تمديد الإجراءات الاستثنائية في تونس.. الدلالات والتداعيات المستقبلية

 

بقرار الرئيس التونسي قيس سعيّد، في 25 أغسطس الماضي، تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية، الصادر بمناسبة مرور شهر على انقلابه على الدستور في 25 يوليو الماضي، تدخل تونس عملياً مرحلة جديدة، مفتوحة على الاحتمالات كافة، في انتظار أن يفصح الرئيس عن نواياه، خصوصاً أن احتمال استمرار تعطيل الحياة السياسية مطولاً يبقى قائماً، لا سيما مع معرفة نوايا سعيّد ومشروعه السياسي الذي أفصح عنه حتى من قبل وصوله إلى الرئاسة، والذي يتمثل بإنهاء دور الأحزاب.

ومضى سعيّد، كما كان متوقعاً، في قرار الإمساك بالبلاد، معطلاً كل المؤسسات ومنصباً نفسه الآمر الناهي الوحيد في الدولة، حتى وإن كان ذلك يشكّل مخالفة فاضحة للدستور الذي قال سعيّد إنه استند إليه يوم 25 يوليو الماضي، عندما علّق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وحل الحكومة.

ولم يأبه بكل المناشدات والتحذيرات، التي كانت تتخوف من إبقاء البلاد تحت هذه الإجراءات الاستثنائية إلى ما بعد انقضاء مدة الشهر التي كان حددها سعيّد نفسه، لكن غالبية الأحزاب، وبينها “النهضة”، رفضت تلك القرارات، ولم تتوقف إجراءات “سعيّد”، عند هذا الحد بل شملت فيما بعد إعفاء مسؤولين في قطاعات عدة وفرض الإقامة الجبرية أو المنع من السفر على آخرين بدعوى التحقيق في شبهات فساد تلاحقهم.

أولا: الظروف المحيطة بقرار التمديد

تمديد الاجراءات الاستثنائية في تونس لأجل غير مسمى.. الدلالات والتداعيات المستقبلية

وصولا لقرار التمديد، أقال سعيد منذ 25 من يوليو نحو 40 مسؤولًا من بينهم رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي ووزراء ومستشارون بالحكومة وقيادات أمنية بالداخلية ومحافظون وكاتب عام هيئة مكافحة الفساد، فيما عين 4 وزراء (مكلفين بتسيير وزارات) ومحافظين وعددًا من القيادات الأمنية. كما وضع نحو 11 شخصية قيد الإقامة الجبرية، منهم الوزير عن حزب “حركة النهضة” أنور معروف، والوزير عن “تحيا تونس” رياض المؤخر، ونائبين عن “قلب تونس” و”مستقبل”، وقاضيين وضابط بالداخلية ومستشارين بالحكومة ورئيس هيئة مكافحة الفساد السابق، بالإضافة إلى منع شخصيات سياسية ورجال أعمال ونواب من السفر إلى الخارج.

بجانب ذلك، عمل سعيد على تصعيد خطابه الحماسي والقوي الموجه للأحزاب لرفع الزخم الشعبي حوله، فمجمل وعوده كانت شعبوية بامتياز ذات سقف عالٍ هدفها الأساسي تحشيد الجماهير المتعطشة لروح الثورة واستحقاقاتها كتطهير البلاد ومحاسبة جميع الفاسدين والقضاء على الفقر والبطالة.

في الشأن ذاته، عرفت تونس تقدمًا مهمًا في عملية جلب الأكسجين ولقاحات ضد فيروس كورونا مع تحسن الوضع الصحي، إذ سجل نحو مليوني تونسي لأخذ اللقاح، كما تم إبرام اتفاقية لصرف مساعدة ظرفية للعائلات الفقيرة بمبلغ يقترب من 107 دولارات لكل عائلة، ممولة من البنك العالمي لمجابهة وباء كورونا، وهي حصيلة يعتمد عليها الرئيس كإنجاز يقارع بها الأحزاب والحكومة السابقة.

في غضون ذلك، تشهد تونس أزمات مركبة شديدة التعقيد بين ما هو اقتصادي وسياسي واجتماعي تحتاج معالجتها إلى وجود حكومة قوية وعودة انعقاد البرلمان لاستكمال المصادقة على قانون المالية التكميلي لهذا العام وموازنة العام القادم، قبل 15 من أكتوبر المقبل، واستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أكبر ممولي عجز موازنة الدولة.

ووسط تلك المعطيات جاء قرر تمديد العمل بالإجراءات، ولكن إلى أجل غير محدد. ومن خلال بيان مقتضب خالٍ من أي تبريرات، أمر سعيّد الإبقاء على مؤسسات الدولة معطلة، على الرغم مما تشهده تونس من وضع صعب على المستويات كافة، يحتاج إلى تأمين الاستقرار ووجود حكومة تقود البلاد. غير أن لا الحكومة أُعلن عنها بعد، على الرغم من مرور شهر على إقالة حكومة هشام المشيشي، ولا حتى خريطة الطريق التي تطالب بها جميع الأحزاب لمعرفة في أي اتجاه ستذهب البلاد.

ثانيا: دلالات قرار التمديد

حمل القرار العديد من الدلالات والمؤشرات المعبرة عن طبيعة ما تمر به البلاد وما تنتظره..

اهدار مضاعف للدستور

فتح القرار جدلاً كبيراً في الساعات الماضية في الأوساط التونسية، لا سيما على الصعيد القانوني والدستوري، خصوصاً أن البيان الرئاسي لم يشر إلى مرجعيات دستورية، بل إلى أمر رئاسي، وهو ما يعد خروجا جديدا على الدستور، واستنادا للأمر الواقع، الذي يدعمه العسكر والشعبوية فقط.

بل إن التعدي الجديد على الدستور بالتمديد غير المحدد المدى للاجراءات الاستثنائية، يفاقم في آثاره التعدي الأول، فمنذ البداية، تم تجاوز الفصل 80 من الدستور الذي ينص على إبقاء البرلمان في حالة انعقاد، وتم تجاوزه مرة ثانية بإعلان التمديد، في ظل غياب المحكمة الدستورية التي يخول لها الدستور النظر في استمرارية الحالة الاستثنائية من عدمها.

جمهورية ثالثة بلا مؤسسات

تمديد الاجراءات الاستثنائية في تونس لأجل غير مسمى.. الدلالات والتداعيات المستقبلية

بحسب تقديرات سياسية تونسية، فإن مقتضيات الأمر الواقع تشيء إلى أن البرلمان انتهى، وتبعاً لذلك وُضع حد للديمقراطية البرلمانية. ويعد البيان الرئاسي المرتقب بمثابة البيان رقم 1 لمنظري الجمهورية الثالثة، والتي ستكون جمهورية استبدادية، عنوانها الأول والأخير هو شخص رئيس الجمهورية، وإعلان موت المؤسسات الدستورية التي تعد مرتكزات قيام الدول بالأساس.

وقد عبرت الأحزاب بأغلبيتها في تونس عن تخوفها من خطوة التمديد بلا أجل وبلا أفق سياسي واضح، وسط ارتفاع نشاط أخبار الإيقاف والمداهمات؛ الصحيحة والخاطئة. والأغرب من قرار التمديد الانقلابي، أن رئيس الجمهورية يتشاور في الشأن الداخلي مع الأصدقاء والأشقاء والوفود ولا يتشاور مع أبناء الوطن ومع الأحزاب والقوى المدنية وهم أصحاب حق ولهم كلمة.

ولعل اصرار قيس سعيد على تهميش جميع القوى السياسية حتى المؤيدين له، قد مهد لهذا التمديد اللا دستوري، والذي يعد الانقلاب الأساس، بعد أن فتح الاجراءات الاستثنائية لأمد غير محدد، وفد كان هذا التمديد متوقعاً، لأن العودة للحياة السياسية الطبيعية تتطلب حوارات، وللأسف لم تكن هناك نقاشات وحوارات خلال الفترة السابقة.

فشل سياسي وغموض رؤى سعيد

موقف قيس سعيدة غير الواضح يعبر عن ارتباك شديد وفشل سياسي أفضى إلى تمديد الانقلاب، وأثر عدم قدرة سعيد على تشكيل دعم دولي واصح لقراراته المرتبكة، خاصة في الغرب الذي يرى مصالحه مهددة مع دخول تونس مرحلة الدولة الفاشلة، اقتصاديا وسياسيا ومن ثم أمنيا واجتماعيا، ومع الدعم العربي من محور الثورات المضادة المتمثل في مصر والسعودية والامارات، إلا أن الموقف الأمريكي الرافض لاستمرار سياسات قضم المؤسسات والديمقراطية يمثل فيتو على الدعم العربي، كما تقف الجزائر موقفا حازما من انزلاق تونس نحو العنف من أي جانب، سواء من جانب حلف سعيد، أو من جانب الشعب التونسي والأحزاب الرافضة لديكتاتورية سعيد، لما يشكله من تهديد اضافي للجزائر ولجميع دول المغرب العربي، يضاف إلى التحدي الليبي.

وإزاء تلك الحالة، يعيش المشهد التونسي حالة من الانتظار والقلق الواضحين، وصفها رئيس كتلة “تحيا تونس” مصطفى بن أحمد بـ “الصدمة والذهول”. وكتب على صفحته بموقع “فيسبوك” الثلاثاء الماضي: “شهر مر على تدابير 25 يوليو والبلاد ما زالت تعيش حالة سريالية، بل إن سردية ثورة الشعب يريد، ما انفكت تكبر وتتضخم وتزداد تشويقاً متغذية من الشائعات التي باتت هي الوقود للحياة السياسية في البلاد. مقابل ذلك، لم يستيقظ مجتمع النخبة والأحزاب بعد من حالة الصدمة والذهول التي أصابته”. وأضاف “يبدو أن الأمر لا يتعلق بمجرد معاقبة الأحزاب وإبعادها عن الساحة بسبب ما قامت به من أخطاء كارثية في العشرية المنصرمة، فالأمر أعمق من ذلك ويبدو أننا أمام تشكيل مشروع تغيير جذري للدولة”.

ثالثا: تداعيات التمديد

وتحمل مقامرة سعيد الجديدة العديد من التداعيات الخطيرة التي تشكل تهديدا وجوديا للدولة التونسية، وليس للتجربة الديمقراطية فقط.. ومنها:

رهن مستقبل تونس للتحالفات الإقليمية والدولية:

عدم قدرة قيس سعيد على صياغة خارطة طريق واضخة تنتشل تونس من حالة الفراغ السياسي، والعبث الشعبوي الذي تحياه، يرهن القرار التونسي لأجندات الخارج، سواء إقليميا أو دوليا، وهو ما قد يعيد البلاد إلى عشر سنوات للوراء. ويعود ارتباط التفاعلات الداخلية والخارجية لتونس إلى صيف أغسطس 2013 على الأقل، في أعقاب انقلاب 3 يوليو 2013 في مصر وتزايد المخاوف في الولايات المتحدة وفرنسا والجزائر بشأن انقلاب مماثل في تونس.

وتم الضغط على “راشد الغنوشي”، رئيس حزب النهضة الإسلامي، و”باجي قائد السبسي”، رئيس حزب “نداء تونس” ذي التوجه العلماني والرئيس التونسي لاحقا، للمصالحة. ثم مهدت جهودهما المسرح لـ “حوار وطني” كان من المحتمل أن ينهار الانتقال في تونس بدونه. ورحب المجتمع الدولي باجتماع الجانبين وتوافقهما الذي تجلى في كتابة دستور جديد قدم الخطوط العريضة لنظام تقاسم السلطة عبر تقسيم السلطة بين الرئيس والبرلمان. كما أضاف منح جائزة نوبل للسلام لقادة الحوار الوطني في عام 2015 زخما إضافيا لقادة تونس للحفاظ على التوافق السياسي الذي استعصى على العالم العربي الأوسع.

وأشارت اتفاقية قرطاج لعام 2016، التي حددت شروط النظام القائم على التوافق بين الرئيس “السبسي” والنهضة، إلى أن تونس كانت تبرز كجزيرة ديمقراطية في بحر من الأنظمة الاستبدادية. وفي الواقع، أصبحت تونس مضيفة لمجموعة واسعة من منظمات المساعدة الديمقراطية الرسمية وغير الحكومية المنحدرة من الديمقراطيات الغربية. وسلط تأسيس مكتب شمال أفريقيا التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في تونس، فضلا عن المركز الإقليمي لمعهد السلام الأمريكي شبه الرسمي، الضوء على شراكة بين تونس والولايات المتحدة تتناقض بشكل حاد مع علاقات واشنطن الأوسع مع الأنظمة الاستبدادية العربية.

وبدأ قادة الإمارات والبحرين والسعودية ومصر في النظر إلى تونس على أنها تهديد ليس فقط لأنها كانت ديمقراطية ولكن بسبب تحالفها الحاكم الذي يضم حزب النهضة. ومن وجهة نظر أبو ظبي والرياض والقاهرة، كان حزب النهضة بؤرة أمامية للإخوان المسلمين. وهكذا رأوا تجربة تونس في تقاسم السلطة على أنها حصان طروادة للتوسع الإسلامي الذي كان لا بد من صده أو ربما إيقاف مساره.

وصدمت حقيقة أن “السبسي” ترأس ترتيب تقاسم السلطة هذا العديد من قادة الخليج. وبعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لعام 2014، توقعوا أن يتجاهل “السبسي” حزب النهضة، حتى أن بعض التقارير أشارت إلى أن قادة الإمارات شجعوا “السبسي” على الانقلاب على غرار “النموذج المصري” في عام 2015 ثم مرة أخرى في يونيو 2018.

ومن المؤكد أنهم قد دفعوا بالفعل من أجل مثل هذه التحركات الجذرية، وهو ما جرى التمهيد له خلال الأعوام الـ 3 الماضية عندما حاولت الإمارات، إلى جانب السعودية، التأثير على الأحداث في تونس من خلال دعمها لخصوم النهضة الرئيسيين، مثل “عبير موسي” وحزبها “الحزب الدستوري الحر “كما تم دفع المنافذ الإعلامية لتشويه سمعة “الغنوشي”، وبالتالي تأجيج نيران الصراع الداخلي على مكانة الحركة في المشهد السياسي المنقسم في تونس.

تفاقم الأزمات الاقتصادية

وخلال فترة الشهر الماضي، ومن ثم الفترة غير المحددة المقبلة، لم ينجز سعيد سوى مجموعة من الاقالات والتعيينات، دون الاتفاق على تعيين وزير أول شكل حكومة متوقع أن تأتي من داخل دواليب الرئاسة والتابعين لقيس سعيد، تعمل بلا رقابة برلمانية أو قضائية بعد الالتفاف على القضاء وقراراته..

وتناسى قيس سعيّد أنه، باستثناء الإطاحة بالموظفين وإلقاء الخطب الرنانة، لم يحقق للشعب التونسي أيا من الوعود والتعهدات التي زعم الارتكاز إليها في تفعيل الفصل 80 من الدستور، خاصة تسمية رئيس للوزراء وتشكيل حكومة تتولى علاج ملفات عاجلة وخطيرة مثل تفاقم انتشار جائحة كورونا أو تقديم وصفات إصلاحية وتنفيذية يمكن أن تقنع صندوق النقد الدولي بتقديم مساعدات الحد الأدنى لاقتصاد تونس الآخذ في الانكماش والانهيار التدريجي.

رابعا: سيناريوهات المستقبل

تقف تونس أمام مفترق طرق، على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وتبرز عدة سيناريوهات للمشهد التونسي القادم:

تصاعد الضغوط الدولية للدفع نحو اتفاق على خارطة طريق

وهو الاتجاة الذي تسعى له أوروبا والمؤسسات الدولية ومنظممات المجتمع المدني العالمية، وفي مقدمتهم، أمريكا والكونغرس الأمريكي، الذي يخشى تصاعد الفوضى السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وسط تحديات الأزمة الليبية واللبنانية وأزمات مصر مع اثيوبيا وأزمات دول الساحل والصحرء.

وتخشى الدوائر السياسية الدولية من سيناريو انزلاق تونس نحو دائرة العنف التي تمثل تهديدا لدول المغرب العربي وجنوب أوروبا، ولكنن تلك النداءات لا تبرز بقوة من قبل الدول الفاعلة من المنطقة، سواء فرنسا وبريطانيا وايطاليا وألمانيا، وانما يقتصر الأمر على المنظمات والفاعلين السياسيين غير الحكومات، وهو ما قد يشجع سعيد على التمادي في خطواته الاستبدادية، محاولا اقناع العالم بأنه يسير بالبلاد نحو الاصلاح.

الانزلاق نحو السيناريو اللبناني

ووسط الشلل السياسي والاقتصادي الذي تشهده تونس، مع تعطيل الحياة السياسية بقرارارات سعيد الاستثنائية، تتجه تونس بأزماتها المتعددة نحو السيناريو اللبناني.. وهو السيناريو الذي حذرت منه وكالة “بلومبرج” الامريكية حيث قالت في تقرير لـ “جيهان لغماري” و”ميريت مجدي” إن “سعيد يدفع بالديمقراطية الهشة في البلاد إلى حافة الهاوية، والآن يهدد الاقتصاد”. إذ أن “سعيد يقود البلاد إلى مسار لبنان”؛ حيث إنه لم يكشف النقاب عن العودة إلى الحكم المنتخب، بل مدد إجراءاته الاستثنائية..

واعتبر التقرير أن هذا “يهدد بعدم إحراز تقدم” باتفاق طال انتظاره، مع صندوق النقد الدولي، وخطط لبيع الديون في الخارج في أكتوبر؛ ما قد يؤدي إلى تخلف مضطرب عن السداد على غرار لبنان، وفقا لرئيس أبحاث الأسهم في شركة “تيليمير للأبحاث”، “حسنين مالك”.

كما أن التضخم بلغ أعلى مستوياته منذ خريف 2019، والبطالة ترتفع بأسرع وتيرة منذ عام 2010.. وانكمش الاقتصاد بنسبة 8.6% العام الماضي. وتصاعدت الأزمة السياسية في البلد منذ أن قرر “سعيد”، في 25 يوليو الماضي، تجميد عمل البرلمان، وإقالة “المشيشي”، ضمن إجراءات استثنائية قدمها كمحاولة “لإنقاذ تونس من النخب الجشعة، بحسب وصفه، ولم يقم سعيد بأي تغييرات هيكلية لمعالجة الفساد، أو تبسيط القطاع العام المتضخم الذي تعد فاتورة رواتبه من أعلى المعدلات في العالم بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، أو جذب الاستثمار الأجنبي.

كما تبرز العديد من المخاطر إثر التخلف عن السداد إذا لم يتم تعزيز المالية العامة، فمن المرجح أن تضطر تونس إلى إعادة هيكلة ديونها، كما أن خفض التكاليف في أثناء الوباء قد يكون غير مستساغ سياسيا. لذلك فمن المحتمل أن تضطر الحكومة الجديدة إلى تقديم تنازلات لتأمين السلطة. بينما قال “بنك أوف أمريكا” إنه بدون برنامج صندوق النقد الدولي أو الدعم الثنائي والمتعدد الأطراف ذي الصلة، فإن الاحتياطيات الدولية التونسية “قد تواجه نضوبا ماديا بحلول نهاية عام 2022” فقد بلغ صافي احتياطيات النقد الأجنبي في تونس حوالي 7.4 مليارات دولار في نهاية يوليو الماضي، وهو ما يكفي 219 يوما من الواردات، بانخفاض طفيف عن العام السابق. وهو ما يؤكد أن الوضع الاقتصادي بأت خطير ولا يمكن التنبؤ به. ويبقى الحل أمام سعيد هو السعي للحصول على تمويل من السعودية والإمارات، وهو الحل الوحيد المحتمل؛ حيث قد يستغرق اتمام اتفاق صندوق النقد الدولي 6 أشهر أخرى على الأقل.

الذهاب إلى السيناريو المصري

تمديد الاجراءات الاستثنائية في تونس لأجل غير مسمى.. الدلالات والتداعيات المستقبلية

ومع تماجي سعيد في سياسات التوقيف القسري والفصل من الوظائف والعبث السياسي بالدستور والبرلمان، قد تندفع الأمور في تونس نحو السيناريو المصري، من عنف وقهر للقوى السياسية. وهو سيناريو ترفضه دول الجوار التونسي، وواشنطن وعدة أطراف أوروبية. إذ تراهن الجزائر على حوار وطني واجراءات تهدئة من قبل أطراف الأزمة. على ما يبدو التزمت به الأحزاب والقوى السياسية فيما تمادى سعيد في العمل ضد تلك التوجهات، مدعوما من الامارات ومصر والسعودية وفرنسا والبحرين. إلا أن موقف الجزائر-المعارض للانزلاق نحو السيناريو المصري-  الذي عبر عنه وزير خارجيتها، رمطان لعمامرة، مساء الإثنين 24 أغسطس الجاري، بعد لقائه سعيّد في تونس، داعياً إلى “الحكمة والتريث”.

وكان لافتاً تواتر الاتصالات بين الرئاستين التونسية والجزائرية، في فترة زمنية لم تتجاوز ساعات قليلة. إذ أكدت الرئاسة الجزائرية ظهر الإثنين أنّ الرئيس عبد المجيد تبون “أجرى مكالمة هاتفية مع أخيه قيس سعيد، أكد له فيها تضامن الجزائر شعباً وحكومة مع الشقيقة تونس في هذه المرحلة الدقيقة”. ولم تعلن الرئاسة التونسية عن هذه المكالمة، ولكنها أعلنت بعد ساعات قليلة في بيان عن لقاء بين سعيّد ولعمامرة الذي كان “محملاً برسالة مكتوبة موجهة إلى رئيس الدولة من قبل أخيه فخامة الرئيس عبد المجيد تبون”. وإثر اللقاء، أكد لعمامرة أنه نقل لسعيّد أفكاراً من تبون، وأن الرئيس التونسي حمله أيضاً معلومات وصفها بـ “الدقيقة وتحليلات مهمة” سيتولى نقلها إلى الرئيس الجزائري، واصفاً اللقاءات التونسية الجزائرية بأنها تندرج في إطار إعلاء “صوت الحكمة والمسؤولية”.

ويرى مراقبون أن هذه الاتصالات المتواصلة بين الطرفين قد تعكس جهداً جزائرياً لتلطيف الأوضاع في المشهد التونسي المتوتر، والذي يمثل مصدر قلق جزائري أكيد، خصوصاً أن الجزائر تعاني غرباً مع المغرب وجنوباً مع ليبيا، ولا يمكنها السماح بمصدر توتر جديد شرقها، بما ينعكس على أوضاعها الداخلية آجلاً أم عاجلاً. وتذهب بعض القراءات إلى اعتبار التلطيف المتكرر في التصريحات من قبل “النهضة” في الأيام الأخيرة استجابة لدعوات التهدئة وإتاحة مساحة كافية لسعيّد لتقديم خريطة طريق يمكن الاتفاق حولها.

سيناريو الدولة الفاشلة

وبغض النظر عن السيناريو المتوقع، فإن المؤكد أن تونس في ظل الأوضاع الحالية ستتحول لدولة فاشلة. فوفق أنور الجمعاوي، “عن الحالة الاستثنائية في تونس”، “العرلي الجديد “، ففيما يخص دستورية تلك القرارات، فإنّ الفصل 80 من الدستور التونسي يمنح رئيس الجمهورية سلطة إعلان الوضع الاستثنائي، وتقدير الخطر الداهم الموجب له، وهو في قضيّة الحال، انتشار الوباء، واحتدام الصراع على السلطة. لكن لا يمنحه حقّ تجميد البرلمان ولا حلّه، باعتبار هذا البرلمان هيئة تمثيلية، مستقلّة، منتخبة. بل المطلوب دستوريا أن يظلّ المجلس النيابي في حالة انعقاد دائم زمن الحكم الاستثنائي.

ولا يُبيح الفصل المذكور لرئيس الدولة إقالة رئيس الحكومة، لأنّ ذلك من اختصاص البرلمان، بل يمنع توجيه لائحة لوم للحكومة مدّة الحالة الاستثنائية. كما لا يعطي رئيس الجمهورية صلاحية إدارة النيابة العامّة. بل يؤكّد حتمية مراجعة المحكمة الدستورية لإعلان الوضع الاستثنائي من عدمه. كما أنّ تقييد بعض الحرّيات بشكل ظرفي (المنع من السفر، منع تنظيم المؤتمرات، فرض الإقامة الجبرية…) وغلق مكاتب بعض الهيئات أو المؤسّسات، يفترض أن يكون معلّلا قانونيا، وبموجب إذن قضائي. وبناء عليه، يرى مختصّون في القانون الدستوري أنّ رئيس الجمهورية انطلق من منطوق الفصل 80 لينزاح عنه، ويحمّله ما لم يحتمل، وعدّ بعضهم ذلك تجاوزا لنصّ الدستور، ورآه غيرهم تعسّفا في استخدام السلطة، واعتبره آخرون انقلابا على دستور الجمهورية الثانية.

وقد استبشر طيْف من التونسيين بالتدابير الرئاسية الاستثنائية، لأنّهم يعتقدون أنّها فرصة لاستعادة هيبة الدولة وفرْض سلطة القانون، ولأنّهم سئموا حالة التنابذ بين الأحزاب، والصراع على السلطة بين أطراف منظومة الحكم، ويظنون أنّ إمساك الرئيس بزمام إدارة البلاد سيكون الحلّ السحري الذي يضمن لهم الاستقرار والرفاه، ويقضي على البطالة، والفساد، والفقر، وعلى الاحتكار وغلاء الأسعار، ويحسّن الوضع المعيشي للناس.

ومع أنّ قيس سعيّد دعا رجال الأعمال الذين تحوم حولهم شبهات فساد إلى إبرام صُلْح جزائي مع الدولة، يلتزمون بمقتضاه ببعث مشاريع في مناطق الظل، وطلب من ممثلي الصيادلة والتجار التخفيض في ثمن الدواء والغذاء، فإنّ الاستجابة لتلك التوجيهات ظلّت محدودة. والمشهود أنّ أسعار مواد استهلاكية كثيرة ارتفعت بشكل جنوني خلال فترة التدابير الاستثنائية (الخُضار، الغلال، اللحوم، الأسماك، لوازم البناء).

كما أنّ رجال أعمال عمدوا إلى سحب أموالهم وإيداعها في بنوك خارج البلاد. ذلك أنّ حالة الاستثناء عزّزت عند بعض التونسيين هواجس الجمْع والمنْع، وأثارت عند آخرين المخاوف من المحاسبة. وزاد ذلك كلّه من متاعب الطبقة الوسْطي ومحدودي الدخل، واستنزف مقدرتهم الشرائية. كما أنّ وكالات التصنيف الائتماني تتّجه إلى تخفيض التصنيف السيادي لتونس، بسبب عدم الاستقرار السياسي وعدم وضوح الرؤية للمستقبل. وتواجه البلاد صعوباتٍ في الحصول على قروض إضافية من الجهات المانحة للأسباب نفسها.

وهو ما يؤكد صيرورة تونس نحو الدولة الفاشلة..

خامسا: الرؤية المستقبلية لتونس

وعلى أية حال، فإن الأوضاع السياسية في تونس، لا شك ستتجه لمسار مأزوم، قد تضع مسار البلاد على المحك فمن المؤكد أن تمديد الإجراءات الاستثنائية إلى أجل غير محدد سيطرح جدلًا كبيرًا في داخل تونس وخارجها، ومن المتوقع أن يزيد حجم المخاوف إزاء هذا المشهد الضبابي الذي تعيشه البلاد وارتفاع منسوب القلق على الحريات، فعمليًا يصعب التكهن بالخطوة المقبلة للرئيس قيس سعيد وتحديد توجهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقًا من خطاباته العدائية والمتشنجة.

لذلك، من المنتظر أن تطول عملية ترقب الشارع التونسي لما سيكشفه الرئيس مستقبلًا عن برنامجه للخروج من الأزمة التي تعرفها البلاد، فظاهر الأمور تؤكد أن سعيد لن يعلن في الأيام القليلة عن قراراته المتعلقة بمستقبل البرلمان والهيئات الدستورية، ولن يُفصح عن آليات إصلاح الاقتصاد المنهار، بل سينصب جهده على بروباغندا مكافحة الفساد ومحاربة المهربين والمحتكرين، والسبب بسيط للغاية وهو أن الرئيس التونسي في الأصل لا يحمل برنامجًا سياسيًا رائدًا كما يتوهم مريدوه.

أما فيما يخص خطواته القادمة، فمن المرجح أن يقوم قيس سعيد بعد قراره بتمديد الإجراءات الاستثنائية، بالإعلان عن رئيس الحكومة الجديد وتشكيله الوزاري الجديد، وما التمديد إلا ربح للوقت قصد العثور على عصفوره النادر وفق مواصفات محددة أهمها أن يدين له بالولاء التام.

في هذا الإطار، يُمكن القول إن تأخر سعيد في تعيين وزير أول يعود إلى تردده بين أمرين: الأول أن يُعين شخصية موثوقة بها من دوائره المقربة التي تحمل نفس الأفكار ومن العائلة السياسية للرئيس أو تعيين كفاءة اقتصادية ومالية وهو خيار على ما يبدو تدعمه الكثير من الدول الأجنبية بشدة وتضغط على قرطاج لأجله كشرط أساسي لمساعدة تونس اقتصاديا..

الخطوة الثانية المرتقبة، تتمثل في تغيير النظام السياسي بتكريس نظام رئاسي بسلطات شبه كاملة للرئيس، مقابل إضعاف دور البرلمان وجعله سلطة ثانوية تكاد تكون شكلية وصورية كما كان عليه الحال في العهدين السباقين (نظام بورقيبة وبن علي)، وهي خطوة تأتي أيضًا بعد إضعاف الأحزاب السياسية وتفتيتها عبر المحاكمات وتفعيل المادة 163 من الدستور التونسي التي تقضي بحل الأحزاب في حال ثبت حصولها على تمويل أجنبي.

والظاهر أن سعيد مهد بشكل جيد لهذه المرحلة عبر حشد الدعم الشعبي الكامل لخطواته المقبلة التي يسعى إلى أن تنتهي بقبول برنامجه السياسي الجديد عبر استفتاء شعبي في لحظة شعبوية وانفعالية مناصرة له ومستعدية للأحزاب والنظام القائم. وذلك وفق تقدير سياسي لـ نون بوست، “حتى إشعار آخر.. تمديد “سعيد” وسيناريوهات تونس الجديدة”..

إذن، كل الفرضيات ممكنة والسيناريوهات مطروحة، فالغموض والمفاجأة في جميع قراراته وخطواته بعد 30 يومًا من المهلة التي حددها في وقت سابق توحي بأن سعيد غير ثابت مزاجي تحركه ردة فعل عنيفة، لذلك فمن غير المستبعد أن يعلن قرارات جديدة تخص البرلمان (حله) أو تعليق منظومة الحكم والعمل بالدستور وتعويضه بقانون منظم للسلطات.

ويبقى القادم أسوأ في تونس، في ظل ايثار دول العالم الصممت، او اقتصار الادانات على مؤسسات غير فاعلة في القرار الأوروبي أو الاقليمي. واجمالا، فإن سعيد وقراراته تؤكد حرصه على البقاء ولو شكليًا في إطار الدستور بحثًا عن مخرج سياسي للخطوة التي أقدم عليها، وهو ما يُفسر عدم إقدامه على إعلان تعليق العمل بالدستور التونسي وتعويضه بقانون التنظيم المؤقت للسلطات العمومية.

كما تُبين أن الرئيس يعمل على الاستثمار في العامل الزمني، فالتمديد دون أجل محدد يفسح له المجال للتحرك بأريحية كبرى رغم حالة الشك وعدم اليقين التي تسبب فيها غموض قيس سعيد على أكثر من صعيد لا سيما أنه لم يعلن إلى الآن اسم رئيس الحكومة المنتظر أن يكون ظله في القصبة، وتبقى الأيام المقبلة حبلى بالكثير من التفاعلات والقرارات المؤثرة بلا شك في مسار تونس وجوارها الإقليمي.

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022