الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة .. قراءة في موقف النظام المصري

 

في العدوان الإسرائيلي حاليا على غزة مايو 2021م اختلفت مواقف النظام العسكري في مصر رسميا وإعلاميا على الأقل مقارنة بما جرى من خذلان في حرب 2014م؛ والتي انحاز فيها نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي بشكل سافر وفاجر للعدو الصهيوني، وشنت آلته الإعلامية حملة دعاية سوداء وشيطنة بحق المقاومة الفلسطينية التي تم وصفها بالإرهاب وتحمليها مسئولية الضحايا الفلسطينيين.

على المستوى السياسي، انتقدت الخارجية المصرية خلال الاجتماع الوزاري الطارئ لجامعة الدولة العربية العدوان الإسرائيلي على المصليين في المسجد الأقصى ومحاولات طرد أهالي حي الشيخ جرَّاح من بيوتهم وقال سامح شكري إنَّ الأخوه الفلسطينيين يخوضون معركة وجود دفاعاً عن مقدساتهم وبيوتهم في وجه هجمات إسرائيلية جديدة تستهدف حقوقهم في الأرض التي ولدوا عليها. وأن ما حدث في المسجد الأقصى المبارك استفزاز لمشاعر العرب والمسلمين جميعاً أن يروا هذه البقعة المقدسة تتحول إلى ساحة حرب على أيدي القوات الإسرائيلية. ووصف شكري ما يحدث في حي الشيخ جراح بأنَّه بات عنواناً للصمود ومرادفاً للكرامة. وشدد على أن المحاولات المستمرة لتغيير هوية القدس وحرمان أهلها العرب من حقوقهم، لم تكن لتمر مرور الكرام، ولم يكن مُستغرباً ما رأيناه من أهل القدس الذين يخوضون معركة دفاع عن الهوية والوجود يتردد صداها في كل جنبات العالم الحر. ووصف ما يقوم به الفلسطينيون بأنه مدعاه للفخر والاعتزاز من كل عربي. وأوضح أنَّ الاهتمام العربي شعبياً ورسمياً بما يحدث في القدس، أكبر رسالة تؤكد على أن فلسطين كانت وستظل هي قضية العرب المركزية. وأكد رفض مصر التام واستنكارها لتلك الممارسات الإسرائيلية الغاشمة، وتعتبرها انتهاكاً للقانون الدولي. وأجرى وزير الخارجية بحكومة الانقلاب سامح شكري اتصالا هاتفيا بنظيره الإسرائيلي مساء “12” مايو أكد خلاله على ضرورة وقف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وأهمية العمل على تجنيب شعوب المنطقة المزيد من التصعيد واللجوء إلى الوسائل العسكرية، مؤكداً حرص مصر على استقرار المنطقة على أساس تسوية القضايا بالوسائل الدبلوماسية وعبر المفاوضات، وأن التطورات الأخيرة إنما تؤكد على ضرورة أن تستأنف جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية بأسرع ما يمكن ودون انتظار.[[1]]

وقد انسحب الموقف الرسمي على الموقف الإعلامي رغم محاولات بعض وسائل الإعلام المصرية المملوكة لجهات إماراتية السير على نفس ما جرى في حرب 2014م، لكنها سرعان ما اصطدمت بالموقف الرسمي فتراجعت عن مواقفها طوعا أو كرها؛ فقد جاء مانشيت الأهرام في عدد 13 مايو على النحو التالي «تحركات مصرية ــ أمريكية لاستعادة الهدوء فى غزة..«صواريخ المقاومة» تضرب العمق الإسرائيلى .. والاحتلال يرد بعنف ونيتانياهو يتوعد بـالقبضة الحديدية»[[2]] هذا العنوان كاشف لتوجهات النظام فهو يتحرك من أجل التهدئة والعودة لمربع المفاوضات العبثية وفقا للحدود المسموح بها أمريكيا، لكنه في ذات الوقع يحاول الظهور بصورة المتسق مع التوجهات الشعبية تجاه المقاومة فيصف صواريخها بــ«صواريخ المقاومة» وليست الصواريخ العبثية أو بومب العيد كما جرى في حرب 2014م. ويصف إسرائيل بالاحتلال؛ وبالتالي فإن التحركات المصرية ـ الأمريكية تستهدف بالأساس حماية العمق الإسرائيلي الذي يتعرض لأول مرة في تاريخ الصراع لصواريخ المقاومة. وفي السبت 15 مايو نشرت صحيفة الوطن تقريرا بعنوان «تعرف على موقف مصر من القضية الفلسطينية: إخوة في وجه الاحتلال»[[3]]

