بعد مفاجأة «جمعة الغضب» .. هل يتجه الحراك  في مصر نحو «عصيان مدني»؟

بعد مفاجأة «جمعة الغضب» .. هل يتجه الحراك  في مصر نحو «عصيان مدني»؟

 

باغتت جمعة الغضب (25 سبتمبر 2020م) نظام الانقلاب في مصر، ومثلت مفاجأة على مستوى الاحتجاجات وامتدادها وشمولها إلى معظم المحافظات المصرية؛ حيث جرى رصد أكثر من 150 مظاهرة في حوالي 100 نقطة احتجاج وتظاهر؛ حيث تظاهرت بعض القرى مرتين نهارا وليلا، امتدت من بعد صلاة الجمعة مباشرة حتى فجر اليوم التالي؛ الأمر الذي يطرح كثيرا من الأسئلة حول مستقبل الحراك على هذا النحو والذي استمر منذ الأحد 20 سبتمبر دون توقف وبلغ ذروته في جمعة الغضب، فهل يستطيع نظام انقلاب 3 يوليو احتواء هذه الانتفاضة الشعبية كما جرى قبل سنة مع انتفاضة 20 سبتمبر 2019م؟ أم أن الحراك ينمو ويتمدد ويتسع ليضم قطاعات شعبية أخرى تضم ملايين المصريين لا تزال مترددة وتراقب عن كثب وإن كانت دوافع الثورة عندها مكتملة لكنها فقط تريد أن تضمن النجاح في خروجها الذي سيكون زلزالا بمعنى الكلمة وسيعيد كفة الميزان للشعب ضد أجهزة النظام الأمنية التي استخفت ولا تزال واستهانت ولا تزال بالشعب؟ وهل يضمن استمرار الحراك انضمام هذه القطاعات وبذلك يتجه الحراك نحو عصيان مدني شامل؟ أم يكون الحراك ــ إذا انضم له ملايين الغاضبين لأسباب اقتصادية بحتة ــ  أكثر حسما ليتبلور إلى ثورة شعبية شاملة لا يمكن احتواؤها تتمكن من الإطاحة بالنظام كله؟ لكن مخاطر ذلك كبيرة؛ لعدم وجود تصورات عند هذه الملايين الغاضبة لمرحلة مع بعد الإطاحة بالنظام، فَهدف الغاضبين هو التحرر من قيود النظام المجحفة التي ضيقت عليهم لقمة العيش وكرست لحالة من الطبقية المستفزة، دون النظر لعواقب الغضب ومداه.

فريقا من المحللين يرى أن مجرد خروج الناس بهذه الكثافة المتوقعة خلال المرحلة المقبلة سوف يدفع رعاة النظام أنفسهم إلى التخلص من السيسي في محاولة لإنقاذ النظام نفسه كما جرى تماما مع حسني مبارك من قبل، والعقبة الوحيدة التي تقف أمام تكرار هذه المناورة والالتفاف على مطالب الجماهير هو وعي الشعب الذي سيكون حاسما في هذه الحالة بعد أن ذاق الويلات وبات على يقين تام أن مصر لن تتحرر إلا بالتخلص من النظام نفسه وليس رأسه فقط، وتأسيس عقد اجتماعي جديد وصياغة معادلة متزنة للعلاقات المدنية العسكرية بما يضمن سيادة الشعب واختصاص الجيش بوظيفته الأساسية، وإنهاء احتكار المؤسسة العسكرية للسلطة ومفاصل الدولة الاقتصادية.

حجم التظاهرات في جمعة الغضب مثلت صدمة للنظام العسكري الحاكم، ومفاجأة  لكل قوى الثورة التي لم تكن تتوقع هذه الاستجابة الواسعة من الجماهير والكم الهائل من المظاهرات التي عبرت عن منسوب كبير للغضب الشعبي المكتوم بفعل البطش الأمني والقرارات التي حاصرت المصريين في لقمة عيشهم وأحالت حياتهم إلى دائرة من البؤس والشقاء لا نهاية لها بعدما ذهبت وعود رئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي بالرفاهية في 30 يونيو 2020م أدراج الرياح، وبات المصريون على يقين لا يتسلل إليه شك أن السيسي كلما استمر في الحكم ازداد الوضع سوءا وضنكا، بعيدا عن حملات الدعاية البيضاء المكثفة التي تحاول ــ بلا جدوى ــ إقناع الجماهير بإنجازات النظام الوهمية؛ فالمواطن العادي لا يرى من إنجازات السيسي سوى الغلاء الفاحش والرسوم الباهظة، وفرض الجباية والإتاوات على المواطنين بالإكراه؛ فسعر لتر البنزين ارتفع من جنيه إلى “6.5” جنيهات، وأنبوبة الغاز من 8 جنيهات إلى 75 جنيها، وتذكرة المترو من جنيه واحد إلى 10 جنيهات وفاتورة الكهرباء من 50 جنيها إلى 400 ج،  هذه هي الإنجازات الحقيقية التي يكتوي بها المواطنون كل يوم ولن تفلح كل فضائيات العالم وصحفه في إقناع الناس ــ بإنجازات السيسي الوهمية ــ  أمام هذه الحقائق الدامغة التي يعايشونها كل يوم.

