة في نتنياهو، وهو يواجه الآن احتجاجات في أنحاء (إسرائيل) بسبب حالة الاقتصاد المتضرر من الجائحة، ووفقا لاستطلاع للرأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في 12 يوليو/تموز فإن 29.5% يثقون في طريقة تعامل رئيس الوزراء الذي يبلغ من العمر 70 عاما مع الأزمة، انخفاضا من 57.5% في أبريل/نيسان و47% في يونيو/حزيران، الماضيين، وهناك أيضا مسح أجرته دائرة الإحصاء المركزية أظهر أن 55% من الإسرائيليين يخشون من مواجهة صعوبات في دفع فواتيرهم، ارتفاعا من 46% خلال العزل العام في مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين. ورغم رفع قيود كثيرة لإنعاش النشاط الاقتصادي، لكن البطالة تحوم عند 21.5%، ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 6% في 2020. وتمنح استطلاعات الرأي الأخيرة حزب الليكود نحو 31 مقعدا من أصل 120 بتراجع 5 مقاعد عن كتلة الحزب الحالية التي حققها في الانتخابات الأخيرة.[[2]] لكن منتقدين يقولون إن نتنياهو، الذي يتلقى الإشادة عادة بفضل سياساته الاقتصادية، فقد الاهتمام على ما يبدو بإدارة الأزمة وأخفق في إعداد إستراتيجية واضحة للخروج بعد إجراءات العزل الأولى. كما تقول شركات إن المساعدات المالية التي حصلوا على وعد بها تأخرت في الوصول وعرقلتها البيروقراطية. ويعزو بعض الإسرائيليين أسباب فشل نتنياهو إلى عاملين تسببا في تشتيت انتباهه عن تداعيات أزمة كورونا: الأول،  خطط ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، والثاني اهتمامه بمتابعة قضية الفساد المرفوعة ضده، ومحاولات خصومه عزله بسببها والتي ينفي فيها ارتكاب أي مخالفات، ولهذا وبَّخ نتنياهو معارضيه وخصومه الذين يواصلون التظاهر للشهر الثالث على التوالي مطالبين باستقالته وكتب على تويتر “لا تجرُّوا البلاد نحو الفوضى والعنف والهجمات على الشرطة”.

وتعد موجة الاحتجاجات الحالية هي الثالثة ضد حكم اليمين منذ صعوده إلى سدة الحكم في أواخر سبعينات القرن القرن الماضي عندما تولى مناحم بيجين رئاسة الحكومة، وكانت أولى موجات التظاهر ضد حكم اليمين خلال الغزو الإسرائيلي للبنان (الذي بدأ في 1982 لكن حركة الاحتجاج بدأت عام 1983) حيث اعتاد نشطاء يسار ولا سيما حركة السلام الآن التظاهر أسبوعياً بأعداد صغيرة ضد الحرب، عندما قام يميني إسرائيلي يدعى يونا أفروشمي بإلقاء قنبلة باتجاه متظاهري حركة السلام الآن في العاشر من فبراير 1983 أسفرت عن مقتل الناشط اليساري إميل غرينتسفاغ.

أما الموجة الثانية فوقعت سنة 2011، وبلغت أوجها بنصب خيام في جادة روتشيلد في تل أبيب، لم تسفر تلك الموجة عن خلق بديل جديد يهدد حكم نتنياهو. واستطاع نتنياهو أن يجتاز “أزمة” المجتمع الإسرائيلي بعد قتل إسحاق رابين، ليؤكد فوزه حجم انزلاق المجتمع الإسرائيلي، نحو اليمين، إلى درجة قبول “ورثة” رابين بالتحالف مع نتنياهو لاحقاً في حكومات عدة. كما تمكن من احتواء تداعيات موجة الاحتجاجات الاجتماعية عام 2013، وعلى الرغم من أن تشكيل تحالف “أزرق ــ أبيض” لأول مرة تهديداً لنتنياهو بعد الانتخابات الأخيرة في مار 2020س، إلا أنه تمكن من تفتيت التحالف وشقه بعد انضمام الجنرال يني غانتس له مع 17 مقعداً.[[3]]