وانسحب هذا الموقف إلى باقي المؤسسات والجهات والشخصيات التي تفرض مؤسسات النظام على وصاية كاملة والتي لا تتمتع بأي هامش من الاستقلالية يمكنها من التعبير عن آرائها بحرية بقدر ما يستخدمها النظام كأداة لتسويق توجهات معينة تخدم مصالحه وأجندته بالأساس. وكالعادة استخدم النظام المؤسسة الدينية ووظفها للتخديم على أجندته، وكانت البداية مع خطبة الجمعة 14 مايو 2021م، والتي جرى بثها من الجامع الأزهر خلافا لما كان يحدث من قبل، حيث كانت جميع الفضائيات المصرية التي يديرها جهاز المخابرات العامة تبث خطبة الجمعة من المسجد الذي يخطب فيه وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، لكن هذه المرة جرى بثها من الجامع الأزهر وكان الخطيب الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو مجمع البحوث الإسلامية والمقرب من النظام والذي شن حملة ضد العدوان الإسرائيلي وطالب بتشكيل قوة ردع إسلامية لتحرير المقدسات مؤكدا أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وفي ذات الوقت أطلق الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حملة تضامن عالمية مع الشعب الفلسطيني بالتزمن مع الذكرى 73 للنكبة.[[4]] وأعلن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، السبت 15 مايو، عن بدء حملة توعية موسعة لدعم المسجد الأقصى والشعب الفلسطيني فيما يواجهونه من انتهاكات مستمرة من الكيان الصهيوني وذلك بعنوان: «الذي باركنا حوله».[[5]] وحتى الكنيسة الأرثوذوكسية أصدرت بيانا يتسق مع توجهات النظام ودانت فيه الاعتداءات الإسرائيلية في غزة والقدس.[[6]]

ومع انتهاء الأسبوع الأول من العدوان على غزة عمل النظام على توظيف آلته الإعلامية لتضخيم دوره باعتباره «موقفا تاريخيا» داعما لفلسطين وقضيتها، رغم أن ما جرى حتى ذلك الوقت كان مجرد بيانات وتصريحات ولم يتم رصد إي إجراء عملي جاد داعم للموقف الفلسطيني مطلقا ولم يتخذ النظام سوى إجراءين:

  • الأول، هو الجهود المبذولة من أجل وقف إطلاق النار والتوصل إلى تهدئة؛ ما يعني أن غاية النظام في مصر هي إيقاف الحرب واستعادة مسار التفاوض العبثي والعودة إلى متاهة كامب ديفيد وأوسلو. ويريد النظام بذلك استعادة دوره كضابط إيقاع للمفاوضات العبثية والوكيل الحصري لها في القضية والتي كان يتعيش عليها نظام مبارك من قبل ليثبت للأمريكان دوره المحوري والخادم لمصحالها وأجندتها في المنطقة.
  • الثاني، هو فتح معبر رفح أمام حالات المصابين والجرحي جراء العدوان الإسرائيلي، وتخصيص 10 سيارات إسعاف للجرحي في غزة مع تقديم بعض المساعدات الطبية للقطاع. وهو الإجراء العملي الوحيد الذي قام به نظام السيسي حتى كتابة هذه السطور لكنه في كل الأحوال لا يستحق كل هذه البروباجندا الإعلامية والهالة الضخمة والتطبيل والزمر لما يسمى “الموقف التاريخي”.[[7]]

