تركيا وروسيا في مرحلة ما بعد حرب قره باغ

أعلن رئيس أذربيجان إلهام علييف استعادة كامل المناطق التي كانت أرمينيا تحتلها في منطقة آغدام في ناغورني قره باغ، تحت إشراف روسي، وقال علييف إن المسار السياسي لم يكن ليحرر المناطق، مؤكدًا أن العمليات العسكرية كانت ضرورية، مضيفًا أن بلاده ستبدأ في وقت قريب عمليات إعادة الإعمار في آغدام، وبقية المناطق التي استعادتها من أرمينيا، ولم ينتظر السكان الأرمن وصول قوات باكو للفرار؛ لكنهم أحرقوا منازلهم، وذبحوا ماشيتهم، وحصدوا ثمارهم قبل مغادرتهم قريتي نور ماراغا ونور كارميرافان، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.

من جهته، عين الرئيس الأرميني اليوم وزيرين جديدين للدفاع والطوارئ، على خلفية ما وصفها مراقبون بالهزيمة، بعد اتفاق وقف إطلاق النار، الذي وقع مع أذربيجان في إقليم ناغورني قره باغ، في حين أعلنت أذربيجان استعادة كامل المناطق التي كانت أرمينيا تحتلها في منطقة آغدام بالإقليم، وأعلنت الرئاسة الأرمينية أن الرئيس أرمين سركيسيان وقع على مرسوم بإقالة وزيري الدفاع والطوارئ من منصبيهما[1].

 

موسكو وأنقرة: الطريق إلى التحالف:

نجحت أذربيجان في استرداد جزء كبير من أراضيها التي تحتلها القوات الأرمينية منذ ثلاثة عقود؛ حيث عجزت القرارات الأممية وترويكا “مينسك”، الأمريكية والروسية والفرنسية، في إعادة هذه الأراضي إليها، تحت ذريعة تثبيت الوضع القائم، وإبقاء الأمور كما هي عليه؛ لتجنب انهيار أحجار الدومينو في القوقاز، القائمة على توازنات إقليمية ودولية حساسة. وفي المقابل، تلتقي تحليلات وتقديرات موقف كثيرة عند نقطة أن روسيا هي المستفيد الأكبر من كل التطورات العسكرية والميدانية والسياسية لاحقًا، بعد فرض نفسها على التفاهمات التي تمت أخيرًا، بين باكو ويريفان.

ترك الكرملين أذربيجان تتحرّك عسكريًّا، بالتنسيق مع تركيا؛ لتوجيه رسالة مباشرة إلى حكومة باشينيان التي خرجت عن بيت الطاعة الروسي، وبدأت تستقوي بعلاقتها مع الغرب؛ لكنه تدخل سريعًا لوقف المعارك، عندما شعر أن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة، بعد الدخول السريع للقوات الأذرية إلى مدينة شوشا، والاستعداد للحسم العسكري، عبر توجيه ضربةٍ قاضيةٍ للجيش الأرميني، لا تخرجه من أراضيها فقط؛ بل تمنعه من استرداد أنفاسه سنوات طويلة[2].

حصلت موسكو على كل ما تريده: نجحت في تلقين أرمينيا الدرس الذي لا مهرب منه، وكان باتجاهين؛ أرميني وغربي، يعني الدياسبورا أيضًا. وكسبت باكو إلى جانبها مرة أخرى، بتجاهل عملياتها العسكرية الهادفة إلى قلب توازنات ملف ناغورنو كاراباخ، ودخلت في صفقةٍ إقليميةٍ جديدةٍ مع أنقرة في ملفات جنوب القوقاز، وتقاسم النفوذ في مشاريع إستراتيجية متعدّدة الجوانب والأهداف، ستكون مربحةً ومغريةً للطرفين، وقد تتحوّل إلى فرصة تأسيس علاقات إستراتيجية أوسع في قضايا أخرى، إذا ما واصلت تركيا -بعد وصول جو بايدن إلى السلطة- تحدّيها لواشنطن في ملفات توتر ثنائية وإقليمية، تعني موسكو مباشرة.

فصل بوتين بين دوره راعيًا وحيدًا لكل السيناريوهات المرتبطة بحوار روسي أرميني أذري والوجود التركي، في منصةٍ أخرى تجمع الروس والأتراك فقط. هو يفاوض الرئيس التركي، أردوغان، على دور تركي في الملف، مثل موضوع الممر البرّي الذي يصل الأناضول بأذربيجان وآسيا الوسطى، عبر إقليم نهجوان؛ لكنه ربط المسألة بممرّ جديد، يبقي خطوط الاتصال والإمداد بين أرمينيا وكاراباخ، ويحل مكان ممر لاشين الذي ستسترده أذربيجان.

اختارت موسكو الطريق الثاني، وهو أن تعطي باكو وأنقرة ما تريدان في ناغورنو كراباخ، باتجاه سحب القوات الأرمينية المحتلة من الإقليم، وإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، وإشراك تركيا في اللعبة، مقابل وقف القتال بضمانات وإشراف روسي على الملف، وعدم تدويل الأزمة.

اتفاقية الدفاع المشترك بين روسيا وأرمينيا سيواكبها حتمًا اتفاقية لا تقل وزنًا وأهمية بين أنقرة وباكو، وهو أقل ما يمكن أن تقدمه أذربيجان لتركيا، كجائزة ترضية على خدماتها، ودعمها العسكري لها في استرداد أراضيها. قد يكون بين أهداف قبول باكو مثلا الوجود العسكري الروسي داخل الأراضي الأذرية تسهيل دخول القوات التركية؛ لموازنة العلاقات بين موسكو وأنقرة. تناور تركيا في الحديقة الخلفية لروسيا، وموسكو تتابع ذلك عن قرب. تريد روسيا أن تضع يدها على الانتصارات التي حققتها باكو في ناغورنو كاراباخ، وباكو تريد الاستقواء بالدور التركي لموازنة الاحتمالات والمتغيرات[3].

يبدو أن سيناريو دخول موسكو في مساومة مع باريس وواشنطن، شريكي الترويكا في “مينسك” تراجع لصالح التنسيق التركي الروسي الأوسع في المنطقة. أسقط التفاهم التركي الروسي سيناريوهات الحل الأوروبية، التي كانت تدعو إلى اعتراف الأطراف الثلاثة، أرمينيا وأذربيجان وإقليم ناغورنو كاراباخ، بوحدة أراضي أذربيجان، مقرونًا بنظام حكم ذاتي للإقليم؛ لكنه قد يستعير الطرح الأمريكي، القائم على فكرة اعتراف أذربيجان بخصوصية الإقليم، والتعامل معه على أنه كيان له ذاتيته، مقابل تنازل أرمينيا عن قطعة من أرضها تضم إلى أذربيجان، وتربطها بإقليم ناهشيفان الأذري، المتصل جغرافيًّا بالحدود التركية[4].

اختارت روسيا -كما يظهر- تركيا لتشاركها القرارات والغنائم في ملفات إستراتيجية على خط القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى، التي تستعد للقدوم الصيني خلال سنوات. ورقة إغراء لا يمكن لتركيا مقاومة جاذبيتها. روسيا وتركيا هما الفائزان في كل هذا الحراك؛ حيث سيذهبان وراء تثبيت علاقاتهما وترسيخها في ملفي سورية وليبيا، إلى جانب القوقاز، ونقل هذا التنسيق إلى مناطق وملفات أخرى، حيث الأزمات في جورجيا وأوكرانيا والبوسنة[5].
هزيمة القوات الأرمينية عسكريًّا على الأرض لا تعني هزيمتها سياسيًّا، طالما أن روسيا لم تعلن ذلك، وهي لن تفعله؛ لإبقاء الورقة الأرمينية بيدها، تلعبها مع أكثر من طرف، ولأكثر من سبب. ما هزم باشينيان في أذربيجان تجاهله فرص السلام العديدة في الإقليم، ورهانه على التوازنات الدولية التي خيبت آماله، والدياسبورا الأرمينية في العالم، التي ساومت لحماية مصالحها ونفوذها على حسابه، وتمرّده على الدعم الروسي لبلاده لصالح فرنسا وأمريكا، وسقوطه في مصيدة قدرات قواته العسكرية لاستفزاز أذربيجان، ومحاولة توسيع رقعة التمدد داخل أراض يحتلها. الخطوة المرتقبة الآن هي تغييرات سياسية حزبية عاجلة في أرمينيا، بين مزيد من التطرف والتشدّد لصالح المشروع الغربي، أو الليونة الكاملة لصالح ما تريده موسكو. وفي كلتا الحالتين، ستكون يريفان الخاسر الأول. قوات تركية إلى أذربيجان بطلب من باكو، وبتوافق تركي روسي على إدارة ملفات إقليمية مشتركة أبعد من ناغورنو كاراباخ، أليس ذلك موجعًا لباشنيان وحلفائه في أكثر من مكان؟

إذا لم تحصل أنقرة على ما تريده في شرق المتوسط، من خلال علاقاتها بأوروبا والولايات المتحدة، فهي ستبحث عن تأمين ذلك في مكان آخر. الاحتمال الأقرب هو التفاهمات التركية الروسية الإقليمية. موسكو جاهزة لتقديم خدمات أكبر، مثل التوسط بين أنقرة وتل أبيب في ملف شرق المتوسط، وترسيم الحدود البحرية بين الطرفين؛ بحكم المصالح التركية الإسرائيلية المشتركة. لا يمكن لإسرائيل التفريط بحوالي 40% من احتياجاتها للطاقة من الخط الأذري، الذي يعبر جورجيا باتجاه الأراضي التركية[6].

احتمال يترسخ يومًا بعد آخر، أن تكون موسكو قد أقنعت أنقرة بقدرتها على حسم ملف الأزمة السورية، وتسهيل المصالحة التركية الأرمينية والتركية الإسرائيلية، ورفع مستوى التنسيق التركي الصيني في القوقاز، وتقاسم كثير من النفوذ معها في القوقاز، وأن يكون الثمن المقابل هو رفع مستوى مسار العلاقات التركية الروسية من الشراكة إلى التحالف. تخترق تركيا التوازنات القائمة في آسيا الوسطى والبلقان، هي حتمًا هدية روسية مفخخة للرئيس الأمريكي المنتخب، بايدن، الذي يقول إنه يستعد لمحاسبة تركيا على سياساتها الإقليمية[7].

والجدير بالذكر، أن التفاهمات التركية الروسية المتصاعدة، تحدث آثارًا كبيرة حتى في إفريقيا، لا سيما مع زيادة حدة التنافس بين فرنسا وتركيا، وهو ما أدركه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتحدث عنه؛ حيث اتهم روسيا وتركيا باتباع إستراتيجية تهدف إلى تأجيج مشاعر معادية لفرنسا في إفريقيا، من خلال استغلال نقمة ما بعد حقبة الاستعمار، في مقابلة نشرتها مجلة جون أفريك.

وقال ماكرون: “هناك إستراتيجية يتم اتباعها، ينفذها أحيانًا قادة أفارقة، لكن بشكل أساسي قوى أجنبية، مثل روسيا وتركيا، تلعب على وتر نقمة ما بعد حقبة الاستعمار”. وأضاف: “يجب ألا نكون سذجًا: العديد من الذين يرفعون أصواتهم، ويصورون مقاطع فيديو، والحاضرون على وسائل الإعلام الفرانكوفونية، يرتشون من روسيا أو تركيا”[8].

الخاتمة:

إن التحركات التركية في جنوب القوقاز، جزء من إستراتيجية لها؛ لتصبح قوة إقليمية وعالمية، ففي الآونة الأخيرة كان لأنقرة تأثير واضح على جغرافية واسعة النطاق، عبر مبادراتها الخاصة في هذا الاتجاه، ولها دور فعال في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في سوريا والعراق، وفي قطر والصومال، والمنطقة الممتدة من الخليج إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، بما فيها إفريقيا.

كما أن مكاسب تركيا من حرب قره باغ كانت نتيجة للسياسة التي اتبعتها في المنطقة، التي ترتكز على ركيزتين مهمتين؛ أولها: الدعم العسكري لأذربيجان، ودوره في تحقيق الانتصار، لا سيما من خلال الأسلحة الحديثة.

علاوة على أن، الطائرات المسيرة التركية محلية الصنع، أصبحت حديث العالم، وانتقلت إلى الأدب العسكري العالمي.

أما الركيزة الثانية، فتتمحور حول الدبلوماسية التي انتهجتها أنقرة في شراكتها مع موسكو في المراحل الأخيرة من الحرب.

وبات الإقليم في وضع أكثر أهمية، مع إعلان الرئيس التركي، بعد توقيعه 14 وثيقة مع الجانب الأذري قبل أشهر، بناء خط سكة حديدية بين ناختشيفان وتركيا، فضلًا عن مرور خط أنابيب الغاز على الحدود مع الإقليم، عبر إغدير التركية، إضافة إلى توفير إمداد الغاز له على مستوى عال، بخط يبلغ طوله 160 كيلو مترًا. يشكل ممر ناختشيفان -الذي أُقر إنشاؤه بعد اتفاق وقف إطلاق النار، عقب الحرب التي كانت دائرة في إقليم “قره باغ” المحتل من طرف أرمينيا- أحد أهم الإنجازات لباكو وأنقرة.

ويعد الممر بوابة لتركيا على الدول الناطقة بالتركية، بعد عقود من انقطاع الاتصال الجغرافي المباشر؛ بفعل الوجود الأرمني وسط هذا المسار.

ويشكل إنشاء الممر البري المقرر حاليُّا، بين الإقليم وأذربيجان، فرصة أفضل لتركيا في الانفتاح شرقًا، وفتح الأبواب غربًا لأذربيجان، بعد العزلة الجغرافية التي كانت تفرضها أرمينيا.
———————————–
[1]  قره باغ .. أذربيجان تستعيد آغدام بإشراف روسي ووزير دفاع جديد في أرمينيا، الجزيرة، 20/11/2020
https://www.aljazeera.net/news/2020/11/20/%D9%82%D8%B1%D9%87-%D8%A8%D8%A7%D8%BA-%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1-%D8%AF%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%B1%D9%85%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A7
[2]  المرجع السابق.
[3]  علاء عبد الرحمن، ممر “ناختشيفان” .. إنجاز إستراتيجي تركي أذري شرقًا وغربًا، عربي 21، 19/11/2020
https://arabi21.com/story/1315910/%D9%85%D9%85%D8%B1-%D9%86%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D9%81%D8%A7%D9%86-%D8%A5%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B2-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D8%A3%D8%B0%D8%B1%D9%8A-%D8%B4%D8%B1%D9%82%D8%A7-%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D8%A7
[4]  المرجع السابق.
[5]  عماد أبو الروس، من الرابح الأكبر من نتائج الصراع بالقوقاز .. أنقرة أم موسكو؟، عربي 21، 18/11/2020
https://arabi21.com/story/1314536/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%A8%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%B2-%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%83%D9%88
[6]  المرجع السابق
[7]  سمير صالحة، أنقرة وموسكو بعد حرب ناغورنو كاراباخ، العربي الجديد، 19/11/2020
https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%83%D9%88-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%86%D8%A7%D8%BA%D9%88%D8%B1%D9%86%D9%88-%D9%83%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AE
[8]  ماكرون يتهم تركيا وروسيا بتأجيج حملة معادية لفرنسا في إفريقيا، القدس العربي، 20/11/2020
https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%a7%d9%83%d8%b1%d9%88%d9%86-%d9%8a%d8%aa%d9%87%d9%85-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%a7-%d8%a8%d8%aa%d8%a3%d8%ac%d9%8a%d8%ac-%d8%ad%d9%85%d9%84%d8%a9-%d9%85/

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022