 

أصحاب الرايات السود

وجاء في البطاقة التعريفية لحراك “الرايات السود” عبر صفحته الرسمية، بأنه حراك يضُم “مجموعة من المواطنين والمواطنات المسؤولين والقلِقين على الديمقراطية في (إسرائيل)، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الجنس، هدفهم الحفاظ على ديمقراطية إسرائيل بروح وقيم وثيقة إعلان الاستقلال”، لذلك يستخدم الحراك شعار “إنقاذ الديمقراطية” للتعبير عن نفسه، ويُميّز أعضاؤه أنفسهم من خلال “الرايات السود” المُستخدمة في الاحتجاجات بالإضافة إلى ارتدائهم للزّي الأسود، ويرفض ناشطو الحراك تعريف أنفسهم على أنهم حركة حزبية، مؤكّدين في الوقت نفسه أن الحراك يعتمد في تمويل أنشطته على تبرّعات الأعضاء والناشطين فقط، وفقاً لرواية قادة الحراك.

ويقود حراك “الرايات السود” التظاهرات والاحتجاجات المستمرة منذ منتصف إبريل على مُفترقات الطُرق والجسور وفي مراكز المُدن المُختلفة، مُندّداً باستمرار “نتنياهو الفاسد” في منصبه كرئيس للحكومة ومُطالباً إيّاه بالاستقالة، بعد أن تم تقديم لائحة اتّهام بحقّه تتضمّن الفساد، الرشوة، وخيانة الأمانة من قِبل المُستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت، ويرفع حراك “الرايات السود” شعارات تُطالب نتنياهو بالاستقالة والتنحّي عن منصبه من قبيل “نتنياهو فاسد” و”مال، حُكم، عالم سُفلي”، “بيبي ارحل”، “لن نستسلم حتى تستقيل” بحجّة أنّه لم يعُد مؤهلاً أخلاقياً لقيادة إسرائيل، إضافة إلى اتّهامه بتقويض الأسس والمبادئ والقيم الديمقراطية التي نصّت عليها (وثيقة إعلان الاستقلال).

 

أبعاد ودلالات الحركة الاحتجاجية

أولا، تعكس هذه الحركة الاحتجاجية المستمرة للشهر الثالث على التوالي ضد حكم “نتنياهو” تصاعد مستويات الغضب بين الإسرائيليين وخصوصا فئة الشباب على سياسات نتنياهو وطريقة تعامله مع ازمة كورونا؛ وهو ما تؤكده نتائج استطلاعات الرأي؛  فعندما تراجع عدد الإصابات ألقى نتنياهو خطابا متلفزا في 26 مايو 2020م بدا فيه مزهوا ومتباهيا بنجاحه، وقال لمواطنيه: “استمتعوا”، فلما تراخى الإسرائيليون عادت معدلات انتشار كورونا إلى الارتفاع؛ الأمر الذي رفع مستويات الغضب فخرجت المظاهرات بالآلاف يقودها الشباب مطالبين باستقالة “نتنياهو”، وبالطبع فإن مُشاركة الشباب تعطي الحراك زخماً أكبر، وتُعتبر مؤشّراً إيجابياً أيضاً يُفيد بإمكانية استمرار الاحتجاجات في المستقبل القريب ما دامت الظروف الذاتية والموضوعية تسمح بذلك، خصوصاً وأن تفشّي فيروس كورونا على نطاق واسع قد يُشكّل عائقاً أمام قدرة هذا الحراك وقادته على حشد وتعبئة الطاقات في الشارع. وعليه، يُمكن القول إن التساؤلات بشأن مُستقبل الحراك وطبيعته ومساره تبقى مفتوحة وقابلة للتغيُّر بحسب المعطيات والظروف الراهنة والمُستقبلية المُتغيّرة بطبيعتها.