وفي الأربعاء 19 مايو، فاجأ النظام الجميع بالإعلان عن مبادرة لإعادة إعمار غزة بتكلفة نصف مليار دولار؛ ومبلغ الدهشة  هنا أن مصر دولة فقيرة للغاية وتعيش على الاقتراض وفرض الضرائب الباهظة فكيف يمكن تدبير هذا المبلغ؟ الأمر الآخر أن هناك دولا خليجية (قطر مثلا) قادرة على إعادة إعمار غزة كاملا على نفقاتها الخاصة وقد دأبت على ذلك بالفعل في أعقاب الحروب الإسرائيلية على القطاع. لكن الدهشة تزول في اليوم التالي إذ أعلن صندوق “تحيا مصر” الذي يشرف عليه السيسي مباشرة ولا يتمتع بأي رقابة على أمواله وأنشطته عن تخصيص حساب للتبرع لإعمار غزة.[[8]] كما كشفت وسائل إعلام النظام أن الصندوق يستعد لإطلاق قافلة مساعدات إنسانية للقطاع تضم 100 حاوية. في تكريس لاحتكار الدولة حتى للإعمال الخيرية وأن الهدف من الصندوق هو أن يكون بديلا للمؤسسات الخيرية في المجتمع والتي تعرضت لحملة إغلاق واسعة في أعقاب انقلاب 3 يوليو2013م. ويستهدف النظام بذلك تميق التأثير المصري على غزة حتى يكون نظام السيسي الكفيل الحصري للقطاع وهو ما يعزز قيمته عند الإدارة  الأمريكية كما يمكِّن النظام من توظيف المقاومة أحيانا عند توافق المصالح لخدمة بعض توجهاته التي لا يقدر عليها بشكل مباشر.

 

أسباب التحول المصري

يمكن عزو هذا التحول المصري إلى عدة أسباب:

أولا، يعزو البعض هذا التحول إلى أن جولة الصراع هذه المرة ارتبطت بشكل وثيق بالاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وأهالي حي الشيخ جرَّاح، وهي المشاهد التى جرى بثها خلال أيام شهر رمضان لجنود الاحتلال وهم يدنسون المسجد الأقصى ويقتحمون باحاته ويعتدون على المصليين والمعتكفين دون احترام لقدسية المكان. كما حظيت قضية الإجلاء القسري لأهالي حي الشيخ جراح بتعاطف إسلامي ودولي واسع ضد سياسات الفصل العنصري الإسرائيلي، وقبلها المواجهات في باب العامود، وكانت تحذيرات المقاومة في غزة للاحتلال بسحب قواته من الأقصى وإلا دفع ثمنا باهظا لهذا العدوان. فلما استخفت حكومة الاحتلال بتهديد المقاومة انهمرت على بلداته صواريخ المقاومة في مستوطنات القدس وتل أبيب وعسقلان وبئر السبع وغيرها من المدن المحتلة؛ وهو  الرد الذي صدم الاحتلال من جهة ولاقى ترحيبا واسعا من الفلسطينيين والعرب والمسلمين في جميع أنحاء العالم.  هذا الربط بين المقاومة والأقصى وقضية أهالي حي الشيخ جراح وحَّد الفلسطينيين  خلف المقاومة والذين أدركوا أنهم أمام سلاح يحميهم ويدافع عنهم ضد إجرام الاحتلال بعكس سلاح السلطة الذي لا ترفعه إلا على الفلسطينيين لضمان أمن الاحتلال واستقراره. وبالتالي فإن خارجية السيسي التي انتقدت العدوان الإسرائيلي على الأقصى ستجد نفسها في تناقض كبير إذا انتقضت المقاومة التي تردع الاحتلال عن جرائمه.