امتدت المظاهرات من أسوان وقنا والأقصر وبعض القرى في سوهاج وأسيوط وكانت أكثر وضوحا في قرى المنيا التي شهدت مظاهرات حاشدة وبني سويف والفيوم، وتصدرت قرى جنوب الجيزة مشهد الاحتجاج خصوصا في مراكز أطفيح والصف والبدرشين، وصولا إلى كرداسة وناهيا والمنصورية و6 أكتوبر ثم الوراق وأوسيم وأم دينار في شمالها. وتصدرت دمياط مشهد الاحتجاج في محافظات الوجه البحري، حيث كان حجم التظاهر أقل فيه عن الوجه القبلي، حيث جرى رصد احتجاجات أقل في الإسكندرية والقليوبية والمنوفية والغربية والدقهلية، ولم تظهر الشرقية أو البحيرة وكفر الشيخ في الصورة بالشكل المتوقع، رغم أنها تعد من معاقل المعارضة ورفض الانقلاب ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى الحملات الأمنية المستمرة التي داهمت جميع قرى هذه المحافظات على مدار العام الماضي حيث جرى اعتقال الآلاف من أبنائها.

ويحمل مشهد إزالة لافتة لـ”السيسي” كانت مُعلقة على واجهة أحد المباني بمدينة بني مزار بالمنيا، ثم قاموا بتقطيعها ودهسها بالأقدام، دلالة مهمة تعكس حجم الغضب الشعبي، كما قام أطفال ومتظاهرون بقرية منشأة العماري في الأقصر بحرق صورة “السيسي” وداسوها بالأقدام، ثم أشعلوا النيران فيها وسط مطالبات برحيله.  وذلك على غرار المشهد الشهير بتمزيق صور الرئيس المخلوع حسني مبارك في مظاهرات المحلة الكبرى بمحافظة الغربية عام 2008، الأمر الذي اعتبره مراقبون أنه كان بداية النهاية لمبارك.

 

رسائل الحراك

خرج المصريون بهذه الكثافة رغم القمع الأمني المتواصل منذ سنوات، ورغم الثمن الضخم الذي يمكن أن يقدمه المشاركون في هذا الحراك، هذه الانتفاضة وتمددها بعثت رسالة جلية إلى النظام، مفادها أنهم يرفضون طريقة إدارته للبلاد على مدار السنوات السبع الماضية ويطالبونه بالرحيل. ورغم وضوح الرسالة، يبدو أن النظام  يرفض استقبالها على النحو المفهوم منها، وهو من يمكن تلمسه عبر وسائل الإعلام الناطقة بهوى النظام. كما أن توسع الحراك حمل رسالة من الشعب تؤكد أنه رغم القبضة الأمنية ما زال قادرا على النزول إلى الشارع للاحتجاج ولا يزال يملك الأمل في إطاحة الاستبداد حتى يحيا بكرامة في وطنه في ظل نظم منتخبة من الشعب وتعمل لمصالحه وليس لمصالح مافيا الحكم ورعاته الإقليميين والدوليين. كما بعثت المظاهرات كذلك رسالة إلى المعارضة مفادها أن المحتجين يفتقدون إلى القيادة التي توجههم، وفي الوقت نفسه دللت الاحتجاجات على أن المعارضة من الخارج بإمكانها أن تكون فاعلة ومؤثرة. والرسالة الأهم أن الغالبية الساحقة من المتظاهرين هم شباب يدور بين 15 إلى 30 سنة، مايعني أن النظام في مأزق كبير لن يستطيع تجاوزه مهما طال الوقت. كما أن هذه الانتفاضة بتمددها وتوسعها وكثافة المشاركة فيها وصمود المحتجين أمام جحافل الأمن تقدم دفعة معنوية كبيرة للشعب وقوى المعارضة، وتسهم في تحطيم حواجز الخوف التي دشنها النظام بمذبحه وبطشه وظلمه على مدار سنوات مع بعد انقلاب 3 يوليو 2013م، كما تمثل هذه الانتفاضة خصما من رصيد النظام لدى القلة التي تؤيده وتهز ثقته بذاته وتشكك في قدرته على الاستمرار والاستقرار خلال المرحلة المقبلة. واعتبر البعض أن الرسالة الأهم في الحراك الحالي أنه يمثل مقدمة لحراك أوسع وانتفاضة أعم تسترد ثورة يناير وتحرر البلاد من الاستبداد والطغيان، كما تحرر الوطن والجيش ومؤسسات الدولة من مافيا الحكم العسكري. فالسيسي عليه أن يقلق لأنه دخل في عداء مجنون ضد المجتمع المصري في أغلبيته العظمى عندما أقر تشريعا يلزم به المصريين بشراء بيوتهم أو إعادة شراء مساكنهم، ثم أقدم على جريمة هدم البيوت، وهدد بنزول الجيش إلى القرى للقيام بالإبادة تحت اسم قانون التصالح لمخالفات البناء.

