كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد دعا في مارس الماضي إلى انتخابات تشريعية مبكرة بعد حلِّه البرلمان مطلع الشهر ذاته، لتكون أول انتخابات تشريعية منذ بدء الحراك الشعبي، الذي أدى إلى تنحِّي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في ربيع 2019. فما هي السياقات التي جاءت فيها تلك الانتخابات؟ وماذا كانت النتائج؟ وكيف يُمكن قراءتها؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها خلال النقاط التالية..
أولًا: سياقات وخلفيات الانتخابات الجزائرية:
جاءت الانتخابات الجزائرية بعد مجموعة واسعة من التطورات في المشهد الجزائري التي أسهمت بشكلٍ كبير في خروج الانتخابات على الشكل الذي خرجت عليه، وكان أهم تلك التطورات ما يلي:
-
تغيير العقيدة العسكرية للجزائر:
على مدى عقود، كانت الجزائر تتبنى رؤية خارجية تقوم على تجنب الانخراط العسكري المباشر في الصراعات الإقليمية، والتركيز بصورة أكبر على التوسط بين الأطراف المتحاربة في دول الجوار واحتواء التهديدات.
وجاءت التعديلات التي أُدخلت على الدستور الجزائري في شهر نوفمبر 2020 -في جانب منها-؛ لتسمح بإرسال وحدات من الجيش الجزائري إلى الخارج للمشاركة في حفظ السلام.
وتزامنت التعديلات مع تحركات أمنية مكثفة للجزائر، سواء على المستوى الداخلي في إطار الاستراتيجية المستمرة لمواجهة التهديدات الإرهابية، أو على المستوى الخارجي، حيث ضاعفت الجزائر تحركاتها تجاه دول الجوار الإقليمي بهدف تعزيز التعاون الأمني والعسكري معها.[1]
ويُمكن القول أن التغيير في العقيدة العسكرية للجزائر ناتج من محركين رئيسيين؛ أولهما؛ حرص الجزائر على لعب دور إقليمي قوي في مواجهة المغرب المنافس التاريخي لها، والذي عاد للساحة الإقليمية والإفريقية بقوة منذ بداية عهد محمد السادس.
وثانيهما؛ تخوُّف الجزائر من زيادة خطر التمدد الإرهابي للجماعات المسلحة، والقادم من دول الساحل، لاسيما في ظل عزم فرنسا على تقليل تواجدها. إلا أنه بالرغم من محفزات ودوافع التحركات الأمنية الجزائرية، واحتمالية حدوث تحول في موقف الجزائر من إرسال قوات إلى دول الجوار؛ إلا أن هذا المسار تعترضه إشكاليات محتملة.
فمن جهة؛ لا تزال السياسة الأمنية التقليدية لها ثقلها في الداخل الجزائري، والتي تستند بصورة رئيسية إلى تجنب الانخراط العسكري المباشر في قضايا الإقليم. ومن جهة ثانية؛ يُمكن أن يكون لأزمة كورونا وتبعاتها الاقتصادية، وكذلك تراجع أسعار النفط، تأثير كبير على أي توجه للانخراط العسكري والأمني المكثف في المنطقة.
ومن جهة ثالثة؛ يُحتمل أن يكون لملف الإرهاب تأثير معاكس في هذا الصدد، لأن المشاركة العسكرية في صراعات المنطقة، وإرسال قوات لبعض الدول، مثل مالي، قد تفضي إلى تزايد التهديدات الإرهابية التي تواجهها الجزائر، سواء من خلال استهداف هذه القوات، أو حتى بتنامي نشاط التنظيمات الإرهابية داخل الجزائر لإرغام النظام على التراجع عن إرسال قوات إلى دول الإقليم.
ومن جهة رابعة؛ ستظل قضية العلاقات المغربية الصهيونية قضية إشكالية بالنسبة للجزائر، لاسيما أن المسئولين الجزائريين ينظرون إلى اتفاق العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني على أنه تهديد أمني، ولا يمكن إغفال أن هذا الاتفاق يشكل ورقة ضغط على النظام الجزائري قد تدفعه إلى تقديم تنازلات لإرضاء واشنطن.
-
قرارات تبون لتهدئة الأوضاع الداخلية:
أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال خطابه المتلفز عن قراره بحل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة. وأضاف أنه سيكون هناك تعديل حكومي يشمل القطاعات التي يشعر المواطنون أن هناك نقصًا في تأديتها. وذكر الرئيس الجزائري أنه أصدر عفوًا عن حوالي 30 شخصًا من الحراك صدر بحقهم حكم نهائي، وعن آخرين لم يصدر بحقهم حكم بعد، مشيرًا إلى أن عددهم الإجمالي يتراوح بين 55 و60 فردًا.
وكشف تبون في خطابه أن بلاده توصلت لاتفاق مع روسيا لإنتاج لقاح “سبوتنيك في” في الجزائر في غضون 6 أو 7 أشهر. وأوضح أن إنتاج اللقاح الروسي في الجزائر سيوجه لدعم الأشقاء في إفريقيا وغير إفريقيا بعد تلبية الحاجيات الوطنية. وأكد الرئيس الجزائري أن الجزائر كانت من بين الدول السباقة في العالم لاتخاذ إجراءات الحد من تفشي فيروس كورونا كغلق المجال الجوي رغم الانتقادات التي طالتها من بعض الأطراف في الخارج.[2]
القرارات التي اعتبرها البعض استجابة متأخرة لمطالب الحراك الشعبي منذ انطلاقته الأولى في 22 فبراير 2019، ولمطالب الكثير من الأحزاب السياسية. فبالنسبة لقرار حل البرلمان؛ يُعد خطوة نحو إنشاء برلمان جديد يتماشى مع طبيعة المرحلة ومطالب إعادة شرعنة المؤسسات النيابية المنتخبة.[3]
أما بالنسبة للتعديلات الحكومية؛ فقد جاءت هذه التعديلات في الوقت الذي توقع فيه الرأي العام الجزائري، تعديلًا أوسع على الحكومة وإنهاء مهام الوزراء الذين كانت لهم تصريحات، وُصفت بالمستفزة للشارع. وبدا واضحًا أن التعديلات جاءت تماشيًا مع التحديات الحالية العاجلة التي تعيشها البلاد خاصةً في الملف الاقتصادي والصحي.