ثانيا،  قد يكون السبب في تحولات موقف نظام السيسي أن القاهرة لا تريد السماح لأي طرف بتصدر المشهد خاصة تركيا وقطر؛ رغم التقارب الحالي بين القاهرة وأنقرة والدوحة؛ وبالتالي فإن نظام السيسي يستهدف تأكيد الدور المصري باعتباره الوكيل الحصري عن الملف الفلسطيني وأن هذا الدور لا يمكن استبداله.  وقد أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان  خلال الأيام الماضية، سلسلة اتصالات هاتفية مع رؤساء دول وحكومات نحو 20 بلدًا منها، لدعم فلسطين ضد الهجمات الإسرائيلية. لهذا ظهر على الساحة، هذا التغيير في المواقف المصرية تجاه الأحداث، فخرجت تصريحات عن وزير الخارجية “سامح شكري”، تحمل سلطات الاحتلال، مسؤولية التصعيد، داعيا إسرائيل إلى تجنيب شعوب المنطقة المزيد من التصعيد واللجوء إلى الوسائل العسكرية. وقد يكون موقف النظام مبنيا على تقديرات موقف حول التداعيات الكارثية لانحياز النظام بشكل فاجر في حرب 2014 على شعبيته التي تآكلت باعتباره عميلا للعدو الصهيوني، لا سيما أن شعبية السيسي حتى داخل المؤسسة العسكرية تراجعت بشدة وكثير من قادة المؤسسة يرون أن مبارك كان فاسدا لكن السيسي أثبت أنه عميل؛ وذلك بناء على مواقفه وسياساته ومنها شرعنة بناء سد النهضة بالتوقيع على اتفاق المبادئ بالخرطوم في مارس 2015م. ثم التفريط في السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير، وهو ما يصب بشكل مباشر في خدمة الكيان الصهيوني وإضعاف الموقف المصري والتي مثلت جزءا من صفقة القرن الأمريكية التي كان يروج لها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وبالتالي فالهدف من موقف النظام حاليا هو الانسجام مع المواقف الشعبية لترميم شعبية الجنرال المتآكلة بشدة، يبرهن على ذلك الدعاية الضخمة لمواقف النظام باعتباره “موقفا تاريخيا” رغم أنه لم يتجاوز حدود البيانات والتصريحات باستثناء فتح معبر رفح لاستقبال الجري الفلسطينيين جراء غارات العدو.

ثالثا،  قد يكون  أيضا التقارب بين القاهرة وحماس أحد أسباب تحولات موقف نظام السيسي من العدوان على غزة؛ فحماس لم تحاول استغلال الوضع الأمني المتردي في سيناء، بل جرى تنسيق بين الطرفين لمواجهة تسلل عناصر تنظيم “داعش” باعتباره عدوا للطرفين؛ فداعش يمارس التكفير الديني للطرفين النظام في مصر وحماس في غزة وحتى الإخوان المسلمين عموما هم وفق معتقدات وأفكار “داعش” كافرون. وقد نشرت وكالة رويترز سنة 2017م تقريرا عنوانه “مصر توثق علاقاتها مع حماس بهدف تأمين سيناء”، تحدث عن التعاون الأمني بين الجانبين، مشيرا إلى أنه بعد علاقات غلب عليها التوتر على مدى سنوات تسعى مصر حالياً لتوثيق الصلات مع حماس في غزة وعرضت القاهرة تقديم تنازلات فيما يخص التجارة وحرية التنقل مقابل اتخاذ إجراءات لتأمين الحدود من متشددين موالين لتنظيم داعش قتلوا مئات من رجال الشرطة والجيش في شمال سيناء. وفي العام ذاته، زار إسماعيل هنية القاهرة لأول مرة بعد توليه رئاسة المكتب السياسي لحماس، وأجرى حواراً مع الإعلامي المقرب للدولة عمرو أديب. ولكن درجة تغير الموقف المصري تجاه حرب غزة الأخيرة، تبدو أكبر من أن تكون نابعة فقط من تغير علاقة القاهرة مع حماس، لأن القاهرة بعد ذلك حافظت على علاقة وثيقة مع تل أبيب.[[9]]