 

استراتجية النظام في المواجهة

تعتمد استراتجية نظام الانقلاب العسكري في مواجهة الانتفاضة الشعبية على عدة أبعاد:

أولا، التركيز على الشق الأمني؛  فقبل بداية الانتفاضة تم إعادة انتشار القوات الأمنية في القاهرة خصوصا منطقة وسط البلد وميدان التحرير وطلعت حرب ورمسيس ورابعة العدوية والقائد إبراهيم بالإسكندرية والأربعين بالسويس وغيرها، وكذلك جرى تكثيف الكمائن الثابتة والمتحركة، وتوقيف الناس وتفتيش الهواتف بخلاف الحملات الأمنية التي استهدفت من تبقى من الإخوان خارج السجون والمعتقلات ظنا من السلطة وأجهزتها الأمنية أن تفكيك ما تبقى من تنظيم الإخوان من شأنه إضعاف الجهة التي يمكن أن تقف وراء أي  حراك أو ثورة قادمة باعتبار الجماعة هي الفصيل الأكبر  الذي يقود أي حراك ضد النظام – بحسب تقديرات الموقف الأمنية-ول كن غاب عن هؤلاء أن الأزمات وحالة الفقر والضنك طالت جميع فئات الشعب بخلاف الفئة القليلة للغاية والتي لا تتجاوز 1% فقط وهم المنتفعون من بقاء النظام واستمراره.

لكن الوعي الشعبي بتجربة انتفاضة 20 سبتمبر 2019 حيث جرى اعتقال نحو 4آلاف مصري بسبب التركيز على دخول ميدان التحرير رغم كثافة الانتشار الأمني به،  عصم الجماهير من تكرار ذات الخطأ ؛ فاعتمد الشعب على استراتيجية جديدة وهي التظاهر في القرى حيث يغيب التواجد الأمني؛ باستثناء نقاط شرطة ضعيفة للغاية ولا تقوى على مواجهة المحتجين إلا بدعم وحملة أمنية كبيرة من المركز الذي تتبعه، هذه الاستراتيجية  الشعبية أربكت قيادات أجهزة السيسي الأمنية التي وجدت نفسها في حاجة لتجهيز عشرات الحملات الأمنية في توقيت واحد وهو أمر كثير الصعوبة ومخاطره كبيرة.

تمدد المظاهرات واتساعها في أكثر من 100 نقطة وقرية شتت تركيز أجهزة السيسي الأمنية والتي راحت تعيد التفكير استراتيجيتها الأمنية وتغيير خططها لمواجهة هذه المظاهرات المشتعلة في جميع المحافظات، فبعدما  كانت تحرص في السابق على نشر التمركزات الأمنية عند مداخل المحافظات، لمنع تجمع المواطنين في الميادين الكبرى بعواصم المحافظات، نشرت وزارة الداخلية تمركزات أمنية مدعمة بعربات مصفحة وعربات أمن مركزي وسيارات الانتشار السريع عند مداخل ومخارج  بعض القرى والمراكز، وذلك منعا لخروج أي تظاهرات في تلك المناطق، بعدما أدركت أن ما تشهده البلاد من موجات غاضبة لا تحمل طابعا سياسيا أو تحريكا من جانب أطراف سياسية، وإنما تمثل غضبا شعبيا متراكما جراء مجموعة من القرارات الحكومية التي طاولت تبعاتها الطبقات الفقيرة.