والمُلاحظ في التعيينات الجديدة، عودة بعض الشخصيات البارزة التي شغلت مناصب مهمة في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.[4] وبالرغم من اعتبار البعض تلك القرارات قد جاءت متأخرة؛ إلا أن هذا لا ينفي أهميتها، وكونها جاءت في وقت كان الشعب الجزائري يعاني فيه من ظروف اقتصادية خانقة، وأزمة سياسية شديدة.
ولكن بالرغم ذلك؛ فإن القوى الموالية للنظام السابق، والتي تأثَّرت بتلك القرارات ليس من المُنتظر أن تهدأ، أو تتعامل مع هذا الوضع بسهولة دون محاولة إعاقته، وليست تجارب دول المنطقة عنها ببعيدة. والأيام القليلة القادمة ستُبين ما ستسعى تلك القوى للقيام به للحفاظ على مصالحها ووجودها في المجتمع الجزائري.
-
تصاعُد حدة الانقسام السياسي بالتزامن مع قُرب الانتخابات:
أصدر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الثلاثاء 16 مارس، قانون الدوائر الانتخابية، الذي يتضمن تقسيم عدد المقاعد على الولايات ومناطق الجالية المقيمة في الخارج، تمهيدًا لإجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في 12 يونيو المقبل.
ونزل مجموع عدد مقاعد البرلمان الجزائري إلى 407 مقاعد، بدلًا من 462 مقعدًا في البرلمان السابق، بعدما تقرر تعديل المعامل الانتخابي إلى مقعد لكل 120 ألف نسمة، بدلًا من مقعد واحد لكل 80 ألف نسمة الذي كان يعتمد في التقسيم السابق.
وعلى أساس هذا التعديل، خسرت عدة ولايات عددًا من المقاعد. وقلَّص القانون الجديد الحد الأدنى للمقاعد الممنوح للولايات من خمسة إلى ثلاثة مقاعد، فيما تم منح الولايات العشر الجديدة التي تم استحداثها في مناطق الجنوب الشهر الماضي ثلاثة مقاعد لكلٍّ منها، وأصبح مجموع الولايات 58 ولاية.
وزاد تقليص عدد مقاعد البرلمان من 462 إلى 407 من حدة المنافسة بين قوائم الأحزاب والمستقلين في الانتخابات التشريعية المقبلة، وخاصةً أن القانون الانتخابي يتضمن أيضًا عتبة إقصائية محددة بـ5 في المائة من الأصوات المعبر عنها، بحيث تُقصى كل القوائم التي تحصل على أقل من ذلك من عملية توزيع المقاعد في الولايات.[5]
وبدا واضحًا أن السباق نحو البرلمان الجزائري الذي انطلق باكرًا على غير العادة، سيُحدِث هزات داخل الأحزاب ستكون نتائجها غير متوقعة، كما سيكشف عن مفاجآت، برز أولها من خلال إعلان حزب العمال اليساري مقاطعة الانتخابات. وكان حزب جبهة التحرير الوطني الذي حكم البلاد منذ الاستقلال إلى حين سقوط نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة يعيش أزمة داخلية، على وقع احتجاجات رافضة لاستمرار الأمين العام، أبو الفضل بعجي في منصبه، يقودها قياديون وأعضاء من اللجنة المركزية للحزب.
بينما دعا حزب حركة البناء الإسلامي، القوى السياسية المشاركة في الانتخابات البرلمانية المبكرة، إلى إقرار ميثاق الشرف الانتخابي للحفاظ على نزاهة الاستحقاق وضمان التنافسية الشريفة، وإلى تشكيل تحالف انتخابي يمتد إلى ائتلاف حكومي لمرحلة ما بعد الانتخابات المقبلة.[6]
وفي سياق التوتر الداخلي الذي تمر به الجزائر؛ أقال الرئيس عبد المجيد تبون مدير الأمن العام (الشرطة) خليفة أونيسي من منصبه الذي يشغله منذ أغسطس 2019، وعيَّن مديرًا جديدًا، هو الرابع على التوالي للجهاز الأمني في ظرف أقل من ثلاث سنوات، كما أقال تبون الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني عبد الحميد غريس.[7]
ولم تُعرف بعد أسباب هذا التغيير، لكنها تبدو ضمن سلسلة تغييرات يجريها الرئيس تبون في أعلى هرم المؤسسات الأمنية، إذ كان قد أجرى تغييرات في جهازي الأمن الداخلي والخارجي التابعين للاستخبارات، كما أجرى تغييرات في جهاز الأمن والحماية الرئاسية. والتي يبدو أنها في المُجمل استعداد للتوترات الداخلية المُتزايدة، والانقسامات التي تصاعدت بالتزامن مع الإعلان عن قانون الانتخابات الجديد.
-
الانقسامات بين الشارع والسلطة والقوى الوطنية:
لم تكد تبدأ الحملات للانتخابات، حتى تفجرت حرب طاحنة بين الإسلاميين والعلمانيين، ومن بين الأوراق التي وُظفت في الصراع العمالة للخارج، وقضايا أخرى لها علاقة بالدين والمرأة كقانون الأسرة الجزائري.
واتضح الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين في الهجوم الحاد الذي شنَّه رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية الإسلامية عبد الرزاق مقري، على التيار العلماني واتهه بقيادة مؤامرة تستهدف الوصول إلى مرحلة انتقالية ثم انتخابات رئاسية.
