الهجوم التخريبي ضد منشأة “نطنز” الإيرانية..الأهداف والرسائل وسيناريوهات المستقبل

 

 

جاء الهجوم التخريبي الذي تعرض له موقع مفاعل نطنز النووي بإيران، الأحد 13 ابريل، في توقيت بالغ الصعوبة، حاملا الكثير من الرسائل والدلالات.. ضمن سلسلة حوادث وحرائق مجهولة بعدد من المنشآت والمواقع النووية والصناعية واغتيال مسئول المشروع النووي الايراني في نطنز محسن فخري زادة  في نوفمبر 2020.

وأعلنت إيران أن انفجارا وقع الأحد الماضي، في إحدى منشآتها النووية المهمة، وكان عملا تخريبيا نفذته إسرائيل، وتعهدت بالانتقام لهجوم بدا أنه أحدث فصول حرب تدور في الخفاء منذ وقت طويل، معتبرة أن “الهدف من العمل هو استهداف قدرات إيران النووية”.

الانفجار ألحق أضراراً بشبكة توزيع الكهرباء وكابل موصول بالبطاريات، ومع ذلك، ليس واضحاً سبب وقوع الانفجار، إن كان يعود إلى زرع متفجرات أو أسباب أخرى.

وبحسب تقارير وكالة نور نيوز ، القريبة من مجلس الأمن القومي الايراني، فأن موقع “نطنز” النووي لديه “محطة كهربائية توصل الكهرباء إلى عمق 40 إلى 50 متراً تحت الأرض”، وقد بني باستحكامات قوية، لكيلا تقدر الهجمات الجوية والصاروخية على تدميره..

وتسببت عملية التفجير بقطع شبكة توزيع الكهرباء وكذلك الكهرباء الواصلة من الكابل الموصول بالبطاريات إلى أجهزة الطرد المركزي، وهذا الكابل يستخدم لاستمرار عمل الأجهزة في حال انقطاع الكهرباء.

والإثنين الماضي، اعتبرت إيران، في رسالة إلى الأمم المتحدة، أن الاستهداف المتعمد لمنشأة نووية محمية، مع وجود مخاطر عالية من الإطلاق العشوائي للمواد المشعة، بمثابة “إرهاب نووي وجريمة حرب”.

 

الرد الايراني

وردا على استهداف تعطيل مشروعها النووي، وفي 16 ابريل  الجاري، أعلنت ايران بدء  تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60%، وهو أعلى مستوى لها على الإطلاق..وذلك وفقا لرئيس البرلمان الإيراني “محمد باقر قاليباف”، الذي أدلى بهذه التصريحات في تقرير بثه التليفزيون الرسمي الإيراني يوم الجمعة الماضي.

ويمثل الإعلان تصعيدا كبيرا بعد عملية نطنز، وفي الأيام الماضية، عبرت الدول الغربية عن خيبة أملها إثر قرار إيران بدء التخصيب بنسبة 60% وأكد الناطق باسم الاتحاد الأوروبي “بيتر ستانو”: “هذا أمر مقلق للغاية من وجهة نظر منع انتشار الأسلحة النووية”، مذكرا بأنه “ليس هناك أي مبرر مدني معقول لإجراء كهذا”.

وقال وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، من بروكسل، مساء الأربعاء: “نأخذ هذا الإعلان الاستفزازي بجدية كبيرة”…وهو ما يثير تساؤلات حول جدية إيران في المحادثات النووية، الدائرة في فيينا. ويوم الأربعاء الماضي، قال الرئيس الإيراني “حسن روحاني”، إن تركيب أجهزة طرد مركزي من الجيل السادس، وتخصيب اليورانيوم بنسبة 60% هو رد إيران على الهجوم الذي استهدف مفاعل “نطنز”.