 

ثانيا، هناك مؤشرات على انزلاق الوضع في (إسرائيل) نحو العنف حيث جرى الاعتداء على المتظاهرين من جانب شرطة الاحتلال بخراطيم المياه والهراوات وتم اعتقال العشرات جرى إخلاء سبيلهم لاحقا، وعلى خلفية هذه الاحتجاجات وقع تراشق بين أنصار الليكود والمعارضة؛ حيث  قالت وزيرة المواصلات المقرّبة من نتنياهو، ميري ريغيف ضمن مزاعمها “الديماغوجية الرخيصة” كما تتهمها المعارضة “لم يكن أبدا رئيس حكومة مهدّدا بالقتل مثل نتنياهو”، ودعت ريغيف  لـ”قبضة حديدية” في التعامل مع المتظاهرين بذريعة أنهم متورطون بـ”التحريض”، وأضافت في ادعائها: “هناك فارق بين تظاهر ينمّ عن وجع، وبين تظاهر تحريضي يحض على العنف ضد رئيس الحكومة”، نفس التحذير وقع من وزير الأمن الداخلي، “أمير أوحانا” الذي يعتبر أشد أنصار نتنياهو وأداته لقمع الاحتجاجات محذّرا من أن التظاهرات سوف تنتهي بسفك للدماء، متهما كتل المعارضة وأوساطا إعلامية بتأجيج المظاهرات ضد نتنياهو على خلفية سياسية وحزبية. وتحذر صحيفة “إسرائيل اليوم” من ارتفاع منسوب العنف خلال التظاهرات، وقالت إن “التحدي هو احتمال دخول دراماتيكي لمجموعات همجية من مشجعي كرة القدم قد تؤدي إلى حرب أهلية على شاكلة ما شهدته يوغوسلافيا”.  تحذيرات  صحيفة “إسرائيل اليوم” وقعت بالفعل؛ حيث شهدت تل أبيب مظاهرة صاخبة ضد وزير “الأمن الداخلي”، أمير أوحانا الذي تم توثيق محادثة له مع القائد العام للشرطة، وهو يوجهه قبل أيام لقمع المظاهرات ضد بنيامين نتنياهو في القدس وتل أبيب، وجاءت هذه الاعتداءات على المتظاهرين بالسلاسل والهراوات وإصابة عدد منهم بجراح، استمراراً لاعتداءات وحشية قامت بها عصابات “لافاميليا” في القدس الغربية، ضد المتظاهرين خلال الأيام الأخيرة رغم وجود رجال الشرطة الإسرائيلية الذين تعتقلون يوميا عددا من المتظاهرين، ووفقا لمراسل صحيفة “الاتحاد” الصادرة في حيفا داخل أراضي 48 فإن “كل الدلائل تشير إلى أن نتنياهو وعصابته يستعينون من وراء الكواليس بـ”العصابات الإرهابية” كي تردع المتظاهرين، وهي ذات العصابات التي عهدتها جماهيرنا الفلسطينية بالاعتداءات الدموي عليها”.[[4]]

