اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان الدوافع والتداعيات

وقعت مصر واليونان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينهما؛ لتحديد المناطق الاقتصادية في السادس من أغسطس 2020، ورغم أنه لم يتم نشر بنود الاتفاقية حتى الآن (13 أغسطس 2020)، إلا أن التوقيع على الاتفاقية بين الجانبين معناه أنهما توصلا إلى تفاهمات بخصوص الخلافات التي عطلت الاتفاق في السابق. هذه الخلافات هي:

– اليونان كانت تصر على اعتبار بداية حدودها عند جزيرة صغيرة تبعد عن مدينة أنطاليا التركية لمسافة 1.5 كم فقط، وتسمى كاستيلوريزو. التوقيع بهذا الشكل كان سيمنح اليونان مساحة هائلة إضافية من المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر وممرًّا بحريًّا يربطها بجزيرة قبرص (اليونانية). من غير المعروف بعدُ ما إذا كانت مصر وافقت أم لم توافق على هذا البند في الاتفاقية الجديدة.

– في وثائق مسربة في ديسمبر 2019، ذكرت وزارة الخارجية المصرية أن اليونان كانت تصر على ترسيم الحدود مع مصر وفقًا لمبدأ “خط المنتصف” (قياس المسافة بين ساحل الدولتين ورسم خط الحدود في منتصفها)، الذي كان سيخصم من مساحة المنطقة المصرية قرابة 7 آلاف كم2. لكن مصر تمسكت -وفقًا للخارجية- بمبدأ التناسب (تناسب مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة للدولة مع طول ساحلها).

– إصرار وزارة الخارجية المصرية على عدم إدراج بند لإقرار الدولتين بشكل متبادل بأية حقوق محتملة لهما ناحية الشرق، فيما يتجاوز خط الطول 28، وهو “ما يؤثر على أحقية مصر في تعيين الحدود بشكل منفرد مع تركيا في المستقبل”. لم تنف الحكومة المصرية صحة هذه الوثائق حتى الآن، كما لم يتم التعرف بعدُ إلى ما إذا كانت مصر وافقت على إدراج مطالب اليونان في الاتفاقية الجديدة[1].

 

أولًا: دوافع توقيع الاتفاقية:

تتمثل الدوافع التي تقف خلف قيام كل من مصر واليونان بتوقيع اتفاقية لترسيم حدودهما البحرية في تحقيق مجموعة من المكاسب التي تحققها تلك الاتفاقية لكلا الدولتين:

1- اليونان:

أ- اتفاق ترسيم الحدود البحرية التُركي مع حكومة السراج ينتقص في الأساس من المنطقة الاقتصادية الخالصة اليونانية (وفقًا للادعاء اليوناني)، بما يعني أن أول استفادة تجنيها اليونان من ترسيم الحدود البحرية مع مصر هو توفير إطار قانوني يضبط حدودها البحرية غير المُرسمة لعشرات الأعوام في منطقة شرق المتوسط، وهو ما يطوق نتائج الاتفاق التُركي مع حكومة السراج، وذلك من خلال:

(1) إعطاء سند قانوني لليونان -بالإضافة لقانون البحار- في شكل اتفاقية دولية تناقض الاتفاق التُركي – الليبي؛ مما يُعزز من موقفها في حفظ مياهها الاقتصادية الخالصة، أمام المُنظمات الدولية والمُجتمع الدولي بشكل عام.

(2) تفويت الفُرصة على تُركيا في ترسيم حدودها البحرية مع مصر التي تُعتبر مُشاطئة لها، وهو ما سعت له تُركيا بشدة خلال الفترة الماضية، من خلال عرض منطقة اقتصادية أكبر من تلك التي قد يُسفر عنها الترسيم مع اليونان، لكن مصر رفضت ذلك.

ب- ظلت المنطقة البحرية جنوب شرق جزيرة كريت غير مُستغلة اقتصاديًّا برغم ما تشير إليه التقديرات من وجود كميات ضخمة من الغاز بها؛ وذلك بسبب عدم ترسيم الحدود مع مصر لعشرات الأعوام، على عكس المناطق في البحر الأيوني التي طُرحت للتنقيب غرب البلاد خلال عامي 2019/ 2020. وبدأت الشركات العالمية عمليات المسح والتنقيب فيها فعليًّا، على الرغم مما تُشير إليه التوقعات بوجود كميات ضخمة من النفط والغاز في حوض شرق البحر المتوسط عمومًا.