ومن المسائل الأخرى التي وُظفت في هذا الصراع، قانون الأسرة الجزائري الذي صنع الحدث مع بداية التسعينيات إبان سيطرة الإسلاميين على المشهد في الجزائر، إذ طالبت زعيمة حزب العمال اليساري بإلغاء هذا القانون ووصفته بالظالم لأنه في نظرها يمثِّل أكبر عنف مسلط على المرأة الجزائرية. الأمر الذي اعتبره بعض الإسلاميين محاربة للشريعة ومعاداة لمن يدعو إليها، وذلك في إشارة واضحة إلى مطلب إلغاء قانون الأسرة المستمد من الشريعة.[8]
كل هذا دفع إلى حتمية التنسيق بين الرئيس تبون وبين الأحزاب السياسية ذات التأثير الواسع في الداخل الجزائري. الأمر الذي دفع تبون لعقد لقاءات مع بعض الأحزاب السياسية المعارضة، تجلى أبرزها في المشاورات التي جمعت بين الرئيس وكل من أحزاب (حركة مجتمع السلم – جبهة القوى الاشتراكية – حركة الإصلاح الوطني – حركة البناء الوطني – جبهة المستقبل – حزب جيل جديد – جبهة الجزائر الجديدة – التجمع الوطني الديمقراطي – طلائع الحريات – حزب التجديد الجزائري- حزب الفجر الجديد – حزب صوت الشعب) خلال شهر فبراير ومطلع مارس الماضي، والتي استهدفت بصورة كبيرة خلق مكون حزبي داعم لسياسات الرئيس.[9]
وباعتماد التقسيم السياسي الشائع في الجزائر، يلاحظ أن قرار المشاركة شمل التيارين الإسلامي والوطني، بينما ستنحصر المقاطعة لدى التيار الديمقراطي الذي يضم في عمومه أحزابًا يسارية بحساسيات مختلفة. وفي الواقع، كانت قرارات أغلب الأحزاب في التيارين الإسلامي والوطني محسومة بالمشاركة حتى قبل حل البرلمان وإعلان تنظيم الانتخابات، بالنظر إلى انخراطها الكامل في المسار الانتخابي منذ الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2019.
أما عن المقاطعين؛ فيأتي في صدارة من أعلنوا المقاطعة، حزب العمال ذو التوجه اليساري الذي دأب على المشاركة المنتظمة منذ الانتخابات البرلمانية لسنة 1997. وكذلك حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، الذي أوضح في خطابه الأخير أن السلطة القائمة تدفع لمهزلة انتخابية جديدة بعد أن تلقت بحسبه، صفعتين بسبب المقاطعة الواسعة في الانتخابات الرئاسية واستفتاء الدستور. وحذت مختلف الأحزاب المشكلة لتكتل البديل الديمقراطي الداعي لإطلاق مسار تأسيسي، حذو المقاطعة مثل الحركة الديمقراطية الاجتماعية وحزب العمال الاشتراكي والاتحاد من أجل الرقي والتغيير.[10]
ومع كل هذا الانقسام بين السلطة والقوى الوطنية، فقد وضع الحراك الشعبي الذي عاد إلى الشارع نفسه خارج معادلة الانتخابات تمامًا، في استمرار لموقفه الرافض للحلول التي تقترحها السلطة منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ويرفع المتظاهرون كل جمعة، شعارات واضحة تعلن مقاطعة الانتخابات، ويصرون بالمقابل على مطلب التغيير الجذري للنظام السياسي. وهكذا؛ لا تزال الجزائر تعاني من حالة عدم الثقة بين الحراك والسلطة الحاكمة، وهو الأمر الذي يُمثل تحديًا حقيقيًا لإدارة الرئيس تبون خلال الفترة القادمة. ولعل الجزائر الآن بحاجة إلى خطوات استباقية نحو احتواء الرأي العام والحراك بالحوار الوطني الشامل حول مسار بناء جزائر ما بعد بوتفليقة.
ثانيًا: سير العملية الانتخابية:
كان 24 مليون جزائري يحق لهم التصويت في الانتخابات التشريعية المبكرة، التي تُجرى لاختيار 407 نائب في المجلس الشعبي الوطني أو ما يعرف بالغرفة الأولى. ويتنافس في هذه الانتخابات أكثر من 22 ألف مرشح ينتمون إلى 2288 قائمة، منها 1080 قائمة حزبية، و1208 قوائم مستقلة، في حين بلغ عدد المرشحات 5744 امرأة. وفي تصريحات للصحفيين -عقب إدلائه بصوته- قال الرئيس تبون إنه متفائل بتحقيق نسبة مشاركة جيدة بناءً على ما عاينه من سير التصويت في عدد من الولايات.
واعتبر تبون أن هذا الاقتراع لبنة أخرى على طريق إرساء الديمقراطية، مشيرًا إلى إقبال من جانب الشباب والنساء. وأكد أن نسبة المشاركة لا تهمه، وقال إن ما يهمه هم من سيفرزهم صندوق الاقتراع لإدارة السلطة التشريعية، مشيرًا إلى أن تشكيل الحكومة المقبلة سيعتمد على ما إذا كانت الأغلبية موالية أو معارضة لسياسات رئيس الجمهورية.
وقال إن الجزائر على الطريق الصحيح ما دامت تواجه هجومًا من أطراف لا يرضيها أن تدخل البلاد إلى الديمقراطية من أبوابها الواسعة، وتعطي قرارها لشعبها، حسب تعبيره. وفي السياق نفسه، قال رئيس مجلس الأمة الجزائري (الغرفة الثانية للبرلمان)، صالح قوجيل، إن هذه الانتخابات تعد تنفيذا لمطالب الحراك الشعبي. وأضاف قوجيل -في تصريحات صحفية عقب إدلائه بصوته بالعاصمة- أن الرئيس تبون أوفى بوعوده بالذهاب نحو انتخاب مؤسسات جديدة.
وجرى التصويت بصورة عادية في الولايات الـ58 بالجزائر. وفرضت وزارة الداخلية إجراءات أمنية مشددة بداية من الليلة الماضية، وتم تعديل قانون العقوبات للتصدي لمحاولات ما سمي بتعكير صفو العملية الانتخابية، سواء بمنع الأفراد من الإدلاء بأصواتهم، أو تخريب مراكز الاقتراع.[11]
أبرز المتنافسين: وكان أبرز المتنافسين في السياق الانتخابي؛ هم: جبهة التحرير: والذي تراجعت شعبيته حيث حصل في آخر انتخابات على 161 مقعدًا من إجمالي 462 (نحو 35% من المقاعد)، بعدما كان مسيطرًا على الأغلبية. التجمع الوطني الديمقراطي: والذي تعرض حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يقوده الطيب زيتوني لهزة كبيرة بعد سجن زعيمه أحمد أويحيى، وإخفاق أمينه العام السابق عز الدين ميهوبي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة حيث حل بها رابعًا بين خمسة متنافسين.