ووفق تقرير لـ”صابر غل عنبري”  بـ”العربي الجديد”، كشف رئيس مركز بحوث البرلمان الإيراني علي رضا زاكاني عن أنه في الهجوم الأخير في “نطنز” “أعطبت عدة آلاف من أجهزة الطرد المركزي”، غير أن الحكومة لم تؤكد أو تنفِ  صحة هذه الأرقام.

بينما اقتصرت الرواية الحكومية على التأكيد على لسان  المتحدث باسم الحكومة في مؤتمره الصحفي، أن الهجوم “خلّف أضراراً محدودة لنشاط تخصيب اليورانيوم”، مضيفاً أن “منظمة الطاقة الذرية الإيرانية طمأنت أنها خلال وقت قصير ستعوض الجزء الكبير من الأضرار، وستستخدم التقنيات الأكثر حداثة لأجل إعادة بناء ما تضرّر وفقاً للقرارات المتخذة.

كما أن وسائل إعلام إسرائيلية وغربية قدمت روايتها عن عملية استهداف “نطنز” الأخيرة، حيث نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، عن مسؤولَين في الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، تأكيدهما الدور الإسرائيلي في الهجوم الذي طاول منشأة نطنز النووية الإيرانية الأحد الماضي.

وقال مسؤولان اطلعا على الأضرار، للصحيفة، إنّها نجمت عن انفجار كبير دمّر بالكامل نظام الطاقة الداخلي المستقلّ، والمحميّ بشدّة، والذي يزوّد أجهزة الطرد المركزي تحت الأرض بالطاقة لتخصيب اليورانيوم.

وقد وجه الانفجارضربة قاسية لقدرة إيران على تخصيب اليورانيوم، وأنّ استئناف الإنتاج في نطنز قد يستغرق تسعة أشهر على الأقل، وفق تقديرات اسرائيلية. إلا أن إيران أكدت رسمياً أن عملية تخصيب اليورانيوم “مستمرة”، مشددة على أنها ستستبدل أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول، المتضررة على خلفية الهجوم، بأجهزة أكثر تطورا وبقدرات إنتاجية أعلى.

ويعد الهجوم هو الثالث من نوعه الذي تتعرض له “نطنز”، فالهجوم الأول كان عبر إرسال فيروس “ستاكس نت” إلى أجهزتها عام 2010، الذي صُنّف أنه أخطر فيروس عسكري، والهجوم الثاني تم خلال يوليو الماضي، حيث دمّر انفجار صالة لتجميع وإنتاج أجهزة الطرد المركزي المتطور، قبل أن تعلن إيران، السبت 12 ابريل الجاري سإعادة بنائها قبل يوم من الهجوم الثالث.

 

الأهداف:

-عرقلة  محادثات فيينا:

وفي ضوء القراءة المتأنية  للسياق الدبلوماسي الدائر في فيينا بشأن الملف النووي الإيراني، يبدو أن استهداف نطنز موجها لاجتماعات فيينا  غير االمباشرة بين امريكا وايران، عبر وسطاء دوليين “الصين، روسيا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا” بشأن النظر  في تخفيف العقوبات الدولية عن ايران، وقد انطلقت  المفاوضات في فيينا في الثاني من ابريل الجاري، وهي مستمرّة.  وبالتزامن مع ذلك جاء  الهجوم على مفاعل نطنز أهم منشأة لانتاج اليورانيوم المخصب، بالتوافق  مع وصول وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى إسرائيل..كما  تعرضت الثلاثاء الماضي، سفينة “إيران سافير” إلى هجوم في البحر الأحمر..