ج- ترسيم الحدود مع مصر يُمكّن اليونان من التحول إلى معبر للطاقة الأوروبية من ناحية الجنوب، وذلك بعد إتمام مشروع خط غاز شرق المتوسط East- Med مع كُل من إسرائيل وقبرص، الذي يستهدف نقل الغاز من الدول المُنتجة في الحوض إلى داخل أوروبا عبر الأراضي اليونانية، وما يرتبط به من الحصول على تفضيلات سعرية وتعريفات مرور تخدم الاقتصاد اليوناني. بالإضافة إلى تلقيها شحنات الغاز المصرية المُسالة من إدكو ودمياط عبر محطة Revithoussa غرب أثينا، وأخيرًا عبر الربط الكهربي بينها وبين مصر، وهي مشروعات جميعها كانت مهددة في ظل المنطقة الاقتصادية الخالصة التُركية المزعومة، والنتائج المُترتبة عليها من قطع الاتصال الجغرافي بين دول شرق المتوسط واليونان[2].

د- كما أن الاتفاقية تمثل نجاحًا دبلوماسيًّا لليونان، التي تمكنت من توقيع اتفاقية مشابهة لترسيم الحدود مع إيطاليا في يونيو 2020[3].

 

2- مصر:

أ- يُتيح الاتفاق لمصر استكشاف المنطقة الغربية من حدود البحر المتوسط؛ لاستخراج الثروات الموجودة بها، فبينما المنطقة الشرقية تنتشر بها الامتيازات بسبب ترسيم الحدود مع قبرص، ظلت المنطقة الغربية بعيدة كُل البعد عن الاستغلال؛ حيث لا تعمل الشركات الدولية في المناطق غير المُرسمة بحدود مُنضبطة غير مُتنازع عليها.

ب- يُمكّن الاتفاق مصر من استكمال مشروعها في التحول لمركز إقليمي لتداول الطاقة، من خلال:

(1) تسييل الغاز من كُل من قبرص وإسرائيل ونقله للأراضي الأوروبية عبر اليونان، حيث ارتبطت مصر مع إسرائيل عبر شركة دولفيونس المصرية الخاصة من جانب وشركتي “ديليك دريلينج” وشريكتها الأمريكية “نوبل إنرجي” باتفاق وقع أوائل العام الماضي (2019) لتصدير الغاز الطبيعي بقيمة 15 مليار دولار من حقلي “تمار” و”لفثيان”، جرى تعديله في أكتوبر 2019 بزيادة الكميات المُصدرة لتبلغ 60 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر على مدى 15 عامًا، بدلًا من 32 مليار متر مكعب في الاتفاق الأصلي. ثم ارتبطت مصر مع قبرص باتفاقية لإنشاء خط غاز يربط بين البلدين لنقل الغاز القبرصي إلى محطات الإسالة المصرية، وقعت في العاصمة القبرصية نيقوسيا بتاريخ 19 سبتمبر 2018، وأصبحت هذه الاتفاقية سارية عقب نشرها في الجريدة الرسمية المصرية بتاريخ 5 يوليو 2019.

(2) إتمام مشروع تداول الطاقة الكهربية، والذي سيكون بدون قيمة حقيقية دون الربط مع أوروبا عبر اليونان، حيث قامت القاهرة بتوقيع اتفاق للربط الكهربائي مع قبرص ومنها لليونان بما قيمته 2 مليار جنيه سنويًّا، بكابل كهربي بقدرة 3000 ميجا وات ساعة، تتجه للارتفاع مع زيادة عدد الكابلات والقدرات المصرية المُتنامية في مجال توليد الكهرباء.

كذلك يُتيح الاتفاق للدولتين التعاون في مجال البحث والتنقيب عن النفط والغاز، في ظل وجود شركات يونانية ضخمة مثل Energean، بالتزامن مع شركات مصرية ناشئة مثل Egas وغيرها، وامتلاك الدولتين مساحات شاسعة غير مُستكشفة برًّا أو بحرًا، يُمكن من خلالها تعظيم دور هذه الشركات، ودفعها لتحقيق مكاسب اقتصادية تعود بالنفع على كلا الاقتصادين، اللذين يُعانيان في الوقت الحالي جراء جائحة كورونا، التي تضغط بشدة على قطاع السياحة أحد الدعائم الاقتصادية الأساسية لكلتا الدولتين[4].

