استراتيجية حقوق الإنسان.. قراءة في المضامين والمآرب

 

 

في 18 مايو 2021م، صوت مندوب النظام العسكري في مصر ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي يلزم الدول بحماية المواطنين ومنع الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية. كان الموقف المصري صادما وكاشفا، لكنه أثار تساؤلات كثيرة؛ فلماذا يرفض نظام الطاغية عبد الفتاح السيسي حماية المصريين من التعرض لأي جرائم وحشية أو جرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية، وإدراج هذه الجرائم ضمن ولاية مجلس حقوق الإنسان؟

معنى ذلك أن النظام لا يتمتع بأي مسحة أخلاقية أو دينية أو حتى دستورية؛ ذلك أن حماية الشعب من الجرائم والإبادة والعدوان هي أصول دينية ومبادئ أخلاقية إنسانية واستحقاقات دستورية، وتصويت النظام برفض القيام بهذه المهام الدستورية الأصيلة هي بمثابة اعتراف رسمي بأن النظام يتخلى عن أبرز مهمه ووظائفه الأساسية، وأنه هو من يمارس هذه الجرائم والوحشية بحق الشعب، ورفضه هو شي من الدفاع عن النفس لأنه يخشى العواقب.

معنى ذلك أيضا أن رفض نظام السيسي للقرار الأممي يعني أنه لا يريد أي التزام قانوني أو تعاقدي دولي بحماية الشعب المصري من أي جرائم وحشية أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية”، رغم أن هذه الحماية هي من المهام الأساسية لأي نظام حكم في العالم. كما أن هذا الرفض يبرهن على أن النظام لا يملك الإراد أو الرغبة في تحسين حالة حقوق الإنسان أو حماية المصريين من جرائم الإبادة والتطهير العرقي. رفض نظام السيسي للقرار الأممي ليس الأول من نوعه؛ فالنظام ينكر من الأساس اتهامه بارتكاب جرائم ضد الشعب، ودائما ما يمتنع عن التوقيع على قوانين دولية تغل يده القامعة وتحد من طغيانه الوحشي بالناس، والتي كان من بينها رفض التوقيع على اتفاقية مناهضة الإخفاء القسري في أكتوبر 2015م.

وبحسب «المنظمة العربية لحقوق الإنسان» في تقريرها الصادر في 30 يونيو 2020م، فإن النظام المصري يصر على رفض التصديق على المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان مثل “اتفاق روما الأساسي”، واتفاقية “مناهضة الإخفاء القسري”، والبروتوكولات الملحقة بالعهود الدولية، ويتجاهل اتخاذ إجراءات ضد استمرار التعذيب.

هذا النظام العسكري الذي اغتصب الحكم بأداة غير دستورية هي الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013م، وقتل آلاف الضحايا ظلما وزج بالرئيس المنتخب وحكومته وقادة حزبه في السجون والمعتقلات بتهم باطلة، ولا يزال حتى اليوم يمارس أبشع صور التعذيب والانتهاكات،  وبعد فضيحة التصويت ضد قرار الأمم المتحدة بشهور قليلة راح ينظم احتفالا ضخما بدعوى إطلاق الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وذلك صبيحة السبت 11 سبتمبر 2021م، وهو الحفل الذي جرى تنظيمه برعاية مباشرة من الجنرال عبدالفتاح السيسي، الأمر الذي اعتبره مقال “رأي الأهرام” يوم الإثنين 13 سبتمبر برهانا على أن هذه الإستراتيجية تناظر المشروعات القومية الكبرى التي يحضر السيسي مناسبات افتتاحها.

وألح مقال الأهرام على فكرة أن إطلاق هذه الإستراتيجية يمثل حدثا مصريا خالصا لا يضع اعتبارا لأي ضغوط خارجية مستدلا على ذلك بعامل التوقيت؛ حيث لم يرضخ النظام في مصر لإطلاق هذه الاستراتيجية خلال السنوات الماضية امتثالا للضغوط الكبيرة التي تعرض لها. [[1]] في المقابل، يرى معارضون للنظام أن “الاستراتيجية التي أعلنتها السلطات لن تغير من الواقع الحقوقي في البلاد، وتبقى في إطار موجه للخارج أكثر منه للداخل”. والانطباع السائد لدى كثيرين هو أن نظام السيسي يريد تحسين سمعته دوليا والزعم أن حقوق الإنسان ليست مدنية وسياسية فقط بل تشمل أيضاً حقوقاً اقتصادية واجتماعية، وأنه يبذل قصارى جهده لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية للمصريين، ما يعني مناشدة الخارج عدم التركيز على الحقوق المدنية والسياسية”.

هذه الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان تضم ــ بحسب نصوصها ــ محاور رئيسية حول ما يسمى بالمفهوم الشامل للحقوق “بالتكامل مع المسار التنموي القومي الذي يرسخ مبادئ تأسيس الجمهورية الجديدة ويحقق أهداف رؤية مصر 2030، وتشتمل على أربعة محاور عمل رئيسية تدور حول الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحقوق المرأة والطفل، وحقوق ذوي الإعاقة والشباب وكبار السن، والتثقيف وبناء القدرات في حقوق الإنسان”. وهي الوثيقة التي وضعتها ما تسمى باللجنة العليا لحقوق الإنسان التابعة لوزارة الخارجية.

تحفظات على الشكل

استراتيجية حقوق الإنسان.. قراءة في المضامين والمآرب

من حيث الشكل فإن هذه الاستراتيجية هي مجرد أداة دعائية للنظام من أجل تحسين سمعته دوليا في الملف الحقوقي والتغطية على سجله المتغم بالجرائم والانتهاكات وخلال صياغتها على مدر الشهور الماضية اصطدمت بعدة عقبات جعلتها تخرج في شكل هزيل يقوم على العبارات المنمقة والألفاظ الرنانة بعيدا عن أي تحول حقيقي وجاد في الملف الحقوقي:

أولى العقبات التي جعلت صياغة الوثيقة خالية من أي عمق حقيقي لمفهوم حقوق الإنسان هي توجهات النظام نفسه والتي تحمي الضباط المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان، وهو ما أشار إليه السيسي في تسريب سابق أواخر 2013م بأن أي ضابط يطلق النار على متظاهرين لن يحاكم. وقد نشرت شبكة رصد تسريبا للسيسي خلال اجتماعه بعدد من قيادات الجيش والشرطة حيث قال السيسي إن ما تم تجاه الشرطة خلال العامين الماضيين قد أفرز مناخا جديدا وأكد أن الضابط الذي سيتسبب في قتل متظاهر أو إصابته في عينه بإطلاق قنابل الغاز أو الخرطوش لن يحاكم. مشيرا إلى أن المتظاهرين باتوا يدركون ذلك.[[2]] وخلال السنوات الماضية ارتكب النظام عشرات المذابح الجماعية وقتل آلاف الأبرياء ومارس ــ ولا يزال ــ انتهاكات وحشية لم يسبق لها مثيل؛ ولم يقدم ضابط واحد للمحاكمة على هذه كل هذه الجرائم!

الثانية أن الذي وضع هذه الإستراتيجية هي اللجنة العليا لحقوق الإنسان التابعة لوزارة الخارجية؛ بما يعني أن الإستراتيجية هي رؤية حكومية خالصة لمفهوم ومعنى حقوق الإنسان. وهو ما يؤكد الانطباع السائد بأن الهدف هو مغازلة الأميركان والغرب بهذه الرؤية لاعتبارات تتعلق بالضغوط الخارجية التي يتعرض لها نظام السيسي بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والخوف من استقطاع الإدارة الأمريكية 300 مليون دولار من المساعدات العسكرية السنوية للجيش المصري.

ويبرهن على ذلك أن هذه اللجنة تشكلت في 14 نوفمبر 2018م بقرار من رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي بهدف إدارة آلية التعامل مع ملف حقوق الإنسان و(الرد على الادعاءات المثارة ضد مصر بشأن حقوق الإنسان)، على أن تتشكل اللجنة برئاسة وزير الخارجية أو من يفوضه وتضم ممثلين عن وزارة الدفاع والتضامن الاجتماعي والعدل وشئون مجلسي النواب والداخلية والمخابرات العامة وهيئة الرقابة الإدارية والقومي للمرأة والقومي للطفولة والمجلس القومي لشئون الإعاقة والهيئة العامة للاستعلامات، والنيابة العامة! وبالتالي فإن الهدف من اللجنة كما هو واضح من قرار إنشائها أن تقوم بدور المحامي عن النظام في المحافل الدولية وأمام المجتمع الدولي، وبالتالي فلا مانع من استخدام اللافتات البراقة والعناوين العاطفية وبعض التصريحات عن ضرورة حقوق الإنسان وأهيمتها بشرط ألا تخرج اللجنة عن إطار الهدف الحقيقي وهو تجميل وجه النظام دوليا.[[3]]

الثالثة أن النظام ينظر إلى الشكل في هذه الاستراتيجية وليس الجوهر، بمعنى أنه يركز على تسويق هذه الاستراتجية على المستوى الخارجي لتكون أداة من أداة النظام في تبييض صورته السوداء أمام الحكومات والعواصم الغربية التي تنتقد باستمرار ملف نظام السيسي في حقوق الإنسان دون أن يصاحب ذلك انفراجة حقيقية في الملف الحقوقي على المستوى المحلي؛ يبرهن على ذلك أن النقاشات التي دارت حول هذه الاستراتيجية في مجلس النواب والشيوخ خلال الشهور الماضية اهتمت بالشكل دون الجوهر وأهملت بشكل كبير اهتمامات الجماعة الحقوقية والنشطاء السياسيين والمدنيين، وركّزت أكثر على “شكل الاستراتيجية” وطريقة تسويقها وترويجها في الخارج. [[4]]

الرابعة والأهم أن هذه الإستراتيجية تصطدم بشكل مباشر بتصورات ومفاهيم السيسي المشوهة عن حقوق الإنسان والتي أبدى شيئا منها من خلال تصريحاته خلال السنوات الماضية. مثلما قال للرئيس الفرنسي في زيارته للقاهرة في فبراير 2019م، إنه ينبغي على الأوروبيين ألا يطبقوا معاييرهم لحقوق الإنسان على المواطن المصري.. وهو ما يتصادم مع المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنصّ على ما يلي: “يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق”.

فيما تشدّد المادة الثانية على عدم التمييز، والذي هو، بحسب الأمم المتحدة، مبدأ شامل في القانون الدولي لحقوق الإنسان. وتنصّ عليه جميع المعاهدات الأساسية لحقوق الإنسان.[[5]] وعندما حوصر السيسي بأسئلة الإعلاميين خلال زيارته لفرنسا في ديسمبر 2020م أطلق سيلا من الهذيان كشف فيه عن تصوراته المشوهة عن مفهوم حقوق الإنسان وهي التصريحات التي صدمت المهتمين بالشأن الحقوقي في باريس والعالم.[[6]] وكان الجنرال في لقائه المذكور مع الرئيس الفرنسي قال نصا:«لن تعلمونا إنسانيتنا.. فهي غير إنسانيتكم»! وهي عبارة تجسد وافر احتقاره الإنسان المصري، والعربي، وتصنيفه له في درجة أدنى على سلم الإنسانية، بقوله وهي تساوي بالضبط أن إنساننا يختلف عن إنسانكم.. الإنسان عندنا أرخص من الإنسان عندكم، فلا تحدّثونا عن معايير وقيم إنسانية واحدة.

فالسيسي يتبنى فكرة أن حقوق الإنسان ليست جوهرية وأصيلة تنطلق من معايير ومبادئ مستقرة ومتفق عليها أمميًا، ولكنها مفهوم خاص بكل دولة يمكن أن يتغير حسب طبيعة المجتمع. وأن الأولوية هي لما تسمى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية أما الحقوق المدنية والسياسية مثل الحريات والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحق التجمع والتعبير عن الرأي والمساواة أمام القانون واختيار الحكام والمشاركة في صنع القرار فهي قيم لا تحظى بأي قيمة عند السيسي وأمثاله. هو إذا يتعامل مع المفهوم العالمي لحقوق الإنسان على أنه “سوبر ماركت” يأخذ منه ما يشاء ويدع ما يشاء.

من جانب آخر فإن السيسي ربما يجهل أو يتجاهل أن المفهوم الدولي لحقوق الإنسان هو بالفعل شامل؛ وقد أكد مؤتمر فيينا في العام 1993 أن الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان أمور مترابطة، وأكد أن انعدام التنمية ليس مبررا لأي نوع من انتهاكات حقوق الإنسان. وعرّف المؤتمر التنمية كمفهوم بأنها عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة، تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان والتوزيع العادل للفوائد الناتجة من التنمية. فالتنمية، جوهرها وعمقها، تحقيق حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصبح يتم تعريف حقوق الإنسان، أيضاً، على أنها الجهد الإنساني المشترك الذي يطمح إلى ترسيخ القيم الإنسانية العليا، ذات المعاني النبيلة والسامية التي تتطلع كل الشعوب والمجتمعات إلى تمثيلها والامتثال لها.[[7]]

الخامسة، أن النظام لم يقدم أي بادرة توحي بأن هناك انفراجه حقيقة في ملف الحريات والعدالة وحقوق الإنسان، بل العكس هو ما يحدث، فلا تزال الانتهاكات تتواصل وحملات الاعتقال لا تتوقف، وماكينة الأكاذيب الإعلامية تدور بأقصى طاقتها، ومؤسسات العدالة لا ترى إلا بعين واحدة فاختل الميزان وضاع القسط بين الناس.  فلماذا لا يتم الإفراج فورا عن عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين؟ ولماذا لم يعلن النظام عن وقف حالة الطوارئ؟ ولماذا لا يتوقف عن استخدام الحبس الاحتياطي كأداة عقاب؟ ولماذا لا تتوقف الملاحقات الأمنية للنشطاء السياسيين والمعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان من مختلف التيارات السياسية؟ ولماذا لا يتم رفع الحجب عن الصحف والمواقع والفضائيات التي أغلقت بقرارات أمنية صارمة في أعقاب انقلاب 3 يوليو العسكري؟

ولذلك أعادت عدة منظمات حقوقية نشر المبادرة التي تضمنت سبع خطوات دعت لتحقيقها فورا قبل الحديث عن أي شيء عن الإستراتيجية الحقوقية وهي  الإفراج عن آلاف السجناء السياسيين المحبوسين احتياطياً، أو الأشخاص المحكوم عليهم من جميع التيارات السياسية بسبب نشاطهم السلمي، وإنهاء الحبس الاحتياطي المطول مفتوح المدة، ووقف “تدوير” السجناء السياسيين في قضايا جديدة لإبقائهم في السجون، والخطوة الثالثة، رفع حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 2017 بالمخالفة للدستور، والمستخدمة في تعطيل كافة الحريات الأساسية وحقوق المحاكمة العادلة. والخطوة الرابعة، تأجيل تنفيذ جميع أحكام الإعدام الصادرة في قضايا جنائية أو سياسية، وعرضها على لجنة مختصة للعفو الرئاسي قبل تنفيذها، والخامسة، إنهاء الملاحقة الجنائية للمدافعين عن حقوق الإنسان، وإغلاق قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، وكذا سحب مشروع قانون الأحوال الشخصية، وإطلاق حوار مجتمعي بشأن قانون عادل للأسرة يكفل الحقوق المتساوية للنساء، والخطوة السابعة، رفع الحجب عن واقع الإنترنت والصحف الرقمية، والتي تجاوز عددها 600 موقع محجوب بالمخالفة للقانون، وبدون حكم قضائي.[[8]]

السادسة، هو تهميش دور المجتمع المدني في وضع هذه الاستراتيجية؛ فتكليف الخارجية بعمل هذه الاستراتيجية ثم تشكيل اللجنة على النحو الذي رأيناه بأغلبية من أجهزة الدولة الأمنية، يعكس حجم التهميش الكبير الذي يعاني منه المجتمع المدني بكل مؤسساته ومنظماته والذي يتعرض لعدوان صارخ منذ انقلاب 3 يوليو 2013م. وقد كان الأولى تكليف المجلس القومي لحقوق الإنسان رغم أنه حكومي أيضا لكنه هو المعني بالحالة الحقوقية وليست وزارة الخارجية، على أن يقوم المجلس بمشاركة منظمات المجتمع المدني والاستفادة والشخصيات الحقوقية المعروفة على الصعيدين القومي والدولي.

السابعة، أن الاستراتيجية الحكومية لحقوق الإنسان ترتكز على الضمانات الواردة في دستور 2014 في مجال حماية وتعزيز واحترام حقوق الإنسان، وعلى بعض الالتزامات الدولية والإقليمية لمصر والواردة في الاتفاقات والعقود والمواثيق التي وقعت عليها مصر بشكل أساسي”. وكلها أهداف سامية ونبيلة ولا خلاف عليها، لكن المشكلة لم تكن يوما في النصوص، ولا في الصياغات النبيلة والوعود الرائعة، بل كانت ولا تزال في تطبيق تلك النصوص والالتزام بها”. وقد نص الدستور صراحة على الحقوق المدنية والسياسية للمصريين إلى جانب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ فــ «الحريات والحقوق العامة للمواطنين ليست منحة من حاكم أو مسئول، بل هى حقوق مشروعة للمواطن لا يجوز الانتقاص منها أو تعطيلها حتى ولو بالقانون! وقد جاءت المادة رقم 92 من دستور 2014 لتنص على مبدأ رئيس أن «الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلا ولا انتقاصا.

ولا يجوز لأي قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها». ويضم الدستور المصرى بابا به سبعة وأربعون مادة تفصل الحريات والحقوق المفروض أن ينعم بها المصريون والواجبات التى يتحملون مسئولياتها، منها أن الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها. كذلك يحظر الدستور التعذيب بجميع صوره وأشكاله باعتباره جريمة لا تسقط بالتقادم. ويؤكد الدستور على المساواة بين المواطنين أمام القانون وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، وأنه لا تمييز بين المواطنين بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر، وأن التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، ويؤكد الدستور أن الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمس، كما يؤكد الدستور أن للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس. وينص الدستور أن للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب.[[9]] ومن لم يردعه الخوف من الله أو تردعه نصوص الدستور والقانون الذي أقسم عليه فهل تردعه نصوص هذه الوثيقة حتى لو كان لها اسم فخم رنَّان “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”؟!

تحفظات على المضامين

استراتيجية حقوق الإنسان.. قراءة في المضامين والمآرب

التحفظ الأول، أن هذه الإستراتيجية تتعمد الاستناد على تشخيص خاطئ ومضلل، بالتغاضي عن ممارسات الدولة -بأجهزتها المختلفة- المناهضة للقانون، ومن ثم تصل إلى نتائج خاطئة ومضللة بدورها» بحسب مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. وفي محور الحقوق السياسية والمدنية الذي احتل نحو 20 صفحة من أصل 77  لكل المحاور والتي تشمل بنودًا من الدستور والقوانين، لكنها حين تطرقت للتحديات خلت من ممارسات أجهزة الدولة المنافية في أغلبها للدستور والقوانين والاتفاقيات الدولية. وبالتالي فإن هذه الإستراتيجية الحكومية تتناسى عمدا الحقائق الكبرى وهي غياب دولة القانون وعدم احترامه أو احترام قواعد إعمال العدالة، ليس فقط من قِبل الأجهزة التنفيذية في الحكومة، ولا سيما وزارة الداخلية، بل أيضًا النائب العام. فجانب كبير من الانتهاكات، أو التحديات كما يُطلقون عليها، هي سلب حرية الآلاف بناءً على تحريات أمنية مُلفقة في أغلبها، بل أقوال مُرسلة في الكثير منها، ثم تجاوز الحد الأقصى للحبس الاحتياطي، وظاهرة التدوير البغيضة التي يتحمل مسؤوليتها النائب العام تحديدًا، والتجديد الورقي المنافي للقانون».

التحفظ الثاني، أن واضعي الاستراتيجية أرجعوا التحديات من وجهة نظرهم إلى عدة عوامل: إما لنقص وعي الجمهور، أو ممارسات من أفراد المجتمع وبعضهم البعض.[[10]] معنى ذلك أن النظام لا يعترف أنه له أخطاء من الأساس؛ فلا الإستراتيجية الحكومية ولا خطاب السيسي ولا حتى خطابات باقي المشاركين في الاحتفالية تضمنت أي إشارة إلى عشرات الآلاف من المعتقلين سياسيا بتهم ملفقة وباطلة، وبحسب مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حسام بهجت  فإن كلمة السيسي وكل ما نشر عن الاستراتيجية هو بمثابة تشخيص خاطئ للتحديات التي تواجهها البلاد، موضحًا أن أبجديات حماية حقوق الإنسان هي؛ وقف الانتهاكات، ومحاسبة القائمين على هذه الانتهاكات، ثم تعويض ضحايا هذه الانتهاكات، لمنع تكرار هذه الانتهاكات، ولكن ما سمعناه أن الشعب هو المشكلة، الشعب من يعاني من التخلف والتطرف وكثرة الإنجاب وعدم الوعي، وإن كان هناك مشكلات أخرى فهي في قلة موارد الدولة وضعف الجهاز الإداري للدولة، أما الانتهاكات المنهجية والمتكررة المنتشرة بطول البلاد وعرضها لحقوق الإنسان، فهي ليست كما يبدو من وجهة نظر الحكومة من بين تحديات حماية وتعزيز حقوق الإنسان في مصر.[[11]]

التحفظ الثالث،  أنه حتى في باب حرية التعبير، لم تشر الإستراتيجية الحكومية إلى دور النظام في قمع الرأي الآخر وحجب نحو 600 صحيفة وموقع إخباري بخلاف الفضائيات التي جرى غلقها من اليوم الأول للانقلاب بل أشارت إلى أن التحديات تتعلق بضعف الثقافة المجتمعية وغياب التشريعات دون حتى الإشارة إلى هيمنة جهاز المخابرات والأمن الوطني على الملف الإعلامي من الألف إلى الياء.

التحفظ الرابع،   في محور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والذي يركز عليه النظام كثيرا من أجل التغاضي عن الحقوق السياسية والمدنية تضمنت الإستراتيجية الحكومية 67  وعدا بتحسين ظروف المعيشة دون التزام واحد على الحكومة، فالصياغة لم تتطرق مطلقا إلى آليات تمويل توفير هذا التحسن المفترض في مستوى المعيشة من ناحية، مع غياب كامل لأي التزام واضح من الدولة للوصول إلى مستهدفات معينة في فترة السنوات الخمس التي تغطيها الإستراتيجية. فمحور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تضمن 67 مستهدفا موزعة على ثمانية محاور فرعية: الصحة، التعليم، الحق في العمل،الحق في الضمان الاجتماعي، الحق في الغذاء، الحق في مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي، الحق في السكن اللائق، الحقوق الثقافية. ولا تحدد أي من تلك المستهدفات التزامًا واحدًا على الدولة، فمثلًا تستخدم وثيقة الاستراتيجية بكثافة أفعالًا من قبيل «تحسين» و«تعزيز» و«رفع«» دون أي نص يقطع بوعد صريح. إضافة إلى ذلك فإن معدل التشغيل في مصر،  الذي يقيس عدد الأفراد المشتغلين إلى إجمال من هم في سن العمل، واصل تدهوره المستمر منذ العام 2013 دون توقف حتى وصل عام 2020 إلى مستوى 38.2% وهو أدنى مستوى له منذ عام 2008، وهو ما لم يذكره محور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فيما يتعلق بحق العمل. ورغم ارتفاع نسبة الفقر الذي وصل إلى 29% بحسب بيانات الجهاز القومي للإحصاء بسبب السياسات النيوليبرالية المتوحشة، إلا ان وثيقة  الإستراتيجية لم تتضمن أي نص يشير إلى التزام الدولة بتخفيض الفقر نفسه إلى معدل معين. [[12]]

خلاصة الأمر

أن نظام السيسي وتحت لافتة “حقوق الإنسان الشاملة” التي جرى ذكرها كثيرا في وثيقة الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان إنما يغازل الغرب من جهة بالحديث عن حقوق المرأة والأقليات وحرية الإلحاد، ومن  جهة أخرى يسعى إلى سحق كل معنى حقيقي وجاد لحقوق الإنسان، ومن خلال تحليل مضامين الوثيقة التي استندت إلى تصورات السيسي المشوهة عن حقوق الإنسان فإن الحديث عن «المفهوم الشامل» لحقوق الإنسان إنما هو إجراء يستهدف به الهروب من انتهاكاته الجسيمة وملفه المتخم بالجرائم؛ وكلماته حول أهمية الحقوق الاقتصادية باعتبارها من حقوق الإنسان الذي لا بد أن تتصدر جهود الحقوقيين من قبيل الحق الذي يراد به باطل؛  صحيح أن الحقوق الاقتصادية من ضمن حقوق الإنسان، وأنه لا حقوق للإنسان من دون مساواة وعدالة في توزيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لكن هذا ليس مبررا لانتهاكات حقوق الإنسان والقتل خارج إطار القانون وتكميم الأفواه وتلفيق القضايا، وانعدام العدالة والمساواة، والزج بعشرات الآلاف من العلماء والمفكرين والدعاة إلى الله وشباب الثورة في السجون والمعتقلات بتهم سياسة ملفقة لا دليل عليها سوى تحريات أجهزته الأمنية.

من جانب آخر فإن إلحاح الوثيقة على أهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تدعمه توجهاته وسياساته؛ فقد تبنى سياسات رأسمالية متطرفة أفضت إلى سقوط عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر حسب التقديرات  الرسمية ومؤسسات دولية، بعدما تخلت الدولة عن دورها الاجتماعي، ولا يكتفي السيسي بالتحجج بالحقوق الاقتصادية، من أجل الهروب من الالتزام بالحقوق السياسية؛ وإنما أيضا يزداد الفشل كل يوم في تحقيق أي حقوق اقتصادية أو اجتماعية، فليس هناك حقوق سياسية، وأيضا هناك مشكلات متزايدة كل يوم في كل شيء، المواصلات والنظافة والتعليم والصحة والرواتب والأمن والمياه والمرور، فعن أي حقوق اقتصادية يتحدث السيسي؟

من جهة ثالثة فإن السيسي يتبنى مفهوم حقوق الإنسان بوصفه مفهوما مراوغا وغير مستقر، وأن دول الغرب وغيرها تستخدمه ضد مصر من أجل الضغط السياسى لتحقيق أهداف ومصالح لا تعتنى بتلك الحقوق، ولا تقيم لها أى وزن إلا بمقدار ما تحققه من أهداف سياسية عبر الاستخدام المسىء لها واستخدام المكاييل المتعددة فى تقييمها. كما يتبنى قناعة صارمة تنطلق من القطع بأن جميع القرارات التى تتخذها أى حكومة وطنية بحق أى من مواطنيها ضمن إجراءات المحاكمات القضائية أو التدابير القانونية، إنما تمثل عنصرًا من عناصر السيادة الوطنية، التى لا يجب أن يراجعها فيها أحد، فضلًا عن انتقادها أو طلب تغييرها. ولذلك سعى السيسي إلى تسويق الحرب على “الإرهاب” باعتبارها حقا من حقوق الإنسان، لكن ذلك لم يقنع المنظمات الدولية والحكومات الغربية لاعتبارات عديدة، أبرزها عدم التوافق حول مفهوم الإرهاب. وتوظيف الحكومات المستبدة لهذه النوعية من الصراعات كلافتة للتغطية على ملفها المتخم بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إضافة إلى توسع النظم المستبدة في وصف معارضيها بالإرهاب وتقنين هذه التوجهات الاستبدادية بتشريعات وقوانين وقرارات بهدف تكريس الطغيان والاستبداد.

 

[1] إستراتيجية حقوق الإنسان.. حدث وطنى/ رأي الأهرام ــ الإثنين 13 سبتمبر 2021م// شادى عبدالله زلطة/ إستراتيجية وطنية لحقوق الإنسان.. الرئيس يعلن ٢٠٢٢ عاما للمجتمع المدنى.. ويكلف الحكومة بالتوزيع العادل لثمار التنمية/ مانشيت الأهرام اليومي ــ الأحد 12 سبتمبر 2021مـ

[2]فيديو.. السيسي: “الظابط اللي هيقتل متظاهر مش هيتحاكم”/ مصر العربية ــ 3 أكتوبر 2013م (http://www.youtube.com/watch?v=rF8Yz8J3MHI)

[3] بتصرف .. محمد نابليون/ننشر قرار تشكيل اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان/ الشروق  الأربعاء 14 نوفمبر 2018

[4] استراتيجية طموحة لحقوق الإنسان في مصر تصطدم بتوجهات النظام/ العربي الجديد ــ 11 مايو 2021

[5] وائل قنديل/ حقوق إنسان السيسي: نعم للاعتلاف .. لا للاختلاف/ العربي الجديد ــ 17 فبراير 2021

[6] انظر بعض هذه التصريحات في تقرير بعنوان/أهم تصريحات السيسي من باريس عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر/ بوابة الشروق ــ الإثنين 7 ديسمبر 2020

[7] انظر بتصرف ـــ أحمد ماهر/ حقوق الإنسان هي التنمية/ العربي الجديد 1 مايو 2015

[8] حقوقيون مصريون يردون على استراتيجية السيسي لحقوق الإنسان بوثيقة “السبع خطوات”/ العربي الجديد ــ 11 سبتمبر 2021

[9] على السلمي/ دعوة إلى التمسك بالحقوق والحريات والدفاع عن حقوق الإنسان المصرى/ بوابة الشروق ــ  الثلاثاء 16 يناير 2018

[10] جمال عيد عن «الحقوق السياسية» في «استراتيجية حقوق الإنسان»: تتغاضى عن ممارسة الدولة المُناهضة للقانون/ مدى مصر ــ الإثنين 13 سبتمبر 2021م

[11] السيسي يطلق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.. وبهجت: تعبر عن تشخيص خاطئ لتحديات تواجهها البلاد.. والبرعي: ليست إعلان لمصالحة وطنية شاملة ولكنها خطوة جيدة/ مدى مصر ــ السبت 11 سبتمبر 2021م

[12] بيسان كساب/ استراتيجية الدولة لحقوق الإنسان: 67 وعدًا بتحسين ظروف المعيشة دون التزام واحد/ مدى مصر ــ الثلاثاء 14 سبتمبر 2021م

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022