رابعا، أحد أهم أسباب تحولات موقف نظام السيسي من العدوان الإسرائيلي على غزة عما كان عليه موقفه في حرب 2014م، هو العمل على الحد من مخاطر هرولة التطبيع العربي وتداعياته الكارثية على الأمن القومي المصري والعربي على حد سواء؛  ذلك أن هذا التطبيع والعلاقة الخاصة والحميمة جدا بين تل أبيب وأبو ظبي تمثل تهديدا مباشرا على الأمن القومي المصري للأسباب الآتية:

  • اتفاق التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني يسهم في مزيد من تهميش الدور المصري إقليميًا؛ فوفقا لدراسة أعدها معهد واشنطن، فإن قادة النظام في مصر قلقون بشكل واضح بشأن اتفاق التطبيع، باعتباره يعزز اعتقاد القاهرة بأنّ مركز القوة في العالَم العربي، بدأ يتحوّل نحو دول الخليج في السنوات الأخيرة. وبحسب الدراسة، كانت مصر ركيزة أساسية في (عملية السلام) في الشرق الأوسط لعقود من الزمن، وقد منحتها معاهدة السلام مع (إسرائيل) في عام 1979 نفوذاً كبيراً مع واشنطن والعواصم الأوروبية. إلا أن هذا النفوذ مهدد الآن، نتيجة التعاون العلمي والتبادل السياحي والتعاون الأكاديمي بين (إسرائيل) والإمارات. وتوقعت الدراسة، خفوت النفوذ المصري بشكل سريع في أعقاب الإعلان عن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، لا سيما بالنظر إلى القدرة المالية والتكنولوجية للإمارات على تسريع مثل هذه المبادرات.[[10]]
  • ترتب على هذا التطبيع بزوع مشروعات بديلة لقناة السويس، وبحسب مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، فإن هناك حديثا يجرى حالياً عن مشروع إسرائيلي لمد خط سكك حديدية وطريق دولي لنقل الحاويات من الخليج العربي إلى مرفأ حيفا على البحر المتوسط، كبديل لقناة السويس، ومشروع آخر لشق قناة مائية موازية لقناة السويس تبدأ من إيلات حتى عسقلان كبديل أقصر من قناة السويس. ووفق المجلة الأميركية فإن قناة السويس ستكون الخاسر الأكبر من المشروع النفطي الخليجي الإسرائيلي، في ظل وجود منافسة شرسة، خاصة أن المشروع المقترح يوفر بديلاً أرخص لقناة السويس، وأن شبكة خطوط الأنابيب تنقل النفط والغاز ليس فقط إلى المنطقة، ولكن إلى الموانئ البحرية التي تزود العالم. وقد كان قصف المقاومة لخط أنابيب الغاز (إيلات ـ عسقلان) البديل لقناة السويس مريحا للقاهرة ورأت في المقاومة يدا لها في حماية الأمن القومي المصري وبالتالي فإن تقديرات أجهزة السيسي الأمنية هي توظيف العلاقة مع فصائل المقاومة لعرقلة المشروعات الإسرائيلية الإماراتية التي تهدد الأمن القومي المصري.

خامسا،  تعرض نظام السيسي لغدر إسرائيلي أفضى إلى توتر مكتوم في العلاقات؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن السيسي وقَّع في 2018 اتفاقا لشراء الغاز من إسرائيل بقيمة 19 مليار دولار لمدة 10 سنوات، وبأسعار أعلى من السعر العالمي على  أمل أن تصبح القاهرة مركزا إقليميا للطاقة تنقل النفط والغاز من المنطقة إلى أوروبا؛ ولذلك أطلق تصريحه الشهير” احنا جبنا جون يا مصريين”، فقد ثبت أن الهدف كان تسللا، بل أصاب مرمانا ولم يصب مرمى الاحتلال؛ ورغم أن السيسي دشن منتدى غاز شرق المتوسط الذي ضم إسرائيل واليونان وقبرص ثم الإمارات وفرنسا نكاية في تركيا؛ إلا أن إسرائيل طعنته طعنة غادرة بإنشاء تحالف خط غاز “إيست ميد” لنقل الغاز من إسرائيل إلى قبرص مباشرة ومنها إلى أوروبا والذي ضم الإمارات واليونان وقبرص واستبعد القاهرة؛ وهو ما بدد أوهام السيسي حول تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة. ولعل هذا السلوك الإقصائي من جانب إسرائيل لنظام السيسي يعكس توجها إسرائيليا لتهميش القاهرة إقليميا والتعامل معها باعتباره دولة تابعة وليست قائدة؛ وهو ما دفع النظام العسكري في مصر إلى مراجعة مواقفه وسياساته مع تركيا والتجاوب مع مؤشرات التقارب الجارية حاليا في رسالة لا تخفى دلالتها لتل أبيب وأبو ظبي، ويتجه النظام نحو إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع أنقرة بما يعني تعزيز الموقف التركي  نحو عرقلة مشروع “إيست ميد” الإسرائيلي الذي يهدد خط الغاز الروسي الذي يمر من روسيا عبر تركيا إلى أوروبا، كما يضر بمصالح مصر وأمنها القومي.

سادسا، يعتبر الموقف الإسرائيلي من أزمة سد النهضة هو السبب الأهم في تحولات الموقف المصري تجاه العدوان على غزة؛ فإسرائيل هي من حرضت إثيوبيا على المضي في مشروع السد، ومن المعروف أن هناك دعماً إسرائيلياً لإثيوبيا في مجالات عدة، وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية في عام 2019، بوجود حالة توتر كبيرة بين مصر وإسرائيل على خلفية إكمال الأخيرة نشر منظومة الصواريخ الإسرائيلية Spyder-MR حول سد النهضة الذي بنته إثيوبيا لحمايته من أي عدوان مصر مرتقب.  كما أن  شركة الصناعات الدفاعية الإسرائيلية “رفائيل” وفرت لإثيوبيا منظومة “بيتون” الدفاعية وكذلك منظومة “ديربي” وهي من صناعة محلية إسرائيلية، في حين وفرت الصناعات الجوية الإسرائيلية شاحنات خاصة تحمل المنظومات الدفاعية، وتؤكد المصادر الإسرائيلية أن منظمة ( Spyder-MR) الدفاعية الجوية هي المنظومة الوحيدة في العالم التي بإمكانها إطلاق صاروخين من طرازين مختلفين معاً، وهما “بيتون” الذي يصل مداه إلى خمسة كيلومترات، و” ديربي” الذي يصل مداه إلى خمسين كيلومتراً. وساهمت الإمارات في تفاقم الأزمة عبر دعم أديس أبابا باستثمارات هائلة تقدر بالمليارات كما ساعدت آبي آحمد رئيس الحكومة الإثيوبية في وأد ثورة إقليم تيجراي التي كانت تمثل فرصة لمصر والسودان للضغط على أديس أبابا، كما كانت مواقف أبو ظبي أقرب إلى الحياد السلبي في الأزمة. وكان لها دور مشهود في إقناع السيسي بالتوقيع على اتفاق المبادئ بالخرطوم سنة 2015 وهو الاتفاق الذي شرعن بناء السد وحوله من إنشاء غير قانوني يخالف القانون الدولي للأنهار إلى إنشاء قانوني بعد التوقيع المصري.

الخلاصة أن تحولات نظام السيسي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة مقارنة بعدوان 2014 ليس له علاقة بأي مبادئ أخلاقية أو قومية أو عروبية بقدر ما هو موقف براجماتي بحت؛ فالنظام يريد إعلاء النبض القومي العروبي لحماية مصالحه والحد من المخاطر الجسيمة التي تسبب فيها لمصر بسبب سياساته الكارثية وتحالفاته العبثية التي افتقدت لأي عمق في فهم المشهد الإقليمي والدولي وتفكيك عناصره وتحديد من هو الصديق ومن هو العدو؛ وهو ما أفضى إلى الوضع الراهن الفوضوي والمرتبك والكارثي.