(3) وإن كان السيسي يهدف من خلال ترسيم الحدود مع اليونان إلى تحقيق مكاسب اقتصادية، عبر إنهاء مشاكل مصر الحدودية البحرية؛ لاجتذاب مزيد من الاستثمارات في قطاعي الغاز الطبيعي والبترول، باعتباره القطاع الوحيد الذي تملك مصر سبل تحقيق نجاح اقتصادي كبير فيه من دون انتظار عشرات السنوات. كما يتمسك السيسي بإبرام مثل هذه الاتفاقيات، حتى لا يتكرر ما حدث عام 2011، عندما انسحبت شركة “شل” الهولندية من حقل “نيميد” المصري، الذي منحتها حكومة كمال الجنزوري حق امتيازه، بزعم تداخله التام مع حقل غاز “أفروديت” القبرصي، وبالتالي فإن الرؤية المصرية مستقرة على ضرورة “ترسيم الحدود” كحافز للاستثمارات. وكان مصدر قضائي مصري، شارك في أعمال لجان ترسيم الحدود البحرية في عهد المجلس العسكري، قد قال في تصريحات سابقة لـ “العربي الجديد” إن الاتفاقية الموقّعة بين مصر وقبرص عام 2013، ورغم ما تتضمنه من غبن لحق مصر في نقاط عدة بسبب أسبقية قبرص والاحتلال الإسرائيلي في التقسيم لنحو عقد كامل، هي في حقيقتها “قاعدة نهائية” لتقاسم مكامن الغاز في المناطق الاقتصادية بين البلدين؛ بسبب تداخل بعض العلامات الحدودية، وصعوبة فصلها؛ الأمر الذي أدى سابقًا إلى انسحاب شركة “شل”، ورفض بعض الشركات العالمية الأخرى توسيع أعمالها في مصر قبل تسوية المشاكل الحدودية؛ حرصًا على أموالها[5].

ج- أن الاتفاق يجعل لمصر -لأول مرة- حدودًا رسمية ومعترف بها ومباشرة مع الأرض اليابسة للاتحاد الأوروبي. ما سوف يزيد من أهمية مصر بالنسبة للاتحاد، ويحولها إلى أحد اللاعبين الأساسيين لضمان الأمن والاستقرار في البحر المتوسط بالنسبة لأوروبا.

د- يشكل الاتفاق نصرًا لمصر في تنافسها المحتدم مع تركيا على مصادر الطاقة في المنطقة، وتقضي تمامًا على أي مستقبل لمذكرة التفاهم التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا في طرابلس لترسيم الحدود مع ليبيا. خاصة وأن مذكرة التفاهم تلك ولدت ميتة، ولم يعترف بها أحد، على عكس الاتفاقية بين مصر واليونان التي وقعت استنادًا إلى قانون البحار، وستسجل في الأمم المتحدة، وسيعترف بها العالم كله؛ لأنها تمت بالطريقة الصحيحة[6].

كما أن مصر بتوقيعها لاتفاقية مع اليونان تكون بذلك قد قطعت الطريق على إمكانية التوصل إلى تفاهمات بين تركيا واليونان حول منطقة شرق المتوسط، (وربما التوصل إلى اتفاق على كيفية تقسيم موارد الغاز والنفط في المنطقة، حتى لو لم يصل التوافق إلى درجة ترسيم الحدود البحرية بينهما)، مع استبعاد المصالح المصرية في تلك المنطقة. وقد زادت المخاوف المصرية من إمكانية تحقيق ذلك بعد تدخل ألمانيا على خط الوساطة بين الطرفين. وفي هذا الإطار، فقد أكد الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، قائلًا: «نقوم بالتفاوض مع اليونان حول مستجدات الأوضاع بشرق المتوسط منذ شهرين، ولجأنا إلى ألمانيا بسبب حياديتها في هذه المسألة، وحين توصلنا إلى اتفاق، قامت اليونان بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع مصر»[7].