ثالثا، المُلفت في احتجاج “الرايات السود” هو سلوكه مسارا مُختلفا عن مسارات الاحتجاجات السابقة التي غلبَ عليها الطابع المطلبي فقط، وليس المطلبي- السياسي، وجاء انضمام المتضررين من تداعيات تفشي جائحة كورونا إلى الحركة الاحتجاجية السياسية ليكسبها بعدا اجتماعيا واقتصاديا بالغ الأهمية. حيث تدفقت إلى الشوارع موجات من عمال وحرفيين وتجار واندمجوا في الحركة الاحتجاجية خصوصا مع فشل حكومة نتنياهو في مواجة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لكورونا ووصول نسبة البطالة إلى 22%، في الوقت الذي ينشغل فيه “نتنياهو” بالبحث عن حلول تضمن بقاءه  في الحكم  بعد اتهامه بالفساد، واستغل القائمون على الحراك هذه الأوضاع وتبنوا مقولة أن “هناك صلة مباشرة للفساد الحكومي بسوء إدارة الحكومة لأزمة فيروس كورونا” الأمر الذي عزّز من حضور هذا الحراك في الشارع الإسرائيلي ومكّنه من استقطاب العديد من المتظاهرين المُتضرّرين بفعل الأزمة، خصوصاً مع انضمام جيل الشباب لهذا الحراك مؤخّراً في مشهد غير مسبوق منذ عدّة أعوام نتيجة ارتفاع معدّلات البطالة.

رابعا، يبرهن الاحتجاج الحالي على شيئين: الأول هو تراجع منسوب الثقة داخل “المجتمع الإسرائيلي” في مؤسسة القضاء واليقين بعدم قدرتها على ملاحقة نتنياهو وإجراء محاكمة عادلة تفضي إلى عزله من منصبه استنادا إلى الاتهامات التي وجهت إليه والتي تؤكدها كثير من الأدلة والشواهد والشهود. الثاني، هو ضعف المعارضة السياسية ضد نتنياهو؛ وإن كان ذلك لا يمنع من دعم نواب في الكنسيت لمطالب المحتجين، يبرهن على ذلك أنه لا يوجد بديل سياسي لنتنياهو حتى اليوم، ورغم أن المطالبة باستقالة نتنياهو هي مطلب محوري للحراك، لكن من البديل؟ فالجنرال “يني غانتس” زعيم  حزب “أزرق ــ أبيض” الذي كان ينظر إليه باعتباره بديلا أكثر استقامة انضم إلى حكومة نتنياهو رغم اتهامات الفساد التي تلاحقه وبالتالي فقد أحرق “غانتس” نفسه بهذه الخطوة وتراجع الرهان عليه كثيرا بعد تفكيك تحالفه. وبات كثير من الإسرائيليين يفهمون الآن أن المشكلة ليست “نتنياهو” نفسه، بل شيء أعمق وأكثر تعفنا، وبناء عليه فإن تواصل هذا الحراك ونجاحه يعني تحولات جذرية في (إسرائيل)، وزعزعة المفاهيم السياسية السائدة حاليا والتي تهيمن  على مؤسسات الحكم بها.

خامسا، حتى ينجح هذا الحراك في تحقيق أهدافه، فإنه لا يزال يحتاج إلى بعض العوامل حتى يتحوّل لحركة اجتماعية واسعة لديها مطالب واضحة ومُحدّدة، فهو حراك لا يزال يفتقد مسألة التنظيم والهوية المشتركة، ولا يزال المتظاهرون  غير مُتجانسين في موقفهم أو غير مُتّفقين على بعض القضايا، رغم اتفاقهم النسبي على المطلب العام للحراك والمُتمثّل بدعوة نتنياهو للاستقالة، وهذا يُمكن ملاحظته من خلال عدم وجود موقف واضح من قضايا مُحدّدة كالضم والاحتلال التي يربطها بعض الناشطين في الحراك بالفساد السياسي وسوء الإدارة الحاصلة في حكومة نتنياهو، وهو الأمر الذي لا يلقى تأييداً في معظم الأحيان من قِبل جميع المُتظاهرين نظراً لاختلاف توجّهاتهم السياسية”.  إضافة إلى ذلك، لم يتمكن الحراك حتى اليوم من وضع تحدّيات المواجهة أمام جهات ومؤسّسات الحكم في (إسرائيل) لعدم قُدرته ربّما على حشد أعداد كبيرة من المُتظاهرين المؤمنين بمطلب الحراك كما حصل في حراك “غلاء المعيشة” عام 2011 مثلاً، وكما حصل أيضاً مع حركة “الأمّهات الأربع” التي تشكّلت عام 1997 والتي وضعت تحدّي المواجهة أمام الجهات الحاكمة من خلال مُطالبتها بالانسحاب من جنوب لبنان، واستطاعت الحصول على تأييد فئات وقطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي آنذاك، قبل أن تنتهِي الحركة بعد أن تحقّقت مطالبها بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000.