الهجوم استهدف إفشال المسار الدبلوماسي الذي أطلقته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع إيران لمعالجة الأزمة، والمباحثات في فيينا، وإزاء تلك القراءة تتجه أصابع الاتهام لإسرائيل، باعتبارها الجهة الأكثر معاداة لهذه المباحثات والاتفاق النووي. وهذه القراءة أيضاً، هي التي تتبناها الحكومة الإيرانية، فتصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف ورئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي خلال اليومين الأخيرين تؤكد وجود هذه المقاربة..وبغض النظر عن مدى وجاهة هذا الرأي، فإذا سلّمنا بأن إسرائيل هي الجهة الوحيدة التي خططت ونفذت الهجوم على سفينة “إيران سافيز” الثلاثاء قبل  الماضي، وكذلك العملية في “نطنز”، فمن المستبعد إلى حدّ كبير أن تكون الولايات المتحدة غير مطلعة على هذه الهجمات قبل وقوعها. ففيما يتعلق بموضوع السفينة، أوردت وسائل إعلام أميركية أن الحكومة الإسرائيلية أعلمت الإدارة الأميركية بالهجوم قبل تنفيذه. وعليه، على الرغم من خلافات بين واشنطن وتل أبيب على طريقة مواجهة إيران، يُستبعد قيام إسرائيل بهذه الخطوة لأجل إحراج الإدارة الأميركية وإفشال مباحثاتها مع طهران، فالمتابعون للعلاقات الأميركية الإسرائيلية، يعرفون جيداً أنه في القضايا الأمنية الكبرى، وخصوصاً في الشأن الإيراني، هناك تنسيق كامل بين الطرفين، ولا يتصرف طرف بمعزل عن الآخر، ومن دون التنسيق معه. كما أنه مهما بلغت الخلافات الأميركية الإسرائيلية، فليس وارداً أن يقوم الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة الفجة، بمعاقبة الولايات المتحدة، وهي أكبر دولة داعمة له في العالم، على تبنيها الخيار الدبلوماسي مع طهران، بينما هو يستضيف وزير دفاعها.

وبناءً على ما سبق، فالاحتمال الجاد الآخر هو أن الولايات المتحدة، من خلال منح الضوء الأخضر للجانب الإسرائيلي أو الموافقة على تصرفه هذا أو المشاركة فيه، أرادت أولاً نزع أهم أداة ضغط للجانب الإيراني في المباحثات الدائرة معه في موضوع تخصيب اليورانيوم، وثانياً إيصال رسالة لطهران مفادها أنه إذا لم تتجاوب مع الحلول الدبلوماسية التي تريدها واشنطن، فالخيار البديل هو استخدام هذه الأساليب الصلبة في المواجهة.

ومن ثم فإنه على ضوء تباعد مواقف جميع الأطراف، ليس وارداً انفراج كبير في المسار الدبلوماسي غير المباشر والوصول لحلول دبلوماسية مرضية، فالظروف تتجه نحو تأزيم أكثر للوضع القائم، وتصعيد أكثر خطورة، إذ إن إيران أكدت أن أحد أهم خياراتها في الردّ على العملية التخريبية، هو توسيع قدراتها النووية واستخدام أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطوراً من تلك التي تضررت في الحادث، و”تصعيد كبير” لخطواتها النووية. والتجربة تقول إن هذه الهجمات خلال أكثر من عقد مضى، لم توقف البرنامج النووي الإيراني الذي تجاوزها ليقترب إلى نقطة تعتبرها الأوساط الاستخباراتية الغربية “اللاعودة”. لذلك، معركة الشد والجذب بين هذه الأطراف مع إيران تكون قد دخلت مرحلة خطيرة قد لا تتوقف عن هذا الحدّ.

 

تقويض الاستراتيجية النووية الايرانية

ومن الواضح أن الاستهداف الأخير لم يكن بسيطاً، وجاء في توقيت حسّاس وسياقات متعددة ومتداخلة، والأهداف تتعدى إحداث مجرد عطل في منشأة “نطنز”. فلجهة التوقيت، وقع الحادث بعد يوم من قيام إيران بالكشف عن “133 إنجازاً نووياً”، في اليوم الوطني للتقنية النووية، وإعادة بناء ما تدمّر في الهجوم ما قبل الأخير، كما أن الاستهداف جاء أيضاً في خضم المباحثات النووية المستمرة في فيينا، بغية إيجاد حلول لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015.

