كشفت الاحتجاجات الغاضبة في الشارع الإيراني والمتفجرة منذ 17 سبتمبر الماضي، عن الكثير من التناقضات والمؤشرات، ما بين ازدواجية المعايير الغربية في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط، ففي الوقت الذي تجاهلت أمريكا والكثير من الأطراف الغربية إدانة اسرائيل أو عقابه على القتل بدم بارد الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، على يد جنود الاحتلال الاسرائيلي، تكاثرت بيانات الادانة لإيران وفرض عقوبات وضغوطات دولية.
كما تؤشر الاحتجاجات الضخمة عن تململ الشارع الايراني من حكم رجال الدين، وتصاعد الاستبداد والقمع السلطوي للشعب باسم الدين، وانغلاق الأفق السياسي في إيران، وتفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية في البلاد، وهو ما تفاقمه التغطيات الإعلامية والحملات الموجهة من الغرب وإسرائيل تجاه الشارع الايراني، المشوب بكثير من الانقسامات والتباينات العرقية والجهوية والسياسية..
وتوفيت مهسا أميني – 22 عامًا – في ظروف غامضة بعد أن اعتقلتها شرطة الأخلاق الإيرانية لارتدائها الحجاب – الذي أصبح مفروضًا على النساء في إيران منذ ثورة 1979 – بشكل غير مناسب.
تلك الاحتجاجات أيضا مثلت مدخلا وفرصة لامريكا والغرب لتصويب سهام النقد و الضغوط على إيران، للدفع نحو اصغاء ايران للشروط الأمريكية والغربية، فيما يتعلق بالتوصل لاتفاق نووي، ملزم لإيران، متعطل منذ شهور…
أولا: انطلاق الاحتجاجات على خلفية مقتل أميني:
واندلعت الاحتجاجات على خلفية مقتل الشابة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عاماً، في 17 سبتمبر 2022 ببلدة سقز في كردستان الإيرانية، وتحولت الاحتجاجات إلى أكبر استعراض لمعارضة السلطات الإيرانية منذ سنوات، إذ دعا كثيرون إلى إنهاء حكم رجال الدين المستمر منذ أكثر من أربعة عقود.
ولا تزال الاحتجاجات تتواصل بمناطق مختلفة في إيران، واشتبكت قوات الأمن الإيرانية، الأحد 2 أكتوبر الجاري مع طلاب في جامعة شريف الكبيرة في طهران.
وفي جامعة شريف، المعروف أنها بؤرة للمعارضة، تحاط بالعشرات من أفراد شرطة مكافحة الشغب، في مواجهة مظاهرات للطلبة في العديد من الجامعات الأحد 2 أكتوبر 2022، فضلاً عن خروج مظاهرات في عدة مدن مثل: طهران ويزد و كرمانشاه و سنندج وشيراز ومشهد، وهتف المشاركون فيها “الاستقلال.. الحرية.. الموت لخامنئي”.
ولم تهدأ الاحتجاجات على الرغم من العدد المتزايد للقتلى والقمع من جانب قوات الأمن التي تستخدم الغاز المسيل للدموع والهراوات، وفي بعض الحالات الذخيرة الحية، وذلك على مدار أكثر من ثلاثة أسابيع، وفقاً لمقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي وجماعات حقوقية.
ووثقت منظمة “إيران لحقوق الإنسان”، ومقرها النرويج، مُتل 133 شخصاً في أنحاء إيران، من بينهم أكثر من 40 قالت إنهم قتلوا في اشتباكات الأسبوع الماضي في زاهدان، عاصمة إقليم سيستان وبلوخستان.
لكن السلطات الإيرانية لم تعلن عدد القتلى، فيما قالت إن العديد من أفراد قوات الأمن قُتلوا على أيدي “مثيري شغب وبلطجية مدعومين من أعداء أجانب”، وذكر التلفزيون الرسمي الأسبوع الماضي أن 41 قتلوا بينهم أفراد من قوات الأمن.
يُشار إلى أن هذه التظاهرات التي تشهدها إيران هي الأكبر منذ نوفمبر 2019، حين اندلعت احتجاجات رفضاً لارتفاع أسعار البنزين، تم قمعها بشدة.
من جهته، قال محامي عائلة أميني، صالح نيكبخت، لصحيفة “اعتماد” الإصلاحية، إن خلاصة آراء أطباء موثوقين وأشخاص شاورهم، تؤكد أن مهسا “تعرضت لضرب من ناحية الرأس”، وذلك قبل نقلها إلى مقر الشرطة.