 

مستقبل نتنياهو والحراك

مع استمرار التظاهرات من جهة، وتعاظم فشل حكومة نتنياهو في مواجهة الموجة الثانية من كورونا من جهة ثانية، بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي من جديد التفكير “بصوت مرتفع” أمام المقرّبين منه في وجوب الذهاب لانتخابات جديدة، بحجة أن الوضع الحالي في الحكومة مشلول، ولا يمكّنه من اتخاذ قرارات حازمة لمواجهة الوباء وإقرار ميزانية رسمية للدولة. وصعّد نتنياهو من نبرته في هذا الاتجاه، وسط ميل “لتشجيع حالة فوضى في الحكم وعدم صنع القرار”، حسبما رصد محلل الشؤون الحزبية في صحيفة “هآرتس” يوسي فيرتير، ليدلل على خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي لنشر حالة إحباط ويأس من حكومة الطوارئ الحالية، مع تحميل المسؤولية كاملة لشريكه في الحكم، الجنرال بني غانتس، أملاً في أن يساهم ذلك في تهيئة الأرضية والرأي العام الإسرائيلي لمناورة حزبية تأتي على نهاية الحكومة الحالية وتتيح له الذهاب لانتخابات مبكرة.[[5]]

وفي تحليل  بعنوان “قد تؤثر احتجاجات اسرائيل على نتنياهو، لكن هل تهدد سلطته؟” لأوليفر هولمز، مراسل صحيفة الجارديان البريطانية بالقدس نشرته الصحيفة  في 3 أغسطس 2020م، يرى الكاتب أن مشاهد الآلاف من الناس في الشوارع واشتباكات الشرطة مع المتظاهرين ترسم صورة لرئيس الوزراء الذي تزداد عزلته وقد تضعف قبضته على (إسرائيل)، لكن من غير الأكيد ما إذا كان يمكن أن تؤذي أكثر من زهو بنيامين نتنياهو بنفسه، ويشير إلى أن كلا من مؤيدي نتنياهو ومعارضيه يتفقون على أن السياسي، الذي يتولى السلطة منذ عام 2009، لديه قوة لا تصدق للبقاء في السلطة.

وعلى عكس سلفه إيهود أولمرت الذي تنحى عندما بدا أنه سيواجه تهما، رفض نتنياهو بثقة ترك السلطة بعد اتهامه بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. لكن الكاتب يرى أنه كان لدى الإسرائيليين فرصا عديدة للإطاحة بنتنياهو، فخلال العامين الماضيين فقط، أجرت البلاد ثلاث انتخابات متتالية، وفي اثنتين من هذه الانتخابات، فاز حزب نتنياهو الحاكم بأكبر حصة من الأصوات في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، حتى الانتخابات التي حل فيها الليكود ثانيا، استطاع نتنياهو منع المعارضة من الوصول إلى السلطة، لكن انتشار جائحة كورونا جلب مجموعة جديدة من المشاكل حيث تظهر استطلاعات  الرأي أن معدلات تأييد نتنياهو قد انخفضت بشدة، ولكن في الوقت نفسه لا يزال حزب الليكود وحلفاؤه القوميون يتمتعون بشعبية كبيرة.[[6]]

