ملف مياه النيل من المفاوضات إلى التدويل

 

 

لاقى ملف مياه النيل العديد من التحديات والمصاعب خلال الفترة الماضية، لاسيما منذ شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة الضخم على النيل الأزرق الرافد الأهم لنهر النيل. وبالرغم من كون الخلافات على تقسيم مياه النيل بين دول المنابع والمصب ليست بالجديدة؛ إلا أن ما يميزها هذه المرة أنها صارت تُشكِّل خطرًا وجوديًا على دول المصب، في ظل تعنت إثيوبي وإصرارها على اعتبار النيل بحيرة إثيوبية أو نهر إثيوبي عابر للحدود على حد التعبيرات الإثيوبية المتداولة في الفترة الأخيرة. فما هي أبعاد الأزمة المصرية في هذا الملف؛ في محيطها الوطني والإقليمي والدولي، لاسيما بعد محاولة مصر والسودان لتدويل القضية ورفعها لمجلس الأمن؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها. وللإجابة عن تلك التساؤلات تستخدم الورقة مدخل SWOT Analysis: والذي يعمل على إيجاد علاقة بين الفرص والتهديدات ونواحي القوة والضعف في الدولة.

ملف مياه النيل من المفاوضات إلى التدويل

بدايةً يجب أن نُلقي الضوء على سر العداء التاريخي بين مصر وإثيوبيا: الصراع المصري – الإثيوبي، له تاريخ ممتد منذ نحو 150 عامًا، وله العديد من الأبعاد والجذور. حيث اكتشفت إثيوبيا أهميتها كدولة منبع وأهمية مصر كدولة محورية، وهناك أمور مشتركة جعلت إثيوبيا في حالة تنافس مع مصر من الناحية التاريخية، مما يجعل تهديد الأمن المائي المصري من قِبل إثيوبيا أمر ليس بجديد. فكان هناك تهديد إثيوبي مستمر لمصر بإمكانية قطع مياه النيل، سواء كان في عصر الإمبراطور الإثيوبي منليك في بداية القرن التاسع عشر، حتى عهد الخديوي إسماعيل ورؤساء مصر عبد الناصر والسادات ومبارك، وظلت المشكلة قائمة حتى الآن.

وكانت تربط مصر بدول المنابع الأخرى، وهي بروندي ورواندا والكونغو وتنزانيا وكينيا وأوغندا، علاقات تعاون جيدة خاصةً أوغندا، حيث قامت مصر بإنشاء سد “أوين” في أوغندا، لتوليد الكهرباء وتنظيم حركة المياه في اتجاه النيل الأبيض، وأيضًا طورت العمل مع دول المنابع بمشروعات مشتركة كحفر الآبار، ومشروعات صحية وتعليمية وغيرها. لكن هذه الدول، وفور استقلالها وتحديدًا في عام 1964، أرسلت لمصر ما سُمي بـ”رسالة من جورجيوس” وهذه الرسالة أكدت على عدم اعترافهم بالاتفاقيات الموقعة بينهم مع مصر، بشأن تقسيم المياه، ومنحوا مصر مهلة عامين، قبل إلغاء هذه الاتفاقيات من جانب واحد.

والعقدة الأكبر في العلاقات المصرية – الإثيوبية ظلت دائمًا في إنشاء السد العالي، حيث عابت إثيوبيا على مصر عدم إخطارها مسبقًا بإنشاء السد العالي وتوشكي وترعة السلام. وزاد من حدة الصراع بين مصر وإثيوبيا اتفاق “عنتيبي”، فهو لم يعترف بالحصص التاريخية لمصر “55.5 مليار متر مكعب من المياه 18.5 مليار متر مكعب للسودان”، ورغم أن هدف الاتفاقية كان توزيع الفقد في المياه، التي تمثلت في 950 مليار متر مكعب على إثيوبيا، وحوالي 750 على الهضبة الاستوائية، و530 مليار على بحر الغزال على دول حوض النيل. واتسعت هوة الصراع بإعلان إثيوبيا شروعها في بناء سد النهضة، الذي سيخلف أضرارًا كثيرة على مصر.[1] وزيادةً على ذلك الصراع المصري الإثيوبي الخفي على قيادة القارة الإفريقية، والذي جعل إثيوبيا دائمة الهجوم على مصر بغية فصلها عن محيطها الإفريقي.

أولاً: تحليل الموقف المصري: وهنا نتناول المخاطر والفرص، فمن ناحية؛ المخاطر التي تنتظر مصر كنتيجة لسد النهضة؛ تتمثَّل في: حذرت دراسة منشورة في دورية Environmental Research من أن عدم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهة العجز المائي المحتمل بسبب إنشاء سد النهضة الإثيوبي، والوصول إلى اتفاق مشترك بشأن ملء السد وإدارته، قد يتسبب في آثار خطيرة على الاقتصاد المصري. ووفقًا للدراسة فإن متوسط إجمالي عجز الميزانية السنوية المتوقع للمياه في مصر خلال فترة الملء -مع أخذ عوامل أخرى مرتبطة بجيولوجية خزان سد النهضة في الاعتبار- قد يصل إلى قرابة 31 مليار متر مكعب في السنة، وهو ما يتجاوز ثلث إجمالي ميزانية المياه الحالية لمصر، في حالة عدم إنجاز جهود التخفيف والمواجهة المحتملة من قِبل السلطات المصرية المعنية.

على أثر ذلك، فإن الرقعة الزراعية المصرية مهددة بالتراجع بنسبة مقلقة، قد تصل إلى 72٪، كما يُتوقع أن ينخفض الناتج القومي للفرد في مصر بنسبة قد تصل إلى 8٪، ومن ثمَّ وصول معدل البطالة إلى نسبة قد تصل إلى 25٪، وفق الدراسة. وتشير أحدث الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مارس الماضي، إلى أن إجمالي موازنة مصر المائية يصل إلى 81 مليار متر مكعب، إذ يُعتبر نهر النيل هو المورد الرئيسي للمياه بحصة تبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويًّا تمثل 68.5٪ من جملة الموارد المائية عام 2019/2020، أما المكون الثاني لموازنة مصر المائية فهو المياه الجوفية العميقة والأمطار والسيول ومياه البحر المحلاة، وكذا مياه الصرف المعاد استخدامها والمياه الجوفية السطحية بالدلتا، وتُقدَّر بنحو 25.56 مليار متر مكعب تمثل 31.5٪ من جملة الموارد المائية عام 2019/2020.

وتحذر الدراسة من مزيد من التهديد الذي قد يشمل دلتا النيل، سلة غذاء مصر، بقدرٍ قد لا تتحمله البلاد التي تعتمد بشكل أساسي على الأراضي الزراعية الخصبة في الدلتا لتوفير احتياجاتها من الغذاء. وقد تعمَّد هذا النموذج عدم ذكر بحيرة ناصر أو الخزان الجوفي؛ لكونهما احتياطي مصر القيم من المياه، حيث قامت الدراسة على افتراض تقييم الآثار السلبية للسد في حالة عدم اتخاذ مصر أي إجراءات للتخفيف، ومن بينها الاستعانة بمياه البحيرة، كما كان تركيز البحث على مياه النيل فقط، دون التعرُّض لاحتياطات مصر المائية.[2]

وفوق كل هذا هناك خطر يخص مستقبل نهر النيل وتدفق حصة مصر السنوية منه، وهو أن تمرير سد النهضة دون اتفاق مُسبق سيفتح الباب أمام دول حوض النيل لتنفيذ مشروعاتهم المُستقبلية على منابع النيل لأغراضٍ شتى، وساء كانت تلك الأغراض منحصرة في توليد الطاقة الكهربائية فقط كما هو الحال في سد النهضة، أو حتى أغراض أخرى مثل الزراعة أو الري. وهو الأمر الذي سيجعل مستقبل وصول مياه النيل لمصر في خطر، في الوقت الذي تعاني فيه مصر بالفعل من الفقر المائي وتحتاج لتوفير مصادر جديدة للمياه بجانب حصتها الحالية من النيل، لتتناسب مع الزيادة المُطردة للسكان.

ملف مياه النيل من المفاوضات إلى التدويل

أما عن المخاطر السياسية في الداخل المصري؛ فإن النظام الذي لطالما هدد ولوَّح بالوعيد لمن يحاول المساس بحقوق مصر المائية، لا شك أنه يدرك أن تنازله عن تلك الحقوق بهذه البساطة سيكون له تداعياته الداخلية، وسيُسهم في تراجع شعبيته والصورة التي يروجها لنفسه على كونه حامي الدولة وشعبها. ولكن من ناحية أخرى؛ أصبح التفكير في الخيار العسكري غير وارد، لاسيما بعد ما أبدته الأطراف الدولية (صاحبة المعونات المُقدمة للدولة المصرية ونظامها) في جلسة مجلس الأمن من عدم اكتراث للملء الثاني، بل وبروز الأصوات المعارضة بصورة حادة وتهديدية من محاولة اللجوء للخيار العسكري (روسيا)، كما أن اللجوء للخيار العسكري في حد ذاته وإن كان مُتاحًا يحمل في طياته مجموعة من المخاطر التي يخشاها النظام؛ فنتيجته إما نجاح ربما يهدد بصعود قيادات جديدة للمؤسسة العسكرية وترميزها، وهو الأمر الذي لطالما خشيه رأس النظام وتفادى حدوثه، أو فشل أيضًا يضرب الصورة التي لطالما سعى النظام لرسمها لنفسه في مقتل لدى مؤيديه.

كل هذا يطرح تساؤلين؛ هما: هل يخاطر النظام بدعم الخارج لتهدئة الداخل الغاضب والذي ينتظر من جيش بلاده التعامل مع التعنت الإثيوبي؟ أم أنه يجد في قمع الداخل –كالمعتاد- الخيار صاحب الكلفة الأقل في مقابل تأمين عرشه في الداخل والخارج –هذا في حالة تحرك الشعب بالأساس-؟

ومن ناحية أخرى فإن الفرص التي يُمكن استغلالها من قِبل مصر بعد تشغيل سد النهضة؛ تتمثل في: من جانب آخر؛ من الناحية الفنية؛ يرى البعض أن سد النهضة ليس شرًّا محضًا بالنسبة لمصر، بل يُسهم في خفض كمية الطمي أمام السد (الإطماء) وبالتالي يساعد على إطالة عمره، وأن مصر بإمكانها التخفيف من الآثار السلبية لسيناريوهات الملء المختلفة، من خلال تعويض الفاقد من مياه بحيرة ناصر وتقليل كمية التبخر من البحيرة عن طريق الحلول الهندسية الممكنة. وأحد الحلول المطروحة كذلك هو تعظيم استخراج المياه الجوفية الموجودة بالفعل في الدلتا، لكن هذا سيكون له آثار بيئية ضارة على المدى الطويل، وقد تتسبب في تلوث الخزان الجوفي، مما يوجب ضرورة تعديل الخريطة المحصولية في مصر، وتقليل زراعة محاصيل شرهة للمياه، مثل الأرز وقصب السكر.[3]

أما من الناحية السياسية؛ فتكمن الفرصة الوحيدة في تحسين علاقة مصر بدول حوض النيل وربما القرن الإفريقي بشكل جاد وفاعل، وذلك لتفادي ما يُمكن أن ينتج عن السد من مخاطر مُستقبلية حيث يفتح الباب أما دول المنابع لإقامة مشروعات على حوض النهر دون إخطار مُسبق، ومحاولة استمالة تلك الدول لتعديل اتفاقية عنتيبي بشكل يحافظ على حقوق مصر المائية.

ولتحليل نقاط الضعف والقوة في الموقف المصري؛ نلقي الضوء على نقاط القوة والضعف للجانب الإثيوبي، وهي كالتالي..

ملف مياه النيل من المفاوضات إلى التدويل

ثانيًا: تحليل الموقف الإثيوبي: تكمن نقاط القوة في كون إثيوبيا استطاعت ترويج رؤيتها، فتبنَّت أغلب الدول موقفها الأمر الذي بدا واضحًا في جلسة مجلس الأمن، مؤكدين دعوتهم إلى الحوار في البيت الإفريقي، ورفض دخول وسطاء جدد. وإذ تعتبر إثيوبيا مجلس الأمن ليس مختصًّا بمناقشة القضية، بوصفها قضية تنموية وفنية، وإن نقاشها في المجلس مضيعة للوقت والموارد، بحسب تعبير وزير الري الإثيوبي، فإن مواقف الدول الأعضاء لم تختلف كثيرًا، نصحوا بحل المشكلة بين الأطراف الثلاثة، من دون رغبة في تدخل.[4] والجدير بالذكر هو أن البقاء في الإطار الإفريقي، الذي يمثله الاتحاد الإفريقي كان أيضًا رغبة إثيوبية، ما جعل أديس أبابا تظهر بمظهر المنتصر، خاصةً حين رفض المندوب الروسي حتى فكرة التدخل كوسيط للمساعدة على التفاوض، إلا في حالة موافقة الأطراف المعنية. هكذا انتهى الاستعراض الدبلوماسي، باكتفاء المجلس بحث الأطراف المتنازعة على العودة إلى طاولة التفاوض. الطريف أن هذا الموقف جاء بإجماع الأعضاء، على الرغم من اختلافاتهم المعروفة من الولايات المتحدة التي بدت أكثر تفهمًا للحقوق الإثيوبية، إلى روسيا التي رأت أنه يجب وقف أي تهديد باستخدام القوة في إشارة واضحة لمصر. بالتأكيد فإنه كان لكل دولة من دول المجلس مبرراتها التي تجعلها تنأى بنفسها عن اتخاذ أي موقف في مواجهة إثيوبيا، أو يصب في اعتبارها معتدية على غيرها، ولذا شكَّلت دعوات التفاوض مخرجًا دبلوماسيًا مناسبًا. المشكلة هي أن التفاوض نفسه بات مصطلحًا غامضًا، لا نعلم إن كان له معنى حقيقي في الوقت الحالي سوى “الطلب” من الجانب الإثيوبي بتوفير حصص كافية من المياه، أو إشراك مصر والسودان في الجوانب الفنية المتعلقة بتدفق المياه من أجل تخفيف حجم الضرر. من جهة أخرى ربما يكون المقصود بالتفاوض في الفترة المقبلة القفز على كل ذلك، والبحث عن شراكات تنموية وأطر بديلة للتعاون.[5]

أما عن نقاط الضعف في الموقف الإثيوبي؛ فتكمن فيما يمر به من أزمات داخلية؛ تؤجج بعض المواقف الدولية ضده انطلاقًا من ملف حقوق الإنسان. فمن ناحية حرب التيجراي وما نتج عنها من تورط النظام في جرائم إنسانية، ومن ناحية أخرى الحرب الحدودية مع السودان على إقليم الفشقة، ومن ناحية ثالثة التطورات الأخيرة التي تخص نجاح قادة إقليم التيجراي في السيطرة على العاصمة ميكيلي وانسحاب قوات آبي أحمد بعد إلحاق الهزيمة بها، بجانب توغل قوات التيجراي في أراضي إقليم الأمهرة، مع الحديث عن توترات في إقليم بني شنقول الذي يقع فيه سد النهضة. وشرعية آبي أحمد بعد نجاحه في الانتخابات الأخيرة، والتي بناها بالأساس على إحلال السلام في الأقاليم الإثيوبية، بعد نجاحه في إتمام الصلح مع إريتريا، وهو الأمر الذي بات مُهددًا بعد عودة جبهة التيجراي بقوة وهزيمتها للقوات الفيدرالية.

وترفض إثيوبيا التوقيع على اتفاق مُلزم بينها وبين دول المصب؛ حيث: ترى أن هذا الاتفاق يُقوِّض سيادتها على سد النهضة كونه يقيد تصرفاتها في منشآت هي ملكها، كما ترفضه لأنه يلزمها بتعويض أي ضرر يقع على الدول أسفل النهر وهذا يُشكِّل عبء خطير عليها خاصةً إذا ما تعرض السد إلى أي مخاطر جيولوجية.

ثالثًا: تحليل موقف الجانب السوداني: يصر السودان على الاتفاق القانوني الشامل والملزم والذي ترفضه إثيوبيا؛ حيث: الاتفاق الملزم يعني للسودان ضمان تدفق مياه النيل الأزرق في كل الظروف (الوضع الطبيعي وفي أوقات الجفاف)، وضمان تبادل المعلومات مع إدارة سد النهضة للتحكم في تشغيل السدود السودانية على رأسها سد الروصيرص، وضمان لتعويض الأضرار الجسيمة التي يمكن أن تقع على السودان بسبب سد النهضة وفقًا لمبادئ القانون الدولي الخاص بالأنهار المشتركة ( مبدأ عدم تسبب الضرر).

بينما عدم الاتفاق الملزم يعني أن يكون النيل رهن التقلبات الجيوسياسية لما تقتضيه ضرورات الموارد المائية، وما يمكن أن تلعبه في تشكيل السياسة الدولية في المستقبل خاصةً في ظل التغيرات المناخية، والتي تشير التنبؤات من خلالها بحدوث جفاف طويل في منطقة القرن الإفريقي. كما يجعل عدم الاتفاق الملزم إثيوبيا تفرض هيمنتها على النيل كأنه ملكًا لها. وبالنسبة للسيناريو العسكري؛ فيحمل عدة مخاطر على السودان؛ فالمناورات العسكرية المشتركة بين السودان ومصر تحت مسمى نسور النيل وحماة النيل لها ما بعدها، وعليها تحفظات إثيوبية بل واحتجاج لدى مجلس الأمن.

ومن أهم مخاطر السيناريو العسكري: كون السودان ومصر أجريا مناورات عسكرية مشتركة تحت مسمى حماة النيل؛ فأي عمل عسكري تقوم به مصر تجاه السد الرد المباشر من إثيوبيا سيتم في سد الروصيرص وسنار، وبتعرض هذين السدين للتخريب لن يصمد سد مروي أمام فيض المياه، وبهذا يكون السودان قد فقد كل مواعينه التخزينية وما يترتب على ذلك من دمار جراء الفيضانات قد يحتاج إعادة إعماره لأكثر من عقد من الزمان، هذا ناهيك عن التحديات السياسية التي قد تنجم جراء تدهور العلاقات الخارجية.[6]

ملف مياه النيل من المفاوضات إلى التدويل

رابعًا: تحليل المواقف الدولية في جلسة مجلس الأمن: يُمكن قراءة مواقف الدول خلال الجلسة؛ كالتالي: كانت مواقف أكثر الدول دعمًا للجانب الإثيوبي في جلسة المجلس؛ هي مواقف مندوب كلٍّ من كينيا وروسيا، وبالنسبة لمنطق الأولى فبين نيروبي وأديس أبابا اتفاق دفاع مشترك، وهو ما يجعلها ترفض أي عداء مستقبلي لها، لكن الأهم أنها شاركتها رواية ظل يطرحها دينا مفتي الناطق باسم خارجية إثيوبيا كثيرًا وهي ضرورة تقسيم المياه، حيث دعت كينيا للعودة لاتفاقية عنتيبي.

فضلًا عن كون كينيا تعرف جيدًا أنه وبعد تراجع دور إثيوبيا بسبب تداعيات أزمة تيجراي، وتحويل مركز القرار العالمي في شرق إفريقيا لنيروبي، مع رئاسة السودان الحالية للإيجاد تعي تمامًا أن السودان بإمكانه أن يلعب دور منافس، وبالتالي أي خطة لتوسيع الهوة بينه وبين إثيوبيا هي في صالحها، وهو منطق يقتضيه التدافع حول المصالح الاستراتيجية. أما موسكو فتعتقد أن التقارب بينها وبين أديس أبابا مهم ومحوري، فالدولتين ينتميان لنفس الكنيسة الشرقية، وتوجه أديس أبابا باتجاه موسكو ينبع من تغيير بوصلة التعاون من واشنطن وأوروبا اللذين يرعيان أهمية للبعد الإنساني في أزمات إثيوبيا الداخلية، والتحول إلي روسيا التي لا يهمها في ذلك شيء خلافًا لبحثها عن تواجد مستديم بمناطق الثقل الغربي. وهنا يجب الإشارة إلى أنه قبل شهر من موقف روسيا، أعلنت إثيوبيا عن استعدادها لاستضافة القمة الروسية الإفريقية التي لم تحدد موسكو عاصمة انعقادها، ومن هذه الخطوة حصدت إثيوبيا موقف روسيا الداعم لها.

أما بالنسبة للخرطوم، فما تم هو شد أُذن لها لإعادة النظر في علاقاتها مع موسكو وهي لفتت انتباه لأهمية دور موسكو في المواقف التي تتطلب إجماع لدي المجتمع الدولي، لا سيما بعد التوتر الكامن بين البلدين الذى كان عنوانه قبل شهر “تعليق الخرطوم لإنشاء مركز لوجستي روسي علي سواحلها”. وهنا جاء موقف موسكو في مجلس الأمن بصريح العبارة بـ “الرفض” لأي لهجة عسكرية للتدخل من قبل السودان ومصر.[7]

أما الصين فتخشى من إثارة قضايا الأنهار في مجلس الأمن، لما بينها وبين العديد من الدول وعلى رأسها الهند، لما تعمد الصين إلى إنشائه من مشروعات على الأنهار النابعة من هضبة التبت، باعتبارها أنهار عابرة للحدود وليست أنهار دولية، وليست أنهار دولية وهو الأمر الذي أسقطته على نهر النيل. وربما كان هذا هو نفس السبب الذي دفع الهند لتبنِّي الموقف المعاكس؛ حيث أقرت بأن مياه النيل لابد أن تستفيد منها كل دول الحوض، كانعكاس لمشكلاتها مع الصين.

الخُلاصة؛ بدا واضحًا أن التعويل على المواقف الدولية، من دون اتخاذ مواقف تخص أصحاب المشكلة أمر غير منطقي، فلا يُمكن أن تطلب من الآخرين مساعدتك وأنت مقيد في استخدام الخيارات أو حسمها، ولا إمكانية للتأثير الدبلوماسي من دون امتلاك موارد (ومصادر) القوة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية وحسن إدارتها. وتؤكد إثيوبيا بنهجها استمرار المواجهة والتحدي لدولتي المصب، والمراوغة لكسب الوقت، وممارسةً المزيد من الضغوط لمضاعفة نقاط القوة.

وبعد انتهاء أعمال بناء السد وبداية الملء الثاني، أصبح موقفها أكثر قوة، وانعكس ذلك في كلمتها في مجلس الأمن. ومن ضمن الاستنتاجات أن من المستبعد أن تتخذ أي أطراف دولية موقفًا مغايرًا طالما بقي الحل الوحيد الارتهان لتفاوض يفتقد عوامل قوة وضغط ومصالح متوازنة، وإذا استمرت دولتا المصب في محدودية استخدام إمكاناتهما في التأثير، فلا تقدم ممكن الحدوث في الملف.

وكانت أهم المُلاحظات على اجتماع مجلس الأمن بشكلٍ عام: عدم وضع إطار زمني للمفاوضات التي سيرعاها الاتحاد الإفريقي بالتزامن مع الملء الثاني للسد، وعدم وجود رفض قاطع وصريح للملء الثاني للسد، وتكرار ذكر النهر باعتباره نهر عابر للحدود وليس نهر دولي؛ الأمر الذي يومئ باعتباره نهر إثيوبي مما يجعل إثيوبيا غير مُلزمة بأي اتفاقيات مع مصر والسودان، التأكيد على الرفض الإثيوبي للوساطة، وحتى الاتحاد الإفريقي هو راعي وليس وسيط، والسودان لم تطرح التعامل بالقوة في أي موضع، والجانب الإثيوبي كان يصر على فصل الموقف المصري عن السوداني؛ ففي حين كان يتعامل مع مصر بعدائية شديدة كان يلاطف السودان محاولًا استمالتها لصفه.

كما برز في الاجتماع بصورة كبيرة تشكُّل في المواقف الدولية والإقليمية تعكس التحالفات والتكتلات الموجودة على الأرض؛ فرنسا وأمريكا في مقابل روسيا والصين، وموقف عربي في مقابل موقف إفريقي. بينما كان الموقف الأكثر شدة وحزم هو الموقف الداعم للجانب الإثيوبي (الروسي)، في الوقت الذي بدت فيه المواقف الأخرى الداعمة لحقوق مصر والسودان غير حازمة، ولم تبدر منها إدانة واضحة للسلوك الإثيوبي المُنفرد. وهنا تبرز مجموعة من التساؤلات؛ في ظل هذا الانقسام حتى بين القوى العظمى؛ هل سيكون الخيار العسكري عقلاني؟ وهل لدى مصر تلك الجرأة بعد ردود الفعل غير الداعمة من القوى العظمى في مجلس الأمن وفي ظل ما تحصل عليه مصر من معونات من تلك الدول؟ وإن حدث ضرب هل إثيوبيا وحلفاءها سيمررون الأمر دون رد فعل؟ وماذا سيكون مستقبل إدارة مصر لملف المياه بعد القطيعة التي ستحدث بينها وبين دول حوض النيل؟

 

[1]  هبة محسن وهند بشندي، “مصر وإثيوبيا.. تاريخ طويل من الصراع المائي”، مصراوي، 2/10/2013. متاح على الرابط: https://cutt.us/yaNCJ

[2]  محمد السعيد، “دراسة تحذر من مخاطر سد النهضة على الزراعة في مصر.. وباحثون ينتقدون نتائجها”، للعلم Scientific American، 17/6/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/aUwUs

[3]  محمد السعيد، مرجع سبق ذكره.

[4]  عصام شعبان، “سد النهضة في مجلس الأمن.. المواقف والخيارات”، العربي الجديد، 12/7/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/ogWIc

[5]  د. مدى الفاتح، “سد النهضة: ما بعد الجلسة الأممية”، القدس العربي، 16/7/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/qi2e7

[6]  الحسن نصر، “الملء الثاني والسيناريو المشؤوم”، فيس بوك، 12/7/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/lJ9UJ

[7]  بكري عبد الرحمن، “قراءة لجلسة مجلس الأمن”، فيس بوك، 10/7/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/f4cE6

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022