وكعادته واجه النظام هذه الانتفاضة الشعبية بالبطش والقمع الأمني؛ أفضى إلى ارتقاء أول شهيد في انتفاضة 20 سبتمبر؛  وهو الشهيد سامي وجدي سيد بشير(25 سنة) من قرية البليدة بمركز العياط، وتردد أنباء أن الشهداء ثلاثة وليسوا واحدا فقط، وهم رضا محمد حامد أبو إمام “22 سنة”، والطفل محمد ناصر حمدي “13 سنة”، حيث جرى قلتهم برصاص أجهزة السيسي الأمنية. بخلاف نحو 17 إصابة أخرى برصاصات مطاطية بقرى الكداية والرقة القبلية والعطف والشوبك الشرقي والبليدة. كما شنت أجهزة النظام حملات أمنية مكثفة على نقاط الاشتعال الثوري، وتم اعتقال المئات من الشباب، وضمتهم نيابة أمن الدولة العليا على ذمة القضية 880 لسنة 2020م وصدرت قرارات جماعية بحبسهم على ذمة التحقيقات، بينما ما زالت هناك أعداد غير معروفة تماما، تقول المصادر إنها تزيد على مائتين، لمعتقلين في أماكن مختلفة، أبرزها معسكرات الأمن المركزي بالمحافظات. وتشير التحقيقات إلى أن الأغلبية العظمى من المعتقلين ليست لها أي انتماءات سياسية أو حزبية، وأن عددا كبيرا منهم خرج فقط اعتراضاً على سوء الأوضاع الاقتصادية وملف مخالفات البناء، ورغم ذلك فإن النيابة لم تقرر إخلاء سبيل أي شخص بتعليمات أمنية.

وأبدى  المتظاهرون صمودا وثباتا في عدد من نقاط الاشتباك مع قوات الأمن؛ الأمر الذي مثل صدمة لأجهزة السيسي الأمنية؛ حيث سيطرت الجماهير الغاضبة على سيارتي شرطة جرى إحراق إحداها وإلقاء الثانية في إحدى الترع، كما جرى إحراق إحدى استراحات السيسي في محافظة أسوان، وشهدت الصدامات فرار عناصر من الشرطة أمام إصرار الجماهير الغاضبة وهو ما يعيد إلى الأذهان مشاهد ثورة 25يناير ويمثل أهمية كبرى للحراك الشعبي بكسر حواجز الخوف والتحرر من حالة الإحباط التي استحوذت على الساحة المصرية في أعقاب انقلاب 3 يوليو نوما تلاهه من تكميم للأفواه وقمع للحريات واسترخاص لدماء المصريين على يد أجهزة السيسي من الجيش والشرطة.

ثانيا، الإنكار والتعتيم الإعلامي، اتسمت المعالجة الإعلامية من جانب النظام  بالإنكار التام في أول الأمر، ثم الاعتراف بالحراك على  نحو خجول مع التقليل من شأنه؛ وربطه بجماعة الإخوان لنزع صفة الشعبية عن الحراك؛ وجرى تشويه الحراك بعد الاعتراف به واتهام المشاركين فيه بالخيانة للوطن والسعي لهدم الدولة والإرهاب وغير ذلك من التهم المعلبة من أجل تنفير الجماهير عن المشاركة فيه. وبحسب وكالة “أسوشيتدبرس” الأمريكية فإن حالة الإنكار التي بدا عليها إعلام السلطة من خلال تجاهل نقاط التظاهر وبث شوارع خالية امتد ليتهم جماعة  المسلمين بالمبالغة في إثارة “الفوضى” لتقويض استقرار البلاد. حالة الإنكار الإعلامي من جانب السلطة تعيد إلى الأذهان ما جرى من إعلام الرئيس السابق حسني مبارك في أيام ثورة يناير الأولى”2011″؛ حيث كان التلفزيون الرسمي ينقل صورة كورنيش النيل خاليا من الناس كدليل “مفبرك” على عدم وجود متظاهرين بينما على بعد عشرات الأمتار كان ميدان التحرير يضج بعشرات الآلاف يهتفون بسقوط مبارك. ودان المرصد العربي لحرية الإعلام ما وصفه بـ”التعتيم الإعلامي على التظاهرات التي شهدتها مدن مصرية منذ بداية انتفاضة 20 سبتمبر “2020”، وممارسة الضغوط على الإعلام الأجنبي خلال تغطيته”. واتهم البيان نظام السيسي بفرض حالة من التعتيم الإعلامي على هذه التظاهرات، عبر وسائل الإعلام المحلية، كما مارس ضغوطاً كبيرة على مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية في مصر، لمنعهم من تغطية هذه التظاهرات وتهديدهم بسبب بطاقات الاعتماد الصحافية الممنوعة عليهم من السلطات”. وأهاب المرصد بالقنوات ووكالات الأنباء والصحف العالمية، سواء التي تمتلك تصاريح رسمية في القاهرة أو التي لا تمتلكها، بضرورة متابعة هذا الحراك الشعبي، باعتباره “واجب كل المنابر الإعلامية الحرة، وحين لا تقوم بهذا الدور فإنها تتقاعس عن أداء وظيفتها الطبيعية في نقل الأخبار المهمة عبر العالم”.

