الموقف السعودي من التطبيع.. الشروط والسياق والسيناريوهات

الموقف الرسمي السعودي على اتفاق التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني والذي جرى الإعلان عنه من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخميس 13 أغسطس 2020م، جدد التأكيد على التزام الرياض (ظاهريا) بمبادرة السلام العربية التي قدمتها السعودية في قمة بيروت سنة 2002م، هذا التأكيد جاء على لسان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في لقاء مشترك مع وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في العاصمة برلين يوم الأربعاء 19 أغسطس 2020م، مؤكدا بلاده “تؤكد التزامها بالسلام خياراً استراتيجياً واستناده على مبادرات السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية”، وأضاف “حين يتحقق ذلك، تصبح كل الأمور ممكنة”، وذلك في إشارة للتطبيع مع إسرائيل وفي أول رد فعل للرياض على الاتفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي، وأشار إلى أن “المملكة تعتبر أي إجراءات أحادية إسرائيلية لضم الأراضي الفلسطينية تقوض حل الدولتين”، وأن “ضم (إسرائيل) لأراض على نحو آحادي وبناء مستوطنات، يدمر أي جهد للسلام مثمنا أي جهد لتعليق هذه الإجراءات الأحادية”،[[1]] وذهب الأمير تركي الفيصل، في تقرير نشرته وكالة رويترز الجمعة 21 أغسطس 2020م، إلى أن الثمن الذي تقبله المملكة من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس، حيث سلط التقرير الضوء على مقال كتبه الأمير السعودي بصحيفة الشرق الأوسط السعودية ردا على تصريحات الرئيس ترامب التي توقع فيها انضمام السعودية لاتفاق التطبيع مع (إسرائيل).[[2]]

إزاء هذه المعطيات كيف يمكن فهم أبعاد الموقف السعودي الرسمي؟ وما الرسالة التي ترغب الرياض في توصيلها لجميع الأطراف؟ وهل يعكس اتفاق التطبيع الإماراتي تباينا في مواقف البلدين أم هو مجرد توزيع أدوار داخل تحالف الثورات المضادة؟ وهل تتجه الرياض نحو إشهار علاقاتها السرية المشبوهة بتل أبيب أم تفضل بقاء هذه العلاقة الحرام طي الكتمان؟

 

أبعاد الموقف السعودي

لا يمكن فهم خفايا العلاقات السرية بين الرياض وتل أبيب إلا من خلال الإشارة إلى الفيلم الوثائقي الذي أعدته شبكة “بي بي إس” الأمريكية والذي تم بثه في سبتمبر2019م، ضمن برنامج “فرونت لاين”، والذي كشف أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تعهّد للرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال زيارته للرياض في مايو/أيار 2017، بالاعتراف بإسرائيل وتطبيع التجارة معها إذا ساعدت الولايات المتحدة بلاده في “هزيمة إيران والسيطرة على الشرق الأوسط”. وقال مارتن سميث، مقدم الحلقة، التي حملت عنوان “ولي العهد”، إن بن سلمان أراد من ترامب أن يضمن مساعدة الولايات المتحدة في هزيمة إيران، ودعم طموحاته في أن يصبح اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط، وفي مقابل ذلك، تعهد بن سلمان بمساعدة ترامب وصهره، جاريد كوشنر، في حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو التعهد الذي أصبح لاحقًا نواة خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة إعلاميًّا باسم “صفقة القرن”، وعرض الفيلم الوثائفي حديث المحلل العسكري في صحيفة “واشنطن بوست”، دافيد أغناتيوس، الذي اقتبس من بن سلمان قوله: “أرى شرقًا أوسطَ تكون إسرائيل جزءًا منه… أنا مستعد للاعتراف بها وإقامة علاقات تجارية معها”، مضيفًا أن بن سلمان “أغرى” الإدارة الأميركية، وأصبح محور الخطة التي يواصل كوشنر الترويج لها.([3]) يتفق مع ما توصل إليه الفيلم الوثائقي الأمريكي، التسريبات التي نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” حول خفايا وأسرار القمة العربية الأمريكية الشهيرة بالرياض في مايو 2017م، والتأكيد على أن إدارة ترامب تلقت إشارات مهمة من جانب السعودية حول استعدادها لإقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع “إسرائيل” من دون شروط ، كما أنه لأول مرة في تاريخ المملكة تتجه طائرة مباشرة من الرياض إلى تل أبيب وهي طائرة الرئيس الأمريكي في إشارة لا تخفى دلالتها على تدشين عهد جديد بعد هذه القمة المشبوهة التي أعقبها مباشرة إعلان الحصار على الشقيقة قطر.

من جهة ثانية، وحتى نفهم أبعاد الموقف السعودي والهدف منه،  يتعين أولا التأكيد على أن واشنطن وتل أبيب حريصتان كل الحرص على أن تدخل المملكة حظيرة التطبيع، وهو ما عبَّر عنه جاريد كوشنر، مستشار ترامب، في اليوم التالي مباشرة لاتفاق التطبيع الإماراتي في تصريحات لقناة “سي إن بي سي” الأمريكية بالتأكيد على أن “تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية أمر حتمي”، مضيفا «أعتقد أنه من المحتم أن يكون للسعودية وإسرائيل علاقات طبيعية تمامًا، وأنهما سيكونان قادرين على تحقيق الكثير من الأعمال العظيمة معًا». وزاد في حث الرياض على التطبيع متابعا: «من الواضح أن السعودية كانت رائدة في صنع التجديد، ولكن لا يمكنك قلب بارجة بين عشية وضحاها».[[4]] في إشارة إلى أن التطبيع السعودي يحتاج بعض الوقت لسبك الصفقة الحرام على مقاس ولي العهد السعودي. ويمكن فهم الحرص الأمريكي الإسرائيلي على حتمية التطبيع السعودي؛ لأن تبني السعودية لموقف الإمارات في حال حدوثه يعني أن هنالك إجماعاً عربياً على إخراج القضية الفلسطينية من دائرة الاهتمام العربي، بحيث تنحسر في كونها شأناً فلسطينياً داخلياً، وليس عربياً أو إسلامياً، كما أن الموقف الرسمي السعودي بالتأكيد على مبادرة السلام العربية، يتزامن مع المساعي الإسرائيلية والأمريكية لإقناع بعض الدول العربية، كالبحرين وسلطنة عُمان والسودان والمغرب، لتبني خطوة الإمارات في توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل بشكل منفرد، دون الرجوع لمبادرة السلام العربية.

من زاوية ثالثة، لم يحظ الموقف الرسمي السعودي باهتمام كبير في الأوساط الإسرائيلية على مستوى الساسة أو الإعلام؛ لأن (إسرائيل) تقيم  فعلا علاقات “سرية” مع السعودية منذ سنوات، وتدرك أن هذه التصريحات الرسمية ليست سوى ذر للرماد في العيون، ولحفظ ماء الوجه”، من جانب آخر يدرك الصهاينة أن الإمارات لم تكن لتذهب لعقد اتفاق سلام دون إذن من السعودية، وأن الأخيرة ستسير على ذات الطريق الإماراتي دون ضجة إعلامية”.

من جهة رابعة، تتوقع السلطة الفلسطينية أن تنظر الرياض إلى خطوة التطبيع الإماراتي باعتبارها تجاوزاً سياسياً لموقف المملكة، صاحبة المبادرة التي تنطلق من مبدأ الأرض مقابل السلام، وأن لا سلام بين الدول العربية وإسرائيل إلا بعد استعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. ويفسر غسان الخطيب، وزير التخطيط السابق في الحكومة الفلسطينية ورئيس مركز القدس للإعلام والاتصال، “الموقف السعودي” بأنه قد يكون نابعاً من رغبة المملكة في البقاء كدولة مركزية في الشرق الأوسط، لا تتخلى عن التزامات كانت قد قطعتها في وقت سابق، وهذا يهدف إلى الحفاظ على صورتها أمام حلفائها من جهة، وعلى صورتها أمام الشارع العربي والإسلامي، خصوصاً أن مدينة القدس جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحمل رمزية دينية للمسلمين في العالم”. وأضاف: “قد يكون هناك رسالة سياسية ترغب السعودية بتوصيلها للإمارات، بأن تجاوزها لن يكون مؤثراً أو يهز من صورة المملكة السعودية كدولة مركزية في الشرق الأوسط، حتى لو تبنت كيانات سياسية صغيرة التأثير في العالم العربي كالبحرين ذات الموقف الإماراتي، فإن السعودية ستبقى صاحبة الكلمة الأخيرة في القضية الفلسطينية”.

لكن رهان السلطة الفلسطينية على الموقف الرسمي السعودي يبقى محفوفا بالمخاطر؛ لأن اللافت في الموقف السعودي الرسمي ومقال تركي الفيصل الذي عمل سفيرا سابقا في واشنطن ومديرا سابقا لجهاز المخابرات، ولا يتولى حاليا أي منصب حكومي لكنه لا يزال شخصية مؤثرة باعتباره الرئيس الحالي لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، أنهما تجاهلا عمدا أن اتفاق التطبيع الإماراتي يمثل نسفا للمبادرة العربية التي اشترط السعوديون القبول بها أولا من جانب (إسرائيل) من أجل تطبيع العلاقات، بل إن  تركي الفيصل في مقاله أشاد بتمسك الإماراتيين بوقف ضم الضفة الغربية كشرط لاتفاق التطبيع، وهو ما نسفته تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي أكد أنه وافق على تعليق مؤقت للضم وليس إلغاء نهائيا؛ الأمر الذي ينسف المبرر الأخلاقي والسياسي للاتفاق المشبوه، ورغم عدم الترحيب السعودي بالاتفاق إلا أنهم أيضا لم ينتقدوا خروج أبو ظبي عن الإجماع العربي ومبادرة السلام العربية.

خامسا، دافع رئيس المخابرات السعودية السابق في مقاله عن اتفاق التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني، وشن هجوما على كل من قطر وتركيا وإيران لوصفها اتفاق التطبيع الإماراتي بالخيانة للقضية الفلسطينية،[[5]] وهو ما يمكن اعتباره دفاعا عن تطبيع سعودي محتمل في  المستقبل لكن السعوديين يخشون من وصمهم بالخيانة على غرار ما يجري حاليا  مع الإمارات.

سادسا،  يبدو الموقف السعودي متناقضا؛ بين دعمها لصفقة القرن الأمريكية، ومشاركتها في ورشة المنامة منتصف 2019 من جهة، ومن جهة أخرى بين تمسكها بمبادرة السلام العربية، تفسير ذلك أن المملكة حاليا تشهد تيارات متناقضة داخل مؤسسات الحكم الملكي؛ فالعاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز، يتبنى مواقف أسلافه من الملوك، ولا يرغب بأن ينهي حياته السياسية وهو يناقض السياسات التاريخية للمملكة تجاه القضية الفلسطينية”، لكن ولي العهد محمد بن سلمان يمثل تيارا آخر أقوى تأثيرا على توجهات ورسم سياسات المملكة وصناعة القرارات السيادية بها بهدف إقناع الكفيل الأمريكي بجدوى الرهان عليه مستقبلا كملك لبلاد الحرمين، بما لها من رمزية كبيرة داخل العالم العربي والإسلامي، إضافة إلى ذلك فإن السعودية هي الدولة الأكثر تمويلا للسلطة الفلسطينية، حيث تصدرت قائمة الدول الأكثر دعماً لموازنة السلطة الفلسطينية منذ نشأتها في عام 1994 حتى عام 2020 بقيمة وصلت إلى 3.2 مليار دولار، لكن هذا الدعم لم يكن ثابتاً، إذ إنه خضع لعوامل سياسية، حيث تشير بيانات الموازنة العامة إلى أن السعودية لم تدفع أي دولار للسلطة الفلسطينية منذ بداية العام الجاري 2020، في حين وصلت قيمة مساعداتها المالية في 2019 إلى 133 مليون دولار.[[6]] وهو التراجع الذي يتزامن مع شواهد تؤكد ضلوع ولي العهد السعودي في ضغوط مورست على السلطة، واستخدام ورقة المساعدات كأداة ضغط وابتزاز؛ من أجل القبول بصفقة القرن وإبداء مزيد من الانصياع للأوامر الأمريكية.

 

علاقات سرية قديمة وممتدة

العلاقات السعودية الإسرائيلية قديمة ومنذ عقود طويلة، فهي أشبه بالعلاقة الحرام التي كان كل طرف فيها حريص على دوامها بشرط أن تبقى سرا وطي الكتمان. وقد نشرت الخارجية الأمريكية وثائق تاريخية تؤكد أن النظام السعودي دعم اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني، وكشف مسؤول أمريكي (لم تكشف الوثيقة هويته) شارك في اجتماع بين السفير الأمريكي لدى السعودية جون سي ويست جرى مع وزير الخارجية السعودي آنذاك سعود الفيصل في الـ9 من  آب/ أغسطس عام 1978 أن الأخير عبر عن دعم المملكة الكامل للاتفاق بين مصر وإسرائيل. بالطبع لم يجرؤ النظام السعودي وقتها على كشف حقيقة موقفه لاعتبارات تتعلق بالخوف من ردة الفعل على استقرار النظام الذي أبدى عكس حقيقة موقفه في إطار التستر على العلاقة الحرام. ([7])

وفي 2016 كشف الأمير الوليد بن طلال عن موقفه من الكيان الصهيوني بشكل واضح، حيث قال في تصريحات له “أفخر بأن أكون أول سفير سعودي لـ”إسرائيل” لأجل العمل مع تل أبيب”، كما يعد أحد أكبر المساهمين في شركة “ديزني” أكبر الشركات العالمية في مجال الترفيه والسينما والرسوم المتحركة، التي تبنت قبل عامين حملة للترويج من أجل جعل القدس عاصمة أبدية لـ”إسرائيل”، كما أن إنتاجها لا يخلو في معظمه من التعريض بالعرب والمسلمين وقيمهم أو الترويج لكل ما هو صهيوني، وكالعادة يسيطر اليهود على الشركة تمامًا.

 

ولي العهد والتحولات الكبرى

بعد تصعيد بن سلمان وليا للعهد، اتخذت الخطوات الرامية للتطبيع والتحالف مع الصهاينة أبعادا أخرى، أكثر شمولا واتساعا وإصرارا، وتم تدشين حملات إعلامية متزامنة، تستهدف غسيل أدمغة السعوديين للقبول بالصهاينة والإلحاح على أن التهديد هو إيران وتركيا والحركات الإسلامية التي يتم وصفها بالإرهاب. وهي بالطبع حملات لا يمكن أن تكون  عفوية بل هي جزء من مخططات مرسومة على مستويات عالية وينفق عليها بسخاء بالغ.

أولا، في نوفمبر 2017م،  كشف وزير (إسرائيلي) عن اتصال سري مع الرياض، وهو اعتراف نادر بالتعاملات السرية التي تناولتها شائعات كثيرة ظهرت وقتها، والتي نفاها الجانب السعودي مرارا، وعندما أعلن ترامب في ديسمبر 2017م، اعترافه بالسيادة “الإسرائيلية” على القدس عاصمة موحدة للصهاينة وقرر نقل سفارة بلاده من “تل بيب” المحتلة إلى “القدس المحتلة”، دان النظام السعودي القرار ظاهرا؛ لكن مسئولين عربا صرحوا لوكالة أنباء رويترز بأن السعودية تتفق مع الولايات المتحدة على صعيد الاستراتيجية الأوسع نطاقا لخطة سلام فلسطينية إسرائيلية تبدو في مراحلها الأولى، وتؤكد شبكة “إن تي في” الالمانية أن بن سلمان التقى سرا نتنياهو في خريف 2017م قبل إعلان ترامب قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة للصهاينة ونقل السفارة إلى القدس.([8])

ثانيا، في مارس 2018م، قررت المملكة فتح المجال الجوي للطيران التجاري الإسرائيلي للمرة الاولى لتبدأ رحلات من إسرائيل إلى الهند والعكس عبر المجال السعودي، وهي الخطوة التي وصفها الجانب “الإسرائيلي” بأنها تمثل ثمار عامين من الجهود على صعيد التعاون بين البلدين.

ثالثا، أبدى ولي العهد السعودي مواقف صادمة للعرب والمسلمين جميعا حول القضية  الفلسطينية؛ وذلك في حواره مع مجلة “ذي إتلانتك”  الأمريكية في إبريل 2018م، حيث اعتبر “فلسطين المحتلة” وطنا للصهاينة لهم الحق في العيش فيه بسلام على أرضهم!. وذلك أثناء المقابلة الصحفية التي أجراها معه جيفري غولدبرغ، رئيس تحرير أتلانتك، الصدمة في هذه التصريحات أنها وضعت الصهاينة المحتلين على قدم المساواة مع الفلسطينيين أصحاب الحق والوطن في المطالبة بالأرض واعتبارها وطنا لهم؛  وهو أمر غير مسبوق لم تتضمنه تصريحات أي من كبار المسؤولين السعوديين من قبل، كما لم تأت أي من تلك التصريحات على مدار السنوات الماضية من ذكر أي “حق” للإسرائيليين منذ بدأت السعودية في تولي الدور الأكبر في رعاية مبادرة السلام العربية في 2002، والتي تتبنى حل الدولتين لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.([9]) وهي التصريحات التي أطلقت حالة احتفالية في (إسرائيل)، وصلت إلى حد وصف كلام ولي العهد السعودي بأنه “وعد بلفور جديد”، وهو فعلياً يرتقي إلى هذا المستوى، طالما أنه تم الإقرار بأن فلسطين هي أرض أجداد اليهود، وزاد بن سلمان على ذلك في تصريحاته للمجلة الأمريكية بإصدار فتوى بأنه لا مانع دينيا من وجود “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية، وأنه لا يمانع من إقامة علاقات تجارية اقتصادية ومصالح مشتركة مع الاحتلال بشرط أن يكون ذلك في سياق حل القضية الفلسطينية ضمن اتفاق سلام لم يحدد حدوده وأبعاده ([10]) هذه التصريحات الصادمة دفعت شبكة (BBC) إلى اعتبارها تمهيدا لــ«صفقة القرن»([11]) حتى خرجت “الصفقة” للعلن ولاقت من بن سلمان ونظامه ترحيبا كبيرا.

رابعا، في يونيو 2018م، كشفت صحيفة “إنتليجانس أون لاين” الفرنسية عن اجتماع سري عقد في مدينة العقبة الأردنية في 17 يونيو 2018م، وضم كل من رئيس الاستخبارات السعودي خالد بن علي الحميدان، ورئيس الاستخبارات المصري عباس كامل، ورئيس الاستخبارات الأردني عدنان عصام الجندي إضافة إلى ممثل عن السلطة الفلسطينية، وأضافت أن  فريقاً أمريكياً يضم جيسون غرينبلات وجاريد كوشنر كان حاضراً في الاجتماع، إضافة إلى رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين، وذلك لبحث سبل دفع عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لافتة إلى أن الاجتماع تزامن مع الجهود الأمريكية الجارية حالياً في المنطقة من أجل إتمام “صفقة القرن”، منوهة إلى العلاقات السرية الممتدة بين الرياض وتل أبيب منذ سنوات طويلة.([12])

خامسا، كشفت صحيفة “الأخبار اللبنانية” في تقرير نشرته في غرة مايو 2019م، أن ولي العهد السعودي عرض على الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن 10 مليارات دولار للسلطة للقبول بصفقة القرن الأمريكية، العرض السعودي جاء في تقارير بعث بها رئيس مكتب تمثيل الأردن في رام الله، خالد الشوابكة، للخارجية بعد لقاءات جمعته مع مجدي الخالدي، المستشار الدبلوماسي للرئيس الفلسطيني، وبشارة العزة، مستشار عباس وصهر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني في ديسمبر/كانون الأول 2017م، وتقدم ابن سلمان بهذا العرض خلال زيارة قام بها عباس إلى السعودية في نوفمبر/تشرين الثاني 2017م، أي قبل إعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة أبدية موحدة للكيان الصهيوني بشهر واحد.([13]) هذه الضغوط تكررت بعد ذلك، بعد إعلان صفقة القرن مباشرة؛ حيث كشف المعلق الإسرائيلي المختص بالشؤون العربية، عوديد غرانوت، في تحليل نشرته اليوم صحيفة “يسرائيل هيوم”، في 30 يناير2020م، أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حاول إقناع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بقبول الصفقة، مضيفاً أن بن سلمان قال لعباس: “لن تحدث كارثة في حال تم تدشين عاصمة الدولة الفلسطينية في بلدة أبوديس، المحيطة بالقدس”. وأضاف أن محاولات بن سلمان لإقناع عباس تدل على أنه كان على علم مسبق بما تتضمنه الخطة.([14])

سادسا،  في نوفمبر 2018م، استقبل ولي العهد السعودي وفد الإنجيليين الأمريكيين في الرياض وهو اللقاء الذي استمر ساعتين، وبحسب رئيس الوفد جويل روزنبرغ للقناة العاشرة العبرية،  فإن بن سلمان هاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وإيران، وبحسب “روزنبرغ” الذي يحمل الجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية وعمل من قبل في مكتب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، فقد تحدث محمد بن سلمان عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والعلاقات “الدافئة” بين الرياض وتل أبيب لنحو ساعة ونصف من اللقاء الذي استمر قرابة الساعتين، غير أن الأمير السعودي طلب من أعضاء الوفد ألا يتم الكشف عن فحوى ما دار بينهم حول هذين الموضوعين. وقال “روزنبيرغ”:”طرحنا قضية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وربما كانت القضية الأكثر حساسية، تحدث محمد بن سلمان إلينا مطولا ولكنه طلب منا ألا نكشف علنا عن هذا الجزء من اللقاء”، حسبما نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي.([15])

سابعا، في مايو 2019م، ثار جدل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن كشفت خارجية الاحتلال الإسرائيلي عن زيارة وفد يهودي في وقت لاحق للمملكة العربية السعودية بناء على دعوة من رابطة العالم الإسلامي التي يوجد مقرها بمكة المكرمة، وكانت صفحة “إسرائيل تتكلم العربية” التابعة للخارجية الإسرائيلية نشرت تغريدة على حسابها في تويتر أكدت فيها أنه للمرة الأولى سيزور وفد يهودي المملكة استجابة لدعوة من رابطة العالم الإسلامي، وضمّنت الصفحة مقطعا للأمين العام للرابطة الشيخ محمد العيسى أثناء توقيع اتفاقية تعاون مع مؤسسة نداء الضمير الأميركية لتعزيز قيم الوئام ومحاربة التطرف، وقال أحد المغردين إن الشعار الموضوع خلف العيسى وهو يوقع الاتفاقية يشير إلى منظمة “أي جي سي غلوبال” (AJCGlobal)، وهي منظمة يهودية بأميركا هدفها الرئيسي مناصرة إسرائيل واليهود عالميا.([16])

ثامنا،  في 26 يناير2020م، وقبل إعلان صفقة القرن الملعونة بيومين فقط، وافق النظام السعودي على السماح للصهاينة بالسفر للمملكة لأسباب دينية أو تجارية، وهو ما كشف عنه مرسوم وقعه وزير الداخلية بحكومة الاحتلال آرييه درعي باستعداد وزارته منح تصريحات للإسرائليين الراغبين في السفر إلى المملكة العربية السعودية لأسباب دينية أو اقتصادية. بل إن موقع “walla” العبري نشر تقريرا في ذات اليوم تضمن خريطة بأهم المواقع السياحية التي يمكن زيارتها في المملكة وبحسب التقرير فإن قرار السماح للإسرائيليين بالسفر إلى السعودية ربما كان في الأيام الأكثر هدوءا العنوان الرئيسي في مواقع الأخبار، لكن كثرة الأحداث السياسية التي ظهرت تباعًا بكثافة شديدة حالت دون حصول خبر السماح للإسرائيليين بالسفر للمملكة على الاهتمام الكافي. في ذات التوقيت، أثنى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تغريدة على زيارة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي (مقرها مكة) محمد العيسى، معسكر الاعتقال النازي “أوشفيتز- بيركينو”، في بولندا، للمشاركة بالذكرى الـ 75 لتحريره، واعتبر نتنياهو أن زيارة العيسى الذي سبق وشغل منصب وزير العدل السعودي هي”علامة أخرى على التغيير في موقف الهيئات الإسلامية وبالطبع الدول العربية تجاه (إسرائيل) والمحرقة واليهود”.([17])

تاسعا، في غرة فبراير 2020م، أثنى الجنرال جوزيف ووتال، الذي عمل قائداً للقوات الأميركية في الشرق الأوسط والخليج، بالعلاقات السرية والتعاون الوثيق بين دول عربية و(إسرائيل) في مجالات الاستخبارات و”السايبر” والتقنيات والاقتصاد، واعتبر هذه العلاقات وذلك التعاون مفتاح الطريق نحو التطبيع الكامل وتكريس العلاقات الدبلوماسية، وفي حوار مع صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية أوضح أن النظم العربية التي ترتبط بعلاقات وثيقة علنية أو سرية مع (إسرائيل) لا تعتبر تل أبيب عدوا بقدر ما تتخوف من زعزعة بقائها في السلطة والمس بأوضاعها الداخلية وداعش وإيران.([18])

 

قمع الصحوة وتوظيف الدراما

لم تتوقف التحولات الكبرى التي يقودها ولي العهد السعودي عند حدود التصريحات واللقاءات السرية والقرارات المتجاوبة لأعلى درجة مع مصالح الكيان الصهيوني، بل امتد ذلك إلى أمرين بالغي الخطورة:

الأول،  هو محاولة القضاء على الصحوة الإسلامية والزج بمعظم قادتها في السجون بتهم سياسية بالغة التلفيق والافتراء؛ وذلك بهدف إضعاف مناعة المجتمع وشل قدرته على  مقاومة توجهات التطبيع السعودي التي يرعاها ولي العهد، وهو ما تزامن أيضا مع تهميش تيار السلفية التقليدية التي كانت دوما في صف الحكام ولم يعرف عنها يوما مخالفتهم في شيء رغم الانحراف الواسع الذي يمارسه نظام الحكم السعودي بعيدا عن قيم الإسلام ومبادئه وأحكامه. وجرى في ذات الوقت ترميز تيار الجامية المدخلية وهو التيار الذي يبدي أعلى مستويات التطرف في الطاعة للحكام حتى لو مارسوا الكبائر وقهروا الناس بظلمهم وبطشهم فطاعة هؤلاء للحكام هي رأس الإسلام عندهم وقبل كل شيء. حتى لو خالفوا أوامر الله ورسوله عيانا جهارا. وفرض ولي العهد إجراءات شديدة القمع أسفرت عن اعتقال مئات الدعاة والعلماء في الوقت الذي يتم فيه إكراه المجتمع كله على تبني سياسات الترفيه والرقص والغناء تحت دعاوى التحديث والمدنية، تحت إشراف «هيئة الترفيه» التي أنشأها بن سلمان، وجعل على رأسها أحد المقربين منه.

الثاني، هو توظيف الإعلام والدراما من أجل تهيئة المجتمع السعودي للتطبيع مستقبلا، وفي رمضان 1441هـ تم عرض مسلسلي «أم هارون ــ  مخرج 7» على شبكة “MBC” السعودية واللذين أثارا جدلا واسعا وغضبا أوسع ذلك أن المسلسلين يسوقان للرواية الصهيونية  للصراع العربي الإسرائيلي من جهة ويروجان في ذات الوقت للتطبيع العلني مع الكيان الصهيوني ولا يتوقفان عند هذا الحد بل يشوهان النضال الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية في تزييف للوعي العربي من جهة وانحياز سافر للكيان الصهيوني من جهة أخرى. ووفقاً لحسن حسن، مدير برنامج في منظمة The Center for Global Policy البحثية الأمريكية، ظهور شخصية تدافع عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل على شبكة تلفزيون تديرها السعودية هي “سابقة من نوعها”. وعد ذلك صادما لجماهير العرب ذلك أن علاقات التطبيع التي تنامت سرا في سنوات باتت تطرح علنا ويتم توظيف الدراما التي ينفق عليها بسخاء بالغ للتسويق لها. فالمسلسلان يعكسان التحولات الكبرى في السياسة السعودية منذ تصعيد محمد بن سلمان وليا للعهد في منتصف 2017م. فكلا النظامين السعودي والإسرائيلي يشتركان في مواقف كثيرة أهمها العداء أولا للحركات الإسلامية السنية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وحركات المقاومة الفلسطينية كحماس والجهاد. وكلاهما يجاهر بالعداء للمشروع الإيراني باعتباره يمثل الخطر الأكبر على المنطقة. وكلاهما يتمتع بعلاقات وثيقة مع الحليف الأمريكي الذي يفرد مظلته ورعايته على السعوديين والصهاينة على حد سواء.  وفقا لشبكة NBC News الأمريكية، يرى كريستيان كوتس أولريكسن، زميل باحث في شؤون الشرق الأوسط بمعهد بيكر للسياسة العامة التابع لجامعة رايس الأمريكية، أن المسئولين السعوديين يوظفون الدراما لدفع الرأي العام إلى اتباع  أجندة النظام السياسية والتحول إلى نفس الاتجاه” موضحا  أن  “أية رسالة أو قصة تظهر في المسلسلات الرمضانية تحمل شيئاً من التأييد الرسمي”.  وبالتالي فإن الهدف الأعمق هو اختبار موقف السعوديين من القضية([19]).  فوضع المناقشة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في إطار درامي هو بمثابة اختبار يستهدف قياس موقف السعوديين من هذه القضية، إضافة إلى كونه توظيفا  للدراما لخدمة أجندة ولي العهد. وبحسب محللين ومراقبين، فإن توقيت بث المسلسلين يحمل رسالة لا تخفى في مضامينها وتوجهاتها، فالنظام السعودي حريص على توظيف الدراما لخدمة أجندته السياسية  تستهدف ليس فقط تهميش القضية الفلسطينية بل تصفيتها وتشويه المقاومين واغتيال المشروع الفلسطيني من أساسه.  وجه الدهشة في توقيت الرسالة السعودية أنها تتزامن مع توجهات شديدة العدائية من جانب حكومة الاحتلال الإسرائيلي والتي تصر على تنفيذ ما تبقى من صفقة القرن الأمريكية وضم الضفة الغربية والمستوطنات وغور الأردن للسيادة الإسرائيلية حتى وإن جرى تعليق ذلك مؤقتا بسبب اتفاق التطبيع الإماراتي. معنى هذا الأن السعوديين لا يرون بأسا فيما تقوم به حكومة الاحتلال، بل إنهم يمارسون أكبر عملية اختراق للعقل العربي بهدف تزييف الوعي وتسويق روايات صهيونية بالغة الفبركة والركاكة على حساب الحقائق الناصعة التي تؤكد عدالة القضية الفلسطينية ووجوب دعمها إنسانيا وحتى بحسابات القوانين الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة.

 

التطبيع الاقتصادي والتنسيق الأمني

واقع الأمر أن التطبيع الرسمي السعودي بدأ  فعليا مع الكيان الصهيوني على مستويي الاقتصاد والأمن، فالتنسيق الأمني في إطار ما تسمى بالحرب الكونية ضد الإرهاب قائم بين الرياض وتل أبيب، وكانت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية.([20]) قد كشفت عن مستويات متقدمة من التطبيع الاقتصادي بين الطرفين.

على المستوى الأمني، تؤكد ذا تايمز أن الاحتلال ودولا خليجية شيدت بدون ضجيج علاقات أمنية مشتركة واسعة بدافع الخوف المشترك مع التهديد الإيراني.  وتؤكد الصحيفة أن إسرائيل ودولاً خليجية قامت بدون ضجيج ببناء علاقات أمنية بدافع الخوف المتبادل من إيران، حيث قام وفد سعودي برئاسة الجنرال المتقاعد أنور عشقي برحلة إلى إسرائيل العام الماضي وسط حرص إسرائيلي على توسيع التحالف، حيث قال وزير الدفاع الإسرائيلى أفيغدور ليبرمان: “أعتقد أنه من الأفضل بكثير التعاون في القضايا الاقتصادية أكثر من مكافحة الإرهاب”، مشيدا بالجهود المبذولة لحصار قطر.

وعلى المستوى الاقتصادي، كشفت الصحيفة البريطانية  أنه بمجرد تصعيد محمد بن سلمان وليا للعهد أجرى  مفاوضات مع حكومة الاحتلال لإقامة علاقات اقتصادية، وهو ما وصفته بالخطوة المثيرة التي تضع إسرائيل على طريق العلاقات الطبيعية مع معقل الإسلام السني وحارس المدن الإسلامية المقدسة. وتربط ذا تايمز هذه التوجهات بحصار قطر لإجبار الدوحة على الانصياع الكامل لصفقة  القرن  وقطع علاقاتها بحركة المقاومة الإسلامية حماس. ومن المشروعات المقترحة تسير خطوط طيران مباشرة من “تل أبيب” إلى الرياض، وكذلك خط  سكة حديد يمر عبر الأردن إلى المناطق المقدسة في مكة والمدينة. وفي أبريل 2017م، عرض وزير النقل والاستخبارات الإسرائيلي يسرائيل كاتس، على جيسون غرينبلات، ممثل الرئيس الأميركي وقتها، خطة “سكة قطار السلام الإقليمي”، والتي تتحدث عن ربط إسرائيل بالأردن ومنها بالسعودية ودول الخليج عبر شبكة سكك حديد تسمح للدول العربية بمنفذ إلى البحر المتوسط.  وأوضح كاتس لمبعوث ترامب أنه “لا يطلب دعماً مالياً أميركياً للمشروع، وإنما يطلب فقط تشجيع الأردن والسعودية ودول الخليج لقبوله”، مضيفاً أن “السكك الحديد التي ستمر في الدول العربية ستموّلها شركات خاصة بهدف الربح المالي”. وقال كاتس وفقا لشبكة “سي إن إن” الأميركية إن غرينبلات أعرب عن استعداده لـ”تجنيد واشنطن لدفعه قُدماً”، حسبما أفادت الإذاعة الإسرائيلية “عربيل”. بدورها، أفادت صحيفة “جيروزاليم بوست” أن السكة الحديد ستنطلق من مدينة حيفا”، مرورا بمدينة بيت شيعان، ومنها إلى جسر الملك حسين، الذي يربط الضفة الغربية بالأردن فوق نهر الأردن، ثم إربد، قبل أن تصل إلى مدينة الدمام السعودية.

 

موانع وعقبات

بحسب الملياردير اليهودي الأمريكي، حاييم صابان، الذي لعب دوراً كبيرا في الوساطة في اتفاق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات، فإنه أجرى حوارا مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على مادبة عشاء، وسأله : “لماذا يُبقي العلاقات مع إسرائيل تحت الرادار؟ لماذا لا يخرج ويقود الأمور؟”. مؤكدا أن ولي العهد السعودي أبدى استعداده للتطبيع، وينقل عنه أنه يستطيع أن ينفذ ذلك في لحظة لكنه  يخشى من أمرين رئيسيين[[21]]:

الأول: مهاجمة القطريين والإيرانيين له. (بمعنى أنه يخشى الفضيحة واتهامه بالخيانة كما يجري حاليا مع الإمارات).

الثاني: يخشى من حدوث فوضى داخل بلاده إذا اتخذ قرارا بتطبيع العلاقات مع (إسرائيل). ولا يزال المشهد المصري في أعقاب اتفاق كامب ديفيد سنة 1979م ماثلا في أذهان ولي العهد السعودي حيث اندلعت الفوضى التي أنتهت باغتيال الرئيس السابق محمد أنور السادات أثناء عرض عسكري كبير في ذكرى احتفالات النصر في 6 أكتوبر 1981م.[[22]]

وهناك مانع ثالث، حيث يرى بروس ريدل، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والمتخصص في الشؤون الخليجية، لصحيفة Financial Times البريطانية أن  “السعودية هي الهدف المنشود. لكن مع وجود الملك سلمان، وهو مؤمن حقيقي بالقضية الفلسطينية، فمن غير المرجح أن يحدث ذلك في أي وقت قريب”.[[23]]  وهو ما ذكره جاريد كوشنر صهر ومستشار ترامب، في مقابلة أجراها كوشنر مع شركة النشر الأمريكية  McClatchy التي يقع مقرها في كاليفورنيا، يوم 17 أغسطس 2020م حيث أشار إلى أن «فجوة الأجيال في السعودية تعرقل إبرام اتفاق تطبيع بين المملكة الآسيوية وإسرائيل».[[24]]

 

سيناريوهات

تبقى المكانة الدينية للسعودية باعتبارها حاضنة الحرمين الشريفيين، هي المانع الأهم في إقامة علاقة تطبيع مباشرة مع الكيان الصهيوني؛ وبالتالي فإن المسار الأكثر ملاءمة للنظام السعودي والتناقضات بين الملك وولي عهده، فمن المرجح أن تتعزز العلاقات مع الصهاينة بشكل سري في محاولة لدرء الفضيحة عن النظام السعودي، ولن يذهب النظام السعودي في ظل وجود الملك سلمان إلى التطبيع المباشر مع الاحتلال؛ وهو ما يتسق مع تصريحات كوشنر في هذا الشأن، وهذا المسار سيبقى ما بقي الملك سلمان على رأس السلطة.

المسار الثاني، هو التخلص من الملك السعودي بشكل أو بآخر، أو حتى انتظار وفاته بشكل طبيعي على  اعتبار أنه طاعن في السن وبلغ من الكبر عتيا(نحو 90سنة)، وبالتالي ينتهي هذا التناقض ويشرع ولي العهد الذي سيتم تتويجة على عرش المملكة خلفا لوالده الملك ليقود هو عمليات التطبيع السرية، على أن تمضي مخططات سحق المجتمع وقهره على التطبيع في مسارها المرسوم الذي ينتهي حتما بإشعار العلاقة الحرام بين الرياض وتل أبيب، حتى ولو بعد سنوات من حكم بن سلمان.

المسار الثالث،  أن تدخل المملكة مرحلة من الفوضى في أعقاب وفاة الملك سلمان؛ ليس احتجاجا على مسار التطبيع فقط؛  بقدر ما هو رفض مبدئي لأن يتولى محمد بن سلمان وراثة العرش بعد والده؛ فولي العهد لا يحظى إلا بهامش ضئيل من الشعبية داخل الأسرة المالكة ويحظى بمعارضة شديدة من مئات الأمراء الذين يرون في تصعيده ملكا على بلاد الحرمين تدميرا للبلاد، وسعيا في خرابها، وهي مرحلة مرشحة للحدوث وتفتح البلاد على سيناريوهات غامضة لا يمكن توقعها.

وأمام المعطيات الراهنة، فإن السيناريو الأول هو المرشح للاستمرار ما بقي الملك سلمان. فإذا مات أو جرى التخلص منه فإن المؤشرات وموازيين القوى ترجح السيناريو الثاني؛ حيث سيتمكن بن سلمان من الجلوس على عرش بلاد الحرمين مدعوما من الصهاينة والأمريكان بعد أن أمسك بجميع مفاصل مؤسسات القوة في البلاد (الجيش ــ المخابرات ـ الشرطة ــ الإعلام). لكن ذلك لا يمنع من احتمال حدود السيناريو الثالث ودخول البلاد في مرحلة من الفوضى العارمة احتجاجا على تتويج ولي العهد عرش بلاد الحرمين.

 

 

 

 

—————————————-

[1] وزير سعودي: لا تطبيع مع إسرائيل دون اتفاق مع الفلسطينيين/ دويتش فيلا الألمانية 19 أغسطس 2020
[2] السعودية تريد “مقابلاً أكبر”.. الأمير تركي الفيصل: دولة فلسطينية شرط لإقامة علاقات مع إسرائيل/عربي بوست نقلا عن رويترز  21 أغسطس 2020
[3] بن سلمان لترامب: ساعدوني للسيطرة على الشرق الأوسط وسأعترف بإسرائيل/ العربي الجديد 30 سبتمبر 2019
[4] “تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية أمر حتمي”.. كوشنر يلمّح للحاق الرياض بأبوظبي ويتحدث عن دول أخرى مهتمة/ عربي بوست 15 أغسطس 202
[5] الأمير تركي الفيصل: دولة فلسطينية مقابل إقامة السعودية علاقات مع إسرائيل/ وكالة رويترز  21 أغسطس 2020
[6] عدنان أبو عامر/بين اللحاق بالإمارات أو التمسك بمبادرتها للسلام.. لماذا تتضارب المواقف السعودية تجاه إعلان التطبيع مع إسرائيل؟/ عربي بوست 20 أغسطس 2020
[7] السعودية دعمت اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل (وثيقة)/ “عربي 21” السبت 2 يونيو 2018
[8] مصطفى البحيري/موقع ألماني: التحالف السعودي الإسرائيلي.. ما خفي أعظم/ “عربي 21” الجمعة، 29 يونيو 2018
[9] ولي العهد السعودي: الإسرائيليون لهم الحق في العيش على أرضهم/ بي بي سي عربي 3 أبريل/ نيسان 2018
[10] حسام كنفاني/ عن أرضنا و”أرضهم”/ العربي الجديد 8 أبريل 2018
[11] هل تمهد تصريحات محمد بن سلمان بشأن إسرائيل لـ”صفقة القرن”؟/ بي بي سي عربي 6 أبريل/ نيسان 2018
[12] لقاء سعودي إسرائيلي في الأردن سرا لإتمام “صفقة القرن”/ “عربي 21”  الخميس، 28 يونيو 2018
[13] ابن سلمان عرض على عباس 10 مليارات دولار لقبول صفقة القرنالجزيرة مباشر  الأربعاء 1 مايو 2019
[14] صالح النعامي/ معلق إسرائيلي: بن سلمان حاول إقناع عباس بقبول أبوديس عاصمة/ العربي الجديد 30 يناير 2020
[15] إعلام إسرائيلي يكشف تفاصيل اللقاء المغلق بين “ابن سلمان” ووفد الإنجيليين/ وكالة الأناضول 8 نوفمبر 2018
[16] زيارة “الوفد اليهودي” للسعودية.. تطبيع أم تسامح؟/ الجزيرة نت 5 مايو 2019
[17] معتز بالله محمد /بعد السماح للإسرائيليين بزيارتها.. «walla» يستعرض المواقع السياحية بالسعودية/ مصر العربية 26 يناير 2020
[18] صالح النعامي/ جنرال أميركي يُشيد بالعلاقات السرية بين إسرائيل ودول عربية/ العربي الجديد 1 فبراير 2020
[19] لماذا طرحت السعودية التطبيع في الدراما بهذه الطريقة؟ الهدف أكبر من الترويج لإسرائيل/عربي بوست 6 مايو 2020
[20] مشاريع اقتصادية بين السعودية وإسرائيل… تبادل تجاري ورحلات طيران وخط سكة حديد/ العربي الجديد 17 يونيو 2017
[21] “الأمير محمد مستعد للتطبيع لكن يخشى أمرين”.. صحيفة عبرية تكشف ما دار بلقائه وسيط الإمارات وإسرائيل عربي بوست 15 أغسطس 2020
[22] احمد عبد الحميد/ صحيفة سويسرية: في التطبيع مع «إسرائيل».. السعودية لم تنسَ مصير السادات/ مصر العربية 15 أغسطس 2020
[23] “السعودية الهدف المنشود لكنها ليست سهلة كالإمارات”.. صحيفة أمريكية: الملك سلمان عقبة أمام التطبيع مع إسرائيل/عربي بوست 19 أغسطس 2020
[24] وائل عبد الحميد/كوشنر: فجوة الأجيال تعرقل التطبيع بين السعودية وإسرائيل/ مصر العربية 17 أغسطس 2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022