 

ثانيًا: تداعيات توقيع الاتفاقية:

1- خسارة مصر إستراتيجيًّا واقتصاديًّا: فهذه الاتفاقية تتسبب في خسارة مصر إستراتيجيًّا واقتصاديًّا:

فعلى المستوى الإستراتيجي، ففي حين تسعى مصر إلى التحول إلى منصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي؛ إذ يوفر حقل “ظهر” الضخم كميات من الغاز الطبيعي يمكن تصديرها للخارج بأسعار منافسة، بالإضافة إلى البنية التحتية المتمثلة في محطتي إدكو ودمياط لإسالة الغاز الطبيعي، التي تمنح مصر الأفضلية والسبق في أن تصبح المنصة الإقليمية الرئيسة لتصدير الغاز إلى أوروبا في المستقبل – إلا أن أحد التهديدات الرئيسة للإستراتيجية المصرية هي مشروع خط غاز East Med الذي تسعى إسرائيل إلى الشروع في إنشائه بجدية؛ إذ يبدأ الخط من إسرائيل ويصل إلى أوروبا، مرورًا بقبرص واليونان وإيطاليا.

ويلقى الخط دعمًا من الاتحاد الأوروبي؛ حيث يراه أحد مصادر الغاز البديلة التي يسعى إليها، في سبيل التقليل من الاعتماد على الغاز الروسي، الذي يسيطر على أكثر من ثلث واردات الغاز لأوروبا، ويعد خط East Med تهديدًا واضحًا ومباشرًا للمصالح المصرية؛ إذ يعني في حال تم إنشاء الخط خسارة مصر دورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.

وعليه، فإنه ليس من مصلحة مصر -بأي حال من الأحوال- إنشاء وإنجاز خط East Med، وهو الأمر الذي جعل اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا تتوافق مع المصلحة المصرية؛ لأن الاتفاقية تمنع مرور خط East Med لاستكمال طريقه إلى أوروبا إلا بموافقة الجانب التركي، وهو أمر يبدو صعبًا في ظل الأزمات التي لم تحل بين تركيا من جهة وبين اليونان وقبرص من جهة أخرى.

ولكن وفقًا للتطور الأخير واتفاق ترسيم الحدود البحرية المعلن بين مصر واليونان استنادًا إلى قانون البحار، فإن مصر توافق رسميًّا على الرؤية اليونانية لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، وتعطي الحق لليونان لتخطي الاتفاقية التركية الليبية؛ أي أن مصر من خلال توقيعها للاتفاقية مع اليونان تعطي الضوء الأخضر والمسوغ القانوني لإسرائيل وقبرص واليونان لإنشاء خط East Med، وهو ما يعني خسارة مصر موقعها كمنصة إقليمية في المستقبل، وما يتبع ذلك من خسائر اقتصادية، وفقدان لنفوذ ودور جيوسياسي مهم في منطقة شرق المتوسط[8].

وعلى المستوى الاقتصادي، فقد سبق أن أكد موقع “مدى مصر”، في يونيو 2020، أن “وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة المصرية يضغطان على الرئيس المصري لقبول الاتفاق البحري بين تركيا وليبيا في هدوء؛ إذ سيمنح القاهرة امتيازًا بحريًّا ضخمًا في المفاوضات البحرية المتعثرة مع اليونان”. وفي ديسمبر 2019 نشرت قناة الجزيرة مباشر وثائق حصرية تكشف تجاهل السيسي لتوصية الخارجية المصرية برفض الطرح اليوناني لتعيين الحدود البحرية، خاصة أن تمسك اليونان برؤيتها يؤدي لخسارة مصر 7 آلاف كلم مربع من مياهها الاقتصادية، كما يؤثر على أحقية مصر في تعيين الحدود مستقبلًا مع تركيا[9]. وفى هذا السياق، يمكن تفهم تعليق وزير الخارجية المصري سامح شكري، في ديسمبر 2019، الذي أكد فيه على أنه “لا يوجد مساس لمصالحنا في مصر من اتفاق تركيا وحكومة طرابلس”[10].

