التجربة المصرية مع صندوق النقد بين عولمة الفقر والغزو بالتمويل

 

على عكس كل تقديرات الموقف التي يتبناها النظام العسكري في مصر والتي ترى في الإسلاميين ونشطاء الثورة ووسائل إعلام مناوئة للنظام ومنظمات مجتمع مدني وبعض القيادات العسكرية المناوئة للسيسي تهديدا للنظام، ذهب تقدير موقف أعدته صحيفة Haaretz الإسرائيلية في أغسطس 2019م إلى أن «صندوق النقد الدولي» يمثل أكبر تهديد لنظام الجنرال عبد الفتاح السيسي. وراحت الصحيفة تشرح ذلك حيث اعترفت في البداية بهوس السيسي بالتهديدات المحتملة لنظامه وضمان بقائه واستمراره؛ لذلك لاحق الإسلاميين وحظر جماعة الإخوان المسلمين، ويخشى على وجه الخصوص جيل الألفية من الطبقة الوسطى وهو الجيل الذي أشعل فتيل ثورة 25 يناير2011م، كما أحكمت أجهزته الأمنية قبضتها على وسائل الإعلام والإنترنت والمنظمات غير الحكومية. وتؤكد الصحيفة الإسرائيلية أنه حتى المصابين بجنون الارتياب قد يكون لهم أعداء، لكن في حالة السيسي يبدو أن هوسه أغفل  أكبر التهديدات على الإطلاق وهم جماعة التكنوقراطيين معسولو اللسان في صندوق النقد الدلي.[[1]]

وتشير الصحيفة إلى مفارقة عجيبة، فإن الصندوق على عكس ـ الإخوان ونشطاء والثورة والمنظمات الحقوقية ـ  لا يريد إسقاط نظام السيسي، بل إنه مد له يد العون قبل سنوات عندما وجد النظام نفسه في ورطه وأقرضه 12 مليار دولار(اقترض السيسي نحو 8 مليارات أخرى من الصندوق لاحقا). لكن شروط الصندوق كانت قاسية تضمنت تحرير أسعار الصرف وتخفيض دعم الوقود والغذاء وخصخصة الشركات وفرض ضرائب جديدة. وقد لبَّى السيسي معظم ما طُلِب منه في عملية مؤلمة. لكن المشكلة في مصر ـ بحسب الصحيفة العبرية ــ هي أن بعد مضيِّ ما يقرب من ثلاث سنوات، لم يتحقَّق حتى الآن النصف الثاني من قصة النجاحين فتزايدت معدلات الفقر، لكن المؤلم أكثر أن النمو الذي تلا الاتفاق مع صندوق النقد لم تنعكس آثاره على  المواطنين، لكن الانتعاش الاقتصادي كان لصفوة الـ1% من المصريين أكثر من أي أحدٍ آخر. لينتهي تقدير الموقف إلى أن المشاكل الاقتصادية في مصر تبدو أعمق من تحسين أوضاع مصادرها التمويلية. ويحذر من التداعيات المحتملة على المشهد المصري جراء الشروط القاسية التي وضعها صندوق النقد، فما زال الاقتصاد خاضعاً لرقابةٍ مشددةٍ، ويتفشَّى فيه الفساد، وصارت إمبراطورية أعمال الجيش أكبر وأكثر تحصيناً من أي وقتٍ مضى. ويصل التحذير منتهاه بالخوف من اندلاع ثورة جديدة يكون سببها الشروط القاسية التي وضعها صندوق النقد ولبَّاها السيسي على الفور دون خوف من العواقب المحتملة.

اللافت أن موقع “ميدل إيست آي” البريطاني يذهب إلى نفس ما توصل إليه تقدير الموقف لصحيفة “هآرتس” محذرا من اندلاع انفجار وشيك جراء الإجراءات العنيفة التي يتخذها نظام السيسي لتلبية الشروط القاسية للصندوق، وينتهي إلى أن المعادلة القائمة في الحالة المصرية والتي تضم دكتاتورا (السيسي) ذا سجل حافل  بإنفاق مليارات لا تحصى على مشروعات لتمجيد نفسه وكيان اقتصادي غربي ضخم (الصندوق) تتمثل حلوله في “حجم واحد يقلص كل الاقتصاد” سيشقان طريقاً مختصراً لانفجار جديد.[[2]]

انتقادات لسياسات الصندوق

لكن الصندوق الذي أنشيء في يوليو 1944 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بشهور ــ  يواجه باستمرار انتقادات حادة لسياساته التي تهمين عليها الولايات المتحدة الأمريكية، ويحذر عالم الاقتصاد الكندي ميشيل تشوسودوفيسكي مؤكدا أن “برنامج صندوق النقد الدولي قد يترك البلد في بعض الأحيان فقيراً كما كانَ من قبل، لكن مع مديونية أكبر وصفوة حاكمة أكثر ثراء”. وقد توصل الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغليتز الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي وأحد أهم مساعدي الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى أن “القروض التي يقدمها الصندوق إلى الدول تكون ضارة في حالات كثيرة خاصة التي توجه إلى الدول النامية ودول العالم الثالث.

لكن أبرز الانتقادات الموجهة  للصندوق تتركز على سطوة الولايات المتحدة الأمريكية  وتحكمها وقدرتها على إعطاء القرض من عدمه لأي دولة، حيث إنها الدولة الوحيدة التي تمتلك حق الفيتو من بين الدول الأعضاء. حيث تبلغ حصتها 17.6% من إجمالي الحصص، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك حق تعطيل قرارات صندوق النقد الدولي أو حق الفيتو.

ورغم أنّ صندوق النقد الدولي التابع للأمم المتحدة، دوره دعم الاقتصاد العالمي، والمعاملات التجارية بين البلاد المختلفة، فإنّه عادة ما يتم اتهامه بكونه أحد أدوات الشركات العالمية لبناء إمبراطورية تسيطر على اقتصاد العالم، وتهزم الدول، “ونهب وتدمير اقتصاد الدول النامية”، وفقاً لـ “جون بيركنز”، مؤلف كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي” الذي ترجم إلى 30 لغة بما فيها اللغة العربية التي صدر فيها تحت عنوان: “الاغتيال الاقتصادي للأمم”. لكن التصريح الأكثر وضوحا هو لرئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد عندما سئل عن أسباب نهضة ماليزيا على يديه، فأجاب بقوله: “خالفت توصيات صندوق النقد الدولي، وفعلت عكس ما طلبه من إجراءات”.[[3]]

عولمة الفقر

ولكي ندرك أبعاد الدور الذي يقوم به صندوق النقد ومؤسسات التمويل الدولية الأخرى كالبنك الدولي، فإن ذلك يتطلب العودة إلى جذور نشأة هذه المؤسسات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومعرفة الفلسفة التي تأسست عليها هذه المؤسسات التي تتحكم فيها القوى العالمية التي خرجت من الحرب منتصرة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. فالصندوق الذي وقَّع على تأسيسه 29 دولة في يوليو 1944 قبل نهاية الحرب العالمية بشهور قليلة، تقوم فلسفته على خمسة محاور؛ تبدأ بتحرير سعر الصرف، ورفع الدعم تدريجيًا عن المحروقات والطاقة، ثم تقليص الجهاز الإداري للدولة، وتاليًا سد عجز موازنة الدولة عبر فرض الضرائب والرسوم الباهظة، وأخيرًا التخلي عن شركات القطاع العام والاعتماد على آليات الخصخصة، وهو ما يحدث حاليًا في مصر منذ سنة 1995م.

وفي سنة 1997 دق المفكر والباحث الاقتصادي ميشيل تشوسودوفيسكي، نواقيس الخطر محذرا  في كتابه الشهير «عولمة الفقر»[[4]] من قواعد لعبة الفقر التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على شعوب العالم بأدوات مؤسسات التمويل الدولية. وكان تشودوفيسكي يعمل أستاذاً للاقتصاد بجامعة أوتاوا بكندا، وله العديد من المؤلفات التي تعالج معضلة العولمة، منها “حرب أميركا على الإرهاب”، و”عولمة الحرب: حرب أميركا الطويلة ضد البشرية” ومؤلفاتٍ أخرى مهمة ، إلا أن كتابه “عولمة الفقر” كان له صدى كبير وواسع بين أوساط المهتمين بالشأن الاقتصادي في العالم كله. وصدرت ترجمة الكتاب العربية سنة 2012م، حيث يتكون من 5  أجزاء، تدور حول طبيعة  المؤسسات المالية العالمية ودورها وسيطرتها على الاقتصاد الدولي، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكيف لعبت سياساتها الاقتصادية دوراً خطيراً في جعل اقتصاديات الدول تتبع سياسات «تخريبية» تحت لافتة «السياسات الإصلاحية»، لكنها في الحقيقة سياسات تقود إلى تدمير الاقتصاد في تلك الدول.

يقدم الكتاب تأصيلاً تاريخياً ومعرفياً لسيطرة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، من خلال سياسة التقويض الكلي للاقتصاد، عن طريق ما عُرف باسم التكييف الهيكلي، وهي سياسة (إصلاحية!) يفرضها صندوق النقد الدولي على كل الدول التي ترغب في الاقتراض من الصندوق، وتقوم على إحداث تغيير جذري في منهجية الدولة السياسية والاقتصادية، مما يضمن عدم تدخل الدولة في حركة السوق، حتى يتحول الاقتصاد بالكامل إلى “اقتصاد السوق الحر”.

وترجع أصول تلك السياسة إلى ميلتون فريدمان، وهو أول من أسس لنشر الفكر الرأسمالي في العالم بقوة السياسة والصدمة.  وتضمن كل جزءٍ من الكتاب قارة على الخريطة، موضحاً أبرز تجارب دول تلك القارة مع الأمر. وبحسب الكتاب تقوم فلسفة مؤسسات التمويل الدولية على عدة قواعد:

القاعدة الأولى: دعم الحلفاء وقصم ظهور الأعداء

يخبرنا ميشيل في ذلك الجزء من الكتاب أن الأمر لم يكن متعلقاً بالبلدان النامية والفقيرة وحسب، حتى تصبح أكثر فقراً، بل يرتبط أيضاً بالدول الغنية من أجل ما سمَّاه الجيوبوليتيكا العالمية، وهو ما يعني باختصار دعم المصالح الجيوسياسية العالمية، أو دعم الدول الحلفاء اقتصادياً وقصم ظهر الخصوم. حيث يطبق المذهب النقدي على نطاق عالمي، وتضرب عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية العالمية أيضاً قلب البلدان الغنية، والنتائج هي البطالة وانخفاض الأجور وتهميش قطاعات واسعة من السكان، وتقييد المصروفات الاجتماعية، ويلغي كثيراً من إنجازات دول الرعاية”.

القاعدة الثانية: تقشف ثم تحرير العملة ثم فرض الوصاية

“تطبق الوصفة نفسها، التقشف في الميزانية وتخفيض سعر العملة وتحرير التجارة والخصخصة في ذات الوقت في أكثر من 100 من البلدان المَدِينة. وتفقد الدول المدينة السيادة الاقتصادية، والسيطرة على السياسات المالية والنقدية، ويعاد تنظيم البنك المركزي ووزارة المالية (وغالباً بتواطؤ البيروقراطيات المحلية) وتفكك مؤسسات الدولة وتفرض وصاية اقتصادية”.

تلك هي الوصفة التي يقدمها دائماً صندوق النقد الدولي للبلدان المدينة، بحسب ميشيل، حتى تقع في النهاية فريسة الوصاية الاقتصادية. فبعد الوقوع في فخ الديون المتراكمة وضعف العملة، لن يكون هناك خيار أمام تلك الدول سوى الاقتراض من إحدى المنظمات العالمية، التي دائماً ما تعلن في أجندة سياساتها أنها لن تُقرض سوى الدول المستقرة اقتصادياً إلى حد ما، أو التي يؤمل منها أن تكون كذلك.

ثم تأتي الخطوة التالية وهي فرض سياسات معينة من قِبل صندوق النقد على تلك الدول، تحت مسمَّى “ضمان حقوق صندوق النقد في استرداد أمواله” ليدخل مشروع عولمة الفقر حيز التنفيذ الفعلي. وتتفق تلك المؤامرات مع ما باح به قرصان اقتصادي معروف  هو جون بركنز، الذي حكى عن تجاربه في الإيقاع بالدول المدينة اقتصادياً في كتاب شهير بعنوان “مذكرات قرصان اقتصادي”،  ويحكي فيه الرجل تجربته مع هذه الوظيفة التي تكشف مدى تغلغل الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية العالمية، وكيف تستغلها لبسط نفوذها عالمياً عبر ما يسمى بسياسة الاحتواء الاقتصادي التي تقوم على استخدام المؤسسات الدولية مثل “البنك الدولي”، في تقديم مساعدات وقروض  إعمار لدول العالم الثالث، مقابل قيام الشركات الأميركية بتنفيذ المشروعات المعمارية  في الدولة المَدينة، مثل محطات الطاقة والمطارات. وفي الوقت الذي تستدين هذه الدول من البنك الدولي تكون فوائد القروض أكبر من قدرة هذه الدول على السداد، ومن ثم تتراكم فوائد القروض وتعجز هذه الدول عن السداد. وهنا تتدخل الولايات المتحدة “لمساعدة” هذه الدول مقابل إنشاء  قواعد عسكرية أميركية على أراضي هذه الدولة، أو تمرير قرارات معينة في مجلس الأمن أو القيام بإصلاحات اقتصادية داخلية معينة مثل خصخصة القطاع العام، وفرض الضرائب. كما يحكي الكتاب كيف تواطأت البيروقراطيات المحلية  مع السياسة الأميركية في عدد كبير من الدول لتمرير مثل هذه الاتفاقيات. وبحسب بيركنز فإن أي سياسي في أي دولة يعارض هذه السياسات العالمية غالباً ما يتعرض للاغتيال. وهو عين ما جرى ما الرئيس المنتخب في مصر الدكتور محمد مرسي الذي كان يعارض سياسات الخصخصة وشروط صندوق النقد الدولي فجرى الانقلاب عليه في يوليو 2013م بعد عام واحد فقط من انتخابه، والزج به في السجن بتهم كيدية ملفقة، ثم اغتياله لاحقا في يونيو 2019م.

القاعدة الثالثة: الوصفة تحتاج إلى حكومة عسكرية لتنفيذها

اللافت أن هذه الوصفة التآمرية تحتاج إلى حكومات دكتاتورية عسكرية حتى تكون أكثر إذعانا لأوامر وتوجيهات القائمين على مؤسسات التمويل الدولية، وفي كتابه يضع  ميشيل قائمة ببعض الدول التي سقطت ضحية تلك السياسات، والتي على حد وصفه تحتاج إلى حكومة عسكرية وديمقراطية زائفة لتنفيذ تلك السياسات، مثل كاراكاس 1989، وتونس في يناير 1984، ونيجيريا 1989، والمغرب 1990، والمكسيك 1993، والاتحاد الروسي 1993 وغيرها من الدول.

يؤكد ميشيل، المعروف بمعارضته للسياسات الأميركية ومهاجمته لها في موقعه الإلكتروني وفي كتاباته ومؤلفاته، أن سياسة التكييف الهيكلي عملت على تركيز الثروة في يد مجموعة من البشر حتى في الدول النامية أو دول العالم الثالث، فبحسب إحصائية يذكرها في كتابه، أكد على أن 60% من الدخل القومي في البلدان النامية تتركز في أيدي الـ20% من السكان، في حين أن 70% من سكان تلك الدول يحصلون على ما يتراوح بين 10% و20% من الدخل القومي.

القاعدة الرابعة: سحق الفقراء ينتهي بمجاعة حقيقية

يتطرق الكتاب في جزئه الثالث إلى تجربة صندوق النقد في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، بادئاً بالهند، وكيف أن وزير المالية في الهند في عام 1981 كان يقدم تقاريره مباشرةً إلى البنك الدولي، متجاوزاً البرلمان والحكومة، فيما عرف وقتها بفترة الحكم غير المباشر لصندوق النقد في الهند، وكيف سحقت تلك السياسات المزارعين وطبقات الفقراء، التي بلغ تعدادها ما يقارب 400 مليون نسمة.

ثم ينتقل في الفصل التالي إلى بنجلاديش والانقلاب العسكري على الرئيس مجيب الرحمن في عام 1975، بمعاونة من المخابرات المركزية الأميركية في سفارة الولايات المتحدة في دكا. وقد كان ذلك الانقلاب ضرورياً لتجربة الدواء الاقتصادي لصندوق النقد الدولي، من خلال تخفيض سعر العملة وتحرير الأسعار، وهو ما أدى إلى تفاقم أزمة المجاعة واندلاع أزمة الديون في حقبة الثمانينات. وفي أعقاب الإطاحة بالشيخ مجيب واغتياله، كانت المساعدة العسكرية الأميركية المستمرة لبنجلاديش مشروطةً بالتزام البلاد بوصفات صندوق النقد الدولي السياسية. ومن ثم يأخذنا إلى تجربة تشيلي، ففي نفس الوقت الذى كان هنري كيسنجر، وزير خارجية أميركا الأسبق، يدعم بينوشيه لتنفيذ انقلاب دموي، كان صندوق النقد الدولي يسانده في تنفيذ أقصى سياسة تقشف عرفتها أميركا اللاتينية. وعلى الرغم من انتهاك حقوق الإنسان، إلا أن صندوق النقد الدولي ضاعف من قروضه لتشيلي بعد عام من انقلاب بينوشيه الدموي، وزاد قيمة قروضه أربعة أضعاف، ثم خمسة أضعاف في العامين التاليين. نتج عن تلك السياسات التقشفية زيادة الفقر؛ فقد ارتفعت البطالة في تشيلي من 3% في 1973 إلى 18.7% فى عام 1975، وبلغ معدل التضخم في الفترة الزمنية نفسها 341%، وتفاوت في الطبقات الاجتماعية ففي عام 1980 استحوذ 10% من سكان تشيلي على 36.5% من الدخل القومي، وفي عام 1989 على 46.8% من الدخل القومي، وتمخضت تلك السياسات عن مقتل 30 ألف مواطن، أغلبهم من النقابيين وطلبة الجامعة.

القاعدة الأخيرة: صناعة الفوضى ثم علاجها بالصدمات

في الجزء الرابع من الكتاب يُسلّط ميشيل الضوءَ على تجارب صندوق النقد في دول أميركا اللاتينية، واختصَّ الفصل العاشر بالحديث عن دولة بيرو، وكيف قامت تجربة صندوق النقد على منهجية العلاج بالصدمة، وهي واحدة من أخطر السياسات المُطبقة في العالم، حيث إنها تنبع من فكر ميلتون فريدمان الاقتصادي الأميركي، وتقوم على إحداث كارثة كبيرة في دولة، كانقلاب عسكري، أو مجموعة حوادث إرهابية… إلخ، وهو ما يسبق اتخاذ إجراءتٍ استثنائية من قبل النظام الحاكم للسيطرة على الأمور وفرض قرارات اقتصادية قاسية جداً، (لكنه في الحقيقة لن يكون هناك ثمة مقاومة فتوابع الصدمة والخوف قد غلفت المشهد بالكامل) وهو ما يتشابه مع ما قام به الرئيس ألبرتو فوجيموري، فيما عُرف تاريخياً بـِ صدمة فوجي. وقد استطردت الصحفية والسياسية الأميركية نعومي كلاين، في كتابها “عقيدة الصدمة” في الحديث عن هذا الأمر. وفي الجزء الخامس من الكتاب، يتحدّث ميشيل عن سياسات العلاج بالصدمة في الاتحاد السوفييتي والبلقان، بدايةً من العام 1992. ستعرف في هذا الجزء كيف جرى تدمير 50% من الاقتصاد الروسي الحكومي بالتعاون مع المافيا الداخلية، وهو ما شكل بدايات الانهيار الكبير.

تجربة مصر  في الميزان

حققت المرحلة الأولى (2016ــ 2019) من برنامج الاقتراض من صندوق النقد الذي يسمى «برنامج الإصلاح المالي والنقدي» نجاحات نسبية، منها القضاء على السوق السوداء للعملة، ودعم استقرار سوق الصرف الأجنبي، وإعادة بناء احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، وإن كانت هذه الخطوة قد تمت عبر التوسع الكبير في الاقتراض الخارجي وليس من موارد ذاتية. لكن تلك المرحلة أخفقت في تحسين مستوى معيشة المواطن خاصة على مستويات الخدمات التعليمية والصحية، ووقف قفزات الأسعار، وكبح عجز الموازنة العامة. كما واكب هذه المرحلة حدوث قفزات غير مسبوقة في الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي، وتآكل القدرة الشرائية للمواطن، وتراجع معدلات الادخار، وانهيار الطبقة الوسطى.[[5]]  ورغم هذه الكوارث تتجه الحكومة نحو إطلاق مرحلة ثانية من  هذا «الإصلاح الاقتصادي» بحسب جيهان صالح مستشارة رئيس الوزرا مصطفى مدبولي في أبريل 2021م.

وهناك عدة دلائل على فشل التجربة المصرية:

أولا، في يونيو 2020  وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد على منح نظام السيسي قرضا جديدا بقيمة “5.2” مليارات دولار، في الوقت الذي شرع فيه على الفور في تسليم حكومة السيسي “2.8” مليارات دولار لمواجهة تداعيات تفشي جائحة كورونا، وبذلك يكون نظام السيسي قد اقترض 20 مليار دولار من الصندوق. تفسير مرونة الصندوق مع النظام في مصر ــ رغم تشدده مع دول أخرى ـ هو رغبة إدارة الصندوق في التستر على فشل الاتفاق الأول الذي تم إبرامه في نوفمبر 2016م على مدار 3 سنوت؛ وبذلك فالهدف من القرض الجديد المقدر بنحو 8 مليارات دولار هو التغطية على فشل ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، و ما ترتب عليه من آثار اجتماعية سلبية مثل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وزيادة المديونية”. وبالتالي فإن “جائحة كورونا” مثلت غطاء وشماعة للطرفين (الحكومة والصندوق) من أجل التغطية على الادعاءات المستمرة في إعلام النظام والتسويق بصحة المسار الاقتصادي وتحميل أزمة تفشي كورونا أسباب الفشل والتراجع وتعطيل هذا المسار؛ أما الصندوق فوجد في ذلك مبررا لإعطاء القرض ضمن ما أعلنه عن مساعدة الدول المتضررة من الأزمة. لكن  هذه الإجراءات لن تستطيع حجب الحقيقة الثابتة بالأدلة والبراهين والشواهد التي تؤكد أن الاقتصاد المصري هو اقتصاد ريعي يفتقر إلى وجود قاعدة إنتاجية تمكنه من الأداء الطبيعي على الصعيد المحلي والدولي”.

ثانيا، يؤكد حجم الديون الخارجية والمحلية على فشل التجربة، وحتى ندرك أبعاد الأزمة الاقتصادية في مصر بعد سنوات من الاتفاق مع صندوق النقد، فقد «كشفت بيانات البنك المركزي أن الديون الخارجية بلغت 137.8 مليار دولار حتى يونيو 2021م، بارتفاع 14.4 مليار دولار خلال عام بنسبة نمو 11.7 في المائة، وما زال الدين الخارجي في تزايد، حيث باعت الحكومة سندات دولاية في الخارج خلال شهر سبتمبر 2021 بقيمة ثلاثة مليارات دولار، كما اقترض بنك مصر، ثاني أكبر المصارف المصرية، مليار دولار. واستمرت الجهات المختلفة خاصة الحكومية في الاقتراض الخارجي خلال الشهور الأخيرة، وبما يعني تخطي الدين الخارجي حاجز الـ140 مليار دولار حاليا(أكتوبر 2021). أما الديون المحلية فقد أحجم البنك المركزي ووزارة المالية عن إعلان بياناتها منذ يونيو 2020م، والتي كانت وقتها أربعة تريليونات و742 مليار جنيه»[[6]] وقد تصل حاليا إلى نحو 6 تريليونات جنيه. ويكفي أن نشير إلى أن ديون مصر الخارجية بلغت على مدار ستين سنة وحتى يونيو 2013 نحو 43 مليار دولار. «فالملك فاروق ترك خزائن مصر بفائض أجنبي يقدر بـ450000 جنيه إسترليني؛ لتبدأ بعده الدولة العسكرية بالاستدانة بحجّة بناء جيش يواجه الأخطار المحدقة بمصر آنذاك؛ ليترك عبد الناصر مصر عام 1970 بدين قدره 1.7 مليار دولار، وتبع أثره السادات، ومبارك الذي ترك الحكم سنة 2011 بدين يقدر بـ34 مليار دولار. ولكن للحقيقة فإنّ أيّاً من الحكام السابقين لم يبلغ به الفساد الدرجة التي بلغها النظام الحالي في مصر، الذي يقدم التنازلات تِباعاً ثمناً للاعتراف الدولي بشرعيته».[[7]] وبلغت ديون مصر في 2016م نحو 55 مليار دولار، لكنها قفزت بعد اتفاق الصندوق في نوفمبر 2016م لتصل إلى 79 مليارا في يونيو 2017م، معنى ذلك أن السيسي اقترض بعد اتفاق الصندوق نحو 24 مليار دولار في عام واحد.  ثم قفز حجم الديون إلى 140 مليار  دولار حاليا، بما يؤكد أن حجم الديون الخارجية والمحلية تضاعفت على نحو فاحش حتى  إن السيسي وحده  ــ وفي 7 سنوات فقط ـ اقتراض ثلاثة أضعاف ما اقترضه كل حكام مصر السابقين على مدار 60 سنة!

ثالثا، تؤكد أرقام الموازنة العامة للدولة أن إجمالي أقساط وفوائد الديون المستحقة في موازنة العام الحالي (2021/2022) تصل إلى 1.172 تريليون جنيه، عبارة عن “593” مليارا لسداد أقساط القروض، و579.6 مليارا فوائد على الديون. في الوقت الذي لم تزد إيرادات الموازنة العامة للدولة عن  1.365 تريليون جنيه، معظمها إيرادات ضريبية بنحو 983.1 مليار جنيه، بنسبة تصل إلى 73% من جملة الإيرادات. بينما بلغت الإيرادات الأخرى غير الضريبية) إلى 380.6 مليار جنيه فقط!

رابعا، قدمت اثنتان من أكثر وكالات التصنيف الدولية نفوذا -وهما “موديز” (Moody’s) و”ستاندرد آند بورز” (Standard & Poor’s)- ومعهما أقوى بنك استثماري في العالم “غولدمان آند ساكس” (Goldman & Sachs) ــ في أكتوبر 2021 ـ  تحذيرا سريا -ولكنه حازم- موجها للسيسي مفاده “احذروا، مصر قد تكون الضحية التالية لظروف التمويل المتقلبة في العالم”. وقال الكاتب جان بيار سيريني -في تقريره الذي نشر على موقع “أوريان 21” (Orient XXI) الفرنسي- إن ارتفاع نسب الفائدة في الولايات المتحدة الأميركية قد يؤدي إلى خروج هائل لرؤوس الأموال من مصر -ومن جزء كبير من الدول الناشئة- وكذلك ارتفاع الدولار، مما يضعف الجنيه المصري ويثقل سداد الديون الخارجية المصرية، التي تفوق قيمتها 130 مليار دولار. وأضاف الكاتب أن الإستراتيجية المالية للحكومة المصرية منذ اتفاقية عام 2016 -التي أبرمت مع صندوق النقد الدولي- تهدف إلى إعطاء مكافآت سخية لرؤوس الأموال الأجنبية لجذبها إلى البلاد، وبالتالي تمويل عجز الموازنة العامة للدولة وكذلك العجز في ميزان المدفوعات، وهكذا يصل مجمل احتياجات التمويل إلى رقم مذهل يبلغ 35% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب وكالة “بلومبيرغ” (Bloomberg) المالية الأميركية، فإن أسعار الفائدة الحقيقية المصرية (أي سعر الفائدة الاسمي مقارنة بارتفاع الأسعار) هي الأعلى في العالم. وبالتالي يدفع المستهلكون المصريون مقابل الهدايا المقدمة للمضاربين الأجانب، وتقترح ستاندرد آند بورز إصلاح تمويل العجز المزدوج، واللجوء إلى استدانة أقل، وتفضيل الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يتمتع بميزة عدم إمكانية السداد. وحاليا، يمثل هذا الاستثمار 2% بالكاد من رؤوس الأموال الدولية الوافدة إلى مصر.[[8]]

 

خلاصة الأمر، أن صندوق النقد، الذي تأسس بهدف تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، بات يدهس المواطن عبر إجبار حكومات الدول المدينة على تطبيق روشتة [[9]] معروفة من أبرز ملامحها:

1- زيادة أسعار السلع والخدمات الضرورية اللصيقة بذلك المواطن الفقير والمعدم، بل متوسط الدخل.

2-  تقليص ثم وقف الدعم الحكومي الموجه لتمويل السلع الرئيسية ومنها رغيف الخبز والمياه والكهرباء والصرف الصحي.

3- زيادة الضرائب والرسوم الحكومية بمعدلات قياسية، وفرض أنواع جديدة من الرسوم والضرائب مثل ضريبة القيمة المضافة على التاجر والصانع والمستهلك في آن واحد، وفرض الضرائب على الشركات المتوسطة والصغيرة والتجارة الإلكترونية والباعة الجائلين.

4-بيع أسعار الوقود بالأسعار العالمية دون مراعاة الدخول والرواتب الضعيفة للمواطن

وعندما نعلم أن اجتماعات نادي باريس غير مسجلة ولا توجد بها محاضر اجتماعات معلنة، وأن اتفاقات صندوق النقد الدولي مع الدول سرية وغير معلنة، ولا تحتاج إلى موافقة برلمانات الدول المعنية عليها؛ ندرك خطورة هذه المؤسسة ومدى نفوذها. وفى نهاية الأمر، لن تجد الحكومات التي تحتاج لسيولة نقدية ملاذاً غير صندوق النقد الدولي، بشروطه التعسفية، وستحمل تبعات السياسات التقشفية للفقراء والعاملين، وتحرمهم من تعليم مناسب، ورعاية صحية وحياة كريمة. وعلى الصعيد الآخر، تتكون في العالم حفنة من الأغنياء، يعجز المرء عن وصف رخائها، ولا تتأثر ــ مطلقا ــ بالأزمات العالمية.[[10]]

لكن «الأكثر خطورة أن الاتفاق مع صندوق النقد أسهم في ربط القرار الاقتصادي المصري بالخارج، حتى بات الصندوق يشرف بشكل مباشر على الموازنة العامة المصرية والإنفاق الحكومي ولا يتم اعتماد الموازنة إلا بضوء أخضر من مقر الصندوق في واشنطن».[[11]] ومنذ سنوات سُئل مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق، عن سر نهضة بلاده على يديه، فقال: “خالفت توصيات صندوق النقد الدولي، وفعلت عكس ما طلبه من إجراءات”. بل إن الخبير الألماني أرنست فولف، أستاذ الفلسفة في جامعة بريتوريا، وصف في كتابه “صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية” تدخلات الصندوق في الدول المتعثرة بأنها “تبدو في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، ففي كل تدخلاته ينتهك سيادة الدول، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى للمواطنين، وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي. وفي كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنوداً، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، أعني عملية التمويل”.[[12]]

 

 

[1] هآرتس: دعْكُم من الإسلاميين.. صندوق النقد الدولي هو الخطر الحقيقي على السيسي/ عربي بوست ــ 13 أغسطس 2019

[2] موقع بريطاني: هذا مصير السيسي إذا اتبع توصيات صندوق النقد/  عربي بوست ــ 08 سبتمبر 2016

[3] صندوق النقد الدولي.. الهدف المعلن حفظ استقرار الاقتصاد العالمي، لكن ماذا تقول تجارب الواقع؟/ عربي بوست ــ 07 أكتوبر 2019

[4] الحرب الأميركية على الشعوب تبدأ بقروض صندوق النقد وتنتهي بالمجاعات وفرض الوصاية السياسية.. تعرَّف إلى لعبة الفقر في العالم!/ عربي بوست ــ 17 يونيو 2018

[5] مصطفى عبد السلام/ لإصلاح الاقتصادي الحقيقي في مصر/ العربي الجديد ــ 11 ابريل 2021

[6] ممدوح الولي/بيانات رسمية مصرية تكشف عن الأوجاع الاقتصادية/ عربي “21” ــ الأحد، 17 أكتوبر 2021

[7] لِمَ قد يُغرَمُ صندوق النقد الدولي بالديكتاتوريات؟/ عربي بوست ــ 06 ديسمبر 2016

[8] أوريان 21: الوكالات المالية الدولية توجه تحذيراتها للاقتصاد المصري/ الجزيرة نت ــ 13 أكتوبر 2021م

[9] مصطفى عبد السلام/ عندما يبتز صندوق النقد الدولي الفقراء/ العربي الجديد ــ 02 مارس 2021

[10] هذا الكتاب هدية لمن لا يستطيع قراءته.. لماذا يمثل صندوق النقد الدولي قوة عظمى؟/ عربي بوست ــ 01 أبريل 2017م

[11] مصطفى عبد السلام/ لماذا يكره المصريون صندوق النقد؟/ العربي الجديد 27 أبريل 2020

[12] مصطفى عبد السلام/ صندوق النقد … مؤسسة سيئة السمعة/ العربي الجديد ــ 27 اغسطس 2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022