جهود المُصالحة في تشاد

 

بدا المشهد السياسي العام في تشاد بعد وفاة الرئيس ديبي الذي حكم تشاد 30 عامًا فوضويًا ومربكًا إلى حدٍّ بعيد بسبب القبضة الأمنية التي كان يتميز بها حكمه، وحالة الإقصاء الشديدة لكل معارضيه وغيابه المفاجئ. كل ذلك أثار جملة من المخاوف والتوقعات من انزلاق الوضع إلى حرب يصعب السيطرة عليها، خاصةً أن وفاة ديبي حدثت أثناء المواجهات مع الحركات المتمردة، مع غموض في سبب الوفاة وضبابية في المشهد العام، جعلا أطراف النزاع في الحكومة والمعارضة ترفع سقفها بالرفض القاطع لأي تفاهم أو تهدئة. ولكن بعد مرور وقت قصير تبدَّل الحال وتغيَّرت لغة الخطاب، وصار الهدوء والمرونة سيدي الموقف بعد تطمينات من المجلس العسكري، وتغيُّر سلوك الأجهزة الأمنية في التعامل مع المعارضة وأنشطتها بوجه عام. وجاء هذا بالتزامن مع سحب تشاد نصف قواتها من منطقة الحدود الثلاثة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، والذي شكَّل نكسة جديدة لمكافحة الإرهاب بالساحل التي تقودها فرنسا، بالتزامن مع تصعيد أمني خطير راح ضحيته مئات القتلى خلال الأسابيع الأخيرة.

مؤتمر للمصالحة يشمل المتمردين:

في خطوة جريئة، تشبه ما أقدم عليه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عند توليه السلطة في 2018، دعا محمد ديبي، رئيس المجلس العسكري التشادي، في 10 أغسطس، إلى مشاركة المجموعات السياسية والعسكرية، في “حوار وطني شامل” من أجل تعزيز “الوحدة الوطنية والعيش المشترك”. ومن المُنتظر أن يعقد هذا المؤتمر في ديسمبر المقبل، بمشاركة الجماعات المتمردة المتمركزة في ليبيا والسودان، بما فيها جبهة الوفاق والتغيير (فاكت)، المتهمة بقتل الرئيس إدريس ديبي، في 20 أبريل الماضي، بعد يوم من إعلان فوزه بولاية رئاسية جديدة. ويعول ديبي الابن، على هذا المؤتمر، لإقناع المتمردين بترك السلاح والانخراط في الحياة السياسية، ورسم معالم جديدة للمرحلة الانتقالية، بمشاركة “المعارضة السياسية والمسلحة”، حيث ينتظر أن تنتهي بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية. لذلك ليس من المستبعد أن استدعاء 600 جندي من الحدود الثلاثة يهدف لتعزيز الوضع الأمني في العاصمة استعدادًا لانعقاد هذا المؤتمر المصيري بالنسبة لديبي ونظامه. ومهما كانت هذه الأسباب التي أدت إلى سحب تشاد نصف قواتها من الحدود الثلاثة، إلا أن تأثير ذلك لا يبدو كبيرًا على الوضع الأمني في المنطقة، نظرًا لوقوع مجازر كبيرة مع وجودها. لكن إذا وضعنا في الاعتبار هذا التغير التكتيكي ضمن مشهد شامل في المنطقة والعالم، وما يميزه من قرار باريس تقليص نصف قواتها في الساحل البالغة 5100 عنصر حتى مطلع 2022، فنحن أمام تفكك تحالف دول الساحل تدريجيًا، أمام تراجع الدور الفرنسي في المنطقة، وانسحاب أمريكي من أفغانستان والعراق بعد 20 سنة من الحرب على الإرهاب.[1]

خطوات نحو المصالحة:

اتخذت تشاد مجموعة من الخطوات نحو إتمام المُصالحة، تمثَّلت في: وزارة للمصالحة: وتخصيص وزارة للمصالحة والحوار الوطني يُعد أبرز المنعطفات التاريخية في تاريخ تشاد الحديث، ولكن ذلك يرتبط بمدى تمكُّنها من طرح القضايا ومعالجة المشكلات التي لم تجد اهتمامًا في المرحلة السابقة من خلال الحوار الجاد، وجدولة حلها وفق تراتبية الأهم فالمهم، مع الوضع في الاعتبار تاريخ البلاد الشائك والمملوء بالتداخلات والتشابك. حيث يعيش على أرض تشاد 200 مجموعة عرقية تتحدث 100 لغة، تحيط بها مجموعة من الدول المضطربة التي تصدر عددا غير قليل من المشكلات لتصبّ مزيدا من الزيت على نار النزاعات المشتعلة منذ ما يقرب من 60 سنة. وفضلاً عن إنشاء وزارة المصالحة الوطنية، عيَّن رئيس المجلس الانتقالي محمد إدريس ديبي مستشارًا للمصالحة والحوار برئاسة الجمهورية، وهو ما يُصنَّف في خانة إعطاء الحكومة الأولوية للمصالحة والحوار، وطي صفحة الصراعات والنزاعات التي صبغت تاريخ تشاد منذ الاستقلال، وأطلقت دعوة لجميع الأطراف السياسية بما فيها الحركات المسلحة والجماعات المتمردة للمشاركة في الحوار الوطني الذي حدد انعقاده في نوفمبر وديسمبر 2021 وأبرز ملامحها: دعوة الحركات المسلحة إلى إلقاء السلاح والمشاركة في المصالحة والحوار الوطني، وبث تطمينات للمعارضين بجدّية الحكومة الانتقالية من خلال خطابات رئيسها ديبي الابن، ومخاطبة دول لها علاقة ببعض أطراف المعارضة من أجل إقناعها بالمشاركة في الحوار والمصالحة الوطنية؛ وقد حققت نجاحا ملحوظا في هذا الجانب، وتخصيص موازنة تقترب من (50%) من مجمل ميزانية الحكومة الانتقالية لفترة الـ18 شهرا هي عمر الحكومة الانتقالية لمشروع المصالحة والحوار الوطني وهو مؤشر مهم للغاية، وتأكيد وزير المصالحة والحوار ومستشار رئيس الجمهورية للحوار أن تكون المصالحة شاملة لا تستثني أحدًا على المستويات السياسية والاجتماعية وصولا إلى مشاركة الجميع لبناء تشاد جديدة. بالإضافة إلى تبنِّي خارطة طريق هدفها تهيئة الحوار؛ أهم أنشطتها تنظيم حملات توعوية من أجل السلام والتعايش والتدريب على حل النزاعات الاجتماعية، وتدريب القيادات الدينية والاجتماعية على طرائق الحل السلمي للمشكلات، وتنظيم البعثات للتفاوض مع الجماعات المتمردة.[2]

موقف المعارضة من مشروع المصالحة:

كلفت الحكومة الانتقالية الرئيس الأسبق لتشاد جيكوني وداي برئاسة اللجنة الفنية التي أنيط بها تنفيذ المصالحة، إذ أعلن في مؤتمر صحفي في الأول من هذا الشهر أعمال التحضير، قائلا “علينا واجب الالتزام لإيجاد صيغة مناسبة لإنهاء الحرب وآثارها المدمرة إلى الأبد، كما أنه يجب علينا إرساء نهج يساعد على تعزيز الوحدة، وإن تحديات التنمية الاجتماعية والاقتصادية هي نقطة التقائنا”. في واقع الأمر تباينت مواقف تيارات المعارضة بين الرفض والتشكيك، والرغبة في المشاركة ووضع شروط أولية، من أبرز هذه المواقف. أبدت عدد من الأحزاب السياسية استعدادها للمشاركة في الحوار والمصالحة، باعتبارها فرصة لفتح صفحة جديدة في تاريخ تشاد. ومنها: حزب الحريات والتنمية وافق على المشاركة وتم تعيين محمد أحمد الحبو رئيس الحزب وزيرا للعدل، زعيم المعارضة صالح كبزابوا وهو رئيس حزب الاتحاد الوطني للتنمية والتجديد وافق على المشاركة في المصالحة، وتم تعيين اثنين من كبار رجالات الحزب في الحكومة الانتقالية، مستشار رئيس تحالف قوات المقاومة المتحدة( UFR) السيد جدي غالماي، ويرأس التحالف تيمان أردمي وهو ابن أخت الرئيس الراحل ديبي، وعُدّ ذلك إشارة مهمة إلى أن هذه المجموعة توافق على المشاركة في المصالحة، وعاد السيد كوري جيمي رئيس التجمع التشادي من أجل العدالة، وجبهة التغيير والوفاق أعلنت استعدادها للمشاركة في الحوار الوطني والمصالحة إذا كانت هناك مبادرات سلمية لبناء تشاد ديمقراطية خالية من الاستبداد، الأمين العام لوفاق تشاد للدفاع عن حقوق الإنسان السيد محمد نور عبيدو وافق على المشاركة في المصالحة والحوار الوطني. وغيرهم من الشخصيات كذلك رحبوا بالفكرة وعادوا طوعا مثل حسن الفضل مؤسس حركة الأول من ديسمبر، وصديق المانجئ وهو نائب سابق كما أبدى آخرون ملاحظات وتقدموا بمقترحات من أجل إنجاح المصالحة والحوار. بعض التيارات المُعارِضَة طالبت بمراجعة الميثاق الذي يحكم المرحلة الانتقالية حتى يستوعب مطالبها، ومطالب القطاعات التي تمثلها وقد أكد وزير المصالحة أن التعديل ممكن من أجل استيعاب الجهات التي لا يرضيها الميثاق. ورفضت حركة “واكت تما” -تعني بالعربية التشادية “انتهى الوقت”- المشاركة في الحوار فضلا عن الحزب الاشتراكي “بلا حدود” الذي يقوده السيد يحي ديلو (وهو من عائلة ديبي) وحزب “المغيّرون”، وتشترط هذه الحركات ضمانات من ديبي الابن للالتزام بالمرحلة الانتقالية (18 شهر) وعدم ترشحه لرئاسيات 2022، إضافة إلى حركة واكت التي تتخذ من الجنوب الليبي مقرا وظهيرا لوجود التداخل الإثني والقبلي فيها. وطالب المجلس الوطني للشتات التشادي بمشاركة جهات خارجية من أجل ضمان إنجاز الحوار الوطني الشامل مثل المؤسسات الأوروبية والفرنسية، ونوقش المطلب مع نائب رئيس لجنة الخارجية والدفاع بالمجلس الانتقالي الذي بدوره تفهم الأمر ووعد بتسهيل مشاركتهم.[3]