ثالثا، شيطنة التظاهرات بالفتاوي الدينية المسيسة، لم تتوقف استراتيجية النظام على البطش الأمني والتعتيم الإعلامي، بل امتد إلى توظيف المؤسسة الدينية الرسمية لخدمة أجندة النظام وممارساته مهما بلغت جنوحا وشذوذا وانحرافا، من أجل شيطنة المظاهرات والمتظاهرين والتنفير من الاحتجاجات والمحتجين عبر وسائل الإعلام المختلفة؛ و جرى توظيف المؤسسة الدينية لاستصدار فتاوى مسيسة تنزع عن المتظاهرين شرف الصدع بالحق أمام سلطان جائر، وجرى وصفهم بالخوارج الذين يستهدفون استقرار البلد وهدم الدولة في تدليس وبهتان لم ينطل على جماهير مصر الواعية التي تعلمت الدرس من تجربة الثورة والانقلاب. وأصدرت الإفتاء والأوقاف بيانات كعادتها لكن الأكثر أسفا هو توريط الأزهر في هذا الضلال، وهو الذي طالما نأى بنفسه عن التجاذبات والصراعات السياسية بعد مشهد الانقلاب الفاضح الذي شارك فيه الشيخ أحمد الطيب؛ وأمام حشود الجماهير الغفيرة في  جمعة الغضب؛ أصدر الأزهر بيانا هزيلا يدعم فيه السلطة المستبدة الطاغية على حساب الجماهير الغفيرة التي خرجت رفضا للظلم والطغيان الذي يمارسه نظام السيسي العسكري. بيان الأزهر المؤسف والمخزي وصف انتفاضة الشعب بالهدامة والهادفة إلى زعزعة استقرار مصر، والإخلال بالنظام العام”. ويدعي البيان أن  “ما يتم إنجازه من مشروعات تنموية مختلفة على أرض الواقع لهو مؤشر واضح في سير مصر نحو الاتجاه الصحيح الذي سوف يؤتي ثماره في القريب العاجل بإذن الله على كافة الأصعدة”. وودعا “الأزهر” الشعب المصري إلى الوقوف صفا واحدا خلف الوطن وقياداته، و”تفويت الفرصة على أصحاب الأجندات الخارجية المغرضة”.

ويلفت النظر في بيان الأزهر أمران: الأول اختفاء الصياغة الشرعية المبنية على نصوص الشرع ومبادئه وأحكامه، وسيطرة  النزعة السياسية والأمنية والانحياز للنظام في موقف سياسي طالما نأى الأزهر عن التورط فيه منذ مشهد الانقلاب.

والثاني،  أن الأزهر نفسه له بيان مشهور قبل الانقلاب مباشرة على الرئيس محمد مرسي، يناقض تماما مع جاء في بيانه الأخير يوم “جمعة الغضب 25 سبتمبر 2020م”، وجاء في البيان الذي أصدره أحمد الطيب حينها: “يؤكد الأزهر أن المعارضة السلمية لولي الأمر الشرعي جائزة ومباحة شرعا، ولا علاقة لها بالإيمان والكفر، وأن العنف  والخروج المسلح معصية كبيرة ارتكبها الخوارج ضد الخلفاء الراشدين ولكنهم لم يكفروا ولم يخرجوا من الإسلام”. وتابع البيان حينها: “هذا هو الحكم الشرعي الذي يجمع عليه أهل السنة والجماعة”.

