اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت مع عبد الفتاح السيسي في شرم الشيخ، في 13 سبتمبر 2021، ليصبح بذلك أول زعيم إسرائيلي يزور مصر علناً منذ عشر سنوات، أي منذ زيارة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو ولقائه بالرئيس المتنحي حسنى مبارك. وذكر بيان الرئاسة، أن اللقاء حضره وزير الخارجية سامح شكري، ورئيس المخابرات العامة عباس كامل، ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي آيال هولاتا، والسكرتير العسكري لرئيس الوزراء الفريق أول آلي جيل، والسفيرة الإسرائيلية بالقاهرة أميرة أورون، كما كان حاضراً منسق شؤون الأسرى والمفقودين الإسرائيلي يارون بلوم.
وقد تم تحديد موعد القمة استجابةً لدعوة وجهها رئيس “المخابرات العامة المصرية” اللواء عباس كامل لبينت، في 18 أغسطس 2021، وقد بحث اللقاء أجندة مطولة شملت التعاون الاقتصادي (في قطاع الطاقة بشكل رئيسي)، والقضية الفلسطينية ودفع جهود تثبيت التهدئة في قطاع غزة وإعادة إعماره، وجهود مكافحة الإرهاب في سيناء[1].
وقد أثار هذا اللقاء مجموعة من التساؤلات التي تركز بصورة رئيسية على: لماذا أصر السيسي على عقد هذا اللقاء مع بينت في هذا التوقيت؟، وهل حقق هذا اللقاء للسيسي كل ما يريده؟، وما هي أبرز النتائج التي أسفر عنها هذا اللقاء؟، وهل سنشهد تطبيق وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه على أرض الواقع خلال الأيام القادمة؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عليه وتوضيحه خلال الأسطر القادمة من خلال تناول أهم قضايا النقاش بين الطرفين، وما تم الاتفاق عليه في هذه القضايا، ومدى إمكانية تنفيذه.
أولًا: الوساطة الإسرائيلية لتحسين العلاقات المصرية – الأمريكية:
قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو الدعم للسيسي منذ أن ساهم الأخير في الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي في عام 2013، وأصبح هذا الدعم ركيزة قوية للقاهرة في واشنطن، لا سيما في ظل الإدارة المتعاطفة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. والآن بعد أن تغيرت الحكومتان الأمريكية والإسرائيلية، يشعر المسؤولون المصريون بالقلق إزاء إمكانية تدهور هذه الركيزة. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تتحدى إدارة بايدن السيسي بشأن قضايا حقوق الإنسان في مرحلة ما. لذلك تسعى القاهرة للحصول على مساعدة إسرائيل لتحسين صورتها مع بايدن. وحتى الآن، أفادت بعض التقارير أن المسؤولين الإسرائيليين حذروا فريق بايدن من المبالغة في ردة الفعل ضد النزعات الاستبدادية في مصر والمملكة العربية السعودية، خشية دفع هؤلاء الشركاء نحو الصين وإيران وروسيا[2].
كما يسعى السيسي من خلال لقائه ببينت تذكير واشنطن بأن للقاهرة دورًا وتأثيرًا قويًا في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وأن حلحلة القضية الفلسطينية وتبريدها إن تطلب الأمر، لا يمكن أن يكون بمعزل عن القاهرة، وهو ما سيعزز وضعية النظام المصري. خاصة بعد نجاح مصر خلال حضورها القوي والفعال في وقف الحرب بين دولة الاحتلال وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” والجلوس على مائدة المفاوضات وبحث سبل التهدئة والدفع بملف تبادل الأسرى للأمام.
ويبدو أن السيسي نجح إلى حد بعيد في الربط بين هذين الملفين (أي تحقيق التهدئة في غزة وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة)، فقد أكدت صحيفة “هآرتس” العبرية في مقال لها، 13 سبتمبر الحالي، أن تدخل مصر لوقف التصعيد العسكري بين حماس و”إسرائيل” كان بمثابة “فرملة” للإدارة الأمريكية التي كانت على بعد أمتار قليلة من تعامل شديد وقاسٍ مع مصر بسبب وضعها الحقوقي المذري[3]. وظهر ذلك أيضًا، في الاتصال الهاتفي الذي أجراه بايدن مرتين، ولأول مرة منذ توليه الحكم، مع السيسي وتوجيه الشكر له لجهوده في التوصل لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في مايو الماضي.
ومع ذلك، يبدو أن إسرائيل لم تنجح كليًا في وقف العقوبات الأمريكية على حليفها المصري على خلفية حقوق الإنسان. فعلى الرغم من حالة التقارب الشديد بين مصر وإسرائيل، إلا أن ذلك لم يمنع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من حجب جزء من المساعدات العسكرية إلى مصر. فقد كشف موقع Politico الأمريكي، في 13 سبتمبر 2021، أن إدارة الرئيس جو بايدن قررت حجب جزء من المساعدات العسكرية لمصر (130 مليون دولار من أصل 300 مليون دولار)، بسبب مخاوف تتعلق بوضع حقوق الإنسان فيها، كما ستفرض أمريكا قيوداً على المساعدات التي ترسلها إليها، في خطوة لم يسبق لواشنطن اتخاذها ضد القاهرة[4].
ثانيًا: التأكد من أن “اتفاقيات إبراهام” لا تتجاوز “اتفاقيات كامب ديفيد”:
هزت اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها إسرائيل مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين ثم السودان والمغرب خلال العام الماضي (2020) مكانة القاهرة القديمة كمحاور عربي رئيسي ومطبع أول (على المستوى الرسمي دون الشعبي) مع إسرائيل. وقوبلت الأجواء الاحتفالية التي أحاطت بالتفاعلات الشخصية المباشرة والصفقات الاقتصادية السريعة بنوع من النفور بين النخب المصرية الموالية للحكومة[5].
ومع هذه الاندفاعة العربية وحالة التطبيع على المستوى الرسمي والشعبي مع إسرائيل، وفى ظل تصاعد الأحاديث المصرية والإسرائيلية على ضرورة اتخاذ مصر لخطوات فعلية لنقل السلام مع إسرائيل من سلام بارد إلى سلام دافئ حتى لا تفقد القاهرة مكانتها لدى تل أبيب وبالتبعية مكانتها لدى واشنطن، وهي المطالب التي يبدو أنها وجدت أذان صاغية لدى السيسي، الذي حرص على إظهار التحول والدفء المصري تجاه حكومة بينت.