حركة مجتمع السلم: تمثل الحركة أكبر حزب إسلامي في الجزائر ويقودها عبد الرزاق مقري، وكانت قد حصلت على أكبر كتلة برلمانية (34 مقعد) بين أحزاب المعارضة في الانتخابات الأخيرة التي نظمت في 2017. وتتميز الحركة بانتشارها في معظم ولايات البلاد، وبقواعدها المنضبطة نسبيًا. حركة البناء الوطني: خرجت حركة البناء الوطني عن حركة مجتمع السلم، ويقودها عبد القادر بن قرينة، وزير السياحة السابق، الذي ترشح في الانتخابات الرئاسية السابقة في 12 ديسمبر من عام 2019، وحقق مفاجأة عندما حل ثانيًا خلف المرشح تبون.
جبهة العدالة والتنمية: يتزعمها عبد الله جاب الله، المعارض الإسلامي المخضرم، الذي أسس حركة النهضة في 1990، ثم حركة الإصلاح الوطني الذي حصل على 43 مقعد في انتخابات 2002، ثم جبهة العدالة والتنمية في 2011. أحزاب جديدة: برزت 4 أحزاب سياسية على الأقل مؤخرًا حيث بدت أكثر حضورًا خلال الحملات الانتخابية، وأول هذه الأحزاب هو حزب “جيل جديد”، الذي يقوده جيلالي سفيان، أحد أبرز المعارضين لنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وثانيها حزب “الفجر الجديد” الذي يقوده الطاهر بن بعيبش، ويستند هذا الحزب إلى قاعدة تتشكل أساسًا من أبناء شهداء ثورة التحرير. وأما الحزب الثالث فهو حزب “صوت الشعب”، الذي يشارك للمرة الأولى في الانتخابات البرلمانية، ورابع تلك الأحزاب، هو حزب “طلائع الحريات”، الذي أسسه رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس.
المستقلون: تحظى قوائم المستقلين بتشجيع من السلطات عبر منح المرشحين دون سن الأربعين تمويلًا لحملاتهم الانتخابية، وتواجه قوائم المستقلين عقبة كبيرة تتمثل في عتبة 5% من أصوات الناخبين التي يجب أن تتجاوزها القائمة على المستوى الوطني للحصول على مقاعد.[12]
وجرت عمليات الاقتراع بشكل عام في هدوء كما في الجزائر العاصمة، حيث شارك عدد قليل من الناخبين في التصويت، وفي الولايات البعيدة، باستثناء منطقة القبائل الأمازيغية. وفي هذه المنطقة المتمردة تقليديًا، لم تفتح معظم مراكز الاقتراع، واندلعت اشتباكات في عدة بلديات، مع تكسير صناديق الاقتراع، وفقًا للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان واللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين، اللتين تحدثتا عن اعتقال العشرات.[13]
ثالثًا: نتائج الانتخابات:
رغم وعود الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بـ”جزائر جديدة”، إلا أن التجديد لم يتجل في نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت بها جبهة التحرير الوطني المرتبطة بالرئيس السابق بوتفليقة، ما يعتبره الحراك “مهزلة انتخابية”. وكرَّست الانتخابات التشريعية في الجزائر التي قاطعها أكثر من ثلاثة من كل أربعة ناخبين، فوز الأحزاب الحاكمة منذ عقود، بعيدًا عن التجديد الذي وعد به النظام، في ما اعتبره معارضوه “هروبًا إلى الأمام”.
وبعد ثلاثين شهرًا على بدء من الحراك الشعبي المناهض للنظام، وعلى الرغم من وعود بـ”جزائر جديدة” روج لها الرئيس عبد المجيد تبون، لن يختلف المجلس الشعبي الوطني المنبثق عن انتخابات 12 يونيو، كثيرًا عن برلمانات عهد عبد العزيز بوتفليقة، حسب محللين. فقد أظهرت النتائج فوز حزب جبهة التحرير الوطني، أكبر كتلة نيابية في البرلمان المنتهية ولايته، في انتخابات تميزت بامتناع تاريخي عن التصويت (70%).
وسجلت الجبهة تراجعًا حادًا، إلا ان الحزب الواحد سابقًا استفاد من قاعدته الشعبية القديمة كونه قاد حرب الاستقلال (1962).[14] وقد حصل حزب جبهة التحرير على 98 مقعد، وحصل المستقلون على 84 مقعد، فيما حصلت حركة مجتمع السلم على 65 مقعد، وحصل التجمع الوطني الديمقراطي (ثاني أحزاب الائتلاف الحاكم سابقًا) على 58 مقعد، وحصل حزب جبهة المستقبل المحافظ على 48 مقعد، وحركة البناء الوطني الإسلامية 39 مقعد.[15]
تجاهل لمطالب الشارع: يرى البعض أن إصرار السلطة، على تطبيق “خارطة طريقها” الانتخابية التي وضعتها، دون التفات إلى مطالب الشارع، التي مثلها الحراك الجزائري الأخير، تمثِّل تجاهلًا لقطاع كبير من الجزائريين، الذين قاطعوا الانتخابات، والذين لم يروا فيها وسيلة لتحقيق مطالب الحراك، من إقامة دولة القانون والقضاء المستقل والانتقال الديمقراطي للسلطة.