رابعا، استخدام سياسة التهدئة وإبداء تراجع صوري وزائف؛ حيث جرى مد مهلة تسجيل التصالح في مخالفات البناء حتى نهاية أكتوبر بدلا نهاية سبتمبر،  في تنازل جديد يضاف إلى ثلاثة تراجعات سابقة للحكومة بتخفيض نسب من مبالغ التصالح بجميع المحافظات، وبتوحيد سعر التصالح للمتر في المناطق الريفية بالحد الأدنى المقرر في القانون، وهو خمسون جنيهاً للمتر الواحد، وحسم 25% من قيمة التصالح إذا طلب المواطن إتمامه دون تقسيط.  وفي خطوة دعائية تهدف لتهدئة الرأي العام أعلن حزب “مستقبل وطن”، التابع للمخابرات العامة والأمن الوطني، ورأس القائمة الموحدة بمجلسي النواب والشيوخ، يوم جمعة الغضب، أنه سيتحمل نفقات التصالح في 27000 حالة مخالفة لقواعد البناء لمحدودي الدخل في جميع المحافظات، كما أعلنت المبادرة الحكومية “حياة كريمة” تخصيص مائة وخمسين مليون جنيه للإنفاق على حالات التصالح للفقراء في مختلف المناطق. وفي محاولة لاسترضاء أهالي قرى مركزي الصف وأطفيح بجنوب الجيزة حيث تصدرت قرى المركزين مشهد الاحتجاجات أصدر محافظ الجيزة يوم جمعة الغضب وبعد صلاة الجمعة مباشرة بياناً في محاولة لتهدئة الأوضاع واحتواء غضب الأهالي، بإعلانه عمل الحكومة على توريد إنتاج مصانع الطوب بالصف وأطفيح بصفة دورية لاستخدامها فى المشروعات الحكومية الجاري تنفيذها لحين الانتهاء من المعايير المنظمة لأعمال البناء والتشييد خلال الفترة المقبلة واستعادة عجلة الإنتاج والتوريد بصورتها الطبيعية. ويعتبر قرار وقف البناء الذي اتخذه السيسي هذا العام وسوف يستمر حتى شهر نوفمبر المقبل، من الأسباب الرئيسية للغضب الشعبي المتصاعد في تلك المناطق، التي تضم أكثر من ستمائة وخمسين مصنعاً لإنتاج الطوب، بما يمثل 65% من الإنتاج المحلي، والتي توقفت النسبة العظمى منها عن العمل بسبب وقف الإنشاءات، وعدم اعتماد مشروعات الجيش والحكومة على إنتاج تلك المصانع.

خامسا، تنظيم مظاهرات مصطنعة لدعم السيسي تحت إشراف الأجهزة الأمنية ومحاولة إضفاء مسحة من شعبية للنظام،  وجرى بالفعل تنظيم مظاهرة مساء جمعة الغضب ضمت عددا من النسوة يهتفن للسيسي، ولقلة العدد جرى وضعهن في سيارات فارهة طافت عدة شوارع تحت غطاء أمني كامل؛ وهو ما أثار سخرية لاذعة على مواقع التواصل الاجتماعي بخلاف  أنها كشفت عن التآكل الحاد في شعبية السيسي ونظامه، واعتبرها البعض انعكاسا لحالة الإفلاس التي يعاني منها النظام. وبحسب مصادر في حزب “مستقبل وطن”  الذي تديره الأجهزة الأمنية فهناك ترتيبات لتنظيم مظاهرات أخرى إذا استمر الحراك الشعبي، خصوصا في المناطق التي تشهد حراكا مكثفا ضد السيسي؛ لتحقيق عدة أهداف: أولا  محاولة لإيهام المجتمع الدولي أن السيسي لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة.  الثاني التغطية على انتفاضة 20 سبتمبر. والثالث هو توفير مادة للمنظومة الإعلامية للنظام تبثها للمواطنين بدلا من بقائها في مربع الدفاع أمام فضائيات الثورة التي تبث من الخارج، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي يهمين عليها تيار الثورة والاحتجاجات ضد نظام الانقلاب.

 

مستقبل  الحراك

إنّ حالة اليأس العميق التي صارت تسيطر على قطاع واسع من الشعب المصري الفقير هي التي ستكون وقود المرحلة القادمة ولن يزيدها قمع السلطة إلا إصرارا على إسقاط النظام. إنّ أهم ما يميز الموجة الثورية الجديدة أنها موجة الفقراء والمهمشين وهذا ما يجعل منها موجة نقية المنطلق والمسار.

المهم حاليا هو استمرار الحراك على مدار شهر أكتوبر وهو ما سوف يشجع فئات كثيرة من الشعب على المشاركة في الحراك مع ضرورة توظيف توزيع الحراك الثوري على مئات القرى والمدن على مستوى محافظات الجمهورية، بهدف إصابة الأجهزة الأمنية بحالة من الإرباك والإنهاك إذا تواصلت هذه الانتفاضة ولم تتوقف وبالتالي، سيتمكن الحراك من حصر الخيارات الإستراتيجية للنظام في خيارين كلاهما مر، فإما إمداد الأطراف بقوات أمنية تمنع خروجها عن السيطرة، وبذلك تقل قوات الأمن بالعاصمة ليتحرك الثوار بها، مما ينذر بسقوط النظام، أو ترك قوات الأمن في الأطراف تواجه مصيرها وهو ما ينذر بدخول المحافظات في مرحلة من الفوضى وعدم الاستقرار والصدامات المتواصلة، ليتدخل الجيش حفاظا على الدولة من الانهيار، وهو ما يخشاه السيسي خوفا من انقلاب عسكري.