 

-اخراج نتانياهو من ورطته السياسية باسرائيل

ومن جملة الأهداف التي تضمنتها عملية الهجوم على “نطنز” والسفينة “ايران سافير” هو خلق أجواء من التوتر الاقليمي تدفع نحو تمرير حكومة نتانياهو المرتقبة والتي تواجه بصعوبات عدة في التشكيل. ولعل ذلك ما أكدته  صحيفة “نيويورك تايمز”، الثلاثاء قبل الماضي، بأن ما حدث في المفاعل النووي الإيراني “نطنز”، تم من خلال إدخال عبوة ناسفة في وقت سابق وتم تفجيرها عن بعد، وهو نفس ما ألمّح إليه محلل الشؤون الحربية، في صحيفة “هآرتس”، يوسي فيرتر، إلى أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قد يكون من يقف وراء التسريبات الأخيرة، حول دور إسرائيل في تفجير السفينة الإيرانية سايس في البحر الأحمر.

كما أوضح فيرتر أن نتنياهو قد يكون وراء التسريبات أيضاً عن عملية مفترضة للكوماندوز البحري، وأخيراً عما حدث في المفاعل النووي في نطنز، ومخاطر رفع الستار عن سياسة “الضبابية” التي اعتمدتها إسرائيل في كل ما يتعلق بالحرب مع إيران سواء عبر ضرب أكثر من 12 سفينة إيرانية منذ العام 2019، أو التصعيد الأخير مقابل إيران.

وبحسب يوسي فيرتر، فإن نتنياهو، يدرك أكثر من أي شخص آخر خطورة وضعه القضائي، وهو ما قد يدفعه نحو خلق أجواء طوارئ وترهيب، في محاولة لكسر معارضيه في اليمين والذهاب مجدداً إلى حكومة طوارئ وطنية، على غرار ما فعله في العام الماضي، عندما بالغ في الترهيب من خطر جائحة كورونا والوضع الاقتصادي في إسرائيل، وهو ما شكل “غطاء” استغله الجنرال بني غانتس في تفسير أسباب نقض وعوده الانتخابية، والاتجاه لتشكيل حكومة الطوارئ الوطنية لمواجهة وباء كورونا وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي.  ووفقا لفيرتر، فإن تسلسل الأحداث الأخيرة ضد إيران، والتسريبات التي لا تترك مجالاً للشك في شأن هوية منفذي العمليات، تثير شكوكا في أن “صاحب البيت قد جُن” وأكثر من ذلك أنه (أي نتنياهو) فقد الكابح الأخير الذي كان يملكه.

وفي الحلبة السياسية والأمنية، يدور بشكل جلي حديث وتساؤلات عما إذا كان رئيس الحكومة يسعى لإشعال حرب ضد إيران أو حزب الله من أجل إقامة حكومة طوارئ. لقد أدخل الدولة كلها العام الماضي في إغلاق مطلق واستبدادي، رغم وجود عدد قليل من المرضى، وتمكن بواسطة كورونا من خلق جو سوداوي يحاكي نهاية العالم، ساعد بجلب غانتس إليه، لكن هذه المرة لا توجد كورونا.

وأضاف فيرتر أن التسريب لصحيفة “نيويورك تايمز” الذي نسب لإسرائيل تنفيذ العملية في مفاعل نطنز، يمكن له أن يصدر فقط عن مصدر وحيد، مصدر موثوق به بما فيه الكفاية كي تنشره الصحيفة، لافتاً إلى أن “مصدر التسريبات” يملك ما يكفي من الشجاعة كي لا يخشى تبعات تحقيق ممكن، وربما الأسوأ والأخطر من ذلك أن وزير الأمن بني غانتس (الذي طالب بالتحقيق في مصدر التسريبات) يعرف أن التحقيقات لن تثمر شيئا لأن المشتبه به الرئيسي فيها محصن”.