وكانت جماعات حقوقية، قد رصدت تصاعدًا في أعمال القمع للمعارضين، قبل بدء هذه الانتخابات، في ظل مقاطعة قطاع كبير من الطبقة السياسية لها، خاصةً تلك التي شاركت بقوة في حراك فبراير الماضي، إذ منعت السلطات المسيرات، وكثَّفت من الاعتقالات ضد المعارضين السياسيين، والناشطين في الحراك والصحافيين المستقلين والمحامين.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه السلطة الجزائرية أن هذه الانتخابات تمثل محطة مهمة، ضمن خارطتها الانتخابية، وأنها ستسهم في ترسيخ الديمقراطية في البلاد، يرى مقاطعوها، أنها ليست سوى مطية للسلطة، من أجل تثبيت الوضع القائم، والحفاظ على “النظام الاستبدادي” ومصالح القائمين عليه، عبر إضفاء صبغة شرعية وقانونية.[16]
رابعًا: قراءة في نتائج الانتخابات:
تطرح الانتخابات التشريعية للجزائر عدة تساؤلات جوهرية ترتبط بعمق التغير السياسي والدستوري الذي ستشهده الجزائر خلال العقود المقبلة. وتستمد الانتخابات التشريعية الجزائرية خصوصيتها من خلال عدة ملامح:
أولها؛ أنها أول انتخابات تشريعية تأتي في ظل حكم الرئيس، عبد المجيد تبون، بعد قرار اتخذه الرئيس بحل البرلمان السابق، بتاريخ 1 مارس 2021، والذي اعتُبر بمنزلة برلمان غير شرعي في نظر المعارضة؛ إذ على مدار أكثر من عقد تم تمرير عديد القوانين بمراسيم رئاسية دون العودة إلى المؤسسة التشريعية وهو ما غيَّب حالة المشاركة السياسية الحقيقية وأدى إلى تفشي ظاهرة شراء الأصوات وغياب ما أضحى لاحقًا يسمى الأخلاقية السياسية.
وثانيها؛ استدعت هذه الانتخابات مفاهيم القبيلة والعرش والجهة بقوة، وهو ما برز في الولايات الداخلية والتي تُعطَى فيها الأولوية في السلوك التصويتي للدوائر الضيقة والحساسيات الجهوية على حساب الانتماء الحزبي، حتى أن استدعاء هذا المعطى يبرز حتى داخل القائمة الواحدة بسبب استحداث نظام انتخابي جديد اعتمد نظام القائمة المفتوحة، وهو ما جعل أغلب المترشحين داخل القائمة الواحدة يمارسون الدعاية الانتخابية لصالحهم على حساب القائمة الواحدة.
وثالثها؛ مكَّن نظام الانتخابات الجديد من إعطاء الأولوية للمشاركة للشباب بدعوى التمكين السياسي لهم، وألغى الإجراءات المعمول بها في نظام القانون العضوي السابق والمسمى بقانون توسعة حظوظ المرأة في المجالس المنتخبة والذي أثبت عدم كفاءته التشريعية في ظل هيمنة السلطة التنفيذية.
ورابعها؛ بروز أقطاب تستظل بعباءة الرئيس على غرار تجمع نداء الوطن، والذي يضم عشرات الجمعيات الوطنية، وتشكل هذا التيار من تكتلات شبابية ونقابية وجامعية وكشفية يرأسهم مستشار الرئيس تبون المكلف بالمجتمع المدني والجالية بالخارج، نزيه برمضان.
وخامسها؛ مكَّن النظام الانتخابي الجديد من التخلص من وجوه قديمة عشَّشت في مبنى زيغود يوسف لأكثر من عهدتين؛ فقد منع النظام الانتخابي الجديد إمكانية الترشح لأكثر من عهدتين وهو ما أقصى رؤساء أحزاب وشخصيات سياسية راديكالية حُسبت على اتجاهات بعينها مثل زعيمة حزب العمال السابقة، لويزة حنون، وكثير من نواب الولايات الداخلية. الأم الذي أنتج ظاهرة أخرى وهي ترشيح تشكيلات سياسية وطنية وإسلامية لأبنائهم وبعض أفراد العائلة وهو ما سُمي بالتوريث السياسي.
وسادسها؛ بروز شخصيات تنتمي إلى تيارات سياسية بعينها وكيانات سياسية معارضة رفضت الانخراط في المشاركة التشريعية إلا أنها ترشحت في قوائم حرة، كما سجل الملاحظ حالات التجوال السياسي بين مختلف التشكيلات السياسية. كما برز تباين شديد في الحراك السياسي؛ إذ برزت شخصيات نشطة في الحراك كانت ترفض أي خيارات دستورية وترى أن الرئيس تبون غير شرعي إلا أنها انخرطت في العميلة الانتخابية سواء في قوائم حرة مستقلة أو في أحزاب سياسية ظهرت بعد الحراك.
وسابعها؛ تماهي الحدود بين مختلف التشكيلات السياسية في الحملة الانتخابية والتي استمرت لثلاثة أسابيع بحيث لم يظهر في الخطاب أي ملامح يتمكن الباحث من خلالها من الفصل بين الاتجاهات السياسية الوطنية والإسلامية والعلمانية، المعارضة والمؤيدة، وبرز الخطاب السياسي في أغلبه هشًّا لا يحمل ملامح واضحة، غير سياسات الوعود العامة بحيث إن قراءة عميقة في الخطاب من الناحية الدلالية تُظهر أن كثيرًا من المترشحين لا يفرقون بين دور نائب البرلمان ودور المنتخب في المجالس المحلية.[17]
وكمحاولة لفهم العزوف عن المشاركة: ثمَّة العديد من الملاحظات حول عزوف الناخبين عن العملية الانتخابية الأخيرة،
أولها؛ من الخطأ تبرير مستوى المشاركة المتدنِّي بالقياس على التجارب السابقة، إذ لو صحَّ أن نأخذ عزوف الجزائريين التقليدي عن المشاركة في الانتخابات النيابية وإقبالهم على الانتخابات الرئاسية، كنَّا وقعنا في خطأ التقدير عندما نستحضر نسبة المشاركة الضئيلة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (12 ديسمبر 2019) التي لم تتجاوز 39.8%، وبالتالي، أصيبت الانتخابات الرئاسية بعدوى النيابية وليس العكس. فمن أجل تلافي حدوث هذه المقاصة الهزيلة، ينبغي أن نتفادى الوقوع في فخ المقارنات الفاشلة، وربما علينا أن نوقن بأن الحراك الشعبي قد أسقط الكثير من التقديرات ولو نظريًا، برغم أن واقع الحال لا يذهب في هذا الاتجاه كثيرًا.
ثانيها؛ لا يُمكن فهم العزوف عن المشاركة في الانتخابات إلا ضمن حالة الأسف العام التي تكتنف شرائح واسعة من الشعب الجزائري. وحالة الأسف هذه، هي أخف العبارات استعمالًا على ضوء ما أخبرت به نسب المشاركة، ولعل ذلك ينمُ عن الشعور الشعبي بالتأخر الرسمي عن إحداث التغيير أو انحسار هامش الأمل في حدوث الانتقالة من حالٍ إلى آخر. قد تتهم السلطة الشعب بالتعجُّل، ولكن يمكن للشعب أيضًا أن يتهم السلطة بالمماطلة.[18]
خامسًا: ما بعد الانتخابات:
أقرَّ التعديل الدستوري وميَّز بين فرضيتين في مسألة “ترؤس الحكومة”، هما: وزير أول في حالة ما أسفرت الانتخابات التشريعية عن أغلبية رئاسية، أي نفس أغلبية رئيس الجمهورية، وهنا يكون رئيس الجمهورية حرًّا في اختيار الوزير الأول وليس هناك ما يقيد الرئيس في اختياره للوزير الأول ولا يقيده باستشارة الأغلبية البرلمانية. ويكلِّف الرئيس الوزير الأول باقتراح تشكيل الحكومة ويقوم هذا الأخير بإعداد خطة عمل الحكومة وليس برنامج الحكومة ويقدم المخطط إلى المجلس الشعبي الوطني للموافقة عليه.
والفرضية الثانية: يترأس الحكومة رئيس حكومة في حالة ما أسفرت الانتخابات التشريعية عن أغلبية مغايرة للأغلبية الرئاسية؛ وفي هذه الحالة يعيَّن رئيس الحكومة من الأغلبية البرلمانية ويكلفه الرئيس بتشكيل الحكومة في أجل أقصاه 30 يومًا وبإعداد برنامج الحكومة من برنامج الأغلبية البرلمانية وإذا لم يصل رئيس الحكومة إلى تشكيل حكومة في غضون 30 يومًا يعيِّن رئيس حكومة جديدًا ويكلِّفه بتشكيل الحكومة. وفي هذه الحالة، يُعرض برنامج الحكومة على مجلس الوزراء ثم يعرض على المجلس الشعبي الوطني وفي هذه الحالة رئيس الحكومة له صلاحيات تشكيل الحكومة ويقدم برنامج الحكومة وليس مخطط العمل وبهذا يكون المشرِّع، وفق الدستور الجديد، قد عزَّز إمكانية التعايش بين الرئيس المنتخب والحكومة.
هذا، ويعطي قانون النائب للبرلماني المستقل الحق في الانتماء لاحقًا إلى أي تحالف أو تشكيلة سياسية، والعكس غير صحيح. وهذه العملية من شأنها أن تعزز موقع تبون في حالة تشكيله لحزب سياسي مستقبلًا وهي عملية غير مستبعدة، رغم أن الرئيس قدَّم إشارات إيجابية فحواها عدم رغبته للترشح لعهدة ثانية والسعي لتمكين الشباب ولكن هذا لا يمنعه من تشكيل تيار سياسي يحمل إرثه السياسي في المستقبل. من ناحية ثانية، أمام البرلمان المقبل عملية صعبة تتمثل في تطوير وتعزيز العملية التشريعية والتخلص من هيمنة السلطة التنفيذية والخروج من القراءة الأحادية للنصوص. [19]
وبالنسبة للنتائج التي أعلن عنها رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، فهي لم تفرز أي أغلبية برلمانية لصالح حزب معين، وبالتالي فإنه من صلاحيات رئيس الجمهورية في هذه الحالة تعيين وزير أول يقود الفريق الحكومي الجديد. وبمجرد إعلان النتيجة؛ بدأ قادة بعض الأحزاب على غرار حزب جبهة التحرير الوطني المتصدر للنتائج، في إطلاق تصريحات إعلامية تؤكد على ضرورة التحاور مع باقي الكتل والتشكيلات السياسية بخصوص المرحلة المقبلة، التي تعتبر محطتها الأولى عند تشكيل الحكومة الجديدة.
بالمقابل يطرح العديد من المتابعين للشأن السياسي الجزائري فكرة تشكيل “حكومة توافقية” تتشكل من عدة أحزاب سياسية، والحجة في ذلك الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يتطلب تشكيل أكبر حزام سياسي حول الطاقم الحكومي لمواصلة تنفيذ الإصلاحات المتبقية خاصة في ظل مقاطعة المعارضة التقليدية للانتخابات البرلمانية. وكانت بعض الأحزاب قد اقترحت تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع بين التيارات المتشكلة للمشهد السياسي في البلاد، والعمل على تحقيق التوافق الديمقراطي بينها، والاعتماد على مقاربة تشاركية دون إقصاء بما فيهم من قاطع الانتخابات.
في غضون ذلك، يدخل الأحرار أو المستقلون حسابات تشكيل الجهاز التنفيذي الجديد بقوة بما أنهم أصبحوا في سابقة هي الأولى في الجزائر القوة السياسية الثانية في المجلس الشعبي الوطني، بحلولهم في المرتبة الثانية وتحصلهم على 78 مقعد وراء المتصدر حزب جبهة التحرير الوطني. ووفق بعض القراءات، فإن كل احتمالات دخول كتلة المستقلين الحكومة واردة سواء مع طاقم حكومي سياسي أو طاقم كفاءات كما يشير بعض المحللين السياسيين.[20]
ومؤخرًا؛ كلَّف الرئيس عبد المجيد تبون، وزير المالية السابق أيمن بن عبد الرحمن، بتشكيل الحكومة خلفًا لرئيس الوزراء السابق عبد العزيز جراد الذي استقال عقب إعلان النتائج النهائية للانتخابات التشريعية التي جرت 12 يونيو. وكما كان متوقعًا فقد استقر تبون في اختياره لرئيس الحكومة على شخصية ذات وزن اقتصادي لها خليفة في التسيير، وبعيدة عن التوازنات الحزبية التي أفرزها صندوق الانتخابات. حيث تواجه الجزائر أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة، لم تتمكن حكومة عبد العزيز جراد التي تشكلت في أواخر عام 2019، من تجاوزها، على الرغم من احتلال الجزائر المركز الرابع كأكبر اقتصاد في إفريقيا. وجاء اختيار أيمن بن عبد الرحمن لمنصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) ليعكس اهتمام القيادة السياسية في الفترة المقبلة بالملفات الاقتصادية، التي تأثَّرت بشدة بسبب أزمة كورونا، حيث أثرت على أسعار النفط مما أضر بالاقتصاد بشكل كبير. وبن عبد الرحمن صاحب الـ 55 عامًا يُعد أحد الخبراء الاقتصاديين البارزين في الجزائر، وسبق أن شغل منصب محافظ بنك الجزائر المركزي، كما عمل وزيرًا للمالية في أول حكومة عينها الرئيس تبون في يناير 2020.
ويُعرف رئيس الحكومة الجديد بأنه تكنوقراطي غير منتمي لأي حزب. ويواجه بن عبد الرحمن تحديات تبدأ بتشكيل الحكومة من الأحزاب الفائزة بمقاعد المجلس، وما ينجم عن ذلك من اختلافات حول الحقائب الوزارية، وإجراء إصلاحات اقتصادية واسعة لمعالجة الآثار السلبية لكورونا، إضافةً إلى تهدئة الحراك الشعبي الذي مازال يتظاهر يوم الجمعة من كل أسبوع للمطالبة بتغيير النظام بالكامل.
غير أن التحدي الأكبر في الملف الاقتصادي، بسبب انخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى نحو 42 مليار دولار بعد أن كان 72.6 مليار دولار في 2019، وهو ما قد يفرض إجراءات عاجلة كتعويم الدينار الجزائري في ظل التضخم الناجم عن وجود سوق موازية للعملة، ورفع الدعم عن المحروقات وبعض السلع الأساسية وإصلاح النظام البنكي، وتخفيف القيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي في الجزائر.
والملف الذي لا يقل توترًا عن الملف الاقتصادي ربما في الفترة المقبلة هو موقف الأحزاب المحسوبة على تنظيم الإخوان من الحكومة، لاسيما بعد أن أعلن رئيس حركة مجتمع السلم، الذراع السياسية للتنظيم، عبد الرازق مقري، أن حركته لن تكون جزءًا من الحكومة الجديدة، مبررًا ذلك بأن “التزوير الانتخابي لبعض القوى السياسية والتزوير الممنهج الذي قادته بقايا العصابة منعنا من الوصول إلى الأغلبية”. وفي بيان أصدرته الحركة يوم 24 يونيو عقب إعلان النتائج النهائية، قالت إن الانتخابات شهدت “التزوير الممنهج” الذي منعها من تحقيق “الصدارة”.
وهناك تخوفات من تلاقي هذا الموقف مع المظاهرات التي تخرج مطالبة بالتغيير. وبالرغم من كون الرئيس الجزائري كان قد أعلن مُسبقًا عن عدم معارضته لوجود جماعات إسلامية إن لم تمارس العنف، غير أنه كذلك لوَّح بأن الفيصل هو التزامها بقوانين الدولة.[21]
سادسًا: الجزائر بين فرنسا وروسيا:
يشهد التواجد الفرنسي في الجزائر توتُّرًا في الفترة الأخيرة لحساب الشريك الروسي الذي يميل له المكون العسكري الجزائري؛ ويتضح ذلك في التالي: بالنسبة لفرنسا: لم يظهر موقف واضح من الانتخابات الجزائرية؛ لكن كانت صحيفة لوموند الفرنسية قد اتهمت قُبيل الانتخابات في افتتاحيتها يوم السبت 5 يونيو؛ النظام السياسي في الجزائر في تقرير لها تحت عنوان “الجزائر في مأزق استبدادي”، وأشارت فيه إلى الإجراءات التي تتخذها الحكومة الجزائرية “لوقف مظاهرات والحراك والسيطرة عليه”، كما تناول الانتخابات البرلمانية.
ووصف التقرير الانتخابات الرئاسية في 2019، التي وصل من خلالها الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، بـ”المزورة”. الأمر الذي استنكرته السفارة الجزائرية في فرنسا؛ مُعتبرةً إياه عداء غير مسبوق إزاء البلاد ومؤسساتها ورموزها، وتساءلت عن دوافع الجريدة لإطلاق حكم تقييمي يبرز فيه أن الجزائر في مأزق سلطوي -حسب كاتب المقال-.[22]
أما عن روسيا: فبالتزامن مع لانتخابات؛ استقبل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قائد أركان الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة، الذي يقوم بأول زيارة إلى موسكو منذ توليه رئاسة الجيش نهاية 2019. حيث أكد قائد أركان الجيش الجزائري على أن العلاقات بين بلاده وروسيا قوية جدًا وتقوم على أساس متين، ووصفها بـ”العلاقات المثالية”، كما أعرب قائد الجيش الجزائري عن امتنانه لتعزيز روسيا الإمكانيات العسكرية للقوات المسلحة الجزائرية، وقدم شكره لموسكو على مساعدة الجزائر لمواجهة التهديدات والتحديات على خلفية الوضع المتدهور في المنطقة والعالم.
وتُعد الجزائر ثالث مستورد للسلاح الروسي في العالم، بينما تعتبر روسيا مصدر الأسلحة التاريخي للجزائر، إذ تقتني الجزائر أكثر من 60% من أسلحتها من موسكو، وتمتلك 6 غواصات روسية الصنع، بالإضافة إلى اقتنائها نظام الدفاع الجوي الصاروخي “س 400”. وكذا دبابات وطائرات ومروحيات هجومية وأنظمة رادارات روسية تشكل ركيزة القوات المسلحة الجزائرية.