2- تصاعد التوتر بين مصر وتركيا: يبدو أن محاصرة تركيا في منطقة شرق المتوسط كان الدافع المصري الأبرز من خلف تلك الاتفاقية، وهو ما ظهر في تناول الإعلام المصري للاتفاقية، الذي اتسم بلغة الشماتة والنكاية السياسية تجاه تركيا؛ حيث جاءت عناوين الأخبار والتقارير والمقالات من قبيل أن الاتفاق ينهي “الأطماع التركية” في منطقة شرق المتوسط، وأنه “يبطل اتفاق أنقرة مع حكومة السراج في ليبيا”، وأنه “صفعة قوية لأردوغان”. وابتعدت التغطية الإعلامية عن شرح ومقارنة سيناريوهات المكاسب والخسائر الاقتصادية والسياسية لمصر في حال ترسيم الحدود البحرية وفقًا للرؤية اليونانية أو التركية. فضلًا عن  أن حقوق مصر وفقًا للرؤية التركية أكبر من التي حصلت عليها في الاتفاقية اليونانية -كما هو موضح أعلاه-، وإن كانت السلطات المصرية تقول إن القانون الدولي في صف الرؤية اليونانية وليس التركية[11]. كما أنه بات واضحًا أن المحرك الأساسي للسياسة الخارجية المصرية هو العداء لأنقرة، وهو ما ظهر في إعطاء أولوية لمواجهة التدخل التركي في ليبيا، مقابل إعطاء مرونة منقطعة النظير للتهديد الحيوي في ملف النيل من قبل إثيوبيا[12].

وربما يسرع هذا الاتفاق من إمكانية حدوث تصادم بين مصر وتركيا، خاصة وأنه يتقاطع مع بعض المناطق التي تعتبرها تركيا ملكًا لها وفقًا لاتفاقيتها البحرية مع حكومة الوفاق. كما أن هذا الاتفاق سيورط الدولة المصرية في الخلاف بين تركيا واليونان لصالح الأخيرة. كما أنه يتسبب في مزيد من التعقيد وعرقلة فرص التوصل لاتفاق بين مصر وتركيا على تقاسم مياه وثروات شرق المتوسط في المستقبل.

أكثر من ذلك، فإن هذا الاتفاق قد يشحذ الشعور الوطني التركي خلف أردوغان، وإعطاء زخم لتحركاته العسكرية في ليبيا وشرق المتوسط، حتى لو تسببت في وقوع صدام عسكري مع مصر[13]. وما يزيد من إمكانية وقوف الأتراك خلف أردوغان، أن الاتفاق بين مصر واليونان، المدعوم من قبل أوروبا وأمريكا، يأتى بالتزامن مع الذكرى السنوية لمعاهدة سيفر، الموقعة في 10 أغسطس 1920، ومع مرور قرن على تلك الاتفاقية التي صممت لتفكيك الدولة العثمانية، وإلغاء السيادة التركية بشكل عملي. وتساهم تلك الاتفاقية في تعزيز الحس القومي لدى الأتراك، وتمثل ركيزة لاعتقاد المسؤولين الأتراك بأن قوى خارجية تتآمر لتدمير دولتهم[14].

وفي المقابل، يستبعد العديد من المراقبين إمكانية حدوث تصادم عسكري بين مصر وتركيا، وذلك على اعتبار أن مصر لن تبدأ بعمليات التنقيب في المناطق التي يمكن أن تسبّب توترًا عسكريًّا، ومن هنا، تسعى مصر إلى العمل في المناطق غير المتنازع عليها بشكل رئيس أولًا، في انتظار ما ستسفر عنه الجولات المقبلة، ولا سيما بين تركيا وأوروبا، بعد المنازعات التي شهدتها الأسابيع الماضية، وتحديدًا تلك المرتبطة بقبرص واليونان. كما أنه من المؤكد أن القاهرة لن تقدم على بدء التنقيب في المناطق المنصوص عليها في الاتفاقية حتى بداية العام المقبل على الأقل، في ظل ضرورة اعتماد الاتفاقية من قبل مجلس النواب وإقرارها من قِبَل رئيس الجمهورية. وفي مؤشر على محاولة مصر إرجاء أي صدامات مع تركيا، فقد قامت بتأجيل الإعلان عن بنود وتفاصيل الاتفاقية[15].

