دراسة: التصعيد “التركي . اليونااني . الفرنسي” في شرق المتوسط … الأسباب والأبعاد وسيناريوهات المستقبل

 

“شرق المتوسط” بات يثير شهية القوى الدولية والإقليمية بسبب حقول الغاز قبالة سواحل تركيا وإسرائيل ومصر وقبرص، ناهيك عن مشروع خط أنابيب غاز “إستميد” بين قبرص وإسرائيل واليونان وإيطاليا، والذي يتوقع الخبراء أن يصدر 16 مليار متر مكعب من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وتوقيع مذكرة تفاهم في 28 من نوفمبر الماضي بشأن رسم الحدود البحرية وإنشاء منطقة اقتصادية بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، أجج قلق دول الجوار كمصر وقبرص واليونان.

أردوغان يسعى لحفظ حقوق تركيا ومنع مخططات عزلها إقليميا، أما باريس فتعمل على أن يتغلب الأوروبيون على خلافاتهم الداخلية والاتفاق على استراتيجية مشتركة اتجاه ما تسميه بـ “المشكل التركي”، ودعت بهذا الشأن إلى نقاش بـ “دون محرمات”، غير أن عدة أصوات في بروكسل ذكًرت باريس بأن “تركيا لا تزال عضوا في حلف شمال الأطلسي وأن معاهدة الحلف لا تتضمن أي بند بشأن تعليق عضوية أحد الأعضاء”.

هذا التردد جعل باريس تعلق مشاركتها من مهمة مراقبة حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا في البحر المتوسط، في وقت يبدو فيه الموقف الأمريكي بشأن ليبيا أقرب إلى أنقرة منه إلى باريس، لأن واشنطن تنظر بعين الريبة لدور موسكو، ولا تريد للنفوذ الروسي أن يجد موطئ قدم في ليبيا.

 

تطورات خطيرة

وفي تسارع الأحداث في شرق المتوسط، تتصاعد حدة المواجهات السياسية بين الاطراف الدولية، بما يقربها من الانزلاق للمواجهة العسكرية، حول النفوذ في المنطقة المحورية من العالم، وإن كان عنوان التصعيد الأبرز، هو التنقيب عن الغاز، ومؤخرا، ومع بدء اليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا مناورات مشتركة في شرق المتوسط وبعد الكشف عن إرسال الإمارات مقاتلات من طراز f16  إلى جزيرة كريت للمشاركة في مناورات مشتركة مع اليونان بالتزامن مع أعمال البحث والتنقيب التركية في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط جاء إعلان وزارة الدفاع التركية عن إجراء مناورات بحرية في المنطقة وتتضمن هذه المناورات التدريب على إطلاق النار في الأول والثاني من شهر سبتمبر 2020، وصرح وزير الدفاع التركي بأن منطقة المناورات تقع جنوب مدينة اسكندرون في محافظة هاطاي جنوبي تركيا وقد حددت قيادة القوات البحرية في أنقرة في نشرة ملاحية إحداثيات منطقة المناورات في البحر وطلبت من جميع السفن الابتعاد عن منطقة المناورات لضمان سلامتها.

و أعربت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والأمين العام لحلف شمال الأطلسي عن قلقهما من التوتر في شرق المتوسط، وحثت اليونان وتركيا على حل  خلافاتهما عبر الحوار وتجنب التصعيد وهو ما أكد عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في اتصالين مع الرئيس التركي ورئيس الوزراء اليوناني.

بينما قال الرئيس التركي أردوغان، الأحد، 30 أغسطس، “إن بلاده لن ترضخ للتهديد والابتزاز في شرق المتوسط، وستدافع عن حقوقها وفق القوانين الدولية والاتفاقيات الثنائية”، وأضاف أردوغان “أن تركيا مصممة على بلوغ مئوية تأسيس الجمهورية التركية عام 2023، بقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية أكبر” جاء ذلك في تدوينة إثر زيارته ضريح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك بمناسبة “عيد النصر”.

 

المناورات اليونانية

وبدأ الأربعاء الماضي، تدريب عسكري مشترك مع فرنسا وإيطاليا وقبرص حتى الجمعة الماضية، التدريبات جرت في جنوب جزيرة كريت في شرق المتوسط، وذلك في اطار ما سمي مبادرة التعاون الرباعية (إس كيو إيه دي)، وأرسلت تركيا منذ العاشر من أغسطس سفينة رصد الزلازل “عروج ريس” ترافقها قوة بحرية، ما أثار غضب اليونان التي نشرت سفنا حربية في المنطقة. وتتهم اليونان تركيا بالتنقيب عن احتياطيات الغاز الطبيعي قبالة الجزر اليونانية بشكل غير قانوني. كما أدان الاتحاد الأوروبي الإجراءات التركية وطالب أنقرة بوقفها. في المقابل، ترى الحكومة التركية أن المياه التي يتم فيها الحفر تنتمي إلى الجرف القاري التركي.

 

تباينات الموقف الأوربي

وعلى الصعيد الأوروبي، فشلت اليونان وفرنسا في اقناع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي، باجتماعهم ببرلين،  يومي الخميس والجمعة الماضيين على توجيه عقوبات نحو انقرة، بسبب ممارساتها في شرق المتوسط، وتبنت المانيا خيار التفاوض والضغط السياسي على تركيا من أجل الوصول لاتفاق مرضي للأطراف، وانتهى اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في العاصمة الألمانية برلين، الذي بدأ الخميس، وانتهى الجمعة دون اتخاذ عقوبات على تركيا، وسط تمسك المانيا بالحوار مع تركيا لإنهاء الخلاف مع تشبث تركيا بحقها في التنقيب عن موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وسط الخلاف مع اليونان، وتتمسك ألمانيا بأن فرض عقوبات على أنقرة أمراً غير مناسب ويعرّض جهود تسوية الخلاف بشأن التنقيب عن الغاز الطبيعي في شرق المتوسط للخطر.

فيما تحاول قبرص واليونان ودول البلطيق من جهة أخرى دفع الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على تركيا. وبدت  أثينا ممتعضة من الوساطة الألمانية في ما يخص خلافها مع أنقرة بشأن موارد الطاقة البحرية، معتبرة برلين منحازة لتركيا، وأنّ حلف شمال الأطلسي “الناتو” لا يقدم الدعم الكافي لها، وهي متمسكة بموقفها المتعلق بضرورة سحب أنقرة لسفنها “الحربية” أولاً، قبل الدخول في حوار مباشر معها، في خضم ذلك، وعلى الرغم من كل الدعوات لوقف التصعيد، فإنّ تركيا تتمسك بحقوقها في النزاع مع اليونان، ومددت عمل سفينة البحث في شرق المتوسط لمدة خمسة أيام إضافية، بعدما صدق البرلمان اليوناني، الخميس الماضي، على اتفاق ترسيم حدود المناطق البحرية بين اليونان ومصر في شرق البحر المتوسط، ما قد ينذر بتفاقم الصراع بين اليونان وتركيا، الدولتين بحلف شمال الأطلسي.

الموقف التركي

ويتمسك الاتراك بحقوق تاريخية وجيوسياسية بالمنطقة، التي يرونها امتدادا لنفوذهم السياسي والجغرافي، ويخشون تمدد الأطراف الأوربية نحو مناطق جوار تركيا، وهو ما ترجمه أردوغان يوم السبت 29 أغسطس، حينما قال في رسالة نشرها بمناسبة عيد النصر، إنه “ليس من قبيل المصادفة أن الساعين إلى إقصاء بلادنا شرق المتوسط، هم أنفسهم الذين حاولوا الاستيلاء على أراضيها قبل قرن” وأضاف “كفاح أنقرة مستمر حتى اليوم، والأمة التركية لن تتردد إطلاقا في إحباط مساعي فرض معاهدة “سيفر” جديدة اليوم في (المياه الإقليمية)، مثلما حققت الاستقلال رغم الفقر وقلة الإمكانات”.

وفي نفس السياق، جاءت تصريحات، وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار”، الأحد الماضي، إن القوات المسلحة مصممة وقادرة على حماية البلاد والشعب وقيمه المعنوية ومصالحه مهما كان الثمن. جاء ذلك في تدوينة اثر زيارته المقبرة الوطنية العسكرية بالعاصمة أنقرة بمناسبة “عيد النصر” وكان  وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” خاطب اليونان، الخميس الماضي، “إذا انتهكتم حدودنا فردّنا معروف”، مؤكدا أن بلاده تدعم الحوار دائما ولا ترغب في حدوث ذلك، مشددا في حديث للأناضول، أن تركيا منفتحة على الحوار لحل المشاكل العالقة في بحر إيجة، وأنها تريد السلام والرخاء، ولكنها في الوقت نفسه لا تفرط بحقوقها، وأوضح أن حل المشاكل العالقة بين تركيا واليونان يكون عبر اللقاء والحوار، وليس باللجوء إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي، وحذر من اختبار قوة تركيا، مستغربا منح جزيرة ميس مناطق صلاحية بحرية بمساحة 40 ألف كيلومتر مربع وهي تبعد عن تركيا 2 كم فقط وعن اليونان نحو 600 كم. ولفت إلى أن عرقلة أعمال القوات التركية عبر إجراء مناورات شرقي البحر الأبيض المتوسط، حلم بعيد المنال. وأضاف: “ما نفعله هو إجراء مسح سيرمي بشكل سلمي للغاية” وتساءل: “ما معنى إجراء مناورات عسكرية والإتيان بالطائرات والسفن لمواجهة ذلك؟”، مؤكدا أن التصعيد لا يخدم أحدا.

 

أسباب تصاعد الأزمة بين اليونان وتركيا

1-الاستفزازات الإقليمية لتركيا

وعلى الرغم من تبني حكومة حزب العدالة والتنمية التركي لسياسة “صفر مشاكل” إلا أنه مع النجاحات التركية في المجالات الداخلية سواء الاقتصادية أو السياسية والعلمية، وتبني سياسات إقليمية متفردة تنطلق، جوبهت تركيا بالعديد من التحيزات المضادة لسياساتها، ومثلت ضغوطا استراتيجية على استقرار ومستقبل تركيا، ومن ضمن تلك المجايهات ؛ سلسلة من الاستفزازات الإقليمية، بجانب محاولات عزلها إقليميا، عبر عقد اتفاقات وإنشاء منتدى شرق المتوسط للطاقة مع استبعادها منه، ما دفع ذلك تركيا لتبني  عقيدة “الوطن الأزرق”، وهي المهيمنة في الخطاب العام التركي.

وتعتبر هذه العقيدة الدفاع عن الحدود البحرية لتركيا، وفق ما يراه الأتراك وليس اليونانيون، على أنه لا يقل أهمية عن الدفاع عن حدودها البري، وفي فبراير 2019، أجرى الأسطول التركي أكبر تدريب بحري في تاريخه، تحت اسم “الوطن الأزرق”. وكان التدريب في جزء منه ردا على تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط قبل شهر واحد. وفي أواخر عام 2019، بعد أن وقعت تركيا اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، أطلقت أنقرة خطة للتنقيب عن الغاز والنفط في المناطق التي تعتبرها اليونان مياهها الاقتصادية. وفي يوليو 2020، أعلنت أنقرة أنها تعتزم إرسال سفينة بحثية لإجراء البحوث السيزمية. واستعدت البوارج التركية لمرافقة سفينة الأبحاث. وردا على ذلك، رفع اليونانيون مستوى استعدادهم العسكري.وبعد جهود الوساطة الألمانية، علق الأتراك إرسال سفينة الأبحاث.

 

2-الاتفاق اليوناني المصري

مثل بدوره ، خطوة جديدة من التضييق على تركيا وحصرها، فمؤخرا، تمكنت اليونان ومصر من الاتفاق على ترسيم حدودهما البحرية، في حين لم تسفر المفاوضات السابقة بينهما عن اتفاق، لقد كافحت اليونان وكانت أحيانا مترددة في التوصل إلى اتفاقيات رسمية مع دول أخرى لترسيم حدود مياهها الاقتصادية، بسبب خلافها مع تركيا حول سيادتها على بعض الجزر اليونانية وحدود المياه الاقتصادية بين الدولتين، ودفعت تركيا نحو إثناء مصر بعيدا عن الاتفاق مع اليونان، حفظا لحدودها البحرية ومياهها الاقتصادية، التي خسرت منها نحو 11 ألف كلم مربع، لصالح اثينا، وهو ما سبقه ايضا خسارة مصر نحو 42 ألف كلم من مياهها الاقتصادية باتفاقها مع قبرص، إلا أن نظام السيسي أمضى الاتفاقيتين نكاية في تركيا فقط.

ويتعلق أصل النزاع اليوناني التركي بمسألة ما إذا كانت الجزر المأهولة بالسكان تستحق نفس حقوق المياه الاقتصادية حولها مثل الأراضي القارية، وتدعم اتفاقية قانون البحار من عام 1982 الموقف اليوناني، لكن قبول المطالب اليونانية بالكامل سيكون مشكلة كبيرة بالنسبة للأتراك، لأن هذا من شأنه أن يتركهم بمياه اقتصادية محدودة جدا، وكانت أثينا قلقة من أن تركيا قد تستخدم التنازلات لمصر لاحقا ضدها، وحتى قبل التوصل إلى الاتفاق مع مصر، تمكنت اليونان في يونيو الماضي من التوصل إلى اتفاق لترسيم حدودها البحرية مع إيطاليا، فيما تجري محادثات مع ألبانيا حول توقيع اتفاق مماثل، وبالرغم من توصل قبرص الرومية إلى اتفاقيات على مر السنين بشأن ترسيم حدود مياهها الاقتصادية مع مصر (2003) ولبنان (2007) و(إسرائيل) (2010)، فقد تجنبت اليونان توقيع اتفاقية مماثلة بناءً على مخاوف من تدهور الصراع في قبرص، ويبدو أنه في ضوء سياسة تركيا الحازمة، والحاجة إلى العمل ضد الاتفاق الليبي التركي، تغير موقف اليونان، والآن تعيد اليونان وقبرص الرومية النظر في توقيع اتفاقية مشتركة.

 

3-الميراث التاريخي وأزمة الحدود البحرية

وبحسب أستاذة القانون العام وقانون البحار في جامعة “كيل” الألمانية نيلي ماتز لوك، في مقابلة مع شبكة “إيه آر دي” الإخبارية الألمانية، فإنّ موقف أنقرة ليس بهذا السوء بما يخص النزاع حول الغاز في شرق المتوسط، مشيرة إلى أن القانون الدولي يفترض أن على الدول الاتفاق على خط حدودي ولا يمكنها المطالبة بالمناطق البحرية كاملة، فالقانون الدولي للبحار يستند إلى 12 ميلاً بحرياً، ومعاهدة لوزان عام 1923 نصّت على ثلاثة أميال بحرية، في وقت تطالب فيه تركيا بستة أميال.

وبيّنت مارتز لوك أنه لا يوجد ترسيم للحدود البحرية بين أنقرة وأثينا على الجرف القاري، لافتة إلى أنّ اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تنص على أنه يمكن للدول المطالبة بجرف بحري يصل الى 200 ميل بحري من الساحل وربما أبعد، وهنا تفترض تركيا نفسها أنه يمكنها على الأقل المطالبة بمثل هذه القاعدة من البر الرئيسي، وتنكر حق اليونان بذلك. وفي رد على سؤال عن كون تركيا تمتلك أطول خط ساحلي في المنطقة، وإذا ما ساد الخط اليوناني أو القبرصي- اليوناني ستخرج أنقرة خالية الوفاض، اعتبرت مارتز لوك أنه “لا يمكن تصور الأمر هكذا حالياً، لأنّ ترسيم الجرف القاري والمناطق الاقتصادية لا يعتمد بالضرورة على خط الوسط، ولكن على العدل والإنصاف وحل النزاعات الحدودية بين الدول”.

متابعة أنه “من المسلم به أنّ طول الخط الساحلي يلعب دوراً ويؤخذ بعين الاعتبار، والجزر الأصغر التي من شأنها “تشويه” الحدود، قد تترك خارج اتفاقات الترسيم. ويعني ذلك أنّ تركيا ستحصل على حصص أكثر مما لو كان مجرد رسم خط وسط بين الجزر اليونانية والبر الرئيسي التركي. وبالتالي فإنّ الأمر ليس بهذه السهولة التي يتصورها الجانب اليوناني”، بحسب الخبيرة الألمانية، التي لفتت إلى أنه “طالما لم يتم الاتفاق أو لم يتم عرض النزاع على التحكيم أو المحاكم الدولية، فسيكون هناك مأزق وتصعيد من قبل تركيا وهذا ما نراه حالياً” منتقدة موقف اليونان الرافض الاستغلال المشترك للمواد الخام، رغم أن القانون يسمح بذلك، كما هو الحال مثلاً بين النرويج وروسيا في بحر بارنتس، لأنها ترى نفسها في وضع قانوني أفضل للمطالبة بالموارد بمفردها.

 

4-الدور الفرنسي وتفعيل الخلافات

وعلى مدى سنوات من الخلافات بين تركيا وفرنسا، مع امتداد الخلافات الحضارية التي كانت تمثلها فرنسا ازاء الدولة العثمانية قديما، دفعت الخلافات بين البدين لافساد الخطط الفرنسية بالشرق الاوسط، في العديد من الملفات، كالملف الليبي، وملف الساحل والصحراء، حيث لعبت المواقف والسياسات التركية عاملا مضادا للأجندة الفرنسية، ومن ثم جاء الموقف الفرنسي المساند لليونان في خلافها مع تركيا، عارضة المساعدة العسكرية، متبنية الخيار التصعيدي لأزمة التنقيب عن الغاز بالمتوسط، وأعلنت فرنسا إرسال مقاتلتين وسفينتين حربيتين إلى شرق المتوسط، علاوة على المشاركة في مناورات اليونان، بجزيرة كريت مؤخرا، وطالبت عبر اجتماع برلين لوزراء الخارجية الاوربيين بتطبيق عقوبات على انقرة، لكن المانيا افشلت التصعيد الفرنسي. يشار إلى أن العلاقات الفرنسية التركية دخلت في مسار محفوف بالمواجهات، كاد أن يتحول مؤخرا إلى احتكاك عسكري خطير بين القوات البحرية للبلدين في شرق المتوسط قبالة الشواطئ الليبية، وتحديدا في (العاشر من يونيو 2020). حيث وقع حادث سلط الضوء على الانقسامات داخل حلف شمال الأطلسي “الناتو”، الذي وقف محرجا أمام نزاع بين اثنين من أكبر أعضائه.

 

5-محاصرة تركيا أوروبيا :

وازدادت التحركات الأوروبية خلال الفترة الأخيرة؛ لمحاصرة تركيا عسكريًّا في منطقة شرق المتوسط، ظهر ذلك في:

أولًا: دعوة الممثل الأوروبي “جوزيف بوريل”، 12 أغسطس 2020، لعقد اجتماع بناء على دعوة يونانية؛ لمناقشة الوضع في شرق المتوسط، في ظل -ما اعتبره- الاستفزازت التركية المتوالية، التي كان أحدث حلقاتها توجه سفنية “عروج ريس” للمسح الزلزالي، بمرافقة سفن حربية إلى شواطئ جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، وهي الخطوة التي استبقتها فرنسا بانتشار عسكري واسع، تضمن نشر طائرتي “رافال” والفرقاطة “لافايت” إضافة إلى إبقاء حاملة المروحيات “تونير” التي اتجهت إلى مياه شرق المتوسط، في إطار المساعدات الفرنسية للبنان، في أعقاب تفجير مرفأ لبنان، كما جرى الإعلان عن الانتشار بإطلاق تدريبات عسكرية فرنسية – يونانية مشتركة (الخميس 13 أغسطس).

ثانيًا: تفعيل عملية إيريني، التي تشارك فيها 20 دولة أوروبية، نحو ربع هذه القوة (فرنسا – ألمانيا – اليونان – إيطاليا – إسبانيا) هي الأكثر نشاطًا بدرجة أكبر في التصدي لاستمرار التدفق العسكري التركي إلى ليبيا بأشكاله المختلفة (أسلحة – مقاتلين)، وأسهمت نسبيًّا حتى الآن في الحد من إمدادات السلاح والمقاتلين في يوليو الماضي مقارنة بالأشهر الستة السابقة (التي عززت فيها تركيا تلك الإمدادات عقب مؤتمر برلين -يناير 2020- مباشرة).

ولعل الخطوة الأهم، التي حدثت مؤخرًا، هي إقناع فرنسا لألمانيا بالانخراط عسكريًّا ضمن الإستراتيجية ذاتها؛ حيث أوفدت ألمانيا الفرقاطة “هامبورج” وهي الفرقاطة الرابعة والأحدث التي تنضم للعملية إيريني، بعد اليونانية “سبيتسي” والفرنسية “جان بار” والإيطالية “سان جورجو”.

 

6- خط أنابيب شرق المتوسط

ومثّل إقرار حكومة الاحتلال الإسرائيلي في جلستها في 23 يوليو 2020، الاتفاق الذي وقعته مع اليونان وقبرص لتدشين الأنبوب الذي يفترض أن ينقل الغاز الذي تستخرجه من شرق حوض المتوسط إلى أوروبا، خطوة متقدمة على صعيد إنجاز هذا المشروع الذي تراهن حكومة بنيامين نتنياهو على دوره في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمكانة الجيواستراتيجية لإسرائيل، وجاءت الخطوة الإسرائيلية بعدما تم إقرار الاتفاق من قبل قبرص والولايات المتحدة، في حين أن الاتحاد الأوروبي أقره مبدئياً ولم يصدر قراراً نهائياً بشأن جدواه الاقتصادية، علماً أنه يفترض أن يقع العبء الأكبر من تمويل المشروع البالغة كلفته الإجمالية 6 مليارات دولار على عاتق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

وترجع حماسة اليونان وقبرص وإسرائيل، وفق محللين متابعين، لاستباق الزمن وإنجاز المشروع إلى رغبة الأطراف الثلاثة في إرساء حقائق على الأرض قبل أن تشرع كل من تركيا وحكومة الوفاق الليبية في تطبيق الاتفاق الذي يسمح لهما بترسيم حدود المياه الاقتصادية لكل منهما، وهو الاتفاق الذي تقول أنقرة إنه يمنحها السيطرة على جزء من المياه الاقتصادية التي يفترض أن يمر عبرها هذا الأنبوب، والتي تدّعي قبرص، في المقابل، أنها جزء من مياهها الاقتصادية. وعلى هذه الخلفية، يمكن فهم معارضة تركيا الشديدة لتدشين الأنبوب وإدراك مسوّغات الرفض القبرصي اليوناني الإسرائيلي لاتفاق التعاون بين تركيا وحكومة الوفاق، وتحديداً الاتفاق على ترسيم الحدود المائية بينهما.

مستقبل الأزمة

1-سيناريوهات التهدئة والتوافق:

وعلى الرغم من التناقض بين الاتفاق المصري اليوناني والاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الليبية، تراهن أمريكا والمانيا على ضرورة توصل  الجانبين إلى تفاهم بشأن هذه المسألة من أجل تجنب خطر الانجرار إلى نزاع مسلح. ويمثل وقف إطلاق النار الذي تم الإعلان عنه في ليبيا في 21 أغسطس علامة إيجابية على التفاهم بين مختلف اللاعبين على ضرورة التوصل لحل وسط، بالرغم من الصعوبات القائمة. وقد تظهر تركيا بعض المرونة بعد اكتشافها للغاز في البحر الأسود والذي يمثل أول اكتشاف لمصدر مهم للوقود الأحفوري في الأراضي التركية. وفي المقابل، فإن استمرار تمسك الكتل المتصارعة بمواقفها يدعو للقلق من أن أي مرونة أو حوار قد يكون محدودا وغير كاف. ويبدو أن ألمانيا عازمة على التوصل إلى حل وسط يرضي الطرفين، وذلك بعد تصاعد الانتقادات الحادة لتركيا داخل دول الاتحاد الأوروبي، بعد أن وسعت اليونان وفرنسا بشكل كبير من وجودهما العسكري في المنطقة، حيث أرسلت فرنسا أيضاً سفنا حربية.

وباتت الأطراف أمام حال من الاستنفار والتأهب الأمني، ما نتج عنه إعلان أثينا وأنقرة عن مناورات عسكرية في شرق المتوسط. مع العلم أن المتحدث باسم الحكومة اليونانية اعتبر أن أي مبادرة تقوم بها ألمانيا بصفتها دولة ذات حيثية ومكانة أوروبية “ستكون ذات أهمية خاصة” وعلى تركيا أن تثبت مصداقيتها” ويأتي في هذا السياق، تصريحات أردوغان، الذي صرح بأن “الحل الوحيد في البحر المتوسط هو الحوار والمفاوضات” وذلك رغم ،ن تركيا لا تزال مستمرة في سياساتها للدفاع عن حقوقها في منطقة شرق المتوسط. فقد أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنه لن يتراجع أمام ما سماه بالتهديد ولغة العقوبات، ومعلنًا استمرار أنقرة بالوجود في شرق المتوسط، ومشيرًا إلى أن عمليات التنقيب التي تقوم بها سفينة “يافوز” قبالة سواحل قبرص ستستمر حتى الثالث والعشرين من (أغسطس)، داعيًا إلى الابتعاد عن منطقة التنقيب، وذلك بعد ساعات فقط على انتهاء اجتماع لدول الاتحاد الأوروبي، دعا الى خفض التصعيد في البحر المتوسط .

كما أنه على الرغم من أن الموقف الأوروبي داعم لكل من قبرص واليونان في شرق المتوسط ضد تركيا، إلا أن أوروبا حريصة على عدم زيادة هذا الدعم للدرجة التي تتسبب في إغضاب تركيا. وهو ما ظهر في رفض الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على أنقرة؛ بسبب إجرائها مسوحًا للكشف عن الغاز في شرق البحر المتوسط، كما كانت ترغب اليونان. كما أن أوروبا تميل إلى حل الخلافات بين تركيا واليونان عبر الحوار، وليس من خلال القوة العسكرية، وهو ما ظهر في دعوة الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد جوزيب بوريل أنقرة للدخول في حوار شامل مع الاتحاد الأوروبي، حول التطورات في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، مشيرًا إلى أن الحوار والمفاوضات هما الطريق الوحيد لإيجاد حل وتحقيق الاستقرار .

 

2-سيناريو الانجرار للمواجهة العسكرية:

ومع التوترات المتزايدة على مدى الأشهر القليلة الماضية بين تركيا واليونان بسبب الخلافات حول الحدود البحرية في شرق البحر المتوسط يتزايد خطر اندلاع أعمال العنف في المنطقة، إلا أن خبراء يتوقعون أن اليونان ومصر لا تحرصان على مواجهة عسكرية مع تركيا، ولدى أنقرة أيضا تحفظاتها على المواجهة مع دولة عضو في الناتو. ولعل التوافق الأوروبي والمصري والتركي الأخير، الذي دفعت نحوه واشنطن في ليبيا، بإعلان وقف طلاق النار، قد يكون أحد السيناريوهات المكررة في شرق المتوسط، بضغوط أمريكية، قد لا تسمح بمواجهة عسكرية بين دولتين عضوتين بالناتو، وهو ما يستبعده أيضا العميد المتقاعد إلياس حنا الخبير العسكري والاستراتيجي، من اندلاع حرب بين الأطراف المتصارعة شرقي البحر المتوسط لأنها مكلفة، مضيفا أنهم ينطلقون من مبدأ “الغائب خاسر”، ومن ثم فالجميع يسعى لإثبات وجوده، مضيفا في حواره مع برنامج “ما وراء الخبر” أن الثروة الموجودة في شرقي المتوسط هي السبب وراء الصراع الجيوسياسي شرقي المتوسط والملقب بـ”دبلوماسية القوى البحرية”.

الموازين العسكرية: ورغم عدم ترجيح الانزلاق لمواجهة عسكرية،إلا أن حالة التوتر المتصاعدة بين البلدين وإمكانية حدوث صدام مسلح بين تلك القوتين في شرق المتوسط، يبقى خيار مطروحا، وهو ما يستوجب التوقف عند مستقبل ذلك الخيار من خلال مطالعة موازين القوة بين البلدين المتصارعين، فقد أجرى موقع “جلوبال فير بور” مقارنة بين القوة العسكرية للجيشين التركي واليوناني، والتي أظهر تفوق الجانب التركي بشكل واضح. وتظهر إحصائيات 2020، لموقع جلوبال فاير بور، أن الجيش التركي يحتل المرتبة الـ11 عالميا بينما يحتل الجيش اليوناني المرتبة رقم 33 بين أقوى 138 جيشا في العالم.

ويتجاوز تعداد سكان تركيا 81 مليون نسمة، بينهم 41 مليون قوة بشرية متاحة للعمل ويصلح للخدمة العسكرية بها نحو 35 مليون نسمة.ويصل تعداد سكان اليونان إلى نحو 11 مليون نسمة، بينهم نحو 5 ملايين قوة بشرية متاحة للعمل ويصل للخدمة العسكرية بها نحو 4 ملايين نسمة.ويصل إلى سن التجنيد سنويا 1.4 ملايين نسمة في تركيا مقابل 104 آلاف في اليونان، كما تصل ميزانية الجيش التركي إلى 19 مليار دولار مقابل 4.8 مليارات دولار ميزانية الجيش اليوناني.ويتكون الجيش التركي من قوة عاملة عددها 355 ألف جندي إضافة إلى 380 ألف جندي في قوات الاحتياط، مقابل 200 ألف جندي حجم القوة العاملة في الجيش اليوناني و550 ألف في قوات الاحتياط.وعلى صعيد القوة الجوية، يمتلك الجيش التركي 1055 طائرة بينها 206 مقاتلة و80 طائرة شحن عسكري و276 طائرة تدريبة و18 طائرة للمهام الخاصة، إضافة إلى 497 مروحية بينها 100 مروحية هجومية.بينما يمتلك الجيش اليوناني 566 طائرة حربية بينها 187 طائرة مقاتلة و15 طائرة نقل عسكري و143 طائرة تدريب و8 طائرات للمهام الخاصة، إضافة إلى 231 مروحية بينها 29 مروحية هجومية.وعلى صعيد القوة البرية، يمتلك الجيش التركي 2622 دبابة و8777 مدرعة و1278 مدفع ذاتي الحركة و1260 مدفع ميداني و438 راجمة صواريخ.

بينما يمتلك الجيش اليوناني 1355 دبابة و3691 مدرعة و547 مدفع ذاتي الحركة و463 مدفع ميداني و152 راجمة صواريخ.ومن ناحية القوة البحرية، يتكون الأسطول التركي من 149 سفينة حربية تشمل 12 غواصة و16 فرقاطة و10 كورفيت (سفينة حربية أصغر من الفرقاطة)، إضافة إلى 35 سفينة دورية و11 كاسحة ألغام بحرية.ويتكون الأسطول اليوناني من 116 سفينة حربية تشمل 11 غواصة و13 فرقاطة و35 سفينة دورية و4 كاسحات ألغام بحرية.

أما الدعم اللوجيستي، فتمتلك تركيا 98 مطارا و10 موانئ بحرية إضافة إلى أسطول تجاري يتكون من 1277 سفينة، بينما تمتلك اليونان 77 مطار و7 موانئ ويتكون أسطولها التجاري من 1343 سفينة.وتتجاوز مساحة تركيا 783 ألف كيلومترا مربعا ولها حدود مشتركة مع دول أخرى بطول 2816 كيلومترا، إضافة إلى سواحل طولها 7200 كيلومتر. وتتجاوز مساحة اليونان 131 ألف كيلومترا مربعا ولها حدود مشتركة مع دول أخرى طولها 1110 كيلومترات وتمتلك سواحل طولها أكثر من 13.6 كيلومترات. ولفت موقع “ستاتيستا” الأمريكي إلى أن الدولتين عضوان في حلف “الناتو” وأن الجيش التركي يحتل المرتبة الثانية بين أقوى جيوش الحلف، بينما يحتل الجيش اليوناني المرتبة التاسعة، وفقا لإحصائيات عام 2019.

خاتمة

وأمام تلك التطورات والتحديات الاستراتيجية وتجليات أزمات منطقة شرق المتوسط، فإن ترجيحات الخبراء والمراقبين، لمستقبل الازمة التركية اليونانية تكاد تجمع على إمكانية التفاهم، والبحث عن بدائل وترضية للاطراف المتنازعة، والدفع نحو خيار الاستفادة المشتركة من ثروات المنطقة، وعدم عزل تركيا، وفي حال حل النزاعات الحالية على مواقع إنتاج الغاز الطبيعي بشكل ودي بين دول شرق المتوسط، واستخدام لغة الحوار في حسم الخلافات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية والمياه الإقليمية، فإن هذه الدول ستتحول إلى منتج كبير للغاز في ظل ضخامة الاحتياطيات المتوقعة، والتي قدّرتها دراسة في عام 2010، بنحو 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز، و1.7 مليار برميل من النفط، وإن كانت دراسات أخرى حديثة توقعت أرقاما أعلى من ذلك بكثير وتقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات، وفق مراقبين.

وفي حالة حسم النزاعات القائمة بين دول المتوسط بالطرق الودية وحسب القانون الدولي، ربما تدخل كل من مصر وتركيا وقبرص واليونان ولبنان وسورية وتونس سوق تصدير الغاز الطبيعي وبقوة في المستقبل، خاصة لدول شمال البحر المتوسط، أما دول شمال أوروبا فتتنافس عليها روسيا والولايات المتحدة بإنتاجهما الضخم من الغاز، وفي حال لم تفلح الجهود الدولية، فان نار الصراعات العسكرية ستحرق الجميع، وتصل للداخل التركي أيضا بقوة، وذلك في ضوء إدخال انقرة نفسها بطريقة أو بأخرى في كل ركن من أركان الشرق الأوسط، ففي شمال العراق وسوريا، تحاول إقامة مناطق عازلة لمنع المتمردين من اختراق حدودها. وفي القوقاز، تحاول حماية سلاسل إمداد الطاقة الحيوية ومواجهة النفوذ الروسي، وفي الصومال وقطر، تدير تركيا قواعد مشتركة وتوفر برامج تدريب عسكرية للحفاظ على موطئ قدم في القرن الأفريقي والخليج. أما في البحر الأسود الذي اكتشفت فيه مؤخرًا احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، فإنها ستكون أكثر حزمًا لتأمين قدرتها على الوصول إلى الموارد.

لكن المسرح الأكثر حيوية بالنسبة لتركيا هو شرق البحر الأبيض المتوسط، فقد أصبح محور تركيز تركيا لما يمثله من أهمية في مجال الطاقة والفرص التجارية، كما يمثل موقفًا دفاعيًا استباقيا لتركيا بحيث لا يحمي المصالح التركية الحالية فحسب، بل يوسعها. وفي الوقت ذاته، تعد التعزيزات البحرية التركية طموحة، فقد استثمرت أنقرة رأس مال كبير في ترسيخ موطئ قدم أكبر في البحر الأبيض المتوسط، عبر عمليات الحفر قبالة سواحل قبرص والجزر اليونانية، والتدخل في صراعات مثل الحرب في ليبيا، واعتماد دبلوماسية الزوارق الحربية ضد المنافسين الإقليميين من أجل استعادة الهيمنة البحرية. ومع ذلك، فإن تركيز تركيا المباشر أقرب إلى أراضيها، حيث يتمثل في ردع التهديدات التقليدية على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. وستضمن القيود العملياتية في جنوب البحر الأبيض المتوسط، والتحديات اللوجستية، والتقييدات الاقتصادية والدفاعية، والتهديدات التقليدية المتزايدة أن تظل تركيا في الوقت الحالي في حالة تركيز على فنائها الخلفي، ولن يمكنها ذلك من أن تصبح القوة المهيمنة في البحر الأبيض المتوسط ​​كما ترجو، بحسب تقديرات استراتيجية. إلا أن الموقف الدفاعي لتركيا يبدو مختلفًا تمامًا عما كان عليه قبل بضعة عقود.

ففي فترة ما قبل التسعينات، اجتمعت عوامل مثل تركيز تركيا الداخلي على اقتصادها والتحديث السياسي وتطوير البنية التحتية، جنبًا إلى جنب مع التهديد الذي يلوح في الأفق من الاتحاد السوفييتي وولائها لحلف “الناتو”، ما دفع أنقرة لاتباع اتباع خارجية قائمة على الردع بدلاً من التوسع. لكن ذلك تغير في التسعينات، حيث بدأت تركيا والغرب في التباعد، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، تضاءل التهديد الروسي، كما تضاءلت المصالح المشتركة بين تركيا والغرب. وتبنت القيادة العسكرية لأنقرة “إستراتيجية حربين ونصف”؛ وهي فكرة قائمة على أنها يجب أن تكون مستعدة لشن حربين، واحدة إلى الشرق والأخرى إلى الغرب في وقت واحد، بينما تخوض أيضًا “نصف حرب” مستمرة وغير تقليدية مع المتمردين الأكراد في الداخل. ورأت الاستراتيجية بالأساس أن موقع تركيا، المحشور بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط​يمثل نقطة ضعف.

وبدأت تركيا في تبني عقيدة عسكرية أكثر استقلالية وحزمًا في القرن الحادي والعشرين، فقد أثار اكتشاف الهيدروكربونات في محيط تركيا اهتمام أنقرة، لا سيما أنها كانت تكافح من أجل تنويع مصادر الغاز الطبيعي، واحتاجت إلى قوة بحرية يمكن أن تساعد في الدفاع عن مطالبتها بالسيطرة على هذه المناطق. واصلت تركيا الابتعاد عن الغرب وتراجعت بروكسل عن التزامها بعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، مع استمرار أنقرة في التصادم مع حلفائها في الناتو. وزادت عودة ظهور التهديد الروسي وعدوانية إيران المتزايدة والتحالف المتنامي المناهض لتركيا في البحر المتوسط ​​ من عزلة أنقرة. لذلك أدخلت تركيا فكرة”MaviVatan”، أو “الوطن الأزرق”، التي هيمنت على التفكير الاستراتيجي بين القادة العسكريين والسياسيين القوميين في تركيا. ويؤكد هذا المفهوم أن تركيا يجب أن تعمل للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط ​​وتستعيد التفوق التجاري والبحري الذي كان يتمتع به العثمانيون ذات يوم. وهكذا فإن هذه الاستراتيجية ترى موقع تركيا ليس نقطة ضعف، بل أحد الأصول التي تمنح الدولة عمقا استراتيجيا.

وليس الغرض من هذه الاستراتيجية توسيع النفوذ التركي في الخارج فقط، ولكن أيضًا تلبية العديد من احتياجات تركيا المحلية والمالية. ويسمح وجود بحري قوي في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​لتركيا بتأكيد مطالباتها باحتياطيات النفط والغاز في المياه المتنازع عليها هناك، ما قد يساعد أنقرة في نهاية المطاف على تحقيق استقلال الطاقة، وحتى قد تصبح مركزًا للطاقة. وبالرغم أن البحرية التركية أكبر من البحرية اليونانية -منافستها الرئيسية- لكن هناك العديد من الدول المتوسطية الأخرى التي تنافس أنقرة، فقد زادت الدوريات والتدريبات البحرية المشتركة بين اليونان وفرنسا وإيطاليا ومصر وحتى (إسرائيل) من مخاطر الصراع التقليدي. وإذا شكلت تركيا تهديدًا خطيرًا لليونان -من خلال انتهاك التقسيم في قبرص أو محاولة غزو جزيرة كريت على سبيل المثال- فسيتعين عليها مواجهة تحالف من القوات البحرية المتمكنة مع قوة هجوم مشتركة كبيرة من شأنها أن تطغى على قدرات تركيا.

وتستلزم معظم المشاريع البحرية التركية سنوات، أو ربما حتى عقود، قبل أن تتمكن من أداء العمليات، ومن أهمها أول سفينة هجوم برمائية تركية “TCG Anadolu”، والتي من المتوقع أن تكتمل بحلول نهاية هذا العام. تم تصميم “Anadolu” لتكون بمثابة حاملة طائرات خفيفة ومركز قيادة في البحر الأبيض المتوسط، ويمكن أن تؤدي مهمات قتالية على مسافات أبعد عبر حمل 14 طائرة مقاتلة من طراز “STOVL” أو طائرات هليكوبتر ثقيلة، وعدة مركبات هجومية برمائية، و29 دبابة قتال رئيسية، و4 مركبات آلية، مع مركبتين مبطنتين بالهواء، ومركبتي هبوط للأفراد. وستشكل القدرة على تنفيذ غزو برمائي تهديدًا لجزر بحر إيجه الصغيرة بالقرب من الساحل التركي، كما يمكن أن تعزز عمليات تركيا في ليبيا، عبر نشر المزيد من المعدات لوحدات المشاة الآلية ونشر أكبر للقوات الجوية. من الناحية النظرية؛ يبدو أن “TCG Anadolu” تسد على الأقل بعض الفجوة في قدرات تركيا المتوسطية، لكن السفينة وحدها لن تمنح تركيا التفوق على القوات المشتركة لفرنسا ومصر واليونان و(إسرائيل).

وإلى أن تتمكن تركيا من تأمين قواعد أمامية وأسطول بحري أكثر قوة، ستكافح استراتيجيتها الدفاعية بأكملها للتغلب على القيود اللوجستية وقيود التزود بالوقود والتمويل.ويبقى عاملا مهما، يشجع تركيا على المضي في استراتيجيتها “الوطن الأزرق” ، وهو الغياب الأميركي بسبب تركيز واشنطن على صراعها مع الصين، وهو ما سمح بوجود روسيا وفرنسا في المتوسط من ناحية، واطلق المجال لتركيا للمناورة وصياغات استراتيجيات هجومية ودفاعية.

 

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022