وأمام هذه المعطيات فهناك عدة سيناريوهات:

الأول، هو قدرة النظام على امتصاص حالة الغضب وإضعاف الحراك الحالي عبر آليتين: الأولى البطش الأمني الواسع واعتقال آلاف المشاركين. والثاني هو التراجع عن حالة التصلب والعناد على المستوى السياسي والاقتصادي وتفريغ قانون التصالح في مخالفات البناء من محتواه أو تجميد العمل به بدلا من المسكنات والإعلان عن  تبرعات رجال أعمال لدعم المهمشين في دفع غرامات التصالح، بخلاف التوقع عن فرض رسوم جباية جديدة في ظل وجود نحو 60 مليون مصري كفقراء أو تحت خط الفقر. مشكلة هذا السيناريو أن القمع الوحشي ربما يضمن إضعاف الحراك الحالي لكنه سيضخ كثيرا من الوقود على حالة الغضب المكتوم والذي حتما سينفجر على المدى القريب أو المتوسط. كما أن تراجع النظام مرة احدة عن عناده سيشجع الجماهير على الضغط عليه لإجباره على التنازل في مواضع أخرى وبالتالي تبدأ سلسلة من التنازلات من جانب النظام وهو غير مستعد لها  خصوصا وأن إتاوات التصالح في مخالفات البناء يعتمد عليها النظام كثيرا في توفير السيولة اللازمة لضمان بقائه في ظل تراجع موارد الدولة.

السيناريو الثاني،  هو تطور الحراك نحو حالة من العصيان المدني، والذي يقوم على إعلان التمرد السلمي على النظام وهياكله ومؤسساته وقوانينه وقيمه الحاكمة ، ومع توسع الحراك يمتنع الناس عن دفع الضرائب وفواتير المياه والكهرباء أو أي رسوم جبائية يفرضها النظام، ويمكن أن تتطور الأحداث نحو قطع الطرق الرئيسية والسكك الحديد والمترو والشحن البري والنهري، وتوقف حركة النقل والمواصلات وهو ما سيصب النظام بحالة من الشلل التام ستجبره على تقديم تنازلات كبيرة أو التضحية برأس النظام لإنقاذ النظام ذاته كما جرى مع حسني مبارك؛ لكن الوعي الشعبي سيكون عاصما من تكرار أخطاء التجربة السابقة فلا يلدع المؤمن من جحر مرتين.

السيناريو الثالث، هو الثورة الشاملة، وهي أوضح صور ومظاهر التعبير عن حق مقاومة الطغيان، وتختلف الثورة عن العصيان المدني أن الأخير هو صورة من صور التغيير السلمي، أما الثورة فهي رد الفعل العنيف الذي يرتبط بالعنف الجماعي ليعلن عن التغيير في النظام السياسي، وهي تفترض التغيير الكلي في المفهوم الفكري الذي يسيطر على المجتمع السياسي، وهي في أحد جوانبها إعادة تأسيس للشرعية السياسية وتصور جديد لمقوماتها، وأيضا تغيير في الغايات التي يسعى لتحقيقها النظام السياسي، فهي تغيير في مفهوم الوظيفة القانونية والسياسية للدولة، فالثورة تعني حقائق ثلاثة:  الأولي، تغيير في الفئات الحاكمة ووصول الفئات المحكومة إلى ممارسة السلطة، فهي ممارسة قوى الرأي العام لحقوقها بأسلوب واضح وصريح، فلا تعرف انقلاب القصر ولا تعترف بشرعية المماليك الجدد. الثانية: أنها تغيير عنيف حيث سدت السبل البديلة لحماية حقوق المواطن الأساسية. الثالثة: التأكيد لقيم جديدة ودفاع عن القيم الثابتة التي خضعت لعملية اعتداء؛ فهي ربط للمستقبل بالماضي من خلال تخطي المغالطات القائمة المرتبطة بالحاضر.