ويعزو الخبراء الأمنيون أسباب تركيز الجيش الجزائري في ترسانته العسكرية على السلاح الروسي إلى “الرفض الأمريكي ومماطلتها في تزويد الجزائر بأنظمة عسكرية”، وقررت الجزائر في 2010 الاستغناء عن أكثر من 50% من طلبات الأسلحة التي تقدمت بها منذ عدة سنوات للولايات المتحدة. وترتبط الجزائر وروسيا منذ 2001 بـ”اتفاق شراكة استراتيجية”، يتعلق بالشراكة والتعاون في عدة مجالات أبرزها الاقتصادي والتجاري والطاقوي والعسكري والعلمي والتقني.
وفي الشأن الأمني الإقليمي، تلتقي المواقف الجزائرية والروسية في الملفين الليبي والمالي، إذ شددا على رفضهما التدخلات العسكرية الأجنبية في الأزمة الليبية ودعواتهما لخروج المرتزقة والميليشيات من الأراضي الليبية، وأن يكون حل الأزمة في هذا البلد العربي بعيدا عن التدخلات الخارجية.[23]
الخُلاصة؛ كان من المُنتظر أن تُمثِّل الانتخابات الجزائرية خطوة هامة في خارطة الطريق التي وضعها تبون لما أسماه بالجزائر الجديدة؛ لكن بفوز جبهة التحرير وانسحاب حركة مجتمع السلم؛ ناهيك عن مقاطعة مجموعة من التيارات للانتخابات من الأساس، وعزوف الناخبين عن المشاركة؛ يبدو أن الجزائر ستكون أمام موجة جديدة من التوترات لاسيما في ظل عدم توقف الحراك الشعبي.
وتبدأ تلك الموجة بمدى إمكانية تشكيل حكومة قادرة على إرضاء تطلعات الشعب بعد أول انتخابات له بعد بوتفليقة، وفي ظل الظروف الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، وتغيير العقيدة القتالية للجيش الجزائري واحتمالات قيامه بعمليات خارج أراضيه سواء في ليبيا أو مالي. وفي ظل كل تلك الظروف والأزمات؛ تأتي نتيجة الانتخابات لتُعمق من الانقسام الداخلي بين الفصائل الجزائرية، وربما تعيد الحراك إلى المربع صفر.
[1] محمد بسيوني عبد الحليم، ” تعزيز الدور: الجزائر وأزمات الإقليم بعد التعديلات الدستورية”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 17/1/2021. متاح على الرابط: https://2u.pw/0swLM
[2] “الجزائر: تبون يحلّ البرلمان ويصدر عفوًا عن معتقلين من الحراك”، D& W، 18/2/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/9Uu9b
[3] عثمان لحياني، “قرار حل البرلمان والانتخابات المسبقة في الجزائر: الرابحون والخاسرون”، العربي الجديد، 19/2/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/oHu4G
[4] محمد علال، مرجع سبق ذكره.
[5] عثمان لحياني، “الرئيس الجزائري يصدر قانون الدوائر الانتخابية ويقلص مقاعد البرلمان”، العربي الجديد، 16/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/WzSRG
[6] علي ياحي، “السباق نحو البرلمان يحدث هزات داخل أقدم أحزاب الجزائر”، عربية Independent، 17/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/2xvY1
[7] عثمان لحياني، “الرئيس الجزائري يقيل مدير الأمن العام للمرة الرابعة في ثلاث سنوات”، العربي الجديد، 16/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/jobdQ
[8] ربيع خريس، “صراع حامي الوطيس بين الإسلاميين والعلمانيين الجزائريين”، نون بوست، 22/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/V2nKL
[9] عبد المنعم علي، “استباق الحراك: تعقيدات المشهد السياسي في الجزائر”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 17/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/9F20o
[10] محمد سالم، “من هم المشاركون والمقاطعون بانتخابات برلمان الجزائر؟”، عربي 21، 22/3/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/cpVSY
[11] “الانتخابات الجزائرية.. فرز الأصوات يتواصل ونسبة المشاركة تجاوزت 30٪ في عموم البلاد”، الجزيرة نت، 12/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/mO21U
[12] “الانتخابات التشريعية في الجزائر 2021: ما الذي يجب معرفته عن أول انتخابات برلمانية بعد بوتفليقة؟”، عربي BBC News، 10/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/LKK1G
[13] “الانتخابات التشريعية الجزائرية: ترقب للنتائج الرسمية وحركة مجتمع السلم تؤكد فوزها”، France 24، 13/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/DFlBo
[14] “نتائج الانتخابات “لا تبشر بجزائر جديدة” وعد بها تبون”، D& W، 17/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/PGZBB
[15] يونس بورنان، “ألغت مقاعد لحزب بوتفليقة.. الجزائر تعلن نتيجة انتخابات البرلمان”، العين الإخبارية، 23/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/jQ1TK
[16] “الجزائر: ماهي دلالات ضعف الإقبال في الانتخابات التشريعية الأخيرة؟”، عربي BBC News، 13/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/I2YMk
[17] بوحنية قوي، “الانتخابات التشريعية الجزائرية: الخارطة والدلالات وحديث عن الأخلاق والتمكين”، مركز الجزيرة للدراسات، 10/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/K6ZYw
[18] ضيف حمزة ضيف، “قراءة في الانتخابات البرلمانية الجزائرية.. التقدّم إلى الخلف!”، 180 Post، 196/2021. متاح على الرابط: https://2u.pw/v5ejV
[19] بوحنية قوي، مرجع سبق ذكره.
[20] إسلام كعبش، “بعد الانتخابات.. أحزاب الجزائر أمام رهان تشكيل الحكومة”، سكاي نيوز، 19/6/2021. متاح على الرابط: https://2u.pw/eJqEx
[21] “غضب الإخوان والاقتصاد.. “صداع” يؤرق حكومة الجزائر الجديدة”، سكاي نيوز، 2/7/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/XCkil
[22] ” بسبب تقرير عن الانتخابات.. السفارة الجزائرية في فرنسا تهاجم “لوموند””، الحرة، 7/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/xlw45
[23] يونس بورنان، “الجزائر وروسيا.. “أولوية” دبلوماسية وعسكرية “تدعمها” أسلحة الردع”، العين الإخبارية، 23/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/gZQSP