ضابط لكل قرية لـ حياة كريمة …  مغزى طرح السيسي وتوقيته ومآلاته

 

 

خلال تفقده المعدات والمركبات والآلات الهندسية التابعة لجهات الدولة المختلفة المشاركة في مبادرة “حياة كريمة” لتطوير قرى الريف المصري يوم الأربعاء 30 يونيو 2021م، اقترح الجنرال عبدالفتاح السيسي تعيين ضابط من الجيش لكل قرية مصرية. شارك في هذه الاحتفالية مصطفى مدبولي، رئيس الحكومة، وقيادات الجيش ورئيس هيئة المجتمعات العمرانية، ويمكن مناقشة عدد من المضامين في تصريحات السيسي بهذا الشأن:

أولا، الزعم بأن ما يتم  إنجازه في الدولة المصرية بإمكانيات الدولة المصرية، متجاهلا أن ما يتم من أعمال لا ترقى مطلقا لوصفها كإنجاز، إضافة إلى ذلك أن هذه المشروعات “حياة كريمة”ليست إنتاجية ولا تزيد الدخل القومي، ولا توفر فرص عمل دائمة لملايين العاطلين، والأهم أنها تتم بالقروض والديون الضخمة من جهات التمويل المختلفة، حتى وصل حجم الديون في عهد السيسي إلى مستويات قياسية وغير مسبوقة، فالدين المحلي ارتفع من 1.4 تريليون جنيه في يونيو 2013م إلى نحو 4.5  تريليون في يونيو 2020م، واليوم قد تجاوز الخمسة تريليونات. أما الدين الخارجي فارتفع من 43 مليار دولار إلى 125 مليار دولار. بنسبة تصل إلى أكثر من 300%.

ضابط لكل قرية لـ حياة كريمة ...  مغزى طرح السيسي وتوقيته ومآلاته

ثانيا، اقترح السيسي في مبادرة حياة كريمة، تعيين ضابط في كل قرية يكون مسئولا عنها قائلا: «بقول للجيش هل ممكن يبقى لنا ضابط متواجد مسؤول عن كل قرية، ويتابع مسألة طلاء المنازل، ويصورها عشان نفرج الدنيا كلها. وبقول لرئيس الوزراء أوعى تزعل عشان هانعمل كده، لأن المصلحة واحدة”، مستكملاً: “المنازل اللي دخلها الصرف الصحي يجب طلاؤها من الخارج عشان يبقى شكلها كويس، وأرجو من الناس تساعدنا في الموضوع ده، وتتبنى فكرة أن المنزل يكون دورين وثلاثة وأكثر في الأرياف، لأنه هذا أمر مهم للغاية».

ثالثا، طرح السيسي في حياة كريمة يبرهن من جديد حرصه على الشكل دون الجوهر، واللقطة والشو الإعلامي دون اعتبار للمضمون، وقد صرَّح بذلك بكل سفور موضحا أن تكلفة الطلاء في حدود 30 إلى 35 مليار جنيه، مستنكرا «احنا ندخل قرية ونعمل فيها صرف ومياه وغاز واتصالات والخدمات الكاملة ليها، بس لو ماندهنتش مش هتحسوا بالفرق».

ثم أعلن عن رصد 200 مليار جنيه لكل مرحلة في مبادرة تطوير الريف المصري (3 مراحل) لصالح الأسر الأكثر احتياجاً، بدلاً من 150 ملياراً لكل مرحلة كما كان مخططاً، قائلاً: “هناك 150 ألف منزل تقريباً في حاجة إلى التوسع الأفقي في قرى مصر، وأدعو منظمات المجتمع المدني إلى المشاركة في مبادرة تطوير 500 ألف منزل».

هذه التصريحات تثير بعض التساؤلات فيما يتعلق بحجم الأموال المرصودة والتي تقدر بنحو 600 مليار جنيه في ظل غياب أي رقابة حقيقية فإن الفساد ملآ الآفاق، فلا البرلمان هو برلمان جاد وحقيقي ليقوم بأدواره الدستورية؛ لأنه بالأساس مجرد كومبارسات جاءت بها أجهزة السيسي الأمنية، ولو شاءت لجاءت بغيرهم على النحو الذي نعلمه جميعا. وثانيا، لانعدام أي رقابة جادة من أي جهة بعدما تم التنكيل بالمستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات لمجرد أنه كشف حجم الفساد سنة 2015م وقدره بنحو 600 مليار جنيه.

أضف إلى ذلك أن المصريين لا يلمسون أي تطوير من أي نوع داخل القرى، وحتى الخدمات التي تحدث عنها السيسي فإنها أقرب إلى مشروعات استثمارية تستهدف بها الدولة زيادة الإيرادات عبر فرض أسعار استثمارية على المصريين مقابلها وفرض المزيد من الرسوم الباهظة مقابل هذه الخدمات، كفواتير الكهرباء والمياه والإنترنت وتعريفة الركوب وغيرها.

رابعا، طلاء منازل القرى في حياة كريمة عند السيسي تفوق في أهميتها ما يحتاجه المواطنون من طعام وغذاء؛ فلا ضير عنده من أن يموت في القرى ويهلكوا فقرا وجوعا مقابل أن يدهنوا منازلهم حتى ينشرح صدر سيادة الجنرال برؤيتها مدهونة بدلا من وضعها الحالي الذي يصيبه بالنكد والغضب. والبرهان على ذلك أن السيسي هدد ملايين المصريين بالقرى وهم الأشد فقرا في البلاد بحرمانهم من الدعم مقابل أن تقوم الدولة بعمل هذه الدهانات؛ حيث قال مهددا «أنا مستعد أشيل بطاقة التموين ثلاث سنوات .. أعملكوا كدا .. أنا بتكلم بجد .. هيقولك الحق الريس عايز يلغي بطاقة التموين ويلغي العيش .. لا ولكن أقدر أعمل كدا .. ولو بديل مناسب ليكون أنا مستعد أعمله”!

ضابط لكل قرية لـ حياة كريمة ...  مغزى طرح السيسي وتوقيته ومآلاته

خامسا، وقف السيسي متباهيا بهذا الإنجاز الضخم «مشروع حياة كريمة» الذي جرى تدشينه في ذكرى انقلاب 30 يونيو 2019م، وأضاف «حرصنا على بدء المشروع في مثل هذا اليوم ليكون تغييرا أخر حقيقىيا لأكثر من نصف سكان مصر، بنتكلم بين 50 و60 مليون إنسان في الريف المصري بنغير حياتهم». ويتجاهل السيسي ونظامه أن المصريين في كل المحافظات لا يعرفون من إنجازات السيسي سوى الغلاء الفاحش الذي طال كل شيء، والذي أدى إلى هبوط عشرات الملايين تحت خط الفقر، وقد رفع النظام جميع أسعار السلع والخدمات على نحو مرعب يفوق قدرات ودخول الغالبية الساحقة من المصريين على نحو يبرهن على أن النظام يستهدف القضاء على الطبقة الوسطي بوصفه الطبقة التي تقود الثورة والتغيير دائما. فالنظام يريد طبقتين فقط: الأثرياء والتي تضم الأقلية من الجنرالات واللواءات ورجال الأعمال والإعلام والمقربون من النظام، ثم طبقة الفقراء وتضم جميع فئات الشعب المصري.

 

لماذا عسكرة القرى؟

ضابط لكل قرية لـ حياة كريمة ...  مغزى طرح السيسي وتوقيته ومآلاته

طرح السيسي أثار كثيرا من التساؤلات حول جدوى الطرح والهدف منه والرسائل التي يراد إرسالها من هذا الطرح والإصرار على عسكرة كافة المجتمع المصري وصولا إلى تعيين ضابط لكل قرية؟ وهل للأمر علاقة بمخاوف السيسي من تمرد شعبي يكون مصدره الريف لاعتبارات تتعلق بالدخول في مرحلة الأزمة بشأن سد النهضة وإصرار إثيوبيا على حجز مياه النيل؟

وكان السيسي قد ناقش مع المجلس العسكري دور القوات المسلحة في مبادرة “حياة كريمة” حينما اجتمع بوزير الدفاع الفريق أول محمد زكي والفريق محمد فريد رئيس الأركان بالإضافة إلى عدد من قادة الجيش وذلك يوم السبت  19 يونيو 2021م، ويبدو أنه لم يجد اعتراضا من جانب المجلس العسكري بشأن تخصيص ضابط لكل قرية ليكون مسئولا عنها كما ذكر في تصريحاته.

ويمكن رصد الملاحظات الآتية:

أولا، طرح السيسي يفضي إلى المزيد من عسكرة المجتمع المصري، فقد جرى عسكرة الاقتصاد والإعلام وجميع مؤسسات الدولة ووزاراتها وصولا إلى رؤساء الأحياء والمدن والوحدات المحلية، واقتراحه بتعيين ضابط جيش لكل قرية يأتي بعد سنة واحدة من تعديلات القانون رقم 165 لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 55 لسنة 1968 بشأن “قانون منظمات الدفاع الشعبي” والذي يقضي بتعيين مستشار عسكري لكل محافظة، في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ مصر؛ وقد صدَّق السيسي في 29 يوليو 2020م على تعديل بعض أحكام القانون، والذي تضمن استحداث مادة تنص على أن يكون لكل محافظة (عددها 27) مستشار عسكري وعدد كافِ من المساعدين يصدر قرار تعيينهم وزير الدفاع المصري.

وحدد القانون مهام المستشارين العسكريين، بـ”تمثيل وزارة الدفاع بالمحافظات، والمتابعة الميدانية للخدمات والمشروعات، والتواصل المجتمعي مع المواطنين بشأن المشكلات، والتنسيق مع الجهات المعنية في الأمور الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، والتنسيق مع الجهات التعليمية لتنفيذ منهج التربية العسكرية”. كما منح القانون صلاحيات أخرى للمستشارين العسكريين، أبرزها المشاركة في اجتماعات المجلس التنفيذي للمحافظات، وعقد اجتماعات مع القيادات التنفيذية إذا لزم الأمر، ورفع تقارير إلى وزارة الدفاع أو أي جهات معنية في الأمور التي يختص بها.

كما يأتي طرح السيسي بعد شهور قليلة من افتتاح مجمع الوثائق المؤمنة والذكية (افتتح في 7 أبريل 2021م) بوصفه الجهة المختصة بإصدار مختلف الوثائق الحكومية، والذي تم إسناد إدارته والإشراف عليه إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة رغم أن ذلك كان من اختصاص السجل المدني التابع لوزارة الداخلية منذ عقود طويلة. وهي رسالة على إصرار النظام على عسكرة كل شيء في البلاد.

ثانيا، يحمل توقيت الطرح تساؤلات مهمة وحساسة؛ ذلك أن اقتراح السيسي يأتي في ظل تأزم ملف سد النهضة وعدم قدرة  النظام على مواجهة العناد الإثيوبي، وعجز النظام عن لجم العدوان الإثيوبي الذي يضرب الأمن القومي المصري في الصميم،  بينما يقف السيسي والجيش عاجزين عن حماية مصر وشعبها وأمنها القومي وهم الذين يبتزون الشعب باستمرار بدعوى أن الجيش هو الذي يحمي البلد؛ فإذا بالسيسي والجيش يقفون عاجزين أمام أكبر تهديد تتعرض له مصر في تاريخها كله.

فما جدوى صفقات السلاح المليارية إذا؟ ولم جرى شراء هذه الكميات الضخمة من السلاح إذا لم تستخدم لمثل هذا الموقف ولجم هذا العدوان؟ وما جدوى الجيش نفسه إذا كان عاجزا عن حماية مصر وأمنها القومي على النحو الذي نعاينه الآن؟ كل ذلك يؤكد أن الجيوش التي تحكم لا تقاتل، والجنرال الذي يمارس البيزنس والصفقات لا يعنيه الأمن القومي في شيء بقدر ما يعنيه استمرار منصبه وحماية امتيازاته الضخمة وبقائه فوق السلطة حتى لو انهارت البلاد، وما نموذج بشار الأسد عنا ببعيد!.

ثالثا، يدرك السيسي أنه هو من تسبب في أزمة سد النهضة بالتوقيع على اتفاق المبادئ في الخرطوم في مارس 2015م، وهذا التوقيع هو الذي شرعن عمليات بناء السد التي كانت حتى ذلك الحين إنشاء غير قانوني بناء على نصوص القانون الدولي للأنهار، وبالتالي فإن اقتراحه بتعيين ضابط جيش في كل قرية هو من قبيل التحسب لثورة شعبية تنطلق من الريف الذي سيكون الأكثر تضررا من تداعيات إتمام سد النهضة والبدء في حجز المياه على مدار السنوات المقبلة. السيسي إذا  يتحسب لهذه الثورة ويريد  المزيد من توريط الجيش والمزيد من صدامه مع الشعب؛ فاستغل ملف “مبادرة حياة كريمة” لتكون غطاء لاقتراحه؛ إذ ما دخل ضباط الجيش في مسألة تطوير القرى ودهان منازل الفلاحين ومتابعة المشروعات الحكومية بالقرى؟!

رابعا، اقتراح السيسي تعيين ظابط في مبادرة حياة كريمة يبرهن على فشل جميع الإدارات المحلية؛ فكل قرية بها عمدة ووحدة محلية وتتبع لمدينة أو مركز يديره لواءات وعمداء سابقين بالجيش أو المخابرات أو الأمن الوطني، وهناك مؤسسات حكومية قائمة بالفعل؛ فما الحاجة لضابط جيش بين كل هؤلاء؟ وما حدود صلاحياته؟ وهل يمكن أن يفضي ذلك إلى تنازع صلاحيات بين مؤسسات الدولة؟ وتعيين ضابط لكل قرية يعني سلطة عسكرية أعلى من السلطة المدنية القائمة، بهدف ضبط حركة الشارع الغاضب.

ضابط لكل قرية لـ حياة كريمة ...  مغزى طرح السيسي وتوقيته ومآلاته

ثم إن ذلك يعني المزيد من الإنفاق وإهدار المليارات عبثا؛ لأن تنفيذ هذا الاقترح يتطلب تجهيز وإعداد أكثر من خمسة آلاف مكتب بعدد القرى المصرية للسادة الضباط، بخلاف العاملين في هذه المكاتب لخدمة السادة الضباط وما يحتاجون إليه من نفقات ومخصصات مالية للقيام بمهامهم الجديدة، ولا ندري هل ذلك سيتم مقابل مرتباتهم بالجيش أم سيتم منحهم مكافآت خاصة؟ وما حجم هذه المكافآت؟ وهل ميزانية البلاد تسمح بإهدار كل هذه المليارات الضخمة في ظل تضخم الديون وزيادة العجز المزمن في الموازنة؟!

خامسا، اقتراح السيسي قد يفضي إلى تنازع صلاحيات بين هؤلاء الضباط الذين على الأرجح سيكونون تابعين للمخابرات العسكرية من جهة، مع جهاز الأمن الوطني من جهة أخرى، باعتباره المسئول الأول عن الملف الأمني في كل قرى الجمهورية، فهؤلاء الضباط لن يتابعوا دهان المنازل ومشروعات المياه والكهرباء والصرف الصحي كما يدعي السيسي، لكنهم في المقام الأول سيقومون بأدوار أمنية تستهدف تقويض أي تحرك شعبي جماهيري ضد النظام في ظل التنبؤات السوداوية حول مستقبل البلاد في ظل الإصرار الإثيوبي على حجز مياه النيل وتحويلها إلى سلعة.

وقد كشفت انتفاضة الريف التي انطلقت في سبتمبر 2020م أن حالة الغضب والاحتقان كبيرة، ويدرك النظام أن الفعاليات الثورية غالبا ما تبدأ من الأطراف وتنقل إلى المركز، والنظام يعاني من ضعف شديد في السيطرة على الأطراف؛ وبالتالي فاقتراح السيسي له أبعاد أمنية تستهدف المزيد من السيطرة والتحكم وجمع المعلومات عن الواقع الميداني. وهذا بلا شك أحد أهم اختصاصات وصلاحيات الأمن الوطني. وإذا جرى تنفيذ هذا الطرح فسيكون ذلك كفيلا بصدامات عنيفة بين الجيش والأمن الوطني وتنازع صلاحيات سيحسمها الجيش حتما لصالحه باعتباره الحاكم الفعلي للبلاد والمؤسسة القادرة على فرض أي شيء بقوة العنف والسلاح، لكنها سيفضي إلى تآكل هذه المؤسسات والدخول في مرحلة أكثر فوضى واضطرابا.

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022