3- تصاعد التوتر التركي – اليوناني: عقب الاتفاق المصري اليوناني، فقد أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان أن: “اليونان ليس لها حدود مع ليبيا ولا مع مصر، ولا يحق لها توقيع هذه الاتفاقية”، مشددًا على أن بلاده ستطبق “بحزم اتفاقياتها مع ليبيا”، والتي تمر من خلالها بعض المناطق التي يشملها الاتفاق اليوناني المصري. وفي ذات السياق، فقد شدد وزير الخارجية التركي “مولود جاووش أوغلو” على أن اتفاقية ترسيم مناطق الصلاحية البحرية بين مصر واليونان تنتهك الجرف القاري لتركيا وليبيا وحقوقهما[16]. وفي لغة غير مسبوقة من حيث الحدة، هددت وزارة الخارجية التركية في بيان لها من أن «تركيا قادرة على تدمير محور الشر ضدها في شرق البحر المتوسط وإفشاله، وتمتلك الإمكانات لذلك»، مشددة على أن «الذين يتحركون من منطلق أن البحر المتوسط لنا فقط سيخسرون»[17].

وفي خطوة أكثر تصعيدًا من قبل تركيا، فقد أعلن أردوغان استئناف عمليات التنقيب التي أوقفتها تركيا مؤقتًا بوساطة ألمانية، وقال: “استأنفنا عمليات التنقيب، وأرسلنا من جديد سفينة خير الدين بارباروس في مهمة”، مشيرًا إلى أنه كان وافق على تعليق عمليات التنقيب بناء على طلب المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”؛ بهدف تسهيل المحادثات بين تركيا واليونان، لكن “أثينا لم تف بوعودها”. وأكدت وسائل إعلام تركية أن أنقرة ستحرك أيضًا سفينة التنقيب “أوروتش ريس”، الموجودة حاليًّا قبالة سواحل مدينة أنطاليا، التي أوقفت وساطة “ميركل” تحركها، وذكرت صحيفة “بيلد” الألمانية حينها أن الوساطة منعت وقوع مواجهة عسكرية محققة بين تركيا واليونان.

كما أكدت وسائل إعلام تركية أن الجيش التركي أطلق إنذارًا بحريًّا في مناطق واسعة شرق المتوسط ستجري فيها مناورات عسكرية يومي 10 و11 أغسطس 2020 (بعد 4 أيام من عقد الاتفاقية بين مصر واليونان)، بمشاركة سفن وفرقاطات وغواصات حربية، بالإضافة إلى قوات مختلفة من سلاح الجو[18].

وعلى الجانب الآخر، فقد استنفرت اليونان عسكريًّا وسياسيًّا، وعقد رئيس الوزراء اليوناني اجتماعًا لمجلس الأمن القومي التابع للحكومة، بحضور وزيري الخارجية والدفاع. كما هاتف رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، وأبلغه بالاتفاق اليوناني المصري، والوضع في شرق البحر المتوسط، كما تباحث مع الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ[19]. وفي السياق ذاته، فقد طالبت اليونان بعقد قمة عاجلة للاتحاد الأوروبي؛ لبحث التهديد التركي لليونان في شرق المتوسط[20].

كما أجرى رئيس الوزراء اجتماعات مع قادة الجيش، وقالت وزارة الخارجية اليونانية إن أثينا حثت تركيا على «وقف الأعمال غير القانونية في شرق البحر المتوسط، وإن هذه الأنشطة استفزازية، وتقوض السلم والأمن في المنطقة»، وجاء في البيان: «لن تقبل اليونان بالابتزاز، وستدافع عن حقوقها السيادية»، وسط أنباء عن استنفار في صفوف القوات البحرية اليونانية[21].

ويبدو أن التحرك اليوناني ضد تركيا في شرق المتوسط مدعوم أمريكيًّا وأوروبيًّا، خاصة من قبل فرنسا، التي دعا رئيسها إيمانويل ماكرون، في 12 أغسطس 2020، تركيا إلى وقف أعمال التنقيب عن النفط والغاز في المياه المتنازع عليها في شرق المتوسط. مضيفًا أن فرنسا “ستعزز مؤقتًا” وجودها العسكري؛ بغية “مراقبة الوضع في المنطقة، وإظهار تصميمها على الالتزام بالقانون الدولي”.