وحول سيناريوهات ومستقبل المشهد، قد يكتفي نتنياهو بإسقاط الحكومة لعدم إقرار ميزانية جديدة، حتى 25 أغسطس/آب 2020، ليتم الإعلان رسمياً عن انتخابات جديدة خلال تسعين يوماً، من دون أن يكون في الخريطة الحزبية الإسرائيلية شخصية قادرة أن تشكل بنظر الإسرائيليين بديلاً لنتنياهو. لكن ​ المعلق الإسرائيلي البارز نحوم برنياع، يرى أن على نتنياهو أن يكون قلقا إزاء تواصل الاحتجاجات وتزايد عدد المتظاهرين الشباب بعضهم من أتباع معسكر اليمين الصهيوني. ويرى أن نتنياهو لا يعرف كيف يتعامل مع هذه الموجات المتتالية من التظاهر ويتساءل: هل يحتويها كما حدث في احتجاجات صيف 2011 أو يحاربها في الشوارع؟ أم يذهب نحو انتخابات عامة قبيل نهاية العام الجاري؟

الموقف بات عصيبا على الجميع، إذ كيف يذهب نتنياهو إلى انتخابات مبكرة رابعة قبل نهاية العام في ظل مؤشرات استطلاعات الرأي التي تؤكد تراجع شعبته وشعبية الليكود عموما؟ ربما انهيار “غانتس” وتحالفه “أزرق ــ أبيض” يغويه من أجل الذهاب إلى مثل هذه انتخابات، لكن المؤكد أن سيناريو مثل هذا ربما يعمق أزمة الحكم في “إسرائيل” بشكل لا يمكن احتواؤه وبما يسهم في توسيع دوافع الاحتجاج الجماهيري مع تردي وسوء الأوضاع الاقتصادية بعد تفشي جائحة “كورونا”.

ويبقى التساؤل الأكثر أهمية: كيف يوظف الفلسطينيون هذه الأوضاع الفوضوية في “إسرائيل” من أجل خدمة قضيتهم وزحزحة الاحتلال الذي يجثم على بلادهم منذ أكثر من سبعة عقود؟ فهل بات الوقت ملائما لاندلاع انتفاضة جديدة يمكن أن تسهم بالتزامن مع الاحتجاجات الداخلية في “إسرائيل” في تحقيق مزيد من الفوضى والتراجع داخل الكيان الصهيوني؟ أم أن انتفاضة في هذا التوقيت ربما يوظفها نتنياهو  لوأد الحراك من أجل حماية “إسرائيل” وفق نظرية “صناعة العدو” التي تسخدمها كل الحكومات المستبدة؟

يميل البعض إلى ترك الصهاينة يأكل بعضهم بعضا؛ فبأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، في ذات الوقت على الفلسطيين العمل بعزيمة أكبر من أجل امتلاك أدوات القوة التي تمكنهم من مواجهة البلطجة الصهيونية وإنهاء هذا الاحتلال الأثيم.

 

 

[1] تصاعد الاحتجاجات ضد نتنياهو على خلفية تهم الفساد وفشله في مواجهة كورونا/ القدس العربي 2 – أغسطس – 2020

 

[2] هل بدأ جيل الشباب في إسرائيل بالانقلاب على نتنياهو؟/ الجزيرة نت 30 يوليو ــ2020

[3] هل تتحول الاحتجاجات ضد نتنياهو إلى ثورة في إسرائيل؟/ الخليج الجديد  السبت 25 يوليو 2020 تقرير مترجم عن ميدل إيست آي للكاتب “أورلي نوي”

 

[4] ما هي طبيعة ومستقبل الاحتجاجات المتزايدة في إسرائيل ضد نتنياهو وحكومته؟/القدس العربي الأربعاء 29 يوليوــ 2020

 

[5] نضال محمد وتد/ نتنياهو يغذي الاستقطاب السياسي لخدمة مصالحه/ العربي الجديد 25 يوليو 2020

[6] الصحف البريطانية: جدوى الاحتجاجات ضد نتنياهو واعتماد اختبار الـ 90 دقيقة لكشف الإصابة بكورونا/ بي بي سي عربي 3 أغسطس 2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022