ويبرهن على أن النظام لا يتمتع بأي قيمة أخلاقية في موقفه أنه اعتقل  أي مصري احتج رفضا للعدوان الإسرائيلي؛ فقد تم اعتقال الطبيب حسام الدين شعبان، أخصائي العظام في مستشفى القصر العيني بالقاهرة، لأنه أعلن التطوع لعلاج جرحى الغارات الإسرائيلية على غزة. كما أعلن المحامي الحقوقي، مختار منير، اختفاء الشاب المصري، عمر مرسي، منذ يوم الجمعة 14 مايو 2021م، في ميدان التحرير، بعدما رفع علم فلسطين، مناصرةً لانتفاضة الأقصى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وجرى عرضه على النيابة التي قررت إخلاء سبيله بكفالة 100 ألف جنيه! ورغم دفع الكفالة لم يفرج عنه حتى كتابة هذه السطور. كما اعتقلت أجهزة السيسي عشرات الشباب في منطقة وسط البلد القريبة من ميدان التحرير، وجرى حبس بعضهم 15 يومًا على ذمة القضية 26705 لسنة 2021بتهمة «حرق العلم الإسرائيلي والتظاهر»! كما شنت أجهزة السيسي حملة مكبرة على الأسواق الشعبية في مناطق العتبة والموسكي والأزهر في وسط القاهرة، لمصادرة أعلام دولة فلسطين، والتحذير من تعرض بائعيها لعقوبتي الحبس والغرامة. وذلك لقطع الطريق على تنظيم أية وقفات تضامنية للتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.[[11]]

وحتى اليوم لم يقدم نظام السيسي على إجراء عملي واحد له قيمة ويمثل إضافة حقيقية لدعم المقاومة والصامدين في أزقة القدس والحواري القريبة من الأقصى، وحتى مبادرة إعمار غزة لا تزال غامضة وغير واضحة المعالم. أيضا  لا تزال التحركات المصرية تدور في فلك السياسة الأمريكية ولا تجرؤ على تخطيها ولن يتم التوصل إلى أي تهدئة أو وقف لإطلاق النار إلا في الوقت الذي تريده إسرائيل ويحقق لنتيناهو شخصيا مصالح سياسية وانتخابية أو عندما يشعر بأن شعبه لم يعد يقو على تحمل صواريخ المقاومة والمكوث طول الليل والنهار في الملاجئ، وهدف النظام من التظاهر بصورة الداعم لقضية فلسطين هو قطع الطريق على أي توجهات أمريكية إسرائيلية على  استبدال الدور المصري بآخر إماراتي أو سعودي. وعلى الأرجح فإن نظام السيسي يبحث عن مسار يجبر الإدارة الأميركية الجديدة على رفع مستوى الاتصال مع القاهرة، وعدم الاقتصار على معاملتها من خلال وزير الخارجية أو مبعوثيه، كما حدث في جميع الاتصالات السابقة منذ تولي جو بايدن الرئاسة، أخذاً في الاعتبار أن بايدن ونائبته كامالا هاريس لم يحادثا السيسي إطلاقاً، وهو ما يثير حنق الأخير، بالإضافة إلى خلفيات العلاقة غير المريحة بين الطرفين، منذ وجه الرئيس الأميركي انتقادات لاذعة وصريحة للسيسي، ووصفه بـ”ديكتاتور ترامب المفضل”. وترى الأجهزة المصرية أن الموقف الحالي، وإدخال القاهرة طرفاً أساسياً في مسألة فلسطين، من شأنه ضمان جدية التعامل الأميركي مع النظام المصري مستقبلاً، بالإضافة لدفع واشنطن إلى التفاهم معه بصورة مختلفة في القضايا محل الاهتمام المشترك، محلية وإقليمية، بما في ذلك قضية سد النهضة، وملفات الحقوق والحريات في مصر.[[12]]

