بعد ضم “فلسطين” إلى ولايتها.. هل تحاكم “الجنائية الدولية” قادة الاحتلال؟

 

قرار الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية يوم الجمعة 5 فبراير 2021م، وضع “فلسطين” تحت الاختصاص الإقليمي للمحكمة باعتبارها (فلسطين) دولة طرف في نظام روما الأساسي للمحكمة يمتد إلى الأراضي التي تحتلها “إسرائيل” منذ سنة 1967م، بما في ذلك غزة والضفة الغربية والقدس  الشرقية يفتح الباب أمام البدء في تحقيقات بارتكاب جرائم حرب من جانب جيش الاحتلال وقادة الحكومة الإسرائيلية.  قرار المحكمة الذي صدر بأغلبية أصوات الدائرة يؤكد أيضا أن الحجج المتعلقة باتفاقيات أوسلو وبنودها التي تحد من نطاق الولاية القضائية الفلسطينية، ليست ذات صلة بحل قضية الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين.

ويأمل كثير من الفلسطينيين والمحبين للعدالة أن تكون هذه الخطوة إيذان بنهاية تاريخ طويل لجيش الاحتلال وحكومته من الإفلات من العقاب على الجرائم الوحشية التي ارتكبتها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني دون مساءلة أو محاكمة، وأن يكون وضع “فلسطين” تحت ولاية الجنائية الدولية محطة مهمة في تاريخ الصراع وأن تضع حدا لعربدة “إسرائيل”، وأن يدرك قادتها أنهم باتوا اليوم ملاحقين من العدالة الدولية على جرائمهم ضد الإنسانية والتي لا تسقط بالتقادم.

التحقيق مع قادة جيش الاحتلال من جانب المحكمة بارتكاب جرائم حرب كان على وشك الصدور قبل عام ــ بحسب كبيرة مدعي المحكمة، فاتو بنسودا ــ التي أكدت أنه في 2019 “كان هناك أساس معقول” لفتح تحقيق جرائم حرب في سلوك الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، إضافة إلى النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. إلا أنها طالبت المحكمة بتحديد ما إذا كان لها اختصاص هناك قبل أن تطلق التحقيق. واعتبر قضاة المحكمة الجنائية في قرارهم الذي صدر في ستين صفحة، “أن التحقيق بدأ من الناحية القانونية، حتى إن لم تعلن المدعية العامة ذلك بشكل رسمي”.

 

كواليس القرار

ومن الجدير بالذكر أن دولة فلسطين أودعت في 14 ديسمبر/كانون الأول 2014، إعلاناً منحت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية اختصاصاً قضائياً رجعياً حتى 14 يونيو/حزيران 2014 لتمنح المدعية العامة صلاحية النظر في العدوان الإسرائيلي على غزة في العام نفسه، وبتاريخ 2 يناير/كانون الثاني 2015، أودعت دولة فلسطين صك الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية كدولة طرف، ودخل ذلك حيز التنفيذ في 1 إبريل/نيسان 2015. وبشكل عام، عقدت فلسطين ما يقارب 100 اجتماعٍ، وقامت بتسليم أكثر من 54 رسالةً وملفاً منها الملفات الأساسية، وهي: الاستيطان، الأسرى، العدوان على غزة عام 2014 وإرهاب المستوطنين.

ونظر ثلاثة قضاة في الدائرة التمهيدية في الولاية القانونية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية، اثنان كان قرارهما مع الولاية القانونية، وهما: قاضٍ فرنسي، وآخر من دولة بنين غرب أفريقيا، فيما صوّت القاضي الثالث وهو من هنغاريا (المجر) ضد القرار، في انعكاس لسياسة بلده المنحازة للاحتلال الإسرائيلي سواء في الاتحاد الأوروبي، أو في مختلف المحافل الدولية.

يذكر أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قاد بنفسه حملة تحريض ضد المحكمة الجنائية، وتواصل مع قادة دول أوروبية وأقنعهم بتقديم مذكرات ضد فتح التحقيق في الدائرة التمهيدية، بعد أن قدمت لها المدعية العامة الطلب، حيث قدمت العديد من الدول مذكرات للمحكمة بعدم فتح التحقيق، منها على سبيل المثال: ألمانيا، أستراليا، المجر، التشيك، النمسا وغيرها.

 

ردود أفعال متباينة

وكالعادة جاء رد فعل السلطة الفلسطينية مبالغا في الإشادة بالقرار؛ حيث أكد رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، أن القرار «انتصار للعدالة وللإنسانية، وقيم الحق والعدل والحرية، وإنصاف لدماء الضحايا ولذويهم الذين يكابدون ألم فراقهم، وكان آخرهم الشهيد خالد نوفل من قرية راس كركر غرب رام الله، الذي قتل بدم بارد برصاص المستوطنين». ومضى اشتية إلى القول إن القرار «رسالة لمرتكبي الجرائم أن جرائمهم لن تسقط بالتقادم، وأنهم لن يفلتوا من العقاب”، مبينًا أن الحكومة الفلسطينية تواصل توثيق الجرائم الإسرائيلية، وخاصة جرائم القتل وهدم البيوت والاستيلاء على الأراضي، والتوسع الاستيطاني لابتلاع الأراضي”، وتعهد برفعها إلى المحكمة الجنائية “في أقرب وقت». وطالب المحكمة كذلك بتسريع إجراءاتها القضائية في الملفات المرفوعة أمامها، والتي تتضمن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل خلال ثلاثة حروب شنتها على قطاع غزة، إضافة إلى ملفي الأسرى والاستيطان».

والمبالغة هنا لأن القرار هو مجرد خطوة على طريق طويل، لكن أن يفضي القرار إلى انتصار العدالة والإنسانية وقيم الحق والعدل والحرية فهذا شأن آخر، ولا تزال هذه القيم بعيدة المنال، والوصول إليها في قضية “فلسطين” تحديدا لا يزال يحتاج إلى جهاد طويل، ولعل الشهور والسنوات المقبلة كفيلة باختبار مدى عدالة هذا القرار من جانب الجنائية الدولية.

في المقابل، وفي أول رد إسرائيلي، علق نتنياهو على القرار قائلاً: “قرار المحكمة الجنائية الدولية يضعف قدرة الدول الديمقراطية على الدفاع عن نفسها في مواجهة الإرهاب”. ومعلوم أن (إسرائيل) ليست عضواً بالمحكمة، وسبق لها أن أكدت أنه ليس للمحكمة اختصاص قضائي هناك. وكان المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية “الكابينت” قال يوم الأحد: “تم تشكيل المحكمة الجنائية الدولية من أجل منع وقوع فظائع مثل تلك التي ارتكبها النازيون بحق الشعب اليهودي، وخلافًا لذلك، تلاحق المحكمة دولة الشعب اليهودي”. وهو تعليق يكشف عن عمق الأزمة في تكوين النفسية الإسرائيلية ذلك أن تعرض الإنسان للظلم والاضطهاد ليس مبررا له لارتكاب ذات الفظائع ضد آخرين ولا تحول مطلقا دون محاكمته، كما يكشف هذا التعليق عن مواصلة “إسرائيل” ابتزاز المجتمع الدولي بالمحرقة التي تعرض له يهود على يد النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية (1939ـ 1945م).

ومارست إدارة ترامب السابقة على المدعية العامة وفريق المحكمة عقوبات تحاكي التي تنفذ على الإرهابيين من حيث التضييقات، ومنع المساعدات والتحويلات المالية وحتى المنع من السفر، ما اضطر المدعية العامة للجوء للقضاء الأميركي ورفع شكاوى ضد هذه العقوبات.

وأعربت الولايات المتحدة، الجمعة، عن “قلقها العميق” حيال قرار المحكمة الجنائية الدولية، وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، إن الإدارة “تنظر في قرار المحكمة الجنائية الدولية”، معرباً عن شعور الإدارة “بقلق جدّي” لجهة ما يتعلق الأمر بالمواطنين الإسرائيليين، مضيفاً بأنها في الوقت ذاته “تدين الأعمال الإرهابية”.

وقال برايس للصحافيين في هذا السياق “نحن قلقون بشدة لمحاولات المحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها على العسكريين الإسرائيليين. لقد تبنينا دائما موقفا مفاده أن اختصاص المحكمة يجب أن يشمل حصرا البلدان التي تقبله أو (القضايا) التي يحيلها مجلس الأمن الدولي” إلى المحكمة. وفي رده على سؤال فيما إذا كانت إدارة جو بايدن سترد بفرض “عقوبات” كان الرئيس السابق ترامب قد هدد بها لو جاءت المحكمة بقرار من هذا النوع، قال “إننا ننظر عن كثب” في موضوع صلاحية المحكمة. وكأنه يستبعد هذا الخيار، خاصة وأن بايدن يقوم بانقلاب كامل على سياسات وتوجهات سلفه، إلا إذا تعرض البيت الأبيض لضغوط من مجلس الشيوخ الذي صوت مساء أمس بشبه إجماع على ترك السفارة الأميركية في القدس بالرغم من أن نقلها غير وارد أصلاً في حسابات الإدارة الجديدة.

 

“3” ملفات أمام المحكمة

وبحسب راحيل دوليف، التي تعمل جنرالا في جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن قرار الجنائية الدولية يعني بثلاثة تحقيقات محتملة: أولها ممارسات الجيش الإسرائيلي في حرب غزة الأخيرة 2014، وثانيها سلوك إسرائيل في مواجهة التظاهرات على حدود غزة، وثالثها الموافقة على مشاريع البناء الاستيطاني في الضفة الغربية”. ووأوضحت دوليف، العضو البارز السابق في النيابة العسكرية، أنه “خلال العامين الأولين، سيظل سلوك الجيش الإسرائيلي وفقًا للقانون الدولي ملتزمًا به، ولكن في سياق المستوطنات قد تكون إسرائيل في مأزق، وإذا حرص الجيش على أن تكون إجراءاته خلال حرب غزة ومسيراتها الحدودية متوافقة مع النظام القانوني الإسرائيلي، وتوفر مبدأ التكامل، فإنه في حالة المستوطنات ليس هذا هو الحال”. وتؤكد في مقابلة مع مجلة يسرائيل ديفين، أنه “بالنسبة للمستوطنات فإن مبدأ التكامل لا ينطبق، لأن إسرائيل تدعي أن الوضع في الضفة الغربية تم الاتفاق عليه في إطار اتفاقيات أوسلو مع السلطة الفلسطينية، وبموجب هذه الاتفاقيات سيتم تحديد الحدود المستقبلية من خلال المفاوضات بينهما، لكن إقدام إسرائيل على تنفيذ خطة الضم الزاحف من خلال نقل المستوطنين إلى الضفة الغربية، استنادا لقوانين الاستيطان، والبناء في مستوطنة جفعات هاماتوس سيضر بها”.[[1]]

وتشير دوليف، إلى نقطة أخرى بالغة الأهمية، حيث “تأسست المحكمة الجنائية الدولية بعد مذابح الهولوكوست للتعامل مع جرائم الحرب التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، وفي هذه الحالة سيكون من الصعب على إسرائيل انتقاد المحكمة، أما إن أردنا في المستقبل أن يحقق أحدهم في جرائم الحرب، فلن تكون معنا الكثير من الأدوات المقنعة، ولذلك يجب أن يكون النقد ضد تسييس المحكمة، وليس ضد جوهرها القانوني”.

 

مخاوف إسرائيل

أولا، من أهم مخاوف “إسرائيل” هو تأثير القرار على حروبها المقبلة وعدوانها المستمر على لبنان وقطاع غزة تحديدا، وقد عبر الجنرال الإسرائيلي رونين إيتسيك الذي كان قائدا سابقا للواء مدرعات في جيش الاحتلال وهو الآن باحث في العلاقات العسكرية الاجتماعية، حيث يرى أن قرار الجنائية الدولية يعزز إمكانية إجراء تحقيق ضد إسرائيل، ويشكل مصدر قلق، لكن الضرر الأكبر سيحدث إذا أثر هذا الضغط القانوني على سلوك الجنود والضباط الإسرائيليين في المعركة”. وانتهى إلى أن “قرار محكمة لاهاي يعني أن يحصل لدى الجنود الإسرائيليين حالة من التردد والخوف؛ بسبب المعايير القانونية والاعتبارات القضائية، ويتم اتهامنا بالافتقار لأي مبرر أخلاقي في خوض الحرب القادمة، وفي هذه الحالة لن تكون هناك فرصة أمام الجيش الإسرائيلي لأن يحقق نصرا أبدا، وهذا يعني أننا سنخسر الحرب، وإسرائيل لا يمكنها تحمل ذلك”.[[2]]

ثانيا، تخشى حكومة الاحتلال من وضع قائمة استدعاء لبعض قادة جيشها ورؤساء حكوماتها الحاليين والسابقين بتهم ضد الإنسانية لشنهم حربا عدوانية على غزة سنة 2014م. وبحسب غال بيرغر، خبير الشؤون الفلسطينية في مقال نشرته هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني-كان، أن “هذا القرار يأتي بعد مسلسل طويل من خيبات أمل الفلسطينيين من الساحة الدولية، فعشرات ومئات قرارات الأمم المتحدة على مدى السنوات بشأن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل ظلت مغبرة في أقبية أرشيف المنظمة الدولية في نيويورك، لكن الآن، وبعد غياب إدارة ترامب، هناك شرارة أمل جديدة للفلسطينيين من خلال هيئة دولية لها أظافر وأسنان، قد تردع إسرائيل”. وأوضح أن “القراءة الإسرائيلية لقرار المحكمة الجنائية الدولية تعني احتمال حدوث زلزال سياسي فيها، لأنه من المفترض أن تحقق المحكمة في جرائم الحرب التي ارتكبتها في حرب غزة الأخيرة 2014 الجرف الصامد، ومشاريع البناء في المستوطنات التي تُعرّف بأنها “جريمة حرب” في دستور المحكمة، ولديها سلطة إصدار أوامر اعتقال في الخارج ضد المسؤولين الإسرائيليين، من المستويات السياسية والعسكرية العليا”.[[3]] وأوضح أن “التهديد المحتمل الذي سيحلق فوق رؤوس كبار المسؤولين الإسرائيليين الذين سيزورون إحدى دول معاهدة روما البالغ عددها 122 دولة، هو بالضبط الرادع الذي أراد الفلسطينيون تحقيقه، حتى لو لم يكن في المدى القريب، أو على الأقل غرس شعور بالخوف في نفوسهم، بعدم التجول بسهولة خارج إسرائيل”. وكانت صحيفة “هآرتس” العبرية قد كشفت عن قائمة سرية تضم ما بين 200 إلى 300 مسئول بحكومة وجيش الاحتلال قالت إنهم معرضون للاستدعاء من جانب المحكمة الجنائية الدولية. وقالت إن حكومة الاحتلال طلبت منهم عدم السفر للخارج خشية أن يتم توقيفهم في أعقاب قرار المحكمة.[[4]]

ثالثا، قد يحد قرار الجنائية الدولية من الاندفاع الإسرائيلي نحو مخططات ضم أراضي جديدة بالضفة الغربية وغور الأردن، وقد يوقف مخططات الاحتلال بهذا الشأن إلى حين توفيق حكومة الاحتلال أوضاعها وتفريغ القرار من مضمونه من خلال ضغوطها ونفوذها السياسي الواسع. وبحسب موقع موقع Axios الإخباري الأمريكي، الإثنين 8 فبراير 2021، فإن إسرائيل تشعر بقلق بالغ من أنَّ أي تحقيق قد يؤدي إلى إصدار أوامر اعتقال دولية ضد مسؤولين وضباط عسكريين إسرائيليين، كما سيعزز هذا التحقيق حملات “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” ضد إسرائيل. ولهذه الأسباب شنت حكومة الاحتلال خطة دبلوماسية سرية وعلنية من أجل تحريض حلفائها على انتقاد القرار وحث المحكمة على تجنب الصدام مع “إسرائيل”.[[5]]

 

بين القانون الدولي والنفوذ السياسي

ومع أن مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية قد وثقت جرائم عديدة، وجمعت أدلة كثيرة على ذلك، فإن التحقيق في الجرائم الدولية مسألة معقدة، وتتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين. ومن المتوقع أيضًا أن تعمل إسرائيل جدّيًا على عرقلة هذه التحقيقات سياسيًا ولوجستيًا. وفعلًا، بدأت إسرائيل، منذ فترة طويلة، في العمل السياسي والدبلوماسي مع دول حليفة لثني المحكمة عن النظر في الجرائم. ويؤكد الفلسطينيون على أن هذه المعركة قانونية، وليست سياسية، ويجب أن تبقى كذلك، لأن المربع القانوني هو المربع الوحيد الذي يستطيع الفلسطينيون فيه أن يبرزوا مظلوميتهم التاريخية، ويؤكدوا بالأدلة والبراهين ما أوقعته عليهم إسرائيل كقوة احتلال من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، حسب كل معايير القوانين الدولية والإنسانية، بينما لن يكون بمقدورهم مواجهة إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة في أي مربع سياسي.

وتذهب تقديرات أخرى إلى أن آفاق التوقعات المتفائلة من قرار الجنائية الدولية محدودة؛ فمع وجود إمكانيات لتحقيق بعض الإنجازات، فإن الاستراتيجية القانونية يجب أن تكون مبنيةً على فهم القانون الدولي باعتباره نتاج علاقات قوة وتعبيرًا عنها؛ فهو نوع من السياسة، لكن بقواعد مُعينة ومنطق مختلف، ويعتمد بدرجة كبيرة على مواقف الدول وأفعالها (أي السياسية)، إذ يفتقر إلى آلية تنفيذ مركزية، الأمر الذي يُبقي تنفيذه في يد الدول التي تتعامل مع الموضوع، بحسب مصالحها. وهو ما قد يحد من الآمال الفلسطينية المعلقة على القرار؛ ذلك أن الضغط عبر القانون الدولي وإن كان له أهمية في بعض الملفات، إلا أنه ليس أداة تحرر وطني، بل قد يكون له دور في إطار مشروع نضالي سياسي. أما خارج أي مشروع سياسي نضالي، فقد يكون مصيره مثل مصير قرارات الجمعية العامة، وحتى مجلس الأمن بشأن فلسطين، والتي لا تنفذ، هذا مع أهمية وضع أسماء مسؤولين إسرائيليين بوصفهم مشبوهين أو حتى مطلوبين، وهو ما تخشاه حكومة الاحتلال.

من جانب آخر، فإن الخطوة المقبلة بعد صدور القرار هي الشروع في تحقيق رسمي في الجرائم. ولا يعني هذا بالضرورة أن محاكمة الضباط والسياسيين الإسرائيليين أصبحت قريبة؛ فالتحقيق في الجرائم لن يركّز فقط على الطرف الإسرائيلي، بل سوف يشمل أمورًا أخرى قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية مثل إطلاق الصواريخ على تجمعات السكان الإسرائيلية. وسوف تستغرق التحقيقات فترة طويلة قد تصل إلى سنوات، فطوال فترة وجود المحكمة منذ عام 2002، تولّت 30 دعوى فقط، كانت نتيجتها 9 إدانات و4 أحكام بالبراءة.  وثمة مخاوف من أن تبدأ المحكمة في ملاحقة قادة المقاومة لاعتبارات تتعلق بالنفوذ السياسي الواسع لإسرائيل وحلفائها؛ ويعزز من هذه المخاوف أمران:

  • الأول، أنه سوف يكون من الأسهل قانونيًا محاكمة أعضاء الفصائل العسكرية للقوى السياسية الفلسطينية مقارنة بالجنود الإسرائيليين. وهذا ما أشارت إليه المذكرة التي قدّمتها المدّعية العامة إلى المحكمة؛ فقد قالت إن فحص مقبولية الدعوى فيما يتعلق بالجنود الإسرائيليين هي موضوع تحت البحث، لكن فيما يتعلق بالفصائل الفلسطينية لن تكون المقبولية عائقًا.
  • الثاني، أن الانتخابات الأخيرة التي جرت في هيئة المحكمة أسفرت عن فوز المحامي البريطاني كريم خان ليتولى منصب المدعي العام خلفا للمدعية الحالية بنسودا التي تنتهي فترة ولايتها في يونيو 2021م، وخان الذي كان قد ترأس في السابق طاقم الدفاع عن سيف الإسلام القذافي في الدعاوى ضده في المحكمة الجنائية الدولية، كان المرشّح المفضل لإسرائيل لخلافة بنسودا. وسوف يكون للمدعي العام الجديد تأثير كبير في أولويات الادعاء، وكذلك في مجريات التحقيق واختيار الملفات.

ولهذه الأسباب يرى الصحفي البريطاني جوناثان كوك، أن قرار الجنائبة الدولية يعطي بصيص أمل للفلسطينيين ويؤكد أن معركتهم في حق إقامة دولتهم، لا تسير مع إسرائيل كما تتمنى. لكن لا بد من تفعيله. وأوضح كوك في مقال له بموقع “ميدل إيست آي” أن القرار يشير إلى أن المناخ السياسي لمرحلة ما بعد ترامب، “قد تكون رياحه أشد وطأة على إسرائيل مما هو متوقع”. وانتهى إلى أنه “قد يستقر أمر المحكمة على ترك سيف التحقيق المحتمل معلقا فوق رقبة إسرائيل أملا في أن يكفي ذلك للحد من تجاوزات إسرائيل الأسوأ، مثل خطط ضم مساحات واسعة من الضفة الغربية، لكن الاكتفاء بأي من هذه النتائج لن يزيد عن كونه مزيدا من التهرب من قبل المحكمة، ومزيدا من اللعب السياسي”.[[6]]

خلاصة الأمر، قرار الجنائية الدولية يمثل خطوة إيجابية للقضية الفلسطينية لكنها لا تعني أن الأوضاع سوف تتغير جذريًا؛ فلا يزال طريق النضال طويلا وحكومة الاحتلال رغم شعورها بالقلق الذي قد يصل إلى حد الخوف أحيانا إلا أنها سوف توظف نفوذها الواسع من أجل تفريغ القرار من مضمونة كما فعلت من قبل مع قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة. وقد تعمل على تحويل بوصلة القرار ليكون  سيفا مسلطا على رقاب قادة فصائل المقاومة دون النظر إلى كونهم يواجهون احتلالا استيطانيا غاشما. وعلى الجانب الفلسطيني أن يعمل على بلورة مشروع نضالي شامل يجمع بين الدبلوماسية والمقاومة بكل أشكالها وأن يخرج من دائرة الابتزاز الإسرائيلي التي تصر على وضع المقاومة في دائرة الإرهاب بدعم وتواطؤ عربي ودولي.

 

 

 

————————

[1] عدنان أبو عامر/جنرال : 3 قضايا مقلقة في “الجنائية”.. منها المستوطنات/ “عربي 21” الثلاثاء، 09 فبراير  2021

[2] عدنان أبو عامر/جنرال إسرائيلي يقرأ تأثير قرار “لاهاي” على الحرب المقبلة/ “عربي 21” الخميس، 18 فبراير 2021

[3] عدنان أبو عامر/خبير إسرائيلي: قرار المحكمة الجنائية الدولية سيتعبنا كثيرا/ “عربي 21” الأحد، 07 فبراير 2021

[4] صالح النعامي/ قائمة سرية بمسؤولين إسرائيليين ممنوعين من السفر خوفاً من الاعتقال بأمر من الجنائية الدولية/ العربي الجديد 06 فبراير 2021

[5] إسرائيل قلقة من تحقيق محتمل في جرائمها بالضفة وغزة.. أطلقت حملة لتجنيد حلفائها ضد المحكمة الجنائية/ عربي بوست 8 فبراير 2021

[6] MEE“: الاكتفاء بقرار الجنائية ضد الاحتلال دون تفعيل لعب سياسي/ “عربي 21” الجمعة، 12 فبراير 2021

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022