وتتفق هذه التحليلات لفيرتر مع حقيقة عدم تمكن نتنياهو للآن رغم حصوله على تكليف لتشكيل الحكومة القادمة، من تحقيق أغلبية تأييد 61 عضواً لها، أو ضمان عدم تصويت 61 نائباً من أصل 120 في الكنيست الإسرائيلي ضد الحكومة، علماً أنه يملك توصية من 52 نائباً، إضافة إلى التعويل على ضم حزب يمينا بقيادة نفتالي بينت الذي حصل على 7 مقاعد، مما يجعل المجموع الكلي لحكومة قد يشكلها 59 نائباً. كما يواصل نتنياهو الضغط على عضو الكنيست يوعاز هندل، من حزب “تكفا حداشا” للانتقال للمعسكر المؤيد له، من جهة، وإقناع حزب الصهيونية الدينية المتطرف بقيادة بتسلئيل سموتريتش بعدم معارضة حكومة يعرضها نتنياهو وتدعمها القائمة العربية الموحدة من خارج الائتلاف، ولو عبر الامتناع عن التصويت ضدها.

 

رسائل استهداف نطنز

وتحمل عملية استهداف نطنز عدة رسائل، منها:

أولها: أن الجهة أو الجهات المخططة لها، أرادت التأكيد أنها تتابع عن كثب أمنياً واستخباراتياً البرنامج النووي الإيراني، وأنها في وقت تراه مناسباً، يمكنها تنفيذ مثل هذه العمليات، بغية تعطيل هذا البرنامج أو إحداث خللٍ جادٍ فيه. ويؤشر إلى ذلك، اختيار هذا التوقيت لاستهداف المنشأة من جديد، إذ لا يبدو أن العملية حدثت صدفة بعد يوم من كشف إيران عن إنجازاتها النووية الجديدة، وإعادة بناء ما تدمر سابقا في “نطنز”، بل كان مخططاً لها بعناية، وكان التنفيذ في هذا التوقيت محسوبا ومقصودا.

ثانيا : التأكيد أن هناك “خطوطاً حمراء” في البرنامج النووي الإيراني، وضعها الطرف أو الأطراف المنفذة لهذه الهجمات، وهي عدم تخطيه مستوى محدّداً من القدرات، لاسيما في مجال تخصيب اليورانيوم. وعليه، قد جاء بالأساس الاتفاق النووي عام 2015، بعدما تجاوزت طهران هذه الخطوط الحمراء الإسرائيلية والغربية، عبر إنتاج اليورانيوم بدرجة نقاء 20 % لأول مرة، فشعر الغرب بخطورة الوضع واقتراب البرنامج النووي الإيراني من عتبة “الاختراق النووي”، واختارت الولايات المتحدة وأوروبا الدبلوماسية والاتفاق النووي لإبقاء هذا البرنامج تحت مستوى هذه الخطوط.

لكن الخيار الدبلوماسي فقد مفعوله للإبقاء على هذا الوضع، بعد حالة شبه انهيار طاولت الاتفاق النووي والخطوات النووية التي اتخذتها طهران خلال السنوات الأخيرة، رداً على تداعيات الانسحاب الأميركي منه، وبالذات على صعيد تخصيب اليورانيوم ورفعه إلى 20% خلال ديسمبر الماضي، والتهديد بتجاوز النسبة إلى 60%، وكذلك على ضوء تراجع الآمال بالدبلوماسية لإحياء الاتفاق، على الرغم من استئناف المباحثات لصعوبة التوفيق بين الموقفين الأميركي والإيراني المتباعدين للوصول إلى حلول وسط، وذلك بعد الإصرار الإيراني على إلغاء جميع العقوبات مرة واحدة، وبشكل كامل، قبل العودة عن الخطوات النووية والرفض الأميركي لهذا المطلب، والتوجه لتحصيل تنازلات نووية كبيرة من إيران، مثل وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 % مقابل رفع جزئي للعقوبات. ووفق التقديرات الاستراتيجية، وفي ظل الصعوبات السابقة، يبدو أن الطرف الآخر بات يتجه لاستخدام الأساليب الصلبة بدلاً من الناعمة، في مواجهة تطوير البرنامج النووي الإيراني ومنعه من تجاوز عتبة “الاختراق النووي”، وهنا ليس شرطاً أن يكون هذا الطرف هو إسرائيل فقط، فالمخاوف لديها هي المخاوف نفسها لدى الجانبين الأميركي والأوروبي أيضاً.