بعدها قامت فرنسا، في 13 أغسطس، بنشر طائرتين مقاتلتين من طراز “رافال”، وفرقاطة “لافايت”، وفقًا لما أعلنته وزارة الدفاع الفرنسية. ونقلت وكالة “رويترز” عن مصادر دفاعية يونانية قولها إن الفرقاطة والمقاتلتين وصلوا إلى جزيرة كريت، ونفذوا مناورات مشتركة مع القوات اليونانية[22].

ونتيجة الدعم الأمريكي والأوروبي لليونان، فإن أنقرة تستبعد الدخول في مواجهة عسكرية مع أثينا، مفضلة حل الخلافات بينهما عبر المفاوضات. فعقب اجتماع للحكومة التركية في العاصمة أنقرة، في 11 أغسطس 2020، فقد أعرب أردوغان عن استعداد تركيا لحل النزاعات من خلال الحوار القائم على الإنصاف في البحر المتوسط، وأضاف: «دعونا نعقد اجتماعًا تحضره كافة دول البحر المتوسط؛ لإيجاد صيغة مقبولة، تحمي حقوق الجميع».

وفي مؤشر على عودة المفاوضات مرة أخرى بين تركيا واليونان، فقد دعت الحكومة الألمانية، تركيا واليونان لإجراء مباحثات مباشرة فيما يخص الخلاف القائم بينهما حول شرقي البحر المتوسط، وقال المتحدث باسم الحكومة ستيفن سيبرت، إن برلين تتابع عن كثب التطورات شرق المتوسط، وتشعر بالقلق إزاء تصاعد التوتر في المنطقة، وأكد أن برلين تتواصل مع الجانبين، وأنها مستعدة للإسهام في حل الخلافات القائمة بينهما[23].

4- تشجيع الطرف الليبي على اتخاذ خطوة مماثلة: ففي يناير 2020 رفض البرلمان الليبي (برلمان طبرق) التصديق على اتفاق السراج – أردوغان، وقرر إحالة الموقعين على الاتفاقيات البحرية والأمنية مع تركيا إلى القضاء؛ بتهمة الخيانة العظمى. بعدها قام البرلمان الليبي بطلب الانضمام إلى اتفاق اليونان – إيطاليا الذي عقد في يونيو 2020، بشأن ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين في البحر الأيوني، وهي الخطوة التي كانت تهدف إلى إبطال اتفاق أردوغان – السراج[24].

كما أعربت الحكومة الموازية في شرق ليبيا، غير المعترف بها دوليًّا، الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر، عن دعمها لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة مؤخرًا بين مصر واليونان، ولوحت في الوقت نفسه بإجراء مفاوضات ترسيم حدودي بحري مع اليونان في المتوسط. فقد قال وزير خارجية حكومة حفتر، عبد الهادي الحويج، إن مباحثات جرت بالفعل بهذا الصدد مع أثينا منذ قرابة شهر، واتفق الجانبان على إطلاق مفاوضات لترسيم الحدود، من بين ملفات أخرى[25].

5- إمكانية تحويل منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة دولية: فقد أخذت تركيبة المنتدى منذ ولادته صبغة دولية، فالدول المؤسسة والداعمة له تجاوزت حدود المتوسط، فالمنتدى يضم في عضويته كلًّا من قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين، وانضمت فرنسا لاحقا لعضويته، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي بصفة مراقب دائم.

وقد سبق وأن تمت التوصية بتحويل المنتدى لمنظمة دولية خلال اجتماعات الدورة الثانية للمنتدى في يوليو 2020. وما يسرع من إمكانية تحقيق ذلك، هو سخونة الأوضاع الجيوسياسية في شرق المتوسط، بعد أن شهدت الأيام الماضية تطورات مختلفة متعلقة بتصاعد الخلاف بين تركيا من جانب ومصر واليونان وقبرص من جانب آخر، وهي الدول الثلاث المؤسسة للمنتدى، التي تسعى لبلورة رؤية كاملة للمنظمة الوليدة.

وتتمثل أهمية تحويل المنتدى إلى منظمة دولية في أنه يمنح دوله أدوات قوة، فأي دولة تعترض أو تناور أو تتجاوز حدودها البحرية مع دولة عضو في المنتدى، فإن ذلك يعني أنها ستكون في مواجهة مع كل الدول الأعضاء في المنظمة[26].

[1] أحمد أبو دوح، “الصفحة الشخصية على موقع الفيسبوك”، 6/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3gO4BSa

[2] “مكاسب مشتركة: اتفاق ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية”، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، 9/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3inGhqG

[3] أحمد أبو دوح، مرجع سابق.