الخُلاصة؛ سحب الجيش التشادي نصف قواته، جاء بعد نحو أسبوعين من تعرض قواته لهجوم عنيف لتنظيم بوكو حرام، في منطقة بحيرة تشاد، التي تعتبر الخاصرة الغربية الرخوة للبلاد. وهذا الهجوم يُعد الأعنف من نوعه ضد الجيش التشادي منذ مارس 2020، حينما قتل 98 جندي في محافظة بحيرة تشاد على يد بوكو حرام، قبل أن تعلن باماكو في الشهر التالي تطهير المنطقة من كامل عناصر التنظيم المصنف إرهابي. ويعني ذلك أن بوكو حرام عادت للنشاط مجددًا في منطقة بحيرة تشاد بعد 17 شهر من طردها منها، ما يُشكِّل تهديدًا أمنيًا خطيرًا ضد نجامينا. وتتزامن عودة بوكو حرام إلى المنطقة، بعد صد الجيش التشادي في أبريل الماضي، هجومًا عنيفًا لمتمردي جبهة الوفاق والتغيير (فاكت) القادمين من الحدود الليبية في الشمال، ومقتل الرئيس إدريس ديبي، في تلك المعارك، وتولِّي مجلس عسكري بقيادة نجله محمد زمام السلطة. وهذا الوضع الداخلي المتأزم سياسيًا وأمنيًا، يضغط على نجامينا لسحب مزيد من قواتها خارج البلاد، وخاصةً بالمثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو. لكن مع ذلك من المُستبعد أن يسحب المجلس العسكري في تشاد كامل قواته في الساحل، بالنظر إلى حاجته للدعم المالي والدبلوماسي الفرنسي والدولي للبقاء في السلطة. هذا الوضع المُتأزم أنتج طرح مشروع المُصالحة من قِبل النظام التشادي، إلا أنه ليس من السهل التكهُّن بصيرورة الأحداث وتطورها في بلد كتشاد يشهد صراعًا حادًا على أُسس عرقية، ويعاني من مشكلات بنيوية يصعب التعهد بحلها في وقتٍ قصير، ويتمركز في جغرافيا وديمغرافيا متحركة، أبرز ملامحها الاحتكاكات السلبية والمعارك الصفرية، ولكن في الوقت ذاته ليس من المستحيل أن يجد التشاديون حلولاً لمشكلاتهم متى ما توفرت الإرادة وعلا الانتماء الوطني على الانتماء القبلي والعرقي.

 

[1]  “تشاد تسحب نصف قواتها.. هل يتجه تحالف الساحل نحو التفكك؟ (تحليل)”، الأناضول، 30/8/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/uS3jQ

[2]  محمد صالح عمر، “في ظل صراعات عرقية حادة وتباين مواقف المعارضة.. إلى أين تتجه جهود المصالحة في تشاد؟”، الجزيرة نت، 10/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/ZJpi5

[3]  محمد صالح عمر، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022