 

سيناريوهات المواجهات

وأمام التحول الاسرائيلي نحو التصعيد النووي مع ايران، سواء بعمليات استهداف بحرية للسفن الايرانية او توجيه ضربات الكترونية تدميرية للمنشآت النووية الإيرانية، فإن فرص التصعيد وفشل التفاهمات الايرانية الغربية والامريكية تبدو  إلى فشل، ما يحمل في طياته تأزيما اقليميا ودوليا. وهو ما تراه الباحثة  رندة حيدر، بمقالها “إسرائيل ومعضلة إيران”،  إذ تظهر المحادثات الجارية في فيينا مع إيران، بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، عمق الأزمة التي تعانيها إسرائيل على صعيد وضعها السياسي الداخلي، وعلاقتها الإشكالية مع الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس جو بايدن، وتداعيات هذا كله على الصراع الدائر بينها وبين إيران على المكانة والنفوذ في المنطقة. ولعل استمرار سياسات نتنياهو إزاء إيران يمكن أن يدفع ثمنه اليوم الإسرائيليون كلهم في حال تطورت حرب الظلال البحرية الدائرة بين إيران وإسرائيل إلى مواجهةٍ لا يمكن السيطرة عليها، ويمكن أن تجر إسرائيل إلى حرب مفتوحة مع إيران، أو مع وكلائها في المنطقة، لا يبدو أنها مستعدّة لمواجهتها في الوقت الحاضر.

وتدفع إسرائيل اليوم ثمن تعويل نتنياهو الكامل على دعم الإدارة الأميركية السابقة للرئيس ترامب، ومشكلته الحالية في التعامل مع إدارة بايدن الديمقراطية التي ضمّت أسماء أساسية، كانت تعمل على الملف الإيراني خلال فترة ولاية الرئيس أوباما، والتي ناصبها نتنياهو العداء، وفي ظل الاتهامات الإسرائيلية للإدارة الأميركية الحالية بالتهاون والتساهل مع إيران. وقد شكل خروج ترامب من البيت الأبيض نكسة كبيرة لمساعي نتنياهو في حربه على البرنامج النووي الإيراني. والمحادثات الجارية في فيينا لإعداد العودة المتدرجة لكل من الولايات المتحدة وإيران إلى الاتفاق النووي تطرح مشكلة كبيرة على إسرائيل التي تجد نفسها أمام معضلة حقيقية، فهي لم تعد تملك وسائل ضغط على الإدارة الأميركية لإقناعها بعدم العودة إلى الاتفاق، أوعلى الأقل فرض مشاركتها في النقاشات الدائرة بشأن اتفاق نووي جديد محسّن؛ ومن جهة أخرى ليس لدى إسرائيل رؤية دبلوماسية بديلة عن المقاربة الأميركية للموضوع، والأمر الوحيد الذي تلوح به الآن هو اللجوء إلى الخيار العسكري الذي يبدو صعباً في الظروف الإقليمية والدولية الحالية التي تدعم العودة إلى الاتفاق النووي الأصلي مع إيران مع تحسيناتٍ أو من دونها.

ولعل التحذير الأمريكي الذي تناقلته وسائل الاعلام الاسرائيلية، السبت 17 ابريل الجاري، يصب في اتجاه المخاوف الامريكية من الانجرار لتصعيد عسكري اقليمي لم تستعد له ادارة بايدن بعد بالشرق الاوسط، حيث أفادت القناة الـ12 الإسرائيلية بأن الولايات المتحدة وجهت تحذيرا إلى إسرائيل على خلفية حادث الانفجار الذي وقع أواخر الأسبوع الماضي في منشأة “نطنز” النووية بإيران. وذكرت القناة، الجمعة الماضية، أن الولايات المتحدة سلمت رسالة إلى إسرائيل أشارت فيها بشكل واضح إلى ضرورة وضع حد للحديث بشأن تورط الدولة العبرية المحتمل بالانفجار.

ولفتت الرسالة إلى أن نشر هذه الادعاءات يمثل أمرا خطيرا ومضرا ويضع إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في موقف محرج، فيما تشارك واشنطن في المباحثات الجارية بين طهران والقوى الكبرى في فيينا بمحاولة لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015. كما نقلت القناة عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين تعبيرهم عن قلقهم إزاء السماح إلى درجة غير عادية بربط إسرائيل بحادث “نطنز”، متسائلين بشأن ما إذا كانت هذه الضجة خطوة تهدف إلى التأثير على مباحثات فيينا، أم محاولة من رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” لاستغلال الملف الإيراني من أجل حل مشاكله الداخلية.

ولم تعترف إسرائيل رسميا بوقوفها وراء انفجار “نطنز”، لكن العديد من وسائل الإعلام في الدولة العبرية أكدت هذا الأمر نقلا عن مصادر في الأجهزة الأمنية، كما لوح مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى، على رأسهم “نتنياهو” نفسه، بهذه الإمكانية. وزعم موقع “ديبكا” الإسرائيلي، المعني بالملفات العسكرية والاستخباراتية، الأربعاء الماضي، أن انفجار “نطنز” دمر أكثر من نصف المفاعل النووي تماما، مشيرا إلى أن طهران تخفي حجم الدمار الذي لحق به. وكانت تقارير إعلامية قد أشارت إلى أن استهداف منشأة “نطنز” النووية تم بواسطة عبوة ناسفة تم تهريبها لداخل المنشأة، وأن الانفجار أحدث أضرارا كبيرة بأنظمة الكهرباء الأساسية والاحتياطية، بينما قدرت مصادر أن إيران قد تستغرق 9 أشهر لإعادة تخصيب اليورانيوم في المنشأة.

 

تغير معادلات التفاعل الاقليمي

زمن جهة ثانية، فإن العملية التخريبية التي تقف وراءها اسرائيل، في منشأة نطنز، قد تعيد ترتيب أوضاع التوازنات بالمنطقة، وتعيد الترتيبات الجيوسياسية، وفق ما يذهب إليه الباحث الفلسطيني أمجد أحمد جبريل ، بمقاله “تخريب إسرائيلي لمفاوضات النووي الإيراني”، اذ  يشكل التصعيد الاسرائيلي ضد ايران مؤشّراً مهمّاً على تصاعد الصراع الإسرائيلي الإيراني، واحتمال انتقاله إلى مساحةٍ جديدةٍ من “الحرب السيبرانية” أو “الحروب غير التقليدية” عموماً، من دون التخلي عن مساحات الصراع التقليدية، وذلك في سياق سعي كلا الطرفين إلى تأكيد قدراته ومكانته الإقليمية، بوصفه “اللاعب الإقليمي الأهم” في الشرق الأوسط، الذي يجب أن تُراعي كل القوى الدولية مصالحه، خصوصاً أميركا والصين وروسيا، ما يؤكّد استمرار التنافس الدولي على المنطقة، في ظل معادلةٍ قد تعكس “تغلغلاً” صينياً، مقابل “انكفاء” أميركي نسبي، مع احتمال عودة الدبّ الروسي إلى صراعاته “التقليدية” مع أميركا وأوروبا (حول قضايا: أوكرانيا، والقرم، والتجسس، وفرض العقوبات، وصراعات النفوذ والجيوبوليتيك).

وإذا كانت دولة الاحتلال تستند إلى الدعم الأميركي، وقدراتها التقنية العسكرية والاستخبارية “النوعية” وسياسة الاغتيالات، فإن طهران تحاول أن توظّف المتغيرات الدولية والإقليمية لتعزيز حضورها الإقليمي وموقفها التفاوضي مع الإدارة الأميركية، ولا سيما بعد توقيع “وثيقة برنامج التعاون الشامل بين الصين وإيران لـ25 عاماً”، في 27 مارس الماضي ، وكذلك بعد انطلاق مفاوضات فيينا 6 إبريل الجاري، التي ترمي إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، بوساطة أوروبية وتأييد صيني روسي واضح.

 

خاتمة

يبقى مصير المشروع الإقليمي لإيران محكوماً بالبعد الدولي وتفاعلاته، أو كيفية إدارة طهران علاقتها الصراعية المعقّدة مع أميركا وحليفها الإسرائيلي.. على صعيد آخر، تجتهد إسرائيل في تحجيم تداعيات “الاتفاق الصيني الإيراني” على الشرق الأوسط، خصوصاً تركيا التي قد تميل إلى سلوك مسار مشابه يراهن على “الصعود الصيني”، كلما تعثّرت علاقات أنقرة مع أميركا والدول الأوروبية.

بيد أن إسرائيل تعاني من معضلة، على المدى البعيد، تكمن في كيفية التوازن بين تطوير تعاونها مع “العملاق الصيني” الصاعد والالتزام بقيود التحالف الإسرائيلي مع واشنطن التي باتت تضع العلاقات الصينية الإسرائيلية تحت المجهر، في ظل القيود الأميركية على إسرائيل، بعدم تصدير الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة التي تصلح للاستعمال المزدوج العسكري والمدني إلى دولة ثالثة، خصوصاً الصين، والتي أدت، في يوليو 2000، إبّان حكومة إيهود باراك، إلى إلغاء صفقة “الفالكون” التي وقعتها الصناعات الجوية الإسرائيلية مع الصين عام 1995، لتطوير طائرة اليوشن 76 الروسية الصنع، إلى طائرة للإنذار المبكر، تشبه طائرة “أواكس” الأميركية الصنع.

وكذلك تتصاعد التحدّيات التي تواجه إيران ومشروعها الإقليمي الذي يبقى مرهوناً بقدرتها على تأكيد “المصداقية” في مواجهة الاستهدافات الإسرائيلية المتكرّرة، سواء في البحر أم البر أم في المجال السيبراني، وقدرة طهران على توسيع مساحة خياراتها الخارجية وتفعيل قدراتها الذاتية، بعيداً عن توظيف وكلاء إقليميين في مناطق الأزمات العربية (العراق، سورية، اليمن، لبنان، فلسطين).

ويبقى مصير المشروع الإقليمي لإيران محكوماً بالبعد الدولي وتفاعلاته، أو كيفية إدارة طهران علاقتها الصراعية المعقّدة مع أميركا وحليفها الإسرائيلي، وإمكانية توظيف الدعم الروسي الصيني لها، والقدرة على توسيع تحالفاتها الدولية والإقليمية وتنويعها، وتجاوز أخطاء الماضي، ولا سيما استعداء جوارها العراقي والخليجي. وبشأن المفاوضات الدائرة في فيينا، فحتة مساء السبت – وقت كتابة تلك السطور- لم يحدث بعد اختراق يذكر في حلحلة الأزمة، بل إن هجوم “نطنز” والتطورات المرتبطة به أثقلت كاهل المفاوضات وعقدتها..وهو ما يؤكد نجاح السيناريو الاسرائيلي وتوقيت العملية التخريبية ضد المشروع الايراني.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022