موقف النظام حاليا يجب دعمه ومساندته فهو ـ في كل الأحوال ــ أفضل من الانحياز الصارخ للكيان الصهيوني كما جرى في حرب 2014م. فقط علينا الحذر من تزييف وعينا وإدراكنا بحقيقة موقف النظام، وألا ننخدع بالقناع الذي يرتديه اليوم فهو ذاته النظام الذي يزج في سجونه بعشرات الآلاف من أنبل وأشرف أبناء وعلماء مصر وأكثرهم استعدادا للدفاع عن قضية فلسطين بتهم ملفقة وأدلة مفبركة، وحقق للعدو أكثر أحلامه وأمانيه وهو الانقلاب العسكري الذي قضى على أي أمل في مصر ديمقراطية وحرة ومستقلة في قرارها السياسي والسيادي على حد سواء. والموقف الذي ينبني على مصالح قد يتغير بين عشية أو ضحاها إذا تغيرت الموازنين وتناقضت المصالح بعكس المواقف الأخلاقية التي تتسم بالمصداقية والدوام.

 

 

[1] وزير الخارجية يتصل بنظيره الإسرائيلي / صفحة الخارجية المصرية على فيس بوك ــ 12 مايو 2021م

[2] تحركات مصرية ــ أمريكية لاستعادة الهدوء فى غزة..«صواريخ المقاومة» تضرب العمق الإسرائيلى .. والاحتلال يرد بعنف ونيتانياهو يتوعد بـالقبضة الحديدية/ مانشيت الأهرام ــ 13 مايو 2021م

[3] محمد أبو عمرة/ تعرف على موقف مصر من القضية الفلسطينية: إخوة في وجه الاحتلال/ الوطن ــ  السبت 15 مايو 2021

[4] في ذكرى النكبة.. الأزهر يؤكد وحدة صف الشعب الفلسطيني ويطلق حملة تضامن عالمية/ الجزيرة مباشر ــ السبت 15 مايو 2021

[5] أحمد البحيري/ بالعربية والإنجليزية.. «البحوث الإسلامية» يطلق حملة موسعة لدعم الأقصى والشعب الفلسطيني/ المصري اليوم ــ السبت 15 مايو 2021

[6] الكنيسة المصرية تدين اعتداءات إسرائيل في غزة والقدس/ وكالة الأناضول ــ 15 مايو 2021 

[7] وائل قنديل/ المساومة بالمقاومة: السيسي مناضلاً/ العربي الجديد  ــ 17 مايو 2021

[8] «تحيا مصر» يخصص حساب للتبرع لإعمار غزة.. و«اتحاد الصناعات» يطالب بقرار لقبول التبرعات/ مدى مصر ــ  الأربعاء 19 مايو 2021م

[9] من الهجوم على حماس لانتقاد إسرائيل.. سر تغير الموقف المصري من المقاومة الفلسطينية في الأزمة الأخيرة/ عربي بوست ــ 16 مايو 2021 

[10] مصر قلقة من التطبيع الإماراتي الإسرائيلي.. لماذا؟/ الخليج الجديد الجمعة 21 أغسطس 2020

[11] الجيش المصري يعتقل طبيباً متطوعاً لعلاج مصابي غزة/ العربي الجديد ــ 17 مايو 2021// اختفاء شاب مصري رفع علم فلسطين في ميدان التحرير منذ يومين/ العربي الجديد ــ 16 مايو 2021// مصر: حملة أمنية على أسواق شعبية لمصادرة أعلام فلسطين/ العربي الجديد ــ 16 مايو 2021

[12] الموقف المصري من التطورات الفلسطينية: كثير من “البروباغندا” قليل من التغيير/ العربي الجديد ــ 16 مايو 2021

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022