[4] “مكاسب مشتركة: اتفاق ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية”، مرجع سابق.

[5] “الاتفاق المصري اليوناني: ضوء أخضر أمريكي لمحاصرة تركيا”، العربي الجديد، 8/8/2020، الرابط: https://bit.ly/31QqpWS

[6] أحمد أبو دوح، مرجع سابق.

[7] “غليان شرق المتوسط: تركيا تحرك سفنها وتهدد واليونان تستنفر عسكريًّا وسياسيًّا وألمانيا تعرض التوسط”، القدس العربي، 10/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3gT0GmW

[8] “ماذا خسرت مصر بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اليونان؟”، تي أر تي عربي، 8/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3kCEfVk

[9] “اتفاقية الحدود البحرية مع اليونان .. هل تنازل السيسي عن حقوق مصر نكاية في تركيا؟”، الجزيرة نت، 10/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3kCorlu

[10] “سامح شكري: اتفاق أردوغان والسراج لا يمس مصالح مصر لكنه يعقّد الوضع”، تي أر تي، 6/12/2019، الرابط: https://bit.ly/2DSJwYg

[11] “اتفاقية الحدود البحرية مع اليونان .. هل تنازل السيسي عن حقوق مصر نكاية في تركيا؟”، مرجع سابق.

[12] “رفضه مبارك، والأتراك قدموا له بديلًا أفضل .. فلماذا أصر السيسي على ترسيم الحدود البحرية مع اليونان؟”، عربى بوست، 7/8/2020، الرابط: https://bit.ly/30JjSy2

[13] المرجع السابق.

[14] “نذر الحرب بالمتوسط .. عوامل القوة لصالح تركيا وإرث سيفر يدعم اليونان”، الخليج الجديد، 11/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3kDqHcr

[15] “مصر واليونان تُرسّمان الحدود البحرية: «اتفاقية أردوغان ــ السرّاج» غير موجودة!”، الأخبار، 8/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3itV0Am

[16] “بعد اتفاق مصر واليونان .. شبح الحرب يخيم على شرقي المتوسط”، الخليج الجديد، 9/8/2020، الرابط: https://bit.ly/31VZp8L

[17] “غليان شرق المتوسط: تركيا تحرك سفنها وتهدد واليونان تستنفر عسكريًا وسياسيًا وألمانيا تعرض التوسط”، مرجع سابق.

[18] “بعد اتفاق مصر واليونان .. شبح الحرب يخيم على شرقي المتوسط”، مرجع سابق.

[19] “غليان شرق المتوسط: تركيا تحرك سفنها وتهدد واليونان تستنفر عسكريًّا وسياسيًّا وألمانيا تعرض التوسط”، مرجع سابق.

[20] “اليونان تطالب باجتماع عاجل للاتحاد الأوروبي على خلفية التوتر المتصاعد مع تركيا”، القدس العربي، 11/8/2020، الرابط: https://bit.ly/2DY8F3P

[21] “غليان شرق المتوسط: تركيا تحرك سفنها وتهدد واليونان تستنفر عسكريًّا وسياسيًّا وألمانيا تعرض التوسط”، مرجع سابق.

[22] “حشود عسكرية بشرق المتوسط .. توتر تركي – فرنسي ودعوة لحوار بين أنقرة وأثينا”، الخليج الجديد، 13/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3gUsc3G

[23] “غليان شرق المتوسط: تركيا تحرك سفنها وتهدد واليونان تستنفر عسكريًّا وسياسيًّا وألمانيا تعرض التوسط”، القدس العربي، 10/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3gT0GmW

[24] “لماذا غضبت تركيا من اتفاق مصر واليونان لترسيم الحدود البحرية؟”، إندبندنت عربية، 7/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3isVkPO

[25] “هل يتعقد مشهد المتوسط بتوقيع حفتر اتفاقًا مع اليونان؟”، عربي 21، 10/8/2020، الرابط: https://bit.ly/31JRHy9

[26] “تحرشات تركيا تُعجّل بتحويل منتدى غاز المتوسط إلى منظمة دولية”، العرب، 11/8/2020، الرابط: https://bit.ly/3gUX5oz

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022