التدخل العسكري الفرنسي في الساحل وقمة نجامينا

 

 

إن منطقة الساحل إقليم شاسع ويبلغ عدد سكانه ما يقرب من 100 مليون نسمة ويشمل على وجه الخصوص 5 بلدان ألا وهي بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد، وتنضوي جميعها تحت لواء المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل. وتواجه دول هذا الإقليم العديد من الصعوبات والتحديات المتمثلة في تنامي التهديد الإرهابي والجريمة المنظمة، وتغير المناخ، والتوسع السكاني، مما يتسبب في إضعاف المنطقة. الأمر الذي فتح الطريق لفرنسا –القوة التقليدية في المنطقة- بمساعدة شركائها الأوروبيين والدوليين؛ لإعلان نفسها حامية تلك الدول من خطر الإرهاب الذي يتهددها؛ للحول دون أن تصبح هذه المنطقة بؤرة لعدم الاستقرار يُهدد الداخل الأوروبي. فما هي طبيعة التدخل الفرنسي في تلك الدول؟ وما هي سمات التوتر الحالي؟ وما هي أهداف قمة نجامينا؟ وما هو تقييم الوضع الحالي للتدخل ومستقبله؟ كل تلك التساؤلات ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها خلال السطور القليلة القادمة..

 

التدخل الفرنسي في منطقة الساحل: بدأ التدخل العسكري الفرنسي في دول الساحل بشمال مالي 2012، خلال تمرد قام به انفصاليون من الطوارق، لكن طغت عليهم جماعات إسلامية مسلحة في وقت لاحق. وتدخلت فرنسا لدحر المسلحين، لكنهم تفرقوا ونقلوا معاركهم إلى وسط مالي ثم إلى بوركينا فاسو والنيجر، وأدى القتال إلى مقتل آلاف الجنود والمدنيين في منطقة الساحل، بينما فرَّ أكثر من مليوني شخص من منازلهم. وفي 2017، أطلقت مجموعة الدول الخمس قوة قوامها خمسة آلاف عنصر، لكنها لا تزال متعثرة بسبب نقص الأموال وسوء المعدات والتدريب غير الكافي. وقبل عام تعهدت تشاد، التي تمتلك أفضل جيش بين الدول الخمس، بإرسال كتيبة إلى نقطة الحدود الثلاثية حيث تلتقي مالي والنيجر وبوركينا، لكن الانتشار العسكري لم يحصل بعد. وبعد مؤتمر قمة بو الذي عُقد في 13 يناير 2020؛ دشن رؤساء دول فرنسا وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد ائتلاف منطقة الساحل، وذك بحضور الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس المجلس الأوروبي والممثل السامي للاتحاد الأوروبي ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي والأمينة العامة للفرنكوفونية. وهدف الائتلاف إلى التصدي على نحوٍ مشترك للتحديات التي تواجه منطقة الساحل، وتوحيد الإجراءات التي تتخذها دول المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل وشركاؤها الدوليون.[1]

 

سمات التوتر الحالي في منطقة الساحل: منذ انطلاق عملية برخان، أعادت الجماعات الإرهابية تجميع وتنظيم نفسها، بالإضافة إلى توسيع منطقة عملها إلى غاية وسط مالي، مستمرين في شكل تصاعدي في التقدم وكسب الأرض وهو ما يبدو أكثر من واضح من خلال سلسلة الهجمات المتكررة في الجنوب المالي. وتزداد المخاوف هذه الفترة من مخاطر تصاعد الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة، والتي أصبحت تتسم بعدة سمات: أولها؛ استهداف المدنيين؛ فغالبًا ما يُجبر المدنيون على الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك، خوفًا من الانتقام أو من أن يصبحوا عالقين بين نارين أو ضحايا خلط في المجتمع، ويستسلم بعضهم للسادة الجدد في المناطق الريفية الشاسعة في الساحل حيث تُعد من الأفقر في العالم ولا يمكنها فرض أدنى سيطرة أمنية، ويفر آخرون حاملين حقائب صغيرة ويتجمعون في ضواحي المدن، إذ تجاوز عدد النازحين، في بداية يناير، عتبة المليونين للمرة الأولى في منطقة الساحل. وثانيها؛ اتساع نطاق نشاط الإرهابيين؛ حيث انتشرت الجماعات الإرهابية التي تمركزت أولاً في شمال مالي في 2012 ثم في المناطق الحدودية مع بوركينا فاسو والنيجر، ثم وسَّعت مجال عملها منذ القمة الفرنسية الساحلية في فرنسا يناير 2020، وسط مخاوف للتوسع باتجاه دول خليج غينيا. وثالثها؛ عسكرة المجتمعات؛ ففي بوركينا فاسو أُنشئت وحدات ل ما سُمي بـ “متطوعين للدفاع عن الوطن”، وهي قوات رديفة للجيش في نوفمبر 2019، وفي وسط مالي، تسيطر ميليشيا “دان نان أمباساغو” رغم حظرها رسميًا على الأراضي التي تغيب عنها الدولة، وهاتان القوتان المسلحتان المتهمتان بارتكاب انتهاكات عديدة تملآن فراغ الدولة، الأمر الذي يهدد بوصول تلك الدول لمرحلة الدولة الفاشلة.[2]

 

قمة نجامينا: انعقدت يوم الاثنين 15 فبراير في العاصمة التشادية نجامينا، قمة بين فرنسا والمجموعة الخماسية لدول الساحل، لمناقشة الوضع الأمني في المنطقة التي تمزقها النزاعات والصراعات. وتأتي القمة التي استمرت ليومين، بعد عام على تعزيز فرنسا انتشارها قواتها في منطقة الساحل (برخان) من 4500 جندي إلى 5100 على أمل استعادة الزخم في المعركة التي طال أمدها، لكن رغم ما يُوصف بأنها نجاحات عسكرية، لا تزال الجماعات المسلحة في المنطقة تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي وتشن هجمات قوية بين الفينة الأخرى. وقد تمثَّلت تلك النجاحات –وفقًا لوجهة النظر الفرنسية- في مقتل زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عبد المالك دروكدال، وكذلك القائد العسكري لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة للقاعدة. لكن الهجمات الأخيرة رفعت عدد القتلى الفرنسيين في المعارك  التي تدور في مالي إلى 50 جندي، الأمر الذي أثار نقاشًا في الداخل الفرنسي حول كلفة مهمة برخان والفائدة منها. مما دعا الرئيس إيمانويل ماكرون الشهر الماضي إلى فتح الباب أمام إمكانية الانسحاب، ما يشير إلى أن فرنسا قد تخفض عدد قواتها في منطقة الساحل وذلك بعد تدخل دام ثمان سنوات.[3]

 

إمكانية سحب القوات: على الرغم من الشائعات حول الأمر، إلا أنه من غير المتوقع أن تُعلن فرنسا عن أي انسحاب لقواتها خلال اجتماع نجامينا. بدلاً من ذلك، ولتخفيف العبء، تأمل فرنسا في الحصول على مزيد من الدعم العسكري من شركائها الأوروبيين من خلال مهمة تاكوبا التي تساعد مالي في قتالها ضد الجهاديين، ربما بمحاولة استهداف كبار قادة جماعة نصرة الاسلام والمسلمين. الأمر الذي تختلف فيه فرنسا مع قادة مالي الذين يبدون رغبة متزايدة بفكرة إجراء حوار مع الجماعات المساحة  لوقف إراقة الدماء. ففي مالي بؤرة أزمة الساحل، أطاح ضباط الجيش بالرئيس إبراهيم بو بكر كيتا، في أغسطس الماضي بعد أسابيع من الاحتجاجات على الفساد وفشله في إنهاء الصراع الجهادي. وتعهدت الحكومة المؤقتة بإصلاح الدستور وإجراء انتخابات عامة، لكن منتقدين يقولون إن وتيرة التغيير بطيئة. وبالكاد حقق اتفاق إقليمي أُبرم عام 2015 بين حكومة مالي وجماعات المتمردين في الشمال تقدمًا، لكنه أحد الخيارات القليلة في البلاد لتجنب العنف، وبعد سنوات من الصراع الطاحن، بدأ التفاؤل يتراجع. وفي هذا السياق؛ يُعتقد أن قمة نجامينا لن تكون ذات أهمية، مثل القمة السابقة والمستقبلية.[4]

 

تقييم التدخل العسكري الفرنسي في الساحل ومستقبله: إن إعطاء الأولوية للعمل العسكري في المنطقة، في إطار هجين يجمع بين عملية برخان ودول مجموعة الساحل الخمس G5 من جهة وعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (MINUSMA) من جهة أخرى، على حساب خيارات وسياسات تنموية أخرى، وذلك ضد أهداف غير واضحة وغير مقنعة، أسهم وبقدر كبير في حجب وعدم وجود أي رد سياسي. وهذا الأمر يُعتبر أحد أكبر المطبات التي وقعت فيها المبادرات المحلية والخارجية لفك المعضلة الأمنية في منطقة الساحل. فبالموازاة مع انطلاق عملية برخان؛ كان من المفترض تصميم مساعدات التنمية كأداة تكميلية تهدف من ورائها إلى تفادي أية مقاومة محلية للوجود العسكري الأجنبي. غير أنه، في حقيقة الأمر، حملت عملية برخان في ذاتها بذور فشلها، والتي يمكن حصرها في عدة نقاط: أولها؛ أنها لا تستند إلى رؤية سياسية؛ فهدفها الوحيد هو محاربة الإرهاب. وثانيها؛ فضَّلت القوات الفرنسية الانخراط في جغرافيا الساحل متحدية بذلك كل القوات المحلية في المنطقة، ومحتكرة في نفس الوقت أدوات العنف وطرق ممارستها على الأرض. وثالثها؛ لا تزال فرنسا تعاني من المعوق التاريخي مع الكثير من الدول الإفريقية؛ فتاريخها مع جغرافيا المنطقة تاريخ استعماري بحت. ولهذا، لا يمكن للقوات المسلحة الفرنسية أن تتدخل في أية نقطة من نقاط المنطقة من دون أن تثير النغمات المناهضة للاستعمار. وقد بات من الواضح اليوم أن مساعدة تلك الدول على استعادة سلامتها الإقليمية وسيادتها لم يتم تحقيقها؛ حيث اعتبر سكان المنطقة أن وجود القوات الدولية على أراضيهم أسهم وبشكل أساسي في تزايد حدة التوترات.[5] وهكذا ففي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة الفرنسية ظاهريًا إلى فك الارتباط مع منطقة الساحل، إلا أنه لا يبدو لدى فرنسا نية لمغادرة الساحل قريبًا، حيث لا يزال الوضع الأمني ​​مقلقًا في منطقة يقوضها العنف الجهادي والصراعات بين المجتمعات المحلية بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي. إلا أنه إذا لم تتم مرافقة عملية برخان بالعمل السياسي، أي بمشاركة حكومات البلدان التي أبدت رغبتها في تقديم المساعدة لفك المعضلة الأمنية في الساحل، فإن العمل العسكري الفرنسي سيكون دون فائدة. بالتالي، فإن الاستراتيجية الرسمية، التي تعكف عليها القيادة العسكرية الفرنسية، هي تأمين وصول الدول الشريكة لاكتساب القدرة على ضمان أمنها بشكل مستقل.[6]

 

الخُلاصة؛ إن موقف فرنسا من أزمة الساحل الإفريقي يعرف تطورات جذرية تفرضها الحقائق القائمة على أرض الواقع ومسرح العمليات في المنطقة؛ حيث أعلنت الرئاسة الفرنسية مؤخرًا أنها لم تعد تعارض المفاوضات بين شركائها في الساحل وبعض الجماعات الجهادية. ولكن دون وجود قوة عسكرية محلية فعالة بدرجة كافية في منطقة الساحل، فإن فرنسا محكوم عليها بالاضطلاع بمعظم العمليات في هذه الجغرافيا الرخوة من جهة، ولكون معادلة الإرهاب لا تعرف الانسحاب من جهة أخرى. وعلى الرغم من الانتصارات العسكرية الرمزية التي حققتها عملية برخان، فمثلاً ثلثي أراضي مالي لا تزال خارج سيطرة السلطة المركزية، التي، وبعد الإطاحة بالرئيس السابق، إبراهيم بوبكر كيتا، على يد الجيش، فقدت السيطرة بالكامل على الشمال. وهو الأمر الذي جعل البلاد تغوص في وحل من الإشكالات غرقت معه الاستراتيجية العسكرية الفرنسية، لاسيما بعد إعلانها في مناسبات عديدة معارضتها الشديدة لأية مبادرة للتفاوض أو الحوار مع الجماعات الإرهابية.

 

 

—————————————————————————

[1]  “أنشطة فرنسا في منطقة الساحل”، الدبلوماسية الفرنسية، 21/3/2019. متاح على الرابط: https://cutt.us/zZM2U

[2]  “هل فشلت القوات الفرنسية وجيوش الساحل أمام الإرهابيين؟”، القناة الإخبارية الإفريقية، 14/2/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/wnwRN

[3]  ““نجامينا” .. تشهد قمة لتقييم مصير “برخان””، القناة الإخبارية الإفريقية، 14/2/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/cU7sj

[4]  “ماكرون يجتمع مع قادة منطقة الساحل الإفريقي ويأمل في دعم عسكري لتخفيف الالتزام الفرنسي”، France 24، 15/2/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/69Bzj

[5] نسيم بهلول، “برخان والاستراتيجية العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل: بين الخيبة العملياتية والمراجعات السياسية”، مركز الجزيرة للدراسات، 15/2/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/kxgQa

[6]  نسيم بهلول، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022