الأقرب إلى التحقق وفق المعطيات الراهنة هو السيناريو الثاني، وحتى لو نجح النظام في فرض السيناريو الأول وإخماد جذوة الحراك إلى حين؛ فإن استمرار ذات السياسات والأشخاص سيجر البلاد حتما إلى السيناريو الثاني،  خلال شهور أو سنوات قليلة، وإذا تطور الحراك نحو العصيان المدني فإن ذلك كفيل بإسقاط نظام السيسي؛ وسيتعين على الجماهير الواعية أن تدرك أن معركتها ليست مع السيسي وحده، بل مع النظام العسكري كله والوصاية التي تفرضها المؤسسة  العسكرية على مصر كلها، وبالتالي فإن الجماهير ستكون أكثر وعيا وإدراكا لخطورة بقاء هذه الأوضاع ولن تقبل الإطاحة بالسيسي ليأتي سيسي آخر، فلا بد من صياغة متوازنة للعلاقات المدنية العسكرية تعيد السيادة للشعب وتحرر القرار الوطني من خاطفيه وتعيد للمؤسسة  العسكرية رونقها واحترامها بعد أن تشوهت بشدة بفعل التورط في الحكم والصراع على السلطة و النفوذ ونهب الثروات.

موقف القوى الدولية والإقليمية الراعية لنظام السيسي، أنها سوف تقبل بالإطاحة به إذا رأت أن حجم الغضب الشعبي كبير ولا يمكن إخماده أو احتواؤه،  ويهدد بحالة من الفوضى وعدم الاستقرار، لكنها ستحاول أن تعيد هندسة وتصميم النظام من جديد بما يضمن بقاء الوصاية العسكرية على الشعب لضمان مصالح الصهاينة والأمريكان من جهة وعواصم الخليج المستبدة من جهة ثانية في الرياض وأبو ظبي؛ وبالتالي سيكون على الشعب في حالة نجاح عصيانه المدني في الإطاحة بالسيسي وعصابته أن يخوص صراعا أشد من أجل تحرير بلاده من المافيا التي تدين بالولاء لأمريكا وإسرائيل والذين جرى زرعهم في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها السيادية، وهؤلاء لا نعرف حجم نفوذهم وامتدادهم بما يجعل المعركة بالغة الصعوبة وتحتاج إلى قيادة مبدعة لإدارة هذا الصراع الوجودي؛ من أجل إقامة نظام يتمتع فيه جميع أبناء الشعب بالحرية والعدالة والمساواة أمام القانون وينعمون جميعها بمظلة حماية الدولة دون إقصاء أو تهميش ودون كراهية أو عنصرية أو تمييز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

محمد هنيد/مصر أو الموجة الثورية الثانية/ “عربي 21” الخميس، 24 سبتمبر 2020

أسوشيتدبرس : خروج تظاهرات غاضبة في مصر .. و إعلام النظام ينفي/ نوافذ  26 سبتمبر 2020

“الأزهر” يهاجم مظاهرات مصر وناشطون يذكّرونه بموقف سابق/ “عربي 21”  السبت، 26 سبتمبر 2020

“مستقبل وطن” يحشد للتغطية على احتجاجات مناهضة للسيسي/ “عربي 21” السبت، 26 سبتمبر 2020

“المرصد العربي” يستنكر التعتيم الإعلامي على تظاهرات مصر/العربي الجديد 26 سبتمبر 2020

نظام السيسي بعد أسبوع الحراك الشعبي: يد تبطش وأخرى تتنازل في ملف مخالفات البناء/العربي الجديد 26 سبتمبر 2020

قتلى ومصابون في المظاهرات الريفية بمصر… والحكومة تحاول احتواء غضب الجيزة/العربي الجديد 25 سبتمبر 2020

متظاهرون مصريون يمزقون صور “السيسي”.. وآخرون يحرقونها/ “عربي 21” الجمعة، 25 سبتمبر 2020

الأمن المصري يغير خطط مواجهة المظاهرات خوفاً من ثورة القرى/ العربي الجديد 25 سبتمبر 2020

دعاء عبد اللطيف/ رسائل مظاهرات 20 سبتمبر.. هل يفلت السيسي أم تعود المعارضة؟/ الجزيرة نت 23 سبتمبر 2020

تظاهرات 20 سبتمبر.. لماذا غضبت القرى المصرية وغابت المدن؟/ الجزيرة نت 21 سبتمبر 2020

سياسيون وناشطون: حراك الشارع المصري مقدمة لانتفاضة كبرى تعم البلد/ الجزيرة نت  21 سبتمبر 2020

العصيان المدني.. سلاح المستضعفين لمقاومة الطغيان/ الجزيرة نت 31 يناير 2017

محمد منير/العصيان المدني/  الجزيرة مباشر الأربعاء 23 مايو 2018

د. حامد عبد الماجد قويسي/ العِصْيَانُ السِّيَاسِيُّ وَحَقُّ مُقَاوَمَةِ الطُّغْيَانْ/  المعهد المصري للدراسات 14 يونيو 2016

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022