وتحدث المحامي نيكبخت عن “وجود آثار للدم خلف الرقبة وأسفل الجمجمة” على جثمان أميني، مضيفاً أن المحامين وعائلتها طلبوا من السلطة القضائية تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، مكونة من ثلاثة إلى خمسة أطباء متخصصين في جراحة الدماغ والقلب، ووافق المدعي العام في طهران على هذا الطلب لكنه لم ينفذ.
ثانيا:: تعامل السلطات مع الاحتجاجات:
1-هجوم سياسي وأمني من قبل السلطات:
ومع التعاطي الخشن للسلطات الايرانية، خرج المرشد الأعلى لإيران، علي خامنئي ، لأول مرة، يوم الاثنين 3 أكتوبر، معلقا على الأحداث، معلنا دعمه لقوات الأمن الإيراني التي تواجه احتجاجات مستمرة، واصفاً حادثة وفاة الشابة مهسا أميني بعد اعتقالها من قبل الشرطة بأنه “مريرة”.، لكنه عاد واتهم أمريكا واسرائيل بالوقوف وراء تلك الاحتجاجات..
وكان خامنئي قد التزم الصمت على الاحتجاجات الضخمة التي شهدتها إيران، والتي رفع فيها المحتجون شعارات ضد الزعيم الإيراني، كما مزقوا صوره وصور المرشد السابق روح الله الخميني.
2- الرد العسكري الإيراني في كردستان:
وإلى جانب العنف الأمني والسياسي، ضد المحتجين والاعتقالات الواسعة في صفوف المحتجين وخاصة الأكراد، وسعت ايران من ردودها، بقصف عسكري ، استهدف إقليم كردستان العراق، يوم الأربعاء 28 سبتمبر الماضي، ضد مواقع لجماعات كردية إيرانية معارضة في شمال أربيل وشرق السليمانية، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.
ووفق مصادر أمنية في إقليم كردستان العراق ، فإن القصف الإيراني نُفذ بشكل متزامن بواسطة المدفعية والصواريخ، إلى جانب طائرات مسيّرة مفخخة كانت موجهة نحو مواقع ومقرات لجماعات وأحزاب كردية إيرانية معارضة تتخذ من الأراضي العراقية مقرا لها.
من جهته، أعلن حزب “حرية كردستان”، الإيراني المعارض، تكبّد الحزب خسائر بشرية جراء القصف الإيراني على مقراتهم من دون أن يحدد العدد.
في المقابل، قال “الحرس الثوري” الإيراني إن هذه الهجمات تأتي بسبب “عدم اهتمام سلطات إقليم شمال العراق بالتحذيرات والمطالب المشروعة والقانونية لإيران لإنهاء أنشطة المجموعات الإرهابية المعادية” في الإقليم.
وتتهم السلطات الإيرانية الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة بالوقوف وراء الاحتجاجات في المنطقة الكردية الإيرانية على وفاة الشابة الإيرانية الكردية مهسا أميني، بعد أيام من احتجازها من قبل شرطة الآداب في طهران، معلنة عن اعتقال عناصر بهذه الأحزاب ومتهمة إياها بـ”إثارة الشغب” في إيران وتوزيع السلاح.
ثالثا: التعاطي الغربي مع الاحتجاجات:
-استغلال الإعلام الغربي للاحتجاجات لتأجيج الإسلاموفوبيا:
وجاءت الاحتجاجات كفرصة، على طبق من ذهب، للغرب وأمريكا، الذين تتسم علاقاتهم المتبادلة التأزيم، على خلفية تعثر الاتفاق النووي والعديد من الملفات في العراق وسوريا ولبنان..
ووجهت الدوائر الإعلامية والسياسية الغربية، سهام الانتقادات ايران ونظامها السياسي، والشريعة الإسلامية التي يرفع النظام الإيراني شعاراتها، وتحدثت وسائل الإعلام الدولية عن شجاعة المتظاهرين والعواقب الوخيمة التي تسببت بها الحكومة الإيرانية، وبينما نشأ عن ذلك دعم عالمي للمتظاهرين.. إلا أنه خلّد في سرده على خلفية واسعة من النفاق، المعروفة من الغرب، الذي يدّعي دعمه للنساء والأشخاص نفسهم الذين تسببت سياساته وتدخلاته الوحشية في ضرر كبير لهم.
ورغم أنه لم يفصل الأمر، كان واضحًا أنه يحدث قادة الغرب الذين لهم تاريخ مدمر يخدم أهدافهم الخاصة بغزو الدول المسلمة مثل العراق وأفغانستان بدعوى تعزيز حقوق النساء، بينما في الوقت نفسه يقيدون حقوق النساء المسلمات والأقليات في الغرب.
واتجهت وسائل الإعلام التركيز بشدة على قضية الحجاب، خاصة رفض النساء له، بنشر صور ومقاطع فيديو لنساء يقصصن شعرهن ويحرقن حجابهن احتجاجًا على الوضع، لم يُذكر ذلك فعليًا بما يعنيه في سياق الاحتجاج ضد النظام الذي يُعرّف نفسه أساسًا بأنه يقوم على الشريعة الإسلامية.
فبعيدًا عن سياقها، صُورت هذه الأفعال الرمزية على أنها احتجاج على الإسلام والقيود الدينية التي يستطيع الغرب من خلال عقوباته وتدخلاته أن يمحيها وينقذ الإيرانيين منها ومن ثم فإن تركيز وسائل الإعلام على الحجاب بدلًا من مقاومة النساء الجريئة لنظام قمعي وكفاحهن المستمر من أجل حقوقهن ، هو تركيز مخل ويأتي بنتائج عكسية.
رابعا: أسباب توسع الاحتجاجات:
1-انغلاق وأزمات اجتماعية ممتدة:
وتعبر الاحتجاجات عن أزمة أخلاقية وسلوكية واجتماعية، ودفعت عدة عوامل نحو تصاعد الأزمة، من أهمها السياسات الحكومية والتغيير الاجتماعي؛ فعلى مدى عقود ومع الأجيال الجديدة كانت مسألة القيم الدينية والاجتماعية تتواجه مع الحداثة التي صبغت حياة الأجيال الشابة في إيران، ليحوز موضوع الحجاب مساحة واسعة من النقاش الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي في إيران.
وبينما صار الحجاب بحكم القانون رمزًا سياسيًّا متجاوزًا مساحته العبادية والفقهية، بات خلعه في الأماكن العامة شكلًا احتجاجيًّا ربما يتجاوز موضوع الحجاب ليطول مسائل أخرى، وجاءت قضية مهسا أميني التي توفيت بعد اعتقالها من قبل “دورية الإرشاد” التابعة لشرطة الأخلاق، التي تراقب الحجاب والسلوكيات العامة لتفجر احتجاجات تعكس بصورة جوهرية حالة الأزمة.
ولعل واحدًا من جذور الأزمة يعود إلى ما بعد انتصار الثورة، ورغم النقاش المستفيض إلا أن فئة استطاعت أن تفرض رؤيتها التي تقول إنه نظرًا لأن النظام السياسي والثقافي أصبح إسلاميًّا، يمكنه ويجب عليه تحديد القواعد والإجراءات في جميع المجالات، بما في ذلك أنماط التنشئة الاجتماعية وأنماط حياة الناس.
ويبدو الإصرار على نشر دوريات الإرشاد في الشوارع مؤشرًا على قصور سياسي عن فهم التغيرات القيمية في المجتمع، والإقرار بحقيقة أن أجيالًا في إيران بات لها أولويات وتفضيلات قيمية ومعيارية وسلوكية قائمة على نظام القيم الحديث مثل الحرية الشخصية والاختيار الفردي، وبدا وكأن التواصل والحوار بين النظام من جهة وهذه الفئة من المجتمع الإيراني مفقود كلية.
هذه التغييرات القيمية في المجتمع الإيراني، تحتاج إلى سياسة اجتماعية وثقافية متسامحة وديمقراطية تقوم على قبول الاختلافات واحترام القيم المتعددة لجميع الهويات الفاعلة الموجودة في إيران اليوم فالجيل الجديد من الواضح أن فئة كبيرة منه قد بَنَتْ هوية بصورة مغايرة للسائد، وهو جيل يتحدى القيم التي تستند على التقاليد الدينية والاجتماعية.
فلا يمكن فصل الحركة الاحتجاجية المتعلقة بالحجاب عن الاحتجاجات الأخرى ذات الطبيعة الاقتصادية والسياسية، ولذلك فقد يكون النظام بحاجة إلى التفكير خارج الإطار القانوني الذي رسمه للمجتمع في فترة من طغيان الحالة الإسلامية خاصة أن هذه الحالة تشهد تراجعًا كبيرًا.
2-الثورية الاحتجاجية داخل المجتمع الإيراني:
والحديث عن الحالة الاحتجاجية في إيران بمواجهتها الأخيرة أو الموجات التي سبقتها لا يعني بأي حال من الأحوال تحليلها كحالة تسعى لإسقاط أو حالة قادرة على إسقاط النظام بقدر ما هي حالة ملازمة للمجتمع الإيراني، ويكاد الاحتجاج أن يكون ملