المشهد السياسي.. عن الفترة من 16 يناير وحتى 22 يناير 2021

 

 

المشهد المصري:

  • حكم قضائي بمصادرة أموال 89 من قيادات الإخوان.

الحدث: قضت محكمة الأمور المستعجلة، بمحافظة القاهرة، بقبول الدعوة المقامة من لجنة التحفظ على أموال الإخوان، بالتحفظ على أموال 89 من قيادات وكوادر الجماعة، وورثة الرئيس الراحل محمد مرسي، ونقلها لخزينة الدولة، ومن بين من شملهم الحكم: مرشد الجماعة الدكتور محمد بديع، ونائبه خيرت الشاطر، ومفتي الجماعة عبدالرحمن البر، ومحمد البلتاجي، وباسم عودة، وأسامة ياسين وزيري التموين والرياضة في عهد الرئيس مرسي،  إضافة إلى ورثة الرئيس المصري، وهم زوجته نجلاء علي محمود وأبناؤه أحمد وشيماء وأسامة وعمر[1].

ردود الفعل: من جانبها، قال المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين، طلعت فهمي، في تصريحات متلفزة، أن مصادرة أموال 89 من قيادات الجماعة المحبوسين وورثة الرئيس الأسبق الراحل محمد مرسي، «مكايدة سياسية، وظلم وانتقام من الفصيل الأكبر لدوره في ثورة يناير»، وأضاف مستنكراً، أن «الذين قامت على أيديهم الثورة يُحاكمون وتصادر أموالهم ومن ثبتت إدانتهم وتكسبهم غير المشروع ينعمون الآن بالحرية والأموال»[2]. في المقابل أعرب متابعون يتبنون وجهة نظر السلطات المصرية عن تأييدهم للحكم الأخير باعتباره «خطوة تمثل عنصرا مهما في مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه، ويفكك الارتباط بين جماعة الإخوان الإرهابية وقياداتها وأعضائها، والمشاركين معهم في شبكات الأموال والأعمال من غير المنتمين للجماعة أو حتى غير الذين يحملون الجنسية المصرية، وأن مصادرة أموال الجماعة الإرهابية سيساعد في وقف تمويل العمليات الإرهابية أو أي أنشطة مشبوهة أخرى، قد يتم تنفيذها داخل مصر أو خارجها[3]».

بينما اختلفت تقييمات المتابعين المحسوبين على المعارضة حول مدى دستورية هذه الأحكام؛ فمن جهة كان هناك من اعتبر هذه الأحكام مخالفة للدستور، وعلى وجه التعيين مخالفة للمادة 35 من الدستور، والتي تنص على أن «الملكية الخاصة مصونة، وحق الإرث فيها مكفول، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تُنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يُدفع مقدما وفقا للقانون»، في المقابل هناك من اعتبر أن الأحكام من الناحية الصورية صحيحة، لكنها تبقى غير عادلة، وأن السلطات المصرية تعتمد على منظومة قانونية يرأسها مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقانونية اللواء ممدوح شاهين وهي أخطر من ترزية قوانين عهد مبارك[4].

الدلالات: (1) الحكم يحمل رسالة ضمنية أكثر من كونه خسارة حقيقية؛ ففي النهاية أموال هذه الشخصيات الـ 89 موضوعة تحت التحفظ منذ 2013، لكن المقصود من الحكم التأكيد على تبني الدولة لمسار المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين. (2) جاء الحكم أبان المصالحة الخليجية بين دول الحصار وقطر، وبالتالي قد يكون هدف الحكم الرد على أية توقع بأن تكون المصالحة مع قطر خطوة تمهد في مرحلة تالية للتصالح بين جماعة الإخوان والسلطات المصرية. (3) الحكم قد يكون محاولة من السلطات المصرية أن تقنن تعاطيها مع ملف جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبالتالي تقطع الطريق ضد أية محاولة لتقديم سياسات السلطات المصرية ضد تنظيم الإخوان باعتبارها إجراءات وسياسات استثنائية وغير قانونية، وذلك استعداداً لوصول جو بايدن للبيت الأبيض.

 

  • المصالحة الخليجية وموقع جماعة الإخوان المسلمين.

بحسب مراقبين فإن الموقف من جماعة الإخوان المسلمين كان أحد الأسباب الرئيسية للخلاف بين محور المقاطعة وقطر، ومع ذلك لم تتضمن تفاصيل المصالحة الخليجية أي إشارة تتعلق بمصير العلاقات التي تجمع الجماعة بالدوحة، كما صرح وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن آل ثاني أن الدوحة غير عازمة على تقديم تنازلات في ما يتعلق بتحالفاتها الإقليمية أو مستويات دعمها النوعي لجماعات الإسلام السياسي في سبيل إتمام مصالحة كاملة مع الرباعي العربي. وبحسب هذا الطرح فإن الإمارات ومصر لن تواصل مسار التصالح وعودة العلاقات بصورة كاملة مع قطر، ما لم تثبت الأخيرة جديتها، من خلال توقفها عن دعم مساعي الجماعة في محاولات تغيير الوضع السياسي القائم في مصر، بينما تستهدف أبو ظبي من ضغوطها على الدوحة بشأن علاقة الأخيرة بالإخوان، أن تتوقف الدوحة عن دعم الجماعة التي تستهجن أبو ظبي ممارساتها وخطابها التحريضي وعلاقاتها بالسلفية الجهادية، وأن مصر والإمارات استجابت لمساعي السعودية لتحقيق المصالحة مع قطر، لكنها لن تواصل استجابتها ما لم تبدي قطر تغييرات جادة فيما يتعلق بعلاقتها بالإخوان المسلمين[5]. بالتالي بحسب هذا الطرح، فإن دول الحصار «مصر، السعودية، الإمارات» اختلفت درجة تأييدهم لمبدأ المصالحة مع قطر؛ بينما أبدت الرياض اهتماماً كبيراً، كانت القاهرة وأبو ظبي أقل تفاؤلاً بالمصالحة، وأن مصر والإمارات قد يعودا للمربع صفر في علاقتهم مع الدوحة إذا لم تستجيب الأخيرة لمطالبهم فيما يتعلق بالعلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين.

في هذا السياق فقد رحبت جماعة الإخوان المسلمين بالمصالحة الخليجية، وأكدت أنها تدعم”كل ما يُنهي أي خلافات بينها ويزيل أية رواسب بين شعوبها ويُسهم في وحدة أبنائها ووحدة شعوب الأمة العربية والإسلامية جمعاء”[6]، إلا أن هناك طرح، يبدو أصحابه أقرب للتوجهات الإماراتية، يرون أن جماعة الإخوان في ترحيبها بالمصالحة، تسعى من جهة لتأييد جهود حليفها القطري، وفي الوقت ذاته مغازلة الرياض باستعداد الجماعة للتقارب معها، وفي نفس الوقت الضغط على النظام المصري لجره للتفاوض مع الجماعة أو تصوير القاهرة باعتبارها معيقة لتحقيق الاستقرار ومعالجة الخلافات، وأن الجماعة ستروج لنفسها باعتبارها رقم صعب في المنطقة ما دفع دول الحصار للتصالح مع قطر مع احتفاظ الدوحة بعلاقتها مع الجماعة رغم الضغوط المفروضة عليها، وأن الجماعة مع ذلك ترى في تركيا ومن بعدها إيران ملاذات آمنة إذا سعت قطر في أي مرحلة قادمة تقليص دعمها ورعايتها للجماعة تحت ضغط من مصر والإمارات والسعودية[7].

تدعم هذه الرؤية طرحها بالإشارة إلى تصريحات المتحدث باسم جماعة “الإخوان المسلمين”، طلعت فهمي، التي جاءت رداً على سؤال طرحته الأناضول حول إمكانية أن تفتح المصالحة الخليجية الأبواب نحو مصالحة مصرية – مصرية تكون جماعة “الإخوان” أحد أطرافها، والتي قال فيها «أعلنت الإخوان مرارا أن الأمر لا يتعلق بالجماعة وحدها، بل الأمر يتعلق بحرية شعب تم الانقلاب على إرادته، وقتل ثواره وانتهاك حقوق الشعب والاستيلاء على مقدراته والتفريط في خيراته وحقوقه وقتل رئيسه المنتخب»، وأضاف أن «أي حوار لا يكون إلا بعد الإفراج عن المعتقلين، ورد المظالم (لم يحددها)، وعودة الجيش لثكناته، ومحاسبة كل من أجرم، وتمكين الشعب من اختيار من يحكمه بطريقة ديمقراطية»، ثم قال مستدركاً «لكن النظام الانقلابي هو من أرادها معركة صفرية، بداية من الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث، وارتكاب المذابح ضد المدنيين السلميين، مرورا بالاعتقالات والمحاكمات الجائرة والإعدامات والاستيلاء على الممتلكات التي ما زالت متواصلة حتى اليوم»[8]، فهم يشيرون إلى حديث المتحدث باسم الجماعة باعتباره مؤشر على استغلال الجماعة للمصالحة الخليجية للترويج لفكرة أن الجماعة راغبة في طي صفحة الخلاف مع النظام المصري لكن بشروط –أياً كانت طبيعة هذه الشروط- وللترويج لفكرة أن النظام المصري هو الذي لا يقبل بالتفاوض مع الجماعة ولا يرغب في طي الخلافات الناشبة في مصر منذ عقد 7 سنوات.

 

  • واشنطن تدرج حركة سواعد مصر “حسم” على قوائم الإرهاب

في تحديث جديد، أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية كل من “تنظيم ولاية سيناء”، وحركة سواعد مصر “حسم”، على قوائم الإرهاب، وذلك بحسب بيان لها، كما أعلنت أنها ضمت للقائمة ذاتها كلا من علاء علي محمد، الملقب بـ علاء السماحي، المقيم في تركيا، والذي يُعتقد أنه قيادي في تنظيم “حسم”، ويحيى السيد إبراهيم، الملقب بـ يحيى موسى، القيادي في ذات التنظيم، والمقيم أيضا في تركيا، وفقا لبيان وزارة الخزانة الأمريكية[9]، وقد رحبت القاهرة بالقرار[10].

دلالة التوقيت: يرى مراقبون أن صدور هذا القرار في توقيت بقي فيه أيام قلائل على تسليم الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب السلطة لسلفه جو بايدن، يحمل عدد من الدلالات، هي: (1) الضغط على تركيا وتسهيل فرض مزيد من العقوبات عليها بحجة دعمها للإرهاب، بما أن كل من يحيي موسى وعلاء السماحي مقيمان في تركيا. (2) ضرب حلفاء إيران؛ فقد أعلنت الحكومة الأمريكية أن الولايات المتحدة ستصنف الحوثيين في اليمن على قائمتها السوداء للجماعات “الإرهابية”[11]. (3) التلويح لتركيا بالعقوبات الأمريكية في حالة أن حاولت تفكيك الحصار المفروض على طهران. (4) خلط الأوراق أمام بايدن قبل توليه مهام منصبه. (6) استرضاء الإدارة الأمريكية لترامب حلفائها في القاهرة –من خلال تصنيف تنظيم سيناء وحركة حسم كيانات إرهابية- وفي الخليج من خلال تصنيف جماعة الحوثي تنظيماً إرهابياً[12].

تأثير القرار على السلطات المصرية: بحسب مراقبين فإن؛ قرار تصنيف تنظيم ولاية سيناء وحركة سواعد مصر “حسم” على قوائم الإرهاب الأمريكية، فيه تأييد رمزي للسلطات المصرية التي أعلنت أن هذين التنظيمين إرهابيين، ويمنح مصر شرعية دولية في حربها ضد التنظيمات الإرهابية، كما سيمنح السلطات المصرية الصلاحيات كافة لملاحقة ومتابعة أفراد التنظيمين في كل مكان في العالم[13]، لكنه سيبقى صورياً؛ لأن القاهرة نجحت بشكل كبير في القضاء على هذين التنظيمين

تأثير القرار على جماعة الإخوان: يبدو أن قرار تصنيف حسم تنظيم إرهابي لن يكون له تأثيرات سلبية على جماعة الإخوان المسلمين، كما لن يؤثر على علاقتها بواشنطن، خاصة أن بيان الخارجية الأمريكية قد جاء فيه، أن «بعض قادة حركة حسم كانوا مرتبطين في السابق بجماعة الإخوان المسلمين المصرية»[14].

 

المشهد الإقليمي والدولي

 

– العلاقات المصرية- الأمريكية تحت حكم بايدن…المحددات والتوجهات:

أصدر المعهد المصرى للدراسات تقريراً بعنوان “سياسة بايدن والملف المصري: المحددات والتوجهات”[15]، أشار فيه إلى أهم المحددات والتوجهات التى ستحكم السياسة الأمريكية تحت حكم بايدن تجاه مصر، ويمكن الإشارة إلى أهم الخلاصات والنتائج التى توصل لها التقرير كما يلى:

أولاً: الموقف من نظام السيسى: أشار التقرير إلى أن الرهان على اتجاه إدارة بايدن لممارسة ضغط حقيقي على نظام السيسي لإحداث تغيير في سياساته الاستبدادية، رهان يحتاج لإعادة نظر، استناداً لعدة اعتبارات من بينها:

1- أن إدارة بايدن تواجه مشاكل داخلية معقدة تتعلق بالصراع مع ترامب والجمهوريين، ومحاولته إعادة ترتيب البيت من فوضى إدارة ترامب، فضلًا عن التداعيات الاقتصادية والصحية الناتجة عن انتشار وباء كورونا والتي سوف تشغل حيزًا كبيرًا من اهتمام الإدارة الجديدة. بما يعني أن بايدن لن يعطى أية أولوية في المدى المنظور لإحداث تحولات ذات طبيعة جوهرية في ملفات السياسة الخارجية، بما فيها مصر.

2- أنه مهما ساءت العلاقات بين الإدارتين المصرية والأمريكية فإن الأمور لن تصل إلى نقطة الانفجار، أو القطيعة، في ظل العلاقات الاستراتيجية التي تربط بين مصر والولايات المتحدة، وحرص الإدارات الأميركية المتعاقبة على الحفاظ على هذه العلاقات مهما كان حجم التوتر بين الإدارات المختلفة، وخاصة مع وجود تقاطع في مصالح السيسي مع بعض سياسات بايدن، خاصة فيما يتعلق بتركيا وإسرائيل، فالسيسي على خلاف مع أنقرة في الكثير من الملفات، أبرزها ترسيم الحدود البحرية والغاز الطبيعي شرق البحر المتوسط، وليبيا، وسوريا.

وفيما يتعلق بإسرائيل، سيواصل السيسي النظر إلى علاقاته مع الكيان الصهيوني على أنها بوابته إلى التأثير في السياسات الأميركية، والتخفيف من أية ضغوط قد يتعرض لها بشأن حقوق الإنسان وغيرها من القضايا.

3- الدور الذي يمكن أن يقوم به اللوبي الصهيوني والمنظمات اليهودية الأميركية وشركات العلاقات العامة الأميركية التي يتعاقد معها نظام السيسي، في دعم مواقفه، وتحسين صورته عند الإدارة الديمقراطية الجديدة، مثلما فعل في 2013 حينما تعاقد مع شركة العلاقات العامة Glover Park Group  لدعم موقفه لدى البيت الأبيض. ثم تعاقد في نوفمبر 2020 مع شركة جديدة مقابل 65 ألف دولار شهريًا لتشكيل لوبي يدافع عن مصالح النظام في ظل إدارة بايدن، عن طريق فريق يشمل بعض وثيقي الصلة باللوبي الصهيوني “الأيباك”.

4- يدرك السيسي أنه مع تولي بايدن، سيتراجع نمط العلاقة الشخصية التي أقامها السيسي مع ترامب، وأن يؤدي نزع الطابع الشخصي عن السياسة الأمريكية إلى اتجاه السيسي إلى تعزيز مصالحه عبر الاعتماد بشكل أعمق على العلاقات العسكرية، والاستفادة من علاقات المؤسسة العسكرية مع البنتاجون وإسرائيل، والسعي للحصول على دعم أمريكي عبر افتعال بعض العمليات الأمنية، في سيناء أو غيرها من مناطق الجمهورية، والترويج لفزاعة الإرهاب التي يروج لها منذ 2013.

5ـ أن لدى نظام السيسي مجالاً للمناورة، بما يدفع الولايات المتحدة للحرص على استمرار العلاقات معه، حيث اتجه منذ سنوات شرقاً نحو روسيا وأبرم العديد من الصفقات العسكرية والتجارية والاقتصادية، وأجرى الجيش المصري عدة أنشطة عسكرية مشتركة مع نظيره الروسي. كما عزز السيسي علاقاته مع الصين، خاصة في القضايا التجارية والمالية والاقتصادية، ورفع حجم التجارة والاستثمار بين البلدين.

ولكن في مقابل هذه الاعتبارات، أشار التقرير لإمكانية ممارسة إدارة بايدن لمستويات ما من الضغوط على نظام السيسي، استناداً إلى عدة تفسيرات، منها:

1-  الشعور المتزايد في دوائر السياسة الخارجية لدى الحزب الديمقراطي بأن أهمية مصر أخذت تتضاءل كشريك للولايات المتحدة، وإذا كانت الولايات المتحدة تركز بشدة على مكافحة الإرهاب في سياستها الإقليمية، إلا أن بعض مستشاري بايدن يعتقدون أن نهج السيسي الخشن قد يؤدي إلى نتائج عكسية حيث قد يٌشجع على التطرف ومزيد من العنف وهو ما قد يهدد على المدى البعيد الأمن والاستقرار في مصر والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.

2- ما ذهب إليه البعض من أنه إذا كان بايدن فى برنامجه الانتخابي وفي تصريحاته وحواراته ومناظراته المتعددة قد تعهد بإعادة الديمقراطية إلى جدول الأعمال بعد أربع سنوات من ممارسات ترامب مع النظم الاستبدادية، كما وعد باستضافة تجمع لديمقراطيات العالم لإظهار التزامه بالقيم الديمقراطية في كل من الخارج والداخل، فإنه إذا كان جاداً في ذلك فإن البداية يجب أن تكون في الشرق الأوسط، ومن مصر، لأنها مفتاح التغيير الديمقراطي في المنطقة.

ثانياً: الموقف من جماعة الإخوان المسلمين: أشار التقرير إلى أن بايدن قد يعمل على تخفيف الضغوطات التي يمارسها نظام السيسى على التيارات الإسلامية وفى القلب منها الإخوان، خوفاً من حدوث انفجارات اجتماعية تعيد صياغة ثورات شعبية، قد تؤثر على المصالح الأمريكية في المنطقة.

وفي هذا السياق يمكن القول أنه من المستبعد أن تستجيب إدارة بايدن للمطالب التي قد يتقدم بها النظام المصري وحلفاؤه الإقليميون لتصنيف الإخوان كجماعة إرهابية، لاسيما أن ترامب ذاته، لم يتمكن من تنفيذ هذه الخطوة رغم حماسه لها، بسبب التعقيدات التي يمكن أن يتركها مثل هذا القرار على علاقات واشنطن بدول عربية وإسلامية تشكل الحركات والجماعات المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين فيها مكوناً أساسياً لا غنى عن التواصل معه، بالإضافة للتعقيدات المتعلقة بتأثير ذلك على المسلمين الأمريكيين وبعض مؤسسات المجتمع المدني الأمريكية ذات الصبغة الإسلامية، والتي كان لها دور هام في تحقيق بايدن فوزا حاسما في بعض الولايات المتأرجحة مثل ولاية ميتشجان.

إلا أن بايدن لن يكون متحمس، وربما لا يسمح، لوصول الإخوان إلى السلطة مرة أخرى؛ لإمكانية تأثير وصولهم للسلطة على المصالح الأمريكية بالسلب، فضلاً عما تعتبره إسرائيل تهديدا استراتيجيا نتيجة لذلك. كما أنه من المتوقع أيضاً ألا تُبدي إدارته حماساً لأي لقاءات رسمية مباشرة مع الجماعة أو رموزها البارزة، حفاظاً على علاقة الإدارة بالنظام المصرى. ومن هنا فإن اللقاءات غير المباشرة بين الطرفين قد تكون الوسيلة المناسبة للتواصل، ومنها التواصل مع بعض أعضاء الكونجرس والمؤسسات غير الحكومية ومراكز الدراسات والجامعات ووسائل الإعلام الأمريكية، وإن كان تأثير مثل هذه اللقاءات سيكون محدودا في تغيير أي من السياسات.

 

– مصر والمصالحة مع قطر..الشكوك لا تزال قائمة:

أعلنت وزارة الخارجية المصرية، فى 20 يناير 2021، أن القاهرة والدوحة تبادلتا مذكرتين رسميتين، حيث اتفقت الدولتان بموجبهما على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما. وكانت الخطوط الجوية القطرية أعلنت استئناف الرحلات الجوية إلى مصر بدءا من 18 يناير الجاري بواقع رحلة يومية، وإلى مطار برج العرب بالإسكندرية يوم 25 يناير الجاري بواقع رحلتين أسبوعيا.

وكانت وزارة الطيران المدنى قررت إعادة فتح الأجواء المصرية أمام الطيران القطرى فى 12 يناير الجاري، وذلك بعد قرار إغلاق المجال الجوى الذى استمر لقرابة 3 سنوات، منذ يونيو 2017. وقبل أيام، وبالتحديد فى 5 يناير الحالى، وقع قادة دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة لمصر، بيان العلا الذي تضمن إنهاء الأزمة الخليجية المستمرة منذ 3 سنوات[16].

وعلى الرغم من موافقة مصر على المصالحة مع قطر، إلا أن القاهرة تبدو متشككة فى تلك المصالحة، وهو ما يمكن تلمسه فى التغطية الإعلامية المصرية لاتفاق المصالحة التى كانت في حدها الأدنى وبعيدة عن الاحتفالية، فقد علق الصحفي المخضرم عماد أديب، الذي تربطه علاقات وثيقة بالحكومة، بأن القاهرة ستحكم على الاتفاق من خلال نتائجه، وليس من خلال قطعة من الورق، وناشد البرلماني مصطفى بكري فى اليوم السابق لإعلان الاتفاق، دول الرباعية عبر موقع “تويتر” ألا تُكْمِل جهود المصالحة الأمريكية.

ويشير صمت الإعلام النسبي منذ ذلك الحين، إلى جانب القرار غير المتوقع بإرسال وزير الخارجية سامح شكري إلى مؤتمر القمة، إلى أن القادة الخليجيين مارسوا الضغوط على القاهرة كي لا تعرب عن اعتراضاتها علناً وتسمح بمضي الاتفاق قدماً.

ويمكن إرجاع التشكك المصري فى المصالحة مع قطر لمجموعة من الأسباب، منها:

1- أن اتفاق المصالحة لم يكن نتاجًا لاستجابة الدوحة للمطالب الـ13 التي وضعتها دول المقاطعة لاسترجاع العلاقات مع قطر، فوفقا لما نقلته صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن مسؤول في إدارة ترمب، مُطّلع على كواليس مفاوضات اتفاق المصالحة الخليجية، قال إن رباعي دول الحصار قد وافق على التخلي عن قائمة الـ13 شرطاً، التي قدمها لقطر في بداية الأزمة عام2017، والتي كان من بينها؛ الحد من العلاقات مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية على أراضيها، وإغلاق قناة الجزيرة، وقطع العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين.

أما المقابل الذي قدمته قطر، بحسب الصحيفة الأمريكية، فهو الموافقة على تجميد الدعاوى القضائية التي رفعتها الدوحة ضد دول الحصار، سواء الدعاوى المرفوعة في منظمة التجارة العالمية، أو حتى في مؤسسات أخرى.

أكثر من ذلك، فإن تلك المصالحة قد تدفع قطر نحو السير على نفس الخطى السابقة، والتي دفعت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر إلى اتخاذ قرار المقاطعة ضدها في يونيو 2017، وهو ما ظهرت أولى مؤشراته فى تأكيد وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، “أن المصالحة لن يكون لها أي تأثير على علاقتنا مع أي دولة أخرى”، في إشارة إلى العلاقات مع كل من تركيا وإيران، التي كانت تطالب دول الحصار الرباعي قطر بقطعها[17].

2- استمرار انتقاد قناة الجزيرة للسيسي: فقد واصلت “الجزيرة” تغطيتها السلبية تجاه النظام المصرى حتى بعد أن وافقت مصر على اتفاق المصالحة. فعلى سبيل المثال، بثت مؤخراً تقريراً حول الكيفية التي كان فيها عام 2020 سيئاً للغاية بالنسبة للمصريين العاديين بسبب سياسات الحكومة التي خفضت الرواتب، وزادت أسعار تذاكر “المترو”، وخففت من وزن الخبز.

3- علاقة الدوحة مع حركة «حماس»: حيث تستضيف قطر عدداً من أعضاء حركة «حماس» وتعمل معهم على توفير الأموال لقطاع غزة بالتنسيق مع إسرائيل. وتخشى القاهرة من أن الدوحة تنوي التدخل في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وتقوم بتنحيتهم كوسطاء وهو سيناريو قد يضر بمكانة مصر الدولية والإقليمية. وعلى مدى عقود، افتخرت القاهرة بكونها المحاور الرئيسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن قطر وسّعت نفوذها مؤخراً من خلال إرسال مبالغ كبيرة من المال إلى غزة والإظهار لواشنطن أنها تستطيع تسهيل الحوار بين «حماس» وإسرائيل[18].

وتخشى القاهرة أيضاً من أن تعمل الدوحة على استثمار ملف المصالحة الفلسطينية وسحبه منها، وخصوصا أن حركتي فتح وحماس لا تترددان في إشراك قطر. لاسيما أن المصالحة الخليجية ترفع حرجا ظل يلازم الرئيس محمود عباس (أبومازن)، باعتباره وثيق الصلة بمصر، بالانفتاح على قطر التي كانت تمثل خصما سياسيا لدول الخليج ومصر، ولا أحد يلوم السلطة الفلسطينية وحماس  إذا طالبتا بإشراك الدوحة في أي وساطة قادمة[19].

 

– هل يعكس التوافق على آلية اختيار السلطة التنفيذية اقتراب حل الأزمة الليبية؟:

اعتمد أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي (75 عضو)، فى 19 يناير 2021، رسميا مقترح اللجنة الاستشارية (18 عضو) حول آلية تشكيل السلطة التنفيذية المقبلة، وذلك بعد موافقة 73% من أعضاء الملتقى على هذا المقترح، وقد شارك بالتصويت 70 عضوا من أعضاء الملتقى، صوت 51 عضوا بنعم و19 آخرين بلا، فيما امتنع 4 أعضاء عن التصويت. ويأتى ذلك بعد توافق أعضاء اللجنة الاستشارية المنبثقة عن الملتقى، فى 16 يناير، حول آلية تشكيل السلطة التنفيذية خلال اجتماعات جنيف، بأن يقوم كل مجمع انتخابي –للأقاليم- على حدة بتسمية ممثل المجمع في المجلس الرئاسي معتمدا على مبدأ التوافق في الاختيار وهو مانسبته 70%.

إذا تعذر ذلك يتم التوجه إلى تشكيل قوائم من كل الأقاليم مكونة من 4 أشخاص لشغل مناصب (رئاسة المجلس الرئاسي، عضوية المجلس الرئاسي، رئاسة الوزراء)، لكي تدخل القائمة للتصويت في القاعة. ويجب أن تحصل القائمة على 17 صوتا للتزكية، (8 من الغرب، و 6 من الشرق، و 3 من الجنوب) وتفوز القائمة التي تحصل على 60% من أصوات القاعة في الجولة الأولى، أو تتنافس في الجولة الثانية القائمتان اللتان حصلتا على أعلى نسبة تصويت، ليتم اختيار القائمة التي تفوز ب 50+1% من الأصوات[20].

ويرى العديد من المراقبين أن التوافق على آلية اختيار السلطة التنفيذية يعكس اقتراب حل الأزمة الليبية، خاصة أن هذا التوافق سيؤدى إلى إنهاء الانسداد وتسريع عملية اختيار رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه ورئيس الحكومة ونائبيه، كما أن هذا المقترح يعتبر مقبول من الجميع لأنه يجمع بين طالبي المحاصصة ورافضيها من خلال تثبيت حق كل إقليم.

فضلاً عن أن هذا التوافق يأتى بالتزامن مع حدوث نجاحات فى المسارات الأخرى لحل الأزمة الليبية، والتى تتمثل فى:

1- إعلان أعضاء اللجنة الدستورية (15+15)، المؤلفة من ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، فى 19 يناير 2021، بعد انتهاء اجتماعها في مدينة الغردقة المصرية، عن اتفاقهم على الاستفتاء على مشروع الدستور المقدم من الهيئة التأسيسية “بناء على القانون الصادر من مجلس النواب رقم (6) لسنة 2018 المعدل بالقانون رقم (1) لسنة 2019 مع تعديل المادة السادسة باعتماد نظام الدوائر الثلاث (50%+1) فقط”. ويستند هذا المشروع على المحاصصة الإقليمية حيث يشترط حصول مسودة الدستور على نسبة لا تقل عن النصف داخل كل إقليم لمروره، وهي آلية تتوافق كثيراً مع آلية اختيار السلطة التنفيذية الجديدة.

2- احتضان المغرب جلسة ليبية جديدة تضم ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، فى 22 يناير 2021، لـ”استكمال ما اتُّفِق عليه سابقاً مع مجلس النواب بشأن المناصب السيادية”، وفق بيان للمجلس الأعلى للدولة. وأشار البيان إلى أن الجلسة الجديدة، في المغرب، تأتي “انطلاقاً من خريطة الطريق التي اتُّفِق عليها في الجولة الأولى من حوار تونس، التي أكدت اختصاص مجلسي الدولة والنواب بالمناصب السيادية”[21].

3- نجاح اللجنة العليا للانتخابات، في تنظيم انتخابات ناجحة لاختيار عدد من المجالس البلدية، غرب ووسط البلاد، في تاجوراء وصبراتة شرق طرابلس وغربها، وقبلها مدن الواحات الثلاث جنوب شرقي البلاد، ومدن الزاوية والرجبان. وعلى الرغم من ضعف الإقبال الشعبي على انتخابات المجالس البلدية، التي أجريت حتى الآن، فإن مرورها بسلام وسلاسة، لقي ترحيباً واسعاً وإشادة كبيرين، باعتبار نجاح الانتخابات في هذه البلديات من دون تسجيل خرق أمني واحد، مؤشراً جيداً يخفف حدة المخاوف والتشكيك في إمكانية نجاح الانتخابات العامة، المنتظر إجراؤها في ديسمبر المقبل، بالنظر إلى الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، سياسياً واقتصادياً وأمنياً[22].

4- موافقة مجلس الأمن الدولي، فى 17 يناير 2021، على تعيين الدبلوماسي من سلوفاكيا، يان كوبيتش، مبعوثا دوليا جديدا إلى ليبيا، خلفا للمبعوث السابق غسان سلامة، بعد اعتذار البلغاري نيكولاي ملادينوف عن قبوله المنصب نهاية ديسمبر 2020.

ولكن على الجانب الأخر، يرى البعض أنه لا تزال هناك مجموعة من الإشكاليات التى قد تعرقل هذه التوافقات، منها:

1- إعلان قوة حماية طرابلس (التى تتألف من أبرز أربع قوى مسلحة بالعاصمة طرابلس وهي “قوة الردع الخاصة”، و”لواء ثوار طرابلس”، و”لواء النواصي”، و”قوة التدخل السريع”) رفضها لـ”أي مخرجات للحوار” الذي وصفته بـ”المنقوص”، وطالبت الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، بالتدخل لوقف “انحراف” البعثة التي اتهمتها بعدة تجاوزات.

ويعكس موقف القوى المسلحة بطرابلس الصراع الذي يدور في كواليس العاصمة منذ مدة، بين أبرز أقطابها، ففى حين يسعى رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة برئاسته، عبر اتصالاته غير المعلنة باللواء المتقاعد خليفة حفتر، وللمضي قدما في تنفيذ أجندته لتشكيل حكومة وحدة وطنية، شكل السراج فريق عمل يتولى مهام التواصل بين مجلسي النواب في طبرق وطرابلس والمجلس الرئاسي.

كما يعمل السراج على بناء تحالفات مع مجاميع طرابلس المسلحة، وآخرها إعلانه إنشاء “جهاز دعم الاستقرار” بصلاحيات واسعة وبرئاسة عدد من أمراء المجموعات المسلحة في طرابلس[23] (هم عبدالغني الككلي، آمر ميليشيا الدعم المركزي أبوسليم، مع ثلاثة نواب هم محمد حسن أبوزريبة أمير ميليشيا “أبوصرة” بالزاوية، وأيوب أبوراس الذي كان تولى قيادة ميليشيا ثوار طرابلس في غياب آمرها هيثم التاجوري لمدة عام قبل عودته في ديسمبر الماضي، وموسى ممسوس القائد الميداني لميليشيا “القوة المتحركة” المشكلة من المسلحين الأمازيغ الموالين لحكومة الوفاق).

وأهم ما يمكن ملاحظته من هذه التعيينات أنها تخلو من أي أمير حرب ينحدر من مصراتة أو من المدن القريبة منها مثل زليتن أو الخمس، وإنما تشمل فقط قيادات ميليشياوية من طرابلس والمدن الواقعة إلى الغرب منها، وخاصة الزاوية ومناطق الجبل الغربي.

ويرى العديد من المحللين أن تعيينات السراج الأخيرة تمثل حربا معلنة على مصراتة وباشاغا، وأن السراج الذي كان نقل في ديسمبر الماضي تبعية ميليشيا الردع الخاصة -أكبر ميليشيات غرب البلاد وأكثرها عددا وسلاحا- إلى رئاسة المجلس الرئاسي بدل وزارة الداخلية، ودفع بعدد من قادة الميليشيات إلى مناصب أمنية حساسة، يدخل ضمن الاستعداد لأية مواجهة قادمة مع ميليشيات مصراتة، أو مع أي طرف يحاول فرض حل سياسي لا يرضي السراج وحلفاءه[24].

وفى المقابل، تبدو نسبة 70% أكثر ملاءمة لشخصيات أخرى تحركت باتجاه بناء قاعدة شعبية من خلال إطلاق مشاريع تلامس أزمة المواطن، من بينها نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق الذي يستند مشروعه إلى مقاربة اقتصادية وفق اتفاق نفطي مع حفتر أعلنه منتصف سبتمبر الماضي وعاد تدفق النفط مجدداً بناءً عليه[25].

وفي الجانب الآخر، أعلن وزير الداخلية فتحي باشاغا عن الإعداد لإطلاق عملية تحمل اسم “صيد الأفاعي” وتستهدف الجماعات المسلحة المنفلتة وعصابات التهريب والاتجار بالبشر والعناصر الإرهابية، فيما يشير البعض إلى أن قائمة أهداف العملية تشمل ميليشيات مقربة من السراج ووزير دفاعه صلاح الدين النمروش الذي أكد موقفه المناوئ للعملية[26].

وربما يشكل انحدار باشاغا ومعيتيقة من مصراتة ثقلاً لهما في أي انتخابات وفق مبدأ الأقاليم بسبب ثقلها العسكري والسياسي القوي، وتنازعها في المقابل مدن أخرى مثل الزاوية، غرب طرابلس، التي ينحدر منها وزير الدفاع صلاح النمروش، والزنتان، لأقصى غرب البلاد، التي ينحدر منها آمر المنطقة العسكرية الغربية، اللواء أسامة الجويلي.

2- أن المشهد في شرق البلاد لا يزال ضبابياً بدرجة كبيرة، خصوصاً مع استمرار الصراع الخفي بين عقيلة صالح وحفتر الذي أفشل منذ أيام انقلاباً عسكرياً يقف خلفه انصار نظام القذافى. ويبدو أن حفتر يفقد كل يوم المزيد من حلفائه، فمحاولة الانقلاب حلت كلياً حلفه مع أنصار النظام السابق، ما يزيد الأوضاع تعقيداً أمام إمكانية الوصول إلى توافق على شخصية في شرق البلاد بنسبة 70%، وفق الآلية التي اتفق عليها ملتقى الحوار السياسي[27].

 

  • لبنان والبحث عن مخرج سياسي واقتصادي لأزماتها

لا يجهل أحد ما تعيشه لبنان من أزمة اقتصادية حادة، تجعل أهلها يئنون يومًا بعد يوم، ويقع عليهم الأثر الأكبر من تداعياتها السلبية، فمن غلو رهيب في الأسعار، إلى إفلاس مئات الشركات، وتسريح آلاف العمال، مرورًا بغياب الحد الأدني من الكفاف الذي يقوي المواطنين على الصمود، ثم جاء قرار الغلق الشامل بعدما تخطت معدلات الإصابة اليومية حاجز الخمسة آلاف اصابة، لمنع انهيار الصحي في بيروت، بعد وصول المستشفيات للسعة الكاملة، فقد عجز الغلق الجزئي عن احتواء المشهد، فاضطر مجلس الدفاع الوطني لاصدار القرار بالغلق.

في كل تلك الأجواء المؤلمة، تجد المشهد السياسي يعيش في عالم موازي من الضبابية، فالقوى السياسية تصر على عدم التنازل فيما بينها لسد الفراغ الحكومي، حيث نجد أن الاتفاق الخاص بتشكيل حكومة جديدة لا يزال بعيد المنال ولا يبدو له أى بادرة تفاؤل. وقد دخل لبنان مرحلة الفراغ الحكومي منذ استقالة حكومة حسان دياب في أغسطس الماضي، بعد تصاعد الغضب الشعبي على إثر انفجار مرفأ بيروت بفعل إهمال التخلص من مواد شديدة الاشتعال خُزِّنت في مستودعات الميناء لسبع سنوات. ومع ذلك لايزال دياب يرأس حكومة تصريف الأعمال لتعذر تشكيل حكومة جديدة من جانب رئيس الوزراء المُكلَّف سعد الحريري.[28]

يدافع كل فصيل سياسي عن نفسه التهمة، ويلقها على الفرقاء الأخرون لحماية نفسه أمام الشعب والتاريخ، في ظل حالة الحنق الاجتماعي لدي مختلف الطوائف تجاه النخبة السياسية برمتها، وكذا المجتمع الدولي الذي يشترط تشكيل حكومة خبراء كى يقدم إلى لبنان مساعدات مالية تنقذه من أزمته. فمن جهة، يسعى سعد الحريري إلى تشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسيين لا يتقيدون بالتمثيل الحزبي الضيق المكافيء لتوزيع الكتل النيابية في البرلمان. ويرى الحريري أن حكومة الخبراء ستكون كفيلة بإقناع المجتمع الدولي بأنها محايدة وغير خاضعة لسلطة السياسيين وبالتالي ستصبح أكثر قدرة على تنفيذ إصلاحات ضرورية لإعادة هيكلة الجهاز الإداري ومكافحة الفساد فيه. وإذ تحظى فكرة حكومة الخبراء بالفعل برضاء المجتمع الدولي وخاصة المانحين الذين يعدون بحزمة مساعدات اقتصادية جديدة للبنان حال تسلم تلك الحكومة مهامها، فإن فكرة أن الحريري يرأس هذه الحكومة ينفي عنها صفة الحياد السياسي كونها برئاسة زعيم أكبر كتلة برلمانية تمثل السُنة في مجلس النواب. غير أن الحريري نفسه لا يرى ذلك ويعتبر أن توزيع الحقائب على خبراء محايدين بصرف النظر عن انتمائهم الحزبي هو ما سيجعل من هذه الحكومة ذات كفاءات تكنوقراطية محايدة.[29]

ومن جهة ثانية، يرى جبران باسيل وزير الخارجية الأسبق وزعيم التيار الوطني الحر أن لا أساس لأى حكومة لا تكون ممثلة عن الكتل البرلمانية. وحيث أن تيار باسيل يملك الكتلة البرلمانية الأكبر، فإنه يريد توزير ثُلث الحكومة من تياره، خاصة أن رئيس الجمهورية ميشال عون ينتمي إلى التيار نفسه ويعتبر أنه الممثل الأهم للمسيحيين في لبنان. غير أن باسيل لا يعنيه كثيراً مدى مصداقية الحكومة القادمة لدى المجتمع الدولي أو مانحي المساعدات للبنان، لأنه هو نفسه كان مؤخراً هدفاً لعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية بعد اتهامه بالفساد وسوء استغلال منصبه السياسي. فتمسك باسيل بتمثيل تياره بشكل جيد في الحكومة القادمة لا يتعلق بالضرورة باضطلاع هذه الحكومة بإصلاحات مرتقبة كما يطالب المانحون لبنان، بل يتصل بدعم ترشيحه ليكون رئيس الجمهورية القادم في حالة فراغ المنصب لأى سبب. فباسيل، صهر الرئيس عون، يعتبر نفسه امتداداً طبيعياً له ويرى أنه الجدير بتولي الرئاسة من بعده ومن ثم يريد أن يضمن حظوظاً أكبر في الحكومة التي ستتولى كافة الصلاحيات في حالة شغور منصب الرئيس لكى يسهل عملية انتخابه في مجلس النواب، وهو في ذلك يعتمد بشكل أساسي على كتلته البرلمانية وكتلة حلفائه وخاصة حزب الله.

إلا أننا نجد أن حزب الله نفسه لم يحسم موقفه من مرشحي الرئاسة، فالأمر لا يزال من المبكر حسمه، ولكن من المعروف أن التحالف الوثيق الذي ربط الحزب والتيار الوطني الحر منذ 2006، حيث يقوم على منافع متبادلة، من خلال توفير عون لحزب الله غطاءاً شعبياً مسيحياً يحمي حصانة سلاح المقاومة العائد للحزب. ومن جهة ثانية، يُؤمِّن الأخير لعون كتلة برلمانية تسهل انتخابه رئيساً. إلا أن استعجال باسيل هذا الأمر، يسهم بقوة في تعطيل تشكيل الحكومة، حيث يتمسك بتوزير ثُلث الحكومة من تياره، الأمر الذي يضمن له إمكانية تعطيل الحكومة متى غاب وزرائه عن جلساتها وإسقاطها متى استقالوا، فيكون له بذلك حق الفيتو على كافة قراراتها، وهو الأمر الذي رفضه الحريري، معتبراً أنه ينافي الطبيعة المرنة التي يفترض أن تتميز بها الحكومة القادمة كى تُعِد وتُنفذ خطة إصلاحات هيكلية في الجهاز الإداري. يأمل باسيل أن يضُمن له هذا الأمر البقاء لسنوات مقبلة في المشهد السياسي. والمحصلة أن الحكومة لن تتشكل وفقًا للمقدمات السابقة، وعلي الشعب تحمل الأوضاع الاقتصادية الكارثية.

وإزاء تمسك التيار الوطني الحر بشروطه تحت دعاوي الدفاع عن حقوق المسيحيين، تدخل بطريرك الموارنة بطرس الراعي في الأزمة محاولاً التوسط بين الحريري وعون، وحث البطريرك القوى المنخرطة في تشكيل الحكومة على تذليل العقبات والتعامل مع الشروط والشروط المقابلة بمرونة أكبر كى يعم النفع على اللبنانيين ككل. إذ أن حكومة تصريف الأعمال ليس بمقدورها الإقدام على قرارات مصيرية يحتاجها لبنان لإنقاذه من أزماته المتعددة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي. وقد تلاقت جهود البطريرك للوساطة مع جهود مدير الأمن العام عباس إبراهيم، الذي حاول تنسيق جهود وساطة البطريرك، مؤكداً على ضرورة التعجيل بالحكومة لتحصين الوضع الأمني ومنع أى انفلات محتمل من جراء تأخيرها.[30]

ورغم حماس عدة فرقاء للوساطة التي تصدى لها البطريرك الراعي، لم يبد الرئيس عون في البداية الحماس نفسه. وذلك لأن البطريرك من أهم الداعمين لفكرة حياد لبنان عن التجاذبات الإقليمية في المنطقة، وعون يدرك جيدًا أن اوراق اللعبة كلها في الخارج، وأن بقائه رهين بتوثيق تحالفاته تلك.

الجدير بالذكر، أن عدم تشكل الحكومة في الفترة الماضية، يظهر مستوى سيطرة إيران على المشهد اللبناني، لأنه ببساطة، يتوقف تشكيلها على إيران وحلفائها، وهم بدورهم ينتظرون الوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الجديدة، ومن ثم يتريثون في حسم ملف الحكومة لمواصلة استخدامه كورقة ضغط في إدارة المساومات المتوقعة بين واشنطن وطهران، وهو ما يعني أن ظهور عقدة بعد أخرى من الفريق المتحالف مع حزب الله ليس إلا استهلاكاً للوقت لحين نضوج الصفقة التي قد تعقدها إيران مع إدارة بايدن. لذلك لا يتوقع أن يحدث انفراجة في المشهد اللبناني قبل ذلك الأمر في الأغلب.

 

  • واشنطن تصنف الحوثي كجماعة إرهابية: ماذا بعد؟

لم يترك الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب أي فرصة لاضعاف نفوذ طهران في المنطقة إلا وقام بها، وكحصلة لاستراتيجية الضغط القصوى التي يتبعها ترامب ضد طهران وحلفائها، فقد أصدرت وزارة الخارجية بيانًا؛ صنفت فيه جماعة الحوثي كتنظيم ارهابي يجب محاصرته واضعاف قوته، والقبض على قياداته.

جاء الإعلان الأمريكي الأخير، حصيلة متوقعة لسلسة من الضغوط التي مارستها إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب على جماعة الحوثي، أخذت في التزايد وتكثَّفت بشكل ملحوظ في شهر ديسمبر الماضي. وقد سبق هذا الإعلان مجموعة تحركات أمريكية قادها مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر إلى السعودية وسلطنة عُمان، في بدايات ديسمبر الماضي، بهدف استكشاف البدائل الممكنة لتصنيف الحوثيين كإرهابيين، بما في ذلك وضع قادة أفراد أو شخصيات رئيسية في الجماعة في القائمة السوداء، طبقاً لما أوردته حينها شبكة “إن بي سي نيوز” الأمريكية. وبدا جلياً أن نقاشات شينكر مع مسؤولي الدولتين الخليجيتين المجاورتين لليمن اتخذت مَنحيينِ متعاكسين؛ ففي حين أبدت مسقط تحفُّظها على أي توجُّه لإدراج الحوثيين في قوائم الجماعات الإرهابية، واصلت الرياض ضغوطها على إدارة ترمب للتعجيل في إصدار مثل هذا القرار.[31]

وقد أعلنت واشنطن في 8 ديسمبر 2020 فرض عقوبات على ضابط فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، حسن إيرلو، الذي أرسلته إيران مؤخراً إلى العاصمة اليمنية صنعاء ليكون بمثابة مسؤول اتصال مع حلفائها الحوثيين، حيث شعرت إدارة ترامب أن قرار طهران بمثابة استفزاز لها، لذلك ذكر بيان وزارة الخارجية الأمريكية، أنه من خلال إرسال إيرلو إلى اليمن، يُشير فيلق القدس إلى نيته زيادة الدعم للحوثيين، وزيادة تعقيد الجهود الدولية للتوصل إلى تسوية تفاوضية للصراع.

ويأتي هذا التوجه الأمريكي في وقتٍ تعثرت فيه جهود السلام وتراجعت فرص التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة اليمنية، فليس فقط أن تحركات مبعوث الأمم المتحدة لم تُسفِر عن نتائج ملموسة، ولكن المواجهات العسكرية بين أطراف الصراع اليمني أيضاً عادت بقوة بعد أن كانت قد تراجعت على نحو ملحوظ، وقد شكَّل الهجوم الصاروخي على مطار عدن في أواخر ديسمبر الماضي نقطة فارقة في تعزيز التوجه الأمريكي، واعتبر الوزير بومبيو في بيانه الصادر في 10 يناير الجاري بشأن إعلان تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، أن هجوم عدن الأخير أظهر بوضوح وحشية الجماعة، وتصرُّفها كمنظمة إرهابية. وعليه، فالبحث في اتخاذ إجراءات عقابية جديدة ضد الحوثيين وقادتهم، يعكس إلى جانب الحرص على محاصرة نفوذ إيران اعتراف واشنطن وحلفائها بصعوبة التوصل لاتفاق سلام ينهي الصراع في اليمن، ويعكس بالتالي رغبة في تحريك المياه الراكدة.

نظرت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى هذا التصنيف باعتباره انتصاراً سياسياً ومعنوياً كبيراً لها ولتحالف دعم الشرعية، ولذا أعلنت ترحيبها به، ويسري اعتقاد في أوساط الحكومة أن موقفها السياسي بهذا التصنيف سيغدو أقوى، ويعمل على إضعاف ضغوط المجتمع الدولي عليها، وسينتهي بجعل موقفها التفاوضي أقوى.

وطبقاً لهذا، فإن الحكومة اليمنية تَعتبِر نفسها المستفيد الأول من هذا التصنيف، إذ يُعَد تأكيداً على أنها السلطة الشرعية الوحيدة في البلاد، ويُعزِّز شرعيتها داخلياً وخارجياً في مواجهة الحوثيين، لاسيما بعد البدء في تنفيذ اتفاق الرياض وتشكيل حكومة المناصفة. كما سيحد من التدهور الخطير الذي أخذ يلحق بشعبيتها ويعمل على كبح الخلافات الداخلية، لأنه يُمثِّل تطوراً في موقف الولايات المتحدة والحلفاء الخليجيين وإعادة اعتراف بخطر الحوثيين ويمنح الأمل في مواصلة المعركة ضدهم.

في حقيقة الأمر، هناك مخاوف من أن يكون لهذا التصنيف عواقب سلبية على عملية السلام في اليمن، وذلك على أساس أنه قد يدفع الحوثيين بعيداً ويجعل مواقفهم أكثر تشدداً، ويجعل التفاوض والتوصل إلى تفاهمات معهم أكثر صعوبة، وعلى أساس أنه سيعرقل جهود ومساعي الوساطة الأمية. وتتعلق هذه المخاوف أيضاً بما سيخلقه هذا التصنيف من معوقات قانونية تعوق عمل وسطاء السلام؛ فمع القيود التي يفرضها على الدعم المادي، مثلاً، يصبح تزويد المفاوضين بأي تسهيلات أو خدمات كالنقل والسكن جريمة، وسيكون من الصعب إشراك جماعة مصنفة إرهابية في أي حكومة تُؤسِّس لها أي اتفاقية للسلام.[32]

إلا أن هناك وجهة نظر مغايرة، ترى أن هناك فرصة في أن يصب هذا التصنيف في خدمة المسار السياسي؛ فتحت ضغوط نتائجه السلبية قد يجد الحوثيون أنفسهم مدفوعين لإعادة النظر في مواقفهم وتقديم تنازلات، لكن الوصول إلى هذه النتيجة لن يحدث تلقائياً، ويَشترِط تغيير الحوثيين تصورهم لميزان القوى، فهم حتى الآن يعتقدون أن خصومهم على وشك الانهيار والتسليم، وأن مواجهة خصومهم ومواجهة الولايات المتحدة لا يحتاج إلا إلى بعض الصمود، ويستشهدون على النتائج المضمونة للصمود والمقاومة بخضوع واشنطن في النهاية للتفاوض مع حركة طالبان بعد عقدين من المواجهة. وتغيير تصورهم هذا يشترط أن يقترن التصنيف ببعض الخسائر أو يُفضي إليها، وبعض الضغوط العسكرية والسياسية عليهم.

وختامًا، ما من شك أن القرار الأمريكي الذي يُدرك الجميع تأثيره الخطير على مستقبل المليشيا، يجب ألّا يكون بديلا عن تحرك وطني فاعل يؤازر الحكومة أو يكون على استعداد تام للقيام بدورها ضمن معركة وطنية تقتضي الضرورة خوضها بكل الإمكانيات من أجل استعادة الدولة اليمنية، إذا تبين أن هذه الحكومة والسلطة الشرعية ستمضي كما عهدناها خلال السنوات الخمس وأكثر من زمن الحرب إلى المزيد من التفريط بالصلاحيات والإمكانيات وبالكرامة الوطنية. فلن تجد فرصة أفضل من تلك في صياغة مشروع سياسي لازاحة الحوثيين من مستقبل اليمن، لأنها ستخسر كثيرًا إذا لم تفعل ذلك في ضوء وجود الأطراف الدولية والإقليمية والتنظيمات الإرهابية الانقلابية والمتمردة المرتبطة بأجندات إقليمية تتحرك في الفراغ الذي تركته السلطة الشرعية نتيجة الضعف الواضح في أداء قيادات هذه السلطة. لذا فإن الأمر يقتضي اليوم وأكثر من أي وقت مضى، العمل من أجل ترسيخ الدور الميداني للقوى الضامنة لصمود المشروع الوطني، وتعظيم أثره السياسي في تقرير مصير البلاد.

 

  • تركيا وفرنسا: صفحة جديدة بشروط مسبقة:

يبدو أن العلاقات الفرنسية التركية على وشك انفراجة في القريب العاجل في ضوء المحادثات الإيجابية التي حدثت مؤخرًا على مختلف المستويات السياسية والاستخباراتية، والتي وصلت ذروتها في الرسائل الودية التي حدثت بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وايمانويل ماكرون.

فقد وجه ماكرون رسالته لأردوغان رسالة ودية للرئيس التركي في 10 يناير الجاري، ردا على رسالة للأخير وجهها في 19 ديسمبر الماضي، إثر إصابة الرئيس الفرنسي بفيروس كورونا متمنيا له الشفاء. واستهل ماكرون رسالته بعبارة “عزيزي طيب” باللغة التركية، ناقلا أطيب تمنياته للشعب التركي وللرئيس أردوغان.[33]

وذكر ماكرون أنه يوافق أردوغان الرأي حول ضرورة المكافحة المشتركة لفيروس كورونا، معربا عن سروره لمناقشة مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.

ولفت إلى أن العلاقات بين الجانبين بدأت تشهد تحسنا اعتبارا من منتصف ديسمبر الماضي، بعد نحو 15 شهرا من التوتر.[34]

توترت العلاقات بين باريس وأنقرة بسبب رفض باريس لتحركات أنقرة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وموقفها من الرسومات المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتعارض مواقف البلدين في قضايا عدة. وكانت الأمور تتجه نحو اندلاع حرب باردة بين باريس وأنقرة، في ظل تزايد نفوذ أنقرة في افريقيا بصورة خاصة، وقد وصلت الخلاف لذروته مع تحول فرنسا إلى قوة مضادة لتركيا في سوريا وليبيا ومؤخرا في شرق المتوسط، وهو ما أدى لقيام الرئيس أردوغان بوصف ماكرون بأنه مشكلة لفرنسا ودعا الفرنسيين إلى التخلص منه.

وهو الأمر الذي أربك باريس في ظل تزايد الأزمات التي تضرب الاتحاد الأوروبي، وحاجة فرنسا إلى توجيه جهودها نحو ترميم الاتحاد في مرحلة ما بعد انسحاب لندن، لاسيما أن أوروبا في حاجة اليوم لجهود تركيا أيضًا، وأكثر من أي وقت مضي، وهو ما ظهر بوضوح في تصريح ماكرون، من أنه يأمل أن يكون لتركيا دورًا في دعم أوروبا في 2021. كما قررا البلدين أيضا تعميق المفاوضات لا سيما في مكافحة الإرهاب في بعض المناطق، مثل سوريا وليبيا، حيث توجد اختلافات كبيرة بينهما في وجهات النظر.

يطالب المسئولون الأتراك من فرنسا خطوات ملموسة في نقاط ثلاث، وهي:

الأولى توقف باريس عن العملية التي تجري في شمال شرق سوريا، والهيكلة التي تتم لصالح وحدات حماية الشعب الكردية وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا.

أما الثانية فتتمثل في الموقف الفرنسي من حكومة الوفاق في طرابلس والمعترف بها من الأمم المتحدة والبدء بإجراء مباحثات معها.

والنقطة الثالثة، هي مراجعة فرنسا لموقفها الداعم لأطروحات اليونان في شرق المتوسط، حيث أكد تشاووش أوغلو إن تركيا تدعم التقاسم العادل للثروات في شرق المتوسط، مضيفا: الآن أمامنا فرصة أخرى للحوار، تتيح التعاون بين جميع دول حوض شرق المتوسط.[35]

في الواقع، لا يمكن لفرنسا تغيير آرائها بشأن القضايا الثلاث معا، لكن أنقرة لا تنظر لكافة تلك القضايا على أنها رزمة واحدة، والأهم لديها أن تتوقف فرنسا عن تشكيلها لسياسة خارجية قائمة على معارضة تركيا.

وقد أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، أنه اتفق مع نظيره الفرنسي جان إيف لودريان على خارطة طريق لتطبيع العلاقات بين البلدين.  وقال تشاووش أوغلو إن تركيا وفرنسا لا تعارضان بعضهما بشكل قاطع. وأضاف أن فرنسا تبنت موقفا مناهضا لتركيا منذ عملية نبع السلام ضد منظمة “بي كا كا” في شمال سوريا. وأكد أن العملية أجريت على حدود تركيا، وليس في منطقة بفرنسا أو في مكان تتواجد فيه فرنسا. مشيرًا إلى أن الاتصال الأخير بلودريان كان مثمرا للغاية.[36]

وإذا نظرنا إلى السياق الأوسع الذي تحدث فيه تلك التفاهمات، سنجد أن الحراك بين أنقرة وباريس، يأتي قبل أيام من رئاسة جو بايدن للولايات المتحدة، فقد بدأت حركة دبلوماسية كبيرة تمتد من الخليج إلى أوروبا إلى شرق المتوسط. بدأت الخطوة الأولى في المنطقة من المملكة العربية السعودية عبر المصالحة الخليجية ورفع الحصار المفروض على قطر منذ منتصف عام 2017، تلاها حراك ألماني على خط أنقرة-أثينا في شرق المتوسط. لذلك ستأخذ غالبًا المصالحة بين أنقرة وباريس طريق فعلي نحو التحقق، في ظل وجود رغبة جدية لدي العديد من دول العالم لتجاوز إرث مرحلة ترامب التي سادتها أزمات عديدة، كما أن تركيا لا ترغب في تصعيد خصومتها مع دول الاتحاد الأوروبي في ظل وجود نية لدي جو بايدن للضغط على حكومة العدالة والتنمية، وهو ما يدفعها لبحث مسارات أخرى.

  • التقارب العسكري بين مصر والسودان وانعكاساته على سد النهضة:

كانت القاهرة  قد أعلنت في ديسمبر الماضي عن دعمها الكامل للسودان في صراعها الحدودي مع إثيوبيا على منطقة الفشقة، مؤكدةً على حق السودان في حماية أمنه وممارسة سيادته على أراضيه. ومؤخرًا؛ اختتم وفد سوداني رفيع المستوى زيارة للقاهرة عقد خلالها لقاءات مع السيسي ومسؤولين آخرين، وأطلع الوفد السوداني السيسي على تطورات الأوضاع على الحدود بين السودان وإثيوبيا. وصرح السيسي بأن موقف مصر تجاه السودان ينبع من الترابط التاريخي بين شعبي وادي النيل، وهو الموقف الذي لم ولن يتغير تحت أي ظرف، على حد قوله. والتقارب الراهن بين الخرطوم والقاهرة بدأ عسكريًا عندما أجرت السودان ومصر مناورات جوية منتصف نوفمبر الماضي، هي الأولى من نوعها بين البلدين. والتي تزامنت مع مواجهات بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي وقوات التيجراي في الإقليم الإثيوبي الحدودي مع السودان. إلا أن هذا التقارب لم ينعكس على مفاوضات سد النهضة؛ ولو كان هذا هو هدفه من الجانب المصري. ففي منتصف ديسمبر الماضي أعلن السودان فجأة مقاطعته للمفاوضات بسبب ما قال إنه اعتماد على منهج قديم لن يجدي، ومطالبًا بإعطاء دور أكبر لخبراء الاتحاد الإفريقي، وهو موقف مناقض لموقف مصر ويصب في صالح إثيوبيا، لأنه يطيل زمن المفاوضات. وأعلن وزير الخارجية السوداني في 11 يناير الجاري، عن تقديم بلاده اشتراطات للاتحاد الإفريقي للعودة إلى مفاوضات ذات جدوى في ملف السد، ملوحًا بأن لدى الخرطوم خيارات أخرى، دون أن يوضح طبيعة تلك الخيارات. وفي 4 يناير الجاري، رفضت الخرطوم المشاركة في اجتماع ثلاثي عبر تقنية الاتصال المرئي مع مصر وإثيوبيا حول السد، وقالت إنه لم يتم إقرار مطلبها بخصوص تعظيم دور خبراء الاتحاد الإفريقي والمراقبين عبر اجتماعات ثنائية‎، وهو ما عكس أنه لا يوجد تنسيق يُذكر بين الخرطوم والقاهرة بشأن السد. لكن الخلاف بين القاهرة والخرطوم بشأن ملف سد النهضة ليس العقبة الوحيدة في العلاقات بين البلدين، لذلك يرى محللون أن التقارب السياسي والعسكري بينهما قد يساعد على إنهاء الخصومة التي تتجدد من آن إلى آخر حول قضايا، أبرزها النزاع بشأن السيادة على منطقة حلايب وشلاتين الحدودية، إلا أن هناك آخرون يستبعدون ذلك، لكون الحكومة الانتقالية في السودان ليس لها موقف موحد لتألفها من مكونين مدني وعسكري، والتباين بينهما واضح حتى في العلاقات الخارجية، والتقارب المصري ربما يكون مع المكون العسكري فقط بالسلطة الانتقالية باعتبار خلفية الجانبين العسكرية.[37]

وخُلاصة القول؛ أنه في ظل تلك التعقيدات، التي تسود علاقات السودان ومصر، وتأثيرات التوترات الإقليمية، يبدو مصير التعاون والتنسيق بين البلدين رهينًا بمصالحهما ودوافعهما وقدرتهما على تجاوز بؤر التوتر والخلاف. ففي الوقت الذي استخدمت مصر ورقة التقارب العسكري للتلويح لإثيوبيا إمكانية ضرب السد بالتعاون مع السودان كحليف استراتيجي؛ عملت السودان من جانب آخر على استخدام تلك الورقة للضغط على الجانب الإثيوبي لتقديم تنازلات في الصراع الحدودي معه على منطقة الفشقة، والذي تصاعد لمواجهة عسكرية محتدمة في الآونة الأخيرة. وهذا الخلاف في أهداف الجانبين، انعكس بالسلب على موقفهما التفاوضي بشأن قضية سد النهضة، حيث بدا عدم التنسيق الواضح في مواقف كلا الطرفين، وهو الأمر الذي يصب بالضرورة في مصلحة الجانب الإثيوبي المُنشغل حاليًا بحرب التيجراي، ومن مصلحته مد أجل التفاوض لحين استقرار الوضع الداخلي.

 

  • احتجاجات عنيفة في تونس يوظفها الرئيس لتحقيق أهدافه:

شهدت أغلب المدن التونسية احتجاجات طوال الأسبوع، وشملت أغلب المحافظات التونسية شمالاً وجنوبًا. وشهدت بعض هذه المدن مواجهات قوية بين المحتجين وقوات الأمن، وتم إطلاق الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، وتم القبض على عدد منهم. وأفاد المتحدث باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني، في تصريح صحافي، بأن أغلب المحتجين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 سنة، ومن بينهم حتى قاصرون عمرهم 12 سنة. وبينما يعود السجال بين السياسيين التونسيين حول شكل هذه الاحتجاجات وتوقيتها الليلي ودوافعها، علمًا أنها ليست المرة الأولى التي يخرج فيها بعض التونسيين للاحتجاج على أوضاعهم الاجتماعية. وقد رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أكثر من 7600 تحرك احتجاجي في تونس خلال عام 2020، على الرغم من قيود مكافحة فيروس كورونا، في مقابل 9091 خلال 2019، و9365 خلال 2018. وهو وضع شبيه بأواخر 2010 وبداية 2011، فالاحتقان الاجتماعي مرتفع، والوضعية الاقتصادية والاجتماعية صعبة، وهشاشة الوضع العام والضبابية السائدة في مثل هذه التحركات، وهو ما يفسر خروج شباب غير مؤطرين للتحرك ليلاً. وخروج الفئة العمرية من الشباب والقاصرين، الذين يجنح بعضهم أحيانا للعنف والتخريب، دليل على أن هذه الفئة مهمشة ومن دون إحاطة وخارجة عن السيطرة، وهي نفس الفئة التي تلجأ إلى الهجرة السرية، والتي شملت القاصرين بمرافقة ومن دون مرافقة، وفي عمليات السرقة والانتحار، بالإضافة إلى ذلك خروج قرابة 100 ألف منقطع عن الدراسة سنويًا. وأغلب المناطق التي خرجت منها التحركات الليلية هي مناطق مهمشة وترتفع فيها نسب البطالة، وتوجد فيها فئات عمالية هشة كبيرة، كعمال البناء والمقاهي وغيرهم، وأغلب هؤلاء من دون عمل حاليًا بسبب الحجر الصحي الشامل.[38] وخلال تلك التظاهرات الليلية؛ يقوم المحتجون برشق الحجارة على قوات الأمن، وحرق الإطارات المطاطية لقطع الطرقات، فيما تقابلهم الشرطة بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع. وتتواصل عمليات الكر والفر لوقت متأخر من الليل بين مجموعات من الشباب ورجال الشرطة، وتتحول الاحتجاجات الليلية إلى عمليات نهب وسرقة للأملاك العامة والخاصة، لاسيما مقرات البنوك ومستودعات البلديات. الأمر الذي جعل وزارة الدفاع التونسية تقوم بنشر قوات الجيش أمام المنشآت العامة ومقرات السيادة في عدد من المدن والأحياء، تحسبًا لأعمال الشغب التي من الممكن أن تستهدف هذه المنشآت الحيوية، كما سيرت الوزارة دوريات عسكرية في جهات الجمهورية كافة لفرض الأمن. بالتزامن مع ذلك، قال المتحدث باسم وزارة الداخلية التونسية أنه جرى اعتقال 632 شخصًا بعد الليلة الثالثة على التوالي من الاضطرابات التي شهدتها عدة مدن تونسية، أبرزهم مجموعات من الأفراد أعمارهم بين 15 و20 و25 عامًا تقوم بحرق العجلات المطاطية والحاويات بهدف عرقلة تحركات الوحدات الأمنية. وطيلة هذه الأحداث الليلية، لم يخرج الرئيس قيس سعيد لمخاطبة الشعب رغم المطالب المتكررة لذلك، فالعديد من الصفحات الاجتماعية المحسوبة على الرئيس حرضت على النزول للشوارع وكسر حظر التجوال الليلي. صمت الرئيس عدة أيام، لكنه تحدث يوم الاثنين مع بعض المواطنين في الحي الشعبي الذي كان يسكنه قبل أن يتقلد منصب الرئاسة، مؤكدًا أنه يعرف ما أسماه بالأطراف التي تتاجر بالبؤس والفقر وتسعى لتوظيف الشباب. في نفس المناسبة، اختار سعيد استغلال غضب الشباب في البروباجاندا الشعبوية الخاصة به، حيث نشرت صفحة الرئاسة منشورات ركزت فيها على شعارات حل البرلمان وحل الأحزاب، وقد كان من الأحرى لها حذف هذه الشعارات كونها تعادي الدستور وتهدد السلم العام في البلاد. ومن ثمَّ فاختيار الرئاسة نشر هذه الشعارات والتركيز عليها، يؤكد نيته استغلال معاناة التونسيين لتنفيذ أجندته لضرب الدستور التونسي وتغيير النظام لما يخدم مصلحته، عملًا بقوله إبان حملته الانتخابية: “فليرحلوا جميعًا”.[39]

بالنظر إلى الوضع في تونس؛ فلا يوجد أي طرف سياسي قوي قادر على تحريك الشارع، وما يفسر ما يحصل في الحقيقة هو عدة عوامل تضافرت وشكَّلت هذا الجو العام المحتقن، أولها؛ شعور المواطن أن هناك جهات سياسية تسعى لخدمة مصالحها ولا تهتم به، وثانيها؛ الوضع الصحي وقرارات الحجر الشامل، مع الوضع الاقتصادي السيء بالأساس مما يحرم المواطن من الاسترزاق، وبالتالي دفع ذلك هؤلاء للحراك الحاصل. ويرجع الاحتجاج ليلاً بدل الاحتجاج السلمي نهارًا إلى أن المحتجين ليست لهم مطالب واضحة، ولا يوجد من يقودهم ويؤطرهم، بل استغل الشباب والقاصرون المنفلتون الوضع العام واتخذوا الليل ستارًا ليحتموا به لقيام بعضهم بعمليات تخريب وفوضى، وذلك رغم إقرار السلطات حظر التجوال الليلي ضمن تدابير الوقاية من فيروس كورونا، وتم التواصل فيما بينهم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كما حدث عام 2011، ودون وجود قوى تقوم بالتنسيق. ويؤكد رد فعل الرئيس قيس سعيد؛ دخوله بقوة في معركة مُعلنة مع كل الطبقة السياسية ومنظومة الحكم، حتى يحقق أهدافه ورؤيته القائمة على تشويه الأحزاب والجمعيات وأغلب الفاعلين السياسيين وإثبات فشلهم بل وخطرهم على الدولة، ومن ثمَّ تغيير النظام السياسي وحل البرلمان وتعليق العمل بالدستور والذهاب للعمل بالمنشورات أو الإعلانات الدستورية، وربما وصولًا إلى إنهاء منظومة الأحزاب بالقانون والسيطرة على الحياة السياسية. حيث كان خطابه منذ البداية مناقض للمنظومة الحزبية، فقد وضَّح في أكثر من مناسبة أنه لا يؤمن بها كأداة للفعل السياسي ويسعى للقضاء عليها، وقد تجلَّى ذلك في خطبه وتحركاته المتكررة في الثكنات والمقرات الأمنية والأحياء الشعبية. وساهم ضعف الأحزاب وفشلها في إدارة العملية السياسية، فضلًا عن تواصل الأزمة داخل البرلمان وفشل الحكومات المتعاقبة في الاستجابة لمطالب التونسيين وتحقيق التنمية، في تعبيد الطريق أمام قيس سعيد لفرض رؤيته وتوجهاته التي من شأنها إرباك العمل السياسي في تونس.

 

  • تغيير العقيدة العسكرية للجزائر؛ الدوافع والمآلات:

على مدى عقود، كانت الجزائر تتبنى رؤية خارجية تقوم على تجنب الانخراط العسكري المباشر في الصراعات الإقليمية، والتركيز بصورة أكبر على التوسط بين الأطراف المتحاربة في دول الجوار واحتواء التهديدات. وجاءت التعديلات التي أُدخلت على الدستور الجزائري في شهر نوفمبر 2020 -في جانب منها-؛ لتسمح بإرسال وحدات من الجيش الجزائري إلى الخارج للمشاركة في حفظ السلام. وتزامنت التعديلات مع تحركات أمنية مكثفة للجزائر، سواء على المستوى الداخلي في إطار الاستراتيجية المستمرة لمواجهة التهديدات الإرهابية، أو على المستوى الخارجي، حيث ضاعفت الجزائر خلال الشهور الماضية من تحركاتها تجاه دول الجوار الإقليمي بهدف تعزيز التعاون الأمني والعسكري معها. وقد كانت هذه التحركات وثيقة الصلة بمدركات صانع القرار الجزائري وتصوره للسياق الإقليمي وما ينتجه من تهديدات، فالأزمات التي اندلعت في الإقليم خلال السنوات الأخيرة أنتجت شكوكًا حول إمكانية استمرار السياسة الأمنية الجزائرية بأبعادها التقليدية. وفي هذا السياق، يُمكن فهم التحركات الأمنية الأخيرة للجزائر بحسبانها محاولة جديدة للاشتباك المكثف مع قضايا المنطقة والتهديدات المتصاعدة. فمن جهة؛ تضمنت التعديلات الدستورية، التي تم الاستفتاء عليها، تعديلًا يسمح للجيش الجزائري بالمشاركة في عمليات خارج الدولة، ومن جهة ثانية؛ سعت الجزائر مؤخرًا إلى تعزيز تعاونها الأمني والعسكري مع دول الجوار، ولعل هذا ما كشفت عنه زيارة رئيس الأركان العامة للجيوش الموريتانية للجزائر خلال هذا الشهر، وهي الزيارة التي أرسلت إشارات إيجابية حول تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين الدولتين، والتي تزامنت مع توجهات متزايدة نحو تصدير الصناعات العسكرية الجزائرية. وترتبط التحركات الجزائرية الأخيرة بعدد من المحفزات الجوهرية المتعلقة بأزمات السياق الإقليمي ورؤية وتقدير صانعي القرار لهذه الأزمات. ويمكن بلورة أهمها في: أولاً؛ استمرار التهديدات الإرهابية: فبالرغم من عدم تعرض الجزائر لهجمات إرهابية كبيرة خلال السنوات الأخيرة، فقد ظلت التهديدات الإرهابية محددًا هامًا للسياسة الأمنية الجزائرية، حيث الأزمات التي تجتاح الساحل الإفريقي، والتخوفات من نشاط أكبر للتنظيمات الإرهابية داخل الجزائر. وثانيًا؛ معارضة السياسات الأمنية الفرنسية: حيث يمكن تفسير التحركات الأمنية الجزائرية الأخيرة من زاوية التعارض بين الجزائر وفرنسا حول السياسات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، ولاسيما فيما يتعلق بملف دفع فرنسا فديات للتنظيمات الإرهابية مقابل تحرير رهائن، حيث شهدت الشهور الماضية توترًا بين الدولتين على خلفية صفقة تحرير رهائن في دولة مالي، بشهر أكتوبر 2020، والتي بموجبها دفعت فرنسا ما يُقدر بنحو 10 ملايين يورو لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين وذلك مقابل إطلاق سراح أربع رهائن، من ضمنهم الرهينة الفرنسية صوفي بترونين، كما شملت الصفقة الإفراج عن حوالي 200 عنصر إرهابي كانوا في سجون مالي، وقد انتقدت الجزائر هذه الصفقة الفرنسية، واعتبرتها تدعيمًا للتنظيمات الإرهابية، فضلًا عن تهديدها أمنَ دول المنطقة. وثالثًا؛ تقليل الحضور العسكري الفرنسي في الساحل الإفريقي: فقد أرسلت فرنسا خلال الشهور الماضية رسائل حول استعدادها لتخفيض التواجد العسكري في الساحل الإفريقي، وهو القرار الذي من المُفترض أن يُتخذ في القمة المشتركة المقبلة بين فرنسا ودول الساحل الخمس الكبرى في فبراير المقبل، بالعاصمة التشادية بنجامينا، وهو ما يبدو أن الجزائر تحاول الاستعداد له، من خلال تحركاتها الأمنية الأخيرة، لاحتمالات تخفيض التواجد العسكري الفرنسي بالمنطقة، لأن ذلك الأمر ربما يدفع التنظيمات الإرهابية إلى توسيع نشاطها في الإقليم لسد الفجوة التي ستخلفها فرنسا. ورابعًا؛ الأوضاع المأزومة في ليبيا ومالي: ربما تستهدف التعديلات الدستورية الأخيرة صياغة دور جديد للجزائر في ليبيا ومالي، فالتطورات التي يشهدها الصراع الليبي، وخاصةً مع إعلان الأمم المتحدة، في شهر نوفمبر 2020، أن الأطراف السياسية في ليبيا توصلت إلى اتفاق لإجراء الانتخابات الوطنية في شهر ديسمبر 2021، وبالتالي يمكن أن يكون للجزائر دور في المسار المستقبلي للصراع الليبي من خلال إرسال قوات حفظ سلام لتأمين وقف إطلاق النار في ليبيا، وتأمين العملية السياسية باعتبارها مدخلًا هامًا في تحقيق الاستقرار داخل ليبيا. ومثل هذا التوجه يمكن أن يكون قائمًا أيضًا في حالة مالي، فعلى مدار سنوات كانت الجزائر حاضرة في الصراع المالي من خلال تأدية أدوار وساطة بين الأطراف المختلفة، ومن ثمَّ ربما تسعى الجزائر إلى تكريس ذلك الحضور بإرسال قوات، على أقل تقدير، في شمال مالي بهدف مراقبة التطورات هناك، وقطع الطريق أمام التنظيمات الإرهابية لتمديد نفوذها، وخصوصًا إذا اتخذت فرنسا قرارًا بتخفيض قواتها في منطقة الساحل الإفريقي. وخامسًا؛ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء: لا يمكن إغفال أن قرار واشنطن بالاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، عقب اتفاق إقامة العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني في ديسمبر 2020، يُشكِّل دافعًا للجزائر لإعادة تقييم خياراتها الأمنية في الإقليم، فقد أثار هذا القرار الأمريكي حفيظة الجزائر التي طالبت واشنطن على إثره بلعب دور محايد في معالجة الأزمات الإقليمية والدولية. ومن ثم يحتمل أن تلجأ الجزائر إلى تكثيف حضورها الأمني بالمنطقة كأداة لإقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بضرورة الاستماع إلى وجهة النظر الجزائرية، وإعادة التأكيد على الدور المركزي للجزائر الذي قد تحتاج إليه واشنطن لخدمة مصالحها.[40]

وهكذا يُمكن القول أن التغيير في العقيدة العسكرية للجزائر وفقًا للتحركات الأخيرة؛ إنما هو ناتج من محركين رئيسيين؛ أولهما؛ حرص الجزائر على لعب دور إقليمي قوي في مواجهة المغرب المنافس التاريخي لها، والذي عاد للساحة الإقليمية والإفريقية بقوة منذ بداية عهد محمد السادس. وثانيهما؛ تخوف الجزائر من زيادة خطر التمدد الإرهابي للجماعات المسلحة، والقادم من دول الساحل، لاسيما في ظل عزم فرنسا على تقليل تواجدها خلال الفترة القادمة. إلا أنه بالرغم من محفزات ودوافع التحركات الأمنية الجزائرية، واحتمالية حدوث تحول في موقف الجزائر من إرسال قوات إلى دول الجوار؛ إلا أن هذا المسار تعترضه إشكاليات محتملة. فمن جهة؛ لا تزال السياسة الأمنية التقليدية لها ثقلها في الداخل الجزائري، والتي تستند بصورة رئيسية إلى تجنب الانخراط العسكري المباشر في قضايا الإقليم. ومن جهة ثانية؛ يُمكن أن يكون لأزمة كورونا وتبعاتها الاقتصادية، وكذلك تراجع أسعار النفط، تأثير كبير على أي توجه للانخراط العسكري والأمني المكثف في المنطقة. ومن جهة ثالثة؛ يُحتمل أن يكون لملف الإرهاب تأثير معاكس في هذا الصدد، لأن المشاركة العسكرية في صراعات المنطقة، وإرسال قوات لبعض الدول، مثل مالي، قد تفضي إلى تزايد التهديدات الإرهابية التي تواجهها الجزائر، سواء من خلال استهداف هذه القوات، أو حتى بتنامي نشاط التنظيمات الإرهابية داخل الجزائر لإرغام النظام على التراجع عن إرسال قوات إلى دول الإقليم. ومن جهة رابعة؛ ستظل قضية العلاقات المغربية الصهيونية قضية إشكالية بالنسبة للجزائر، لاسيما أن المسئولين الجزائريين ينظرون إلى اتفاق العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني على أنه تهديد أمني، ولا يمكن إغفال أن هذا الاتفاق يشكل ورقة ضغط على النظام الجزائري قد تدفعه إلى تقديم تنازلات لإرضاء واشنطن.

————————————–

[1] الجزيرة نت، بينهم المرشد ونائبه والبلتاجي وورثة مرسي.. حكم بمصادرة أموال العشرات من قادة الإخوان بمصر، 18 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/3p0k0CX

[2] الأناضول، إخوان مصر: مصادرة أموال القيادات “انتقام ومكايدة”، 18 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/3622tmy

[3] العرب مباشر، خبراء: مصادرة أموال الإخوان في مصر سيؤثر على تحركاتهم في الخارج، 18 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/3sI9GSn

[4] محمد مغاور، هل خالف السيسي الدستور بنقل أموال 89 من الإسلاميين للدولة؟، عربي 21، 18 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/3sQGuJ9

[5] هشام النجار، الربح والخسارة في حسابات إخوان مصر من المصالحة الخليجية، العرب اللندنية، 11 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/2LG4Wfx

[6] المتحدث الإعلامي-الإخوان المسلمون (فيس بوك)، جماعة الإخوان ترحب بالمصالحة الخليجية، 4 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/360dcOd

[7] هشام النجار، الربح والخسارة في حسابات إخوان مصر من المصالحة الخليجية، العرب اللندنية، مرجع سابق.

[8] الأناضول، “إخوان” مصر تثمن مصالحة الخليج وتضع 6 مطالب لحوار النظام، 7 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/35ZSXQF

[9] BBC عربي، الولايات المتحدة تدرج تنظيمي ولاية سيناء وحسم في مصر على القائمة الأمريكية للإرهاب، 15 يناير 2021، الرابط: http://bbc.in/3c2iAV0

[10] روسيا اليوم (يوتيوب)، القاهرة ترحب بقرار الخارجية الأمريكية إدراج “حسم” وتنظيم “ولاية سيناء” في قوائم الإرهاب، 16 يناير 2021، الرابط: https://bit.ly/2Y1IiAz

[11] دويتش فيله، رغم المخاوف الإنسانية.. واشنطن تصنف الحوثيين جماعة “إرهابية”، 11 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/3c8Rmf8

[12] سامح فايز، ما سر إدراج أمريكا “ولاية سيناء” و”حسم” على قائمة الإرهاب.. ومن المستفيد؟، 20 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/3odbvU4

[13] محمد سندباد، ماذا يستفيد السيسي من قرار أمريكا ضد “ولاية سيناء” و”حسم”؟، عربي 21، 17 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/2LRu4zK

[14] BBC عربي، الولايات المتحدة تدرج تنظيمي ولاية سيناء وحسم في مصر على القائمة الأمريكية للإرهاب، مرجع سابق.

[15] “سياسة بايدن والملف المصري: المحددات والتوجهات”، المعهد المصرى للدراسات، 19/1/2021، الرابط: https://bit.ly/39SWHVq

[16] ” تنفيذا لاتفاق العلا.. مصر وقطر تتفقان على استئناف العلاقات الدبلوماسية”، الخليج الجديد، 20/1/2021، الرابط: https://bit.ly/2LIp40z

[17] “كيف نفهم الموقف المصري من المصالحة الخليجية؟”، العربى الجديد، 10/1/2021، الرابط: https://bit.ly/2Y4zudf

[18] ” مصر تؤيد المصالحة الخليجية لكنها لا تزال متشككة”، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 14/1/2021، الرابط: https://bit.ly/3sEGiwp

[19] ” ملف المصالحة الفلسطينية بيد مصر أم تسحبه قطر”، العرب، 11/1/2021، الرابط: https://bit.ly/39QQnxE

[20] “رسميا.. الحوار الليبي يعتمد آلية تشكيل السلطة التنفيذية”، العين، 19/1/2021، الرابط: https://bit.ly/2Ni7bWx

[21] “توافقات ليبية نحو تنفيذ مسارات الحل.. وسط ترحيب دولي بآلية اختيار السلطة الجديدة”، العربى الجديد، 20/1/2021، الرابط: https://bit.ly/38Y9J4B

[22] “هل يتفق الليبيون في مصر على القواعد الدستورية للانتخابات؟”، إندبندنت عربية، 18/1/2021، الرابط: https://bit.ly/35VeNVl

[23] “توافقات ليبية نحو تنفيذ مسارات الحل.. وسط ترحيب دولي بآلية اختيار السلطة الجديدة”، مرجع سابق.

[24] “السراج يتحصن بأمراء الحرب في مواجهة باشاغا ومخرجات الحل السياسي”، العرب، 19/1/2021، الرابط: https://bit.ly/3p4xgq7

[25] “توافقات ليبية نحو تنفيذ مسارات الحل.. وسط ترحيب دولي بآلية اختيار السلطة الجديدة”، مرجع سابق.

[26] “السراج يتحصن بأمراء الحرب في مواجهة باشاغا ومخرجات الحل السياسي”، مرجع سابق.

[27] “توافقات ليبية نحو تنفيذ مسارات الحل.. وسط ترحيب دولي بآلية اختيار السلطة الجديدة”، مرجع سابق.

[28] رابحة سيف، ” حسابات متداخلة: لماذا يتعثر تشكيل الحكومة في لبنان؟”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 16/1/2021

http://acpss.ahram.org.eg/News/17039.aspx

[29] بطريرك الموارنة في لبنان يدعو إلى المصالحة بين عون والحريري، رويترز نيوز، 15/7/2020

https://www.reuters.com/article/instant-article/idARAKBN29M0B7

[30] لبنان: البطريرك الماروني بشارة الراعي يدعو السياسيين لتشكيل حكومة وإنهاء الجمود، فرنسا 24، 25/12/2020، الرابط: https://bit.ly/2NmfAZ6

[31] الإدارة الأمريكية تُصنِّف الحوثيين “منظمة إرهابية أجنبية”: التداعيات المحتملة، مركز الإمارات للسياسات، 12/1/2021، الرابط: http://bit.ly/3iC3GWN

 [32] ياسين التميمي، ” اليمن ما بعد تصنيف الحوثيين تنظيماً إرهابيا”ن عربي 21، 16/1/2021، الرابط: http://bit.ly/397k5PN

[33] ما الخطوات التي تنتظرها تركيا من فرنسا لخفض التوتر بينهما؟، عربي 21، 19/1/2021، الرابط: http://bit.ly/39V8QJw

[34] عربي 21، ماكرون يوجه رسالة ودية لأردوغان يستهلها باللغة التركية، 16 يناير 2021، الرابط: http://bit.ly/3sSkBJ4

[35] تركيا: اتفقنا مع فرنسا على خارطة طريق لتطبيع العلاقات، عربي 21، 8/1/2021، الرابط: http://bit.ly/3a3424W

[36] المرجع السابق

[37]  “تقارب عسكري بين مصر والسودان وتباعد في مفاوضات سد النهضة..ما سر هذا التناقض؟”، عربي بوست، 19/1/2021.متاح على الرابط: https://2u.pw/Emmo4

[38]  وليد التليلي، “خلفيات توسع الاحتجاجات في تونس”، العربي الجديد، 17/1/2021. متاح على الرابط: https://2u.pw/13POO

[39]  عائد عميرة، ” احتجاجات عنيفة بلا مطالب في تونس.. وسعيّد يستغلها”، نون بوست، 19/1/2021. متاح على الرابط: https://2u.pw/vawN9

[40]  محمد بسيوني عبد الحليم، ” تعزيز الدور: الجزائر وأزمات الإقليم بعد التعديلات الدستورية”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 17/1/2021. متاح على الرابط: https://2u.pw/0swLM

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022