فقد التقي السيسي ببينت بناءً على دعوة شخصية منه، وظهر خلال اللقاء الابتسامات المتبادلة والسلام الحار والاستقبال الحافل، وهي المقابلة التي وصفها بينيت بأنها “تعكس العلاقات الدافئة بين النظامين”. وخلافًا لما جرى العرف عليه خلال زيارات مسؤولي دولة الاحتلال السابقين لمصر، وبعيدًا عن أي التزامات بروتوكولية، اهتم الجانب المصري بوضع العلم الإسرائيلي خلف بينيت، بجوار العلم المصري، على عكس اللقاء الأخير في 2011 الذي لم يوضع خلاله سوى علم مصر، في إشارة تعكس حجم التقدير والاحتفاء المصري للحكومة الإسرائيلية.
كما أن ألوان الملابس التي ارتداها الرئيس المصري خلال اللقاء كانت هي الأخرى مثار جدل لدى كثير من المتابعين، فرابطة العنق ذات اللون الأزرق، والقميص الأبيض، وهي نفس ألوان العلم الإسرائيلي، اعتبرها البعض رسالة تقارب واحتفاء بالحليف العبري[6].
ومع ذلك، لا تعنى حفاوة السيسي الكبيرة ببينت أن التطبيع الكامل للعلاقة بين مصر وإسرائيل أصبحت قريبة، ولعل أبرز دليل على ذلك؛ أن الزيارة موقعها شرم الشيخ وليس القاهرة (العاصمة السياسية للدولة)، والرئيس المصري كعادة من سبقوه لا يزال لم يسافر إلى إسرائيل، وهذا يدل على إدراك الجانبين وجود مشاعر شعبية سلبية وحاجز نفسي عميق نتيجة الممارسات الإسرائيلية في فلسطين تمنع إقامة علاقات طبيعية مع مصر التي لا تزال حريصة على التأكيد دوماً – حتى لو على مستوى الخطاب الدبلوماسي فقط – الوقوف الكامل إلى جانب “الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني”[7].
بجانب، انتشار البرامج التلفزيونية المصرية التي تروج لمعاداة إسرائيل. فعلى سبيل المثال، خلال شهر رمضان من هذا العام (2021)، روج مسلسل حمل اسم “هجمة مرتدة” أن إسرائيل كانت تدفع سراً الأموال لمواطنين عرب في أوروبا والولايات المتحدة لتشجيعهم على فكرة الحوار بين الأديان وتقويض المصالح المصرية. وكان البرنامج برعاية “مديرية المخابرات العامة” وادعى أنه يستند إلى قصة حقيقية. وهناك مطالب إسرائيلية بضرورة أن يتطرق المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين بصورة غير علنية إلى وجود مثل هذه البرامج الإشكالية في مباحثاتهم مع سلطات المخابرات المصرية[8].
ثالثًا: التعاون الاستراتيجي لمواجهة التهديدات المشتركة:
فقد أشار رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن، إفرايم عنبار، في مقال بصحيفة “إسرائيل اليوم”، أن السيسي وبينت خلال لقائهما أكدا في المقام الأول على المصالح الاستراتيجية المشتركة بينهما في ضوء التهديدات التي يتعرضان لها. ولفت الكاتب إلى “المخاوف المصرية والإسرائيلية بشأن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وتخفيف قبضتها على الشرق الأوسط، وسط تهديدات الإسلاميين، وعلى المستوى الإقليمي تتابعان بقلق تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، رغم أن تصور مصر للتهديد أقل من إسرائيل، لكنهما لا يختلفان حول معاداة السياسة التركية للرئيس رجب طيب أردوغان في شرق المتوسط، بدعم من قطر، وباتت القاهرة وتل أبيب حليفتين ضد تطلعات تركيا الإسلامية والعثمانية الجديدة”.
وأضاف أن “مصر عضو رئيسي في الهيكل الاستراتيجي المتجسد بمنتدى الغاز الشرقي للبحر المتوسط مع اليونان وقبرص، وتم تصميمه، في جملة أمور، لمنع تحقيق الهيمنة التركية، وفي الوقت نفسه تواجه مصر انتفاضة لعناصر إسلامية بقيادة داعش في شبه جزيرة سيناء، وتشارك إسرائيل في جهود استخباراتية وعسكرية لوقفها، فيما يخضع قطاع غزة، الذي يتوسط مصر وإسرائيل، لسيطرة حماس، ابنة الإخوان المسلمين، عدوة النظام المصري الحالي”.
وأشار إلى أن “مصر مهتمة بإخماد نيران الصراع بين إسرائيل وحماس، وتلعب دورًا رئيسيًا في التوسط بينهما، ويعطي هذا الدور الدبلوماسي نقاطا للقاهرة في تل أبيب وواشنطن، ويوفر قوة ضغط تجاه حماس في غزة، وفي شمال أفريقيا هناك مصالح مشتركة بين مصر وإسرائيل، حيث تدعمان خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي في طبرق بمساعدة الإمارات العربية المتحدة، الشريك الجديد لإسرائيل، رغم تدخل تركيا لمنع سقوط حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وتضم عناصر إسلامية”.
وأكد أنه “حتى في الساحة السورية، فإن إسرائيل ومصر لديهما نفس التفضيلات، فقد عارضت مصر جهود الجماعات السنية المتمردة للإطاحة ببشار الأسد، بينما حرصت إسرائيل على عدم تقويض استقرار نظامه من أجل الحفاظ على حريتها في العمل ضد الأهداف الإيرانية، مع الحفاظ على الاتفاقات مع موسكو بعد تدخلها الذي بدأ في 2015، وكل هذه الأسباب تجعل مصر شريكًا استراتيجيًا مهمًا لإسرائيل، تستحق أولوية عالية في أجندة سياستها الخارجية لإسرائيل”[9].
وفى ذات السياق، فقد قال مراسل صحيفة إسرائيل هيوم العبرية دانيال سيريوتي بأن اللقاء بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء بينيت ركز على طلب المصريين إدخال قوات عسكرية كبيرة إلى المناطق المنزوعة السلاح في شمال سيناء من أجل تمكين الجيش المصري من العمل بشكل أكمل للقضاء على التنظيمات الإسلامية المتطرفة والنشطاء الإرهابيين في شمال شرق سيناء، كما أنه من خلال زيارات رئيس المخابرات المصرية عباس كامل لإسرائيل واجتماعاته مع بينيت وكبار مسؤولي الأمن الإسرائيليين، وتم تقديم الخطة والأعداد بالتفصيل لدخول القوات إلى المناطق المنزوعة السلاح في شبه جزيرة سيناء. وقد أعرب بينيت بناءَ على نصيحة رؤساء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عن موافقته المبدئية على هذه الخطوة.
وعبّر مسؤول رفيع المستوى في القيادة العليا للجيش المصري لإسرائيل اليوم: “سوف نفاجأ كثيرًا إذا انسحب رئيس الوزراء بينيت ورؤساء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في نهاية المطاف من الاتفاق الرئيسي الذي أعربوا عنه من أجل هذه الخطوة، وهذا هو السبب الرئيسي في أهمية دعوة الرئيس السيسي لبينيت في زيارة رسمية إلى القاهرة جزئيا لوضع كل شيء على الطاولة والتحرك بموافقة الجانبين”[10].
رابعًا: التمهيد لإطلاق عملية سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين:
فمنذ توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أواسط 2014، عقب اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ساد الجمود شبه الكامل العلاقات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية التي قادها بنيامين نتنياهو بين 2009-2021، واقتصرت اتصالاتهما على التعاون الأمني والعلاقات الاقتصادية، وبقي الملف السياسي مجمدا دون حراك يذكر. حتى حين أطلق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خطته السياسية المسماة “صفقة القرن”، لم ينجح بإحداث الحراك المطلوب سياسيا بين رام الله وتل أبيب، بل إن الأمور زادت تعقيدا، وزاد الطين بلة بوصول الجمود إلى العلاقات الفلسطينية الأميركية، ولم تقتصر على إسرائيل فقط.
بصورة لافتة، وبعد أن تولت الحكومة الإسرائيلية الجديدة مهامها، ورغم يمينيتها الصرفة، وتشكيلتها غير المنسجمة، لكنها بدأت حراكا سياسيا مكثفا، وتحديدا باتجاه الفلسطينيين الذين عاشوا جمودا سياسيا امتد لأكثر من سبع سنوات. أخذ الحراك الإسرائيلي أشكالا عدة، أهمها اللقاء الذي عقده وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو أول لقاء على هذا المستوى يجمع عباس بمسؤولين إسرائيليين. بجانب لقاء عباس غانتس، فقد أجرى الرئيس الإسرائيلي الجديد يتسحاق هرتسوغ اتصالا هاتفيا مع عباس، وحثه على استئناف العملية السياسية، مع العلم أن هرتسوغ تعود جذوره إلى حزب العمل، الذي ترأسه سابقا إسحق رابين وشمعون بيريز، وهما من قادا مفاوضات التسوية واتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية زمن ياسر عرفات.
فضلا عن اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية، نشطت الآلة الدبلوماسية في تل أبيب بصورة لافتة نحو الإقليم العربي المجاور، فقد سعت إسرائيل مباشرة لترميم العلاقة مع جارتها الشرقية، الأردن، بعد توترها خلال عهد نتنياهو، والقطيعة التي سادت علاقته مع الملك عبد الله الثاني. فبدأت الاتصالات الأردنية الإسرائيلية باتصال بين عبد الله وهرتسوغ، الذي افتتح استئناف العلاقة بين عمان وتل أبيب، وصولا الى زيارة خاطفة قام بها غانتس إلى قصر الملك، وانتهاء باجتماع سري بين بينيت وعبد الله في العاصمة الأردنية، وأسفرت جميعها عن تجديد العلاقات، وتوقيع اتفاقيات تجارية، وتأكيد إسرائيلي، تحتاجه عمان، على الدور التاريخي للأردن في الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة.
بجانب الأردن، زاد “دفء” العلاقات الإسرائيلية المصرية، سواء بالزيارات المكوكية التي يجريها ضباط المخابرات الإسرائيلية إلى القاهرة، ولقاء نظرائهم هناك، لترتيب ملف غزة، والتوصل إلى تهدئة مع حماس، وإبرام صفقة تبادل أسرى معها، وصولا إلى عقد القمة الرئاسية بين نفتالي بينيت والرئيس عبد الفتاح السيسي.
بالتزامن مع ذلك، شهدت العاصمة المصرية لقاء قمة جمع السيسي وعبد الله الثاني وعباس، وبحثت تنسيق المواقف بينهم في القضية الفلسطينية، تحسباً لإطلاق مسيرة سياسية تبادر إليها الإدارة الأميركية، رغم عدم نضوج المنطقة عموما لإطلاق مثل هذه العملية، لكن هذه الاتصالات الإسرائيلية العربية الفلسطينية دفعت كثيرا من الأوساط في مختلف العواصم لرفض فكرة أن يكون ما يحصل عبارة عن اتصالات ولقاءات عادية تكتيكية بروتوكولية، بزعم أن هذه الأطراف مجتمعة قد يكون لها رغبة بوجود عملية سياسية ما، رغم تباعد مواقف الأطراف المختلفة عن بعضها.
ومن الصعوبة بمكان عند قراءة هذا الحراك أن نغفل الدور الأميركي الذي يدفع بقوة نحو استئناف المسيرة السياسية بينهما، صحيح أن إدارة الرئيس جو بايدن تفتقر لمشروع سياسي متكامل لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في ضوء رغبتها الأساسية بمغادرة المنطقة، وعدم الانخراط بمشاكلها، والتفرغ لحل نزاعاتها مع روسيا والصين، لكنها في الوقت ذاته تحاول أن تشكل بديلا، ولو استعراضيا، عن إدارة ترامب السابقة التي ساهمت بتأزيم الصراع، بدلا من حله[11].
ومع ذلك، يبدو أن هناك عدم جدوى من الوساطة المصرية في إطلاق عملية سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في ضوء جملة من العوامل والأسباب الذاتية والموضوعية، وتخص الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي.
على الصعيد الفلسطيني، تعاني السلطة الفلسطينية من فقدان كبير لمشروعيتها السياسية: داخليا وخارجيا، لا سيما مع تدهور شعبيتها بين الأوساط الفلسطينية، في ضوء سلوكيات أجهزتها الأمنية، خاصة اغتيال وملاحقة معارضيها السياسيين مثل مقتل نزار بنات، بجانب حالة الاستقطابات والتجاذبات التي تعيشها السلطة، وبروز تيارات تنظيمية وجهوية عديدة داخلها، وظهور معسكرات تمثل قادة حركة فتح، بسبب غياب الإجماع حول قيادة عباس للحركة.
أكثر من ذلك، فإن المطالب السياسية التي ترفعها السلطة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، ولو في حدها الأدنى، لا تتطابق مع البرنامج السياسي الذي تتبناه الحكومة الإسرائيلية، ولم يعد لدى السلطة أي تنازلات تقدمها للإسرائيليين، وأي خطوة في هذا الاتجاه يعني تخليها عما تبقى لها من مشروعية سياسية وشعبية فلسطينية.
في الوقت ذاته، فإن حالة الانقسام الذي تعيشه الساحة الفلسطينية، وسيطرة حماس على قطاع غزة، يعني أن السلطة الفلسطينية تفتقر لحالة التمثيل السياسي للفلسطينيين، وهو ما تذرعت به الحكومة الإسرائيلية السابقة وإدارة ترامب، حين لم تفضل الدخول في مسار سياسي مع عباس، لأنه لا يمثل جميع الفلسطينيين، وهي بالمناسبة فرضية تحمل كثيرا من الوجاهة، حتى لو استخدمتها إسرائيل والولايات المتحدة للتنصل من الدخول في عملية سياسية، أي إنها كلمة حق يراد بها باطل.
إسرائيلياً، ليس هناك من طموحات تفيد بنجاح أي عملية سياسية مع الفلسطينيين، في ضوء التغذية الراجعة منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد أواخر العام 2000، بين إيهود باراك وياسر عرفات، مما قد يعني أن هذه اللقاءات التي شهدتها الأسابيع الأخيرة لا تتجاوز حملة من “العلاقات العامة”، وحالة من “إدارة الصراع” مع الفلسطينيين، وليس “حله” بالضرورة.
كما أن رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت لم يبد أي حماس للقاء غانتس بعباس، سواء لعدم إيمانه بجدوى عملية سياسية مع الفلسطينيين من جهة، بسبب مواقفه اليمينية الأيديولوجية، ومن جهة أخرى لاعتبارات حزبية داخل الائتلاف الحكومي، وخشيته أن يصعد نجم غانتس في الساحة السياسية على حسابه[12]. فضلًا عن تأكيد بينت رفضه للقاء عباس، قائلاً إنه “من غير المعقول” أن يتحدث معه في وقت يقوم فيه عباس “برفع دعاوى قضائية ضد قادة الجيش الإسرائيلي في المحكمة الجنائية في لاهاي”[13].
كما كشفت مصادر لموقع “العربي الجديد” أن السيسي لم يتمكن من انتزاع تعهدات واضحة من بينت بالمساهمة في إمكانية تحقيق حل الدولتين، وأن الدور المصري لن يكون أبعد من مجرد تحقيق تهدئة مؤقتة في غزة والضفة، الأمر الذي تبدو سياسة بينت حتى الآن مقتصرة عليه، في ظل عدم بذل واشنطن جهوداً أكبر في هذا الصدد، الأمر الذي وقف حائلاً أيضاً أمام إعادة طرح فكرة عقد قمّة رباعية بين السيسي وبينت والرئيس الفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قريباً[14].
خامسًا: التعامل مع قطاع غزة:
ففي حديث لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، أكد أن لديه 3 مهام في غزة: الأولى؛ وقف تعاظم قوة حماس مقابل هدوء مؤقت، والثانية؛ تتمثل في إعادة 4 أسرى ومفقودين إسرائيليين لدى حركة حماس، والثالثة؛ منع إطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة[15]. ويرى الخبراء أن لقاء بينت مع السيسي قد ركز بصورة رئيسية على هذه الأهداف:
فبالنسبة للهدف الأول، المتمثل في اضعاف حماس، فقد ركز اللقاء على مساعي تجفيف منابع سلاح المقاومة. حيث تلعب تل أبيب على وتر أوراق الضغط المصرية بحق المقاومة، وعلى رأسها معبر رفح، وأنفاق تهريب السلاح والمواد الغذائية.
وبحسب تقرير لقناة “كان” الرسمية الإسرائيلية، كشفت أن أكثر الملفات التي استحوذت على اللقاء الذي جمع السيسي وبينيت هو تحجيم المقاومة الفلسطينية بما يضمن أمن واستقرار دولة الاحتلال. القناة نقلت عن مصادر خاصة بها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي طلب من السيسي إيقاف تعاظم قوة فصائل المقاومة وعلى رأسها حركة حماس، إضافة إلى الضغط على الحركة لمنع التصعيد والموافقة على صفقة تبادل الأسرى، وذلك من خلال رفع مستوى الرقابة في معبر رفح البري، المنفذ الوحيد للقطاع على مصر والخارج. حيث تخشى إسرائيل من عدم وجود سيطرة كاملة على المواد الهندسية الثقيلة ومواد الإعمار التي يتم نقلها لغزة، وتتخوف من أن حماس قد تستخدمها لتجديد الأنفاق “وتهريب مواد خام” عبر المعبر لتجديد مخزونها الصاروخي، كما ذكر موقع واللا العبري.
وردًا على هذا الطلب، فقد أوردت القناة الـ13 العبرية أن الرئيس المصري أبلغ بينيت أن بلاده ستعمل على منع إطلاق الصواريخ من غزة، ويتناغم هذا الرد مع ما أثير مؤخرًا بشأن الضغوط التي مارسها الجانب المصري على حماس عبر غلق معبر رفح بين الحين والآخر دون أسباب، لإثناء المقاومة عن استهداف دولة الاحتلال بالبالونات الحارقة[16].
وفيما يتعلق بالهدف الثاني، المتمثل في إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، يرى العديد من المراقبين أن هناك احتمالية كبيرة لعقد صفقة تبادل للأسرى بين حماس وإسرائيل، خاصة أنه بعد ساعات قليلة على عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت من شرم الشيخ حيث التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حتى عقد في مكتبه بمدينة القدس المحتلة اجتماعاً مع عائلة الأسير الإسرائيلي لدى حركة حماس في غزة إبراهام منغيستو. وتشير إذاعة الجيش الإسرائيلي إلى أن اللقاء الذي يأتي ضمن لقاءات مقررة لرئيس الوزراء مع ذوي الأسرى لدى حماس، حضره النائب العام العسكري التابع لرئيس الوزراء آفي غيل، ورئيس مجلس الأمن القومي إيال حولتا، والمنسق المعني بقضية الأسرى والمفقودين يرون بلوم.
وقالت مصادر إسرائيلية للصحفي شمعون أران وهو محرر في هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمية إن “بينيت تعهد أمام عائلة منغيستو بالعمل على إعادة الأسرى من غزة”. كما كشفت إذاعة الجيش أن رئيس مجلس الأمن القومي إيال حولتا عقداً على هامش لقاء السيسي-بينيت في شرم الشيخ، سلسلة اجتماعات مع رئيس المخابرات المصرية عباس كامل خاضا خلالها بقضية الأسرى لدى حماس. في السياق كشف موقع “سوراجيم” الإسرائيلي نقلاً عن مصدر سياسي مطلع أن السيسي وبينيت بحثا أيضاً قضية الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس في غزة[17].
ومع ذلك، فهناك تشكك إسرائيلي في إمكانية التوصل إلى صفقة تبادل أسرى مع حماس بوساطة مصرية. ففي حين تريد إسرائيل أن تضمن اشتمال أي صفقة على إعادة رفات جنديين قُتِلا في حرب غزة 2014، وعودة مدنيين إسرائيليين محتجزين رهائن في القطاع، وأن تتوقَّف صواريخ الفصائل عن قصف الداخل الإسرائيلي المُحتل.
فقد صعَّدت كتائب عز الدين القسام، الجناح المسلح لحركة حماس، من تهديداتها، وطلبت تحرير الأسرى الأربعة -من أصل الستة- الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم بعد فرارهم من سجن جلبوع، بل ووضعت ذلك شرطا أساسيا لأي صفقة تبادل قادمة، وهي خطوة تأتي في سياق دأب حماس المتزايد على تعزيز الترابط بين ملف غزة والقضية الفلسطينية في بقية أنحاء فلسطين، لا سيما بعد نجاحها في موضعه نفسها فصيلا فلسطينيا مقاوما مركزيا أثناء الحرب الأخيرة، بالتزامن مع تآكُل شرعية السلطة الفلسطينية واندلاع انتفاضات لعرب 48 في الداخل الإسرائيلي.
في المقابل، ليس متوقَّعا أن تقبل إسرائيل شرط إطلاق سراح الأسرى الأربعة، لا سيما وقد ألحقوا بالاحتلال فضيحة لم تنتهِ إلى الآن، كما أن استراتيجية حماس الجديدة تلك ستزيد المفاوضات تعقيدا بطبيعة الحال، لا سيما أنها تضرب في مقتل سياسة إسرائيل المستمرة بأن تصبح القضية الفلسطينية حبيسة قطاع غزة، وهي سياسة قوَّضتها بوضوح الحرب الأخيرة[18].
وبالنسبة للهدف الثالث، المتمثل وقف إطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة، فقد أعلن وزير الخارجية يائير لابيد عن استراتيجية جديدة تجاه قطاع غزة عنوانها “الاقتصاد مقابل الأمن”. وجاء كشف لابيد عن خطته الجديدة أو استراتيجيته للتعامل مع قطاع غزة خلال مشاركته في المؤتمر السنوي لمعهد سياسات مكافحة الإرهاب بجامعة رايخمان الإسرائيلية، تحت عنوان “السياسة اللازمة لإسرائيل تجاه غزة”.
وفي تفاصيل خطته المقترحة، قال لابيد إن البنية التحتية في غزة في المرحلة الأولى من الخطة، ستحصل على تحسين هي في أمس الحاجة إليه، مضيفاً: “سيتم إصلاح نظام الكهرباء وربط الغاز وبناء خطة لتحلية المياه وإدخال تحسينات كبيرة على نظام الرعاية الصحية وإعادة بناء البنية التحتية للإسكان والنقل”. وفي حال سارت المرحلة الأولى بسلاسة، ستشهد غزة عندئذ بناء جزيرة اصطناعية قبالة سواحلها تسمح بإنشاء ميناء، وسيتم إنشاء “رابط مواصلات” بين غزة والضفة الغربية. وفى المقابل، يشترط لابيد إضعاف قوة حماس العسكرية عبر إيجاد قوات دولية، وتولي السلطة الفلسطينية زمام الأمور على صعيد الإدارة المدنية والاقتصادية في القطاع[19].
وهناك عدة عوامل أدت إلى تبنى الموقف الإسرائيلي لهذه الخطة، تتمثل في؛ العامل الأول، يكمن في رغبة إسرائيل في التركيز على الجبهة الشمالية (لبنان وسوريا)، والتهديد النووي الإيراني، ما يتطلب تسكين الصراع في الضفة الجنوبية مع حماس. والعامل الثاني يتمثل في وقف استنزاف الجيش الإسرائيلي في معارك وجولات قتالية (في غزة) لم تحقق أهدافها، وإدراك إسرائيل أنها لا تستطيع أن تغير واقع غزة بالقوة العسكرية أو إحراز نصر ضد المقاومة، بالعكس فإن القدرات العسكرية للمقاومة شهدت تطوراً في السنوات الأخيرة.
بينما يتمثل العامل الثالث، في رغبة إسرائيل بإيجاد أفق سياسي للتسوية مع السلطة الفلسطينية، من خلال خطة تضمن الهدوء على جبهة غزة وعزل حماس. ويتمثل العامل الرابع، في مساعي إسرائيل لضمان هدوء وأمن مستدامين لسكان مستوطنات غلاف غزة، ومنع الانجرار لمعركة مع المقاومة. ويتمثل العامل الخامس، في محاولة إسرائيل توجيه ضغط اجتماعي من سكان غزة تجاه حماس، فهذه الخطة تثير عواطف الفقراء في غزة، الذين يشكلون أغلبية، ما يدفهم ربما للتمرد على قيادة القطاع، ويجرونه نحو مربع الفتنة (تثوير المجتمع)[20]. وأخيرًا، يتمثل العامل السادس، في الدعم الأمريكي لهذه الخطة، ولعل ذلك كان الدافع الرئيسي خلف القمة الأمريكية- الإسرائيلية التي تم عقدها في واشنطن بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، في 24 أغسطس 2021، والتي تم التأكيد خلالها من جانب بايدن على ضرورة تقديم تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين.
ولكن، هذه الخطة تواجه مجموعة من التحديات، لعل أبرزها؛ وجود رفض إسرائيلي لتلك الخطة، خاصة وأنها تتحدث عن “الاقتصاد مقابل الأمن” بديلاً عن “نزع السلاح مقابل رفع الحصار” ما يمثل انتصاراً للمقاومة الفلسطينية، بحسب كثير من المحللين الإسرائيليين أنفسهم. بجانب، عدم وجود إجماع كامل داخل الحكومة الإسرائيلية حول هذه الخطة، خاصة في ظل وجود عناصر يمينية متطرفة، على رأسها رئيس الوزراء نفتالي بينت، ترفض مبدأ التفاهم مع حماس، وترى أن تلك المبادرات الاقتصادية مكافأة لحركة حماس، قد تستغلها الحركة لمراكمة قوتها العسكرية وتهديد إسرائيل. فيما يرى آخرون أن الخطة غير قابلة للتطبيق، وأن إسرائيل غير جادة في تنفيذها، لكن مضطرة لإظهار نوع من الموافقة على هذه الخطة، حتى تتماشى مع الموقف الدولي، وخاصة في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن، التي طالبت في أكثر من مناسبة بضرورة تحسين أوضاع قطاع غزة المعيشية.
وعلى الجانب الأخر، ينتقد الفلسطينيون دائماً تلك “الخطط الاقتصادية” لأنه، من وجهة النظر الفلسطينية، لن يكون هناك حل حقيقي للصراع دون تسوية سياسية تعيد لهم حقوقهم في أرضهم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ويرون أن الخطة الاقتصادية الإسرائيلية تتجاوز حقيقة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتحوله من سياسي إلى اقتصادي. فالفصائل تتبنى فكرة المقاومة، ليس من أجل تحسين شروط الحياة الاقتصادية فقط، بل من أجل انتزاع الحقوق السياسية وإقامة الدولة.
وينطبق هذا المنطق، من وجهة النظر الفلسطينية، على الرفض القاطع لصفقة القرن التي كان الرئيس الأمريكي السابق ترامب يريد تنفيذها كوسيلة لوضع نهاية للصراع الرئيسي في الشرق الأوسط الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني- من وجهة نظره. وكان سبب الرفض هو عرض “مغريات اقتصادية” للفلسطينيين مقابل التخلي عن حقهم في إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية[21]. كما ترفض السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس أي حلول في غزة بمعزل عنها وترغب في أن تدير هي أية مشروعات تجري في القطاع، وهو ما ترفضه حركة حماس[22].
أضف إلى ذلك، فإن تراكم الأحداث في قطاع غزة ينذر بتفجر الأوضاع في المدى القريب. فحماس محبطة جداً من عدم نجاحها في تحويل حملة “حارس الأسوار” إلى إنجازات حقيقية. فحجم نقل البضائع إلى القطاع ومجالات الصيد، وإن كانا اتسعا في الأيام الأخيرة بناء على الطلب المصري (بما في ذلك كبادرة حسن نية قبيل لقاء السيسي وبينت)، غير أن نقل الأموال يصطدم بالمشاكل بعد أن تراجعت السلطة الفلسطينية عن موافقتها على أن تكون هي قناة دفع الرواتب لموظفي حكم حماس في غزة. والنتيجة هي استياء متعاظم في حماس، المتوجه نحو العنف الرقيق نسبياً: بالونات حارقة، ومواجهات على الجدار. تحتوي حماس في هذه المرحلة هجمات الرد من جانب سلاح الجو والصواريخ، ولكن ليس مؤكداً أن تفعل هذا على مدى الزمن.
بالتوازي، يسعى الجهاد الإسلامي لاستغلال الفرصة على خلفية فرار السجناء من سجن جلبوع. فمنذ ثلاثة أيام على التوالي، والتنظيم يطلق كل مساء صاروخاً نحو “سديروت”، كتضامن مع الفارين ومع كفاح السجناء الفلسطينيين في السجون. ويسعى الجهاد في غزة لردع إسرائيل من إجراءات كهذه، كما يحرص أيضاً على ألا يدخل في حرب شاملة مع غزة، ولكن قد يغير سياسته في حالة قتل سجناء أسرى.
وفى المقابل، لن تتمكن إسرائيل من التجلد على تصعيد كهذا، وقد تختار تركيز المعركة على الجهاد الإسلامي فقط، مثلما فعلت في أثناء حملة “حزام أسود” في نوفمبر 2019، التي بدأت بتصفية مسؤول التنظيم في القطاع بهاء أبو العطا. غير أن حماس اختارت في حينه عدم القتال ضد إسرائيل. أما الآن فوضعها أكثر تعقيداً: سيكون صعباً عليها أن تتجلد حين يتعلق الأمر بالسجناء الفلسطينيين. فالحديث يدور عن موضوع يجمع عليه الشارع الفلسطيني، والسنوار نفسه أيضاً سجين سابق تحرر في صفقة شاليط، وأقسم غير مرة أن يفعل كل شيء كي يحرر رفاقه الذين تبقوا وراءه[23].
سادسًا: قضية سد النهضة:
ذكرت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية “كان” أن “السيسي طلب من بينيت المساعدة في حل أزمة سد النهضة الإثيوبي، ملمّحة إلى أن الاحتلال يسعى إلى ربط ذلك بدور مصري أكبر في الضغط على المقاومة في قطاع غزة الفلسطيني المحاصر”.
وأوضحت “كان” أن السيسي يريد مساعدة من الاحتلال في “حشد الرئيس الأمريكي جو بايدن لصالحها في أزمة سد النهضة، وهو الاهتمام الذي ظهر مرة أخرى في لقاء السيسي مع بينيت”. وأضافت: “من جانب إسرائيل، لا توجد رغبة في الانحياز إلى جانب ما بين إثيوبيا ومصر، لكن حكومة بينيت قد تكون قادرة على إلقاء كلمة لدى الإدارة الأمريكية، أو بدلا من ذلك المساعدة في مرافق تحلية المياه”.
وتابعت بأن الاحتلال أرسل مؤخرا رسائل إلى الولايات المتحدة، تفيد بأنها مهتمة بإيجاد حل للأزمة، وفي حال زودت إسرائيل السيسي بما يريده، فسيكون أكثر حماسا للضغط على يحيى السنوار (قائد حركة حماس في قطاع غزة) بكل الأدوات التي لديه؛ لعقد صفقة تبادل الأسرى، وتحقيق التهدئة في قطاع غزة، وذلك عبر تشديد الرقابة عبر معبر رفح[24].
وفى هذا السياق، فقد سبق وأن نقل موقع “العربي الجديد” عن مصادر دبلوماسية مصرية أن الاتصالات الاستخباراتية والدبلوماسية بين القاهرة وتل أبيب شهدت تباحثا حول إحياء دور وساطة قد تؤديه تل أبيب في قضية سد النهضة، بتنسيق مع الولايات المتحدة، تزامنا مع اقتراب موعد الملء الثالث للسد الصيف المقبل. وفي المقابل، تحرَّكت مصر عبر مدير مخابراتها الذي زار لبنان مطلع الشهر الماضي (أغسطس 2021)، والتقى قيادات من حزب الله -بحسب تسريبات- ضمن مهمة هدفت تحييد حزب الله عن دعم غزة في صراعها مع إسرائيل، على أمل أن تؤدي تلك التحرُّكات إلى إنجاح المفاوضات التي تعدُّها مصر بوابتها الفعلية إلى واشنطن[25].
ومن المنتظر أيضًا، أن تقوم مصر بالدفع في مسار تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان، خاصة في ظل حرص دولة الاحتلال على تطوير علاقاتها مع السودان كجزء من المشهد الجديد المراد للشرق الأوسط، وإجراء اتصالات متقدمة على مستويات عسكرية واستخبارية واقتصادية بين الطرفين، بمباركة من المكون العسكري في السلطة بالخرطوم، على الرغم من التحفظ الحكومي الرسمي من جانب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك[26].
وعلى الرغم من اعتراض مصر وست دول عربية على انضمام إسرائيل الشهر الماضي (أغسطس 2021) كمراقب في الاتحاد الأفريقي، فإن هناك توجهاً جديداً بعدم الاعتراض على الوجود الإسرائيلي في أي منظمة إقليمية، سواء كان الأمر يتعلق بشرق المتوسط أو الاتحاد الأفريقي أو حتى تكتل دول البحر الأحمر مستقبلاً، بل وهناك إمكانية تبادل الدعم الدبلوماسي في تلك المحافل، لا سيما مع وجود علاقات إسرائيلية متنامية مع الدول الأعضاء بتلك التجمعات الإقليمية.
وكان السيسي قد أكد، على هامش المباحثات مع بينت، على “وجود تفاهم مشترك مع الجانب الإسرائيلي بشأن العديد من قضايا المنطقة، بما في ذلك أزمة سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا”، وأضاف “تناقشنا عن سد النهضة ووجدت تفاهماً مشتركاً بهذا الشأن، وأخبرته أننا نحاول أن نعالج هذه القضية في إطار من التفاوض والحوار وصولاً إلى اتفاق”، واصفاً إياها بـ”موضوع مهم بالنسبة إلينا ونعتبره حياة أو موتاً”[27].
سابعًا: على المستوى الاقتصادي:
بعد زيارة رئيس المخابرات العامة عباس كامل، في 18 أغسطس 2021، إلى إسرائيل، خفف “مجلس الأمن القومي” الإسرائيلي قيود السفر إلى جنوب سيناء وشرم الشيخ من أجل مساعدة قطاع السياحة في مصر. وفي موازاة ذلك، ناقش المسؤولون المصريون والإسرائيليون خططاً لتعميق التعاون في مجال الطاقة، وتوسيع رحلات الطيران المباشرة، وتوسيع “المنطقة الصناعية المؤهلة” في مصر[28].
وخلال لقاء بينت والسيسي، تم الاتفاق على؛ رفع الحظر الأمني على دخول الإسرائيليين إلى سيناء، وهو ما قابلته مصر بالسماح للسيارات الإسرائيلية بالدخول عبر معبر طابا البري، ومن دون تحديد لعدد السيارات المسموح لها بالدخول وعدد أيام الإقامة السياحية. كما تم الاتفاق أخيراً على تشغيل رحلات عبر الناقل الرسمي لمصر، أي من خلال (مصر للطيران) بين القاهرة وتل أبيب لتشمل أربع رحلات أسبوعية، عوضاً عن الاعتماد على الطيران الإسرائيلي (إل عال) أو خطوط (إيرسينا) كبديل لاستخدام مصر الخطوط الجوية المعتمدة للدولة التي ترفع علم البلاد. وكانت مصر رفضت سابقا طلب إسرائيل وجود عناصر أمن إسرائيليين مسلحين على الأراضي المصرية لتأمين الأفواج السياحية، وهو الطلب الذى قد تكون مصر قد تنازلت عنه.
ومن المتوقع أيضًا، أن يكون تم مناقشة العديد من ملفات المصالح الاقتصادية المشتركة بين الجانبين وعلى رأسها التعاون في ملف غاز شرق المتوسط، لا سيما أن مصر لديها مقر منظمة غاز شرق المتوسط[29]. وجدير بالذكر هنا، أن تلك الزيارة تأتى مع الحديث عن بدء مد خط الغاز المصري الذي سيعبر الأردن ليصب في لبنان مرورًا بسوريا. ومن المعروف أن هذا الغاز هو غاز إسرائيلي أصبحت تستورده مصر من تل أبيب وتقوم بتسييله في مصانعها ثم تصدره إلى الخارج. فمصدر الغاز ينبع من منطقة عسقلان الإسرائيلية، ثم يمر في منطقة العريش المصرية إلى بور سعيد، ومن هناك إلى منطقة طابا، فالعاصمة الأردنية عمان، ثم السورية دمشق ثم مدينة حمص السورية، ومن هناك يتفرع إلى بانياس السورية ثم إلى طرابلس اللبنانية[30].
وعليه، فإن هذا الخط سيعمل على الإدماج العضوي للكيان الصهيوني في صلب المنطقة عبر إدخاله كشريك مهيمنٍ في شبكة الطاقة الإقليمية، وإعطائه يداً عليا ومدْخلاً مهيمِناً، لا على الدول التي تربطها به معاهدات فحسب، بل كذلك على الدول التي لا تربطها به علاقات تطبيعية واتفاقات من أي نوع كان[31]. وفى سياق متصل، تشير تقارير إعلامية عن استعداد مصر لاستئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين الاحتلال والفلسطينيين[32].
[1] “لقاء بينيت والسيسي: فرصة نادرة لتعزيز العلاقات علناً”، معهد واشنطن لدراسة سياسات الشرق الأدنى، 13/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3CgmqUl
[2] المرجع السابق.
[3] “لقاء السيسي بينيت.. العلاقات الدافئة فوق كل اعتبار”، نون بوست، 14/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3Apwkm9
[4] ““خطوة غير مسبوقة تجاه مصر”.. بوليتيكو: بايدن قرر حجب مساعدات عن القاهرة بسبب حقوق الإنسان”، عربي بوست، 14/9/2021، الرابط: https://bit.ly/2XkYctl
[5] “لقاء بينيت والسيسي: فرصة نادرة لتعزيز العلاقات علناً”، مرجع سابق.
[6] “لقاء السيسي بينيت.. العلاقات الدافئة فوق كل اعتبار”، مرجع سابق.
[7] “ما دلالات الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى مصر؟”، إندبندنت عربية، 14/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3lq7Y5k
[8] “لقاء بينيت والسيسي: فرصة نادرة لتعزيز العلاقات علناً”، مرجع سابق.
[9] “تقدير إسرائيلي: مصر شريك استراتيجي وهذه مصالحنا المشتركة”، عربى21 (مترجم)، 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3Aeirad
[10] ” دانيال سيريروتي: لقاء السيسي وبينت ركز على ادخال قوات عسكرية لمنطقة شمال سيناء”، حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية، 14/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3hCaNiF
[11] “دوافع وأسباب الحراك الإسرائيلي الفلسطيني العربي”، تليفزيون سوريا، 10/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3EfxJ0P
[12] المرجع السابق.
[13] “بينيت يكشف عن 3 مهام لديه في غزة! جدد رفضه لدولة فلسطينية، وهذا موقفه من تبادل الأسرى مع حماس”، عربي بوست، 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3zeMNYS
[14] “لقاء السيسي وبينت: مكاسب للاحتلال والقضية الفلسطينية بلا اختراق”، العربي الجديد، 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/2VLXmF6
[15] “بينيت يكشف عن 3 مهام لديه في غزة! جدد رفضه لدولة فلسطينية، وهذا موقفه من تبادل الأسرى مع حماس”، مرجع سابق.
[16] “لقاء السيسي بينيت.. العلاقات الدافئة فوق كل اعتبار”، مرجع سابق.
[17] “حراك بإسرائيل بشأن أسراها بغزة عقب لقاء السيسي-بينيت.. هل تلوح صفقة بالأفق؟”، تي أر تي عربي، 14/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3C9ohKk
[18] “الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب.. لماذا استقبلت مصر رئيس وزراء إسرائيل علنا؟”، ميدان، 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3zahVIY
[19] ” الاقتصاد مقابل الهدوء.. تفاصيل استراتيجية لابيد لحماية إسرائيل من صواريخ المقاومة في غزة”، عربي بوست، 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3nA1tzn
[20] “بعد فشل إسرائيل في إضعاف المقاومة بالحرب.. هل تنجح خطة “الاقتصاد مقابل الأمن” في “ترويض” غزة؟”، عربي بوست، 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3z7H72M
[21] ” الاقتصاد مقابل الهدوء.. تفاصيل استراتيجية لابيد لحماية إسرائيل من صواريخ المقاومة في غزة”، مرجع سابق.
[22] “”لمصر دور محوري”… خطة إحياء صفقة القرن لصاحبها دونالد ترامب”، رصيف22، 13/9/2021، الرابط: https://bit.ly/2XmKFB6
[23] “صحيفة عبرية: غزة بتصدرها “شرم الشيخ”: ماذا ستفعل الوساطة المصرية؟”، القدس العربي، 15/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3lxHHCi
[24] “السيسي “طلب عون إسرائيل بأزمة سد النهضة”.. ما علاقة غزة؟”، عربى21، 14/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3zhxFK6
[25] “الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب.. لماذا استقبلت مصر رئيس وزراء إسرائيل علنا؟”، مرجع سابق.https://bit.ly/3zahVIY
[26] “لقاء السيسي وبينت: مكاسب للاحتلال والقضية الفلسطينية بلا اختراق”، مرجع سابق.
[27] “ما دلالات الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى مصر؟”، مرجع سابق.
[28] “لقاء بينيت والسيسي: فرصة نادرة لتعزيز العلاقات علناً”، مرجع سابق.
[29] “ما دلالات الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى مصر؟”، مرجع سابق.
[30] “هل يعيد الغاز الإسرائيلي تشكيل المنطقة؟”، القدس العربي، 10/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3AhTmek
[31] “حملة المقاطعة و«غاز العدو احتلال»: حذار التطبيع الطاقيّ”، الأخبار، 14/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3tHzGhD
[32] “لقاء السيسي وبينت: مكاسب للاحتلال والقضية الفلسطينية بلا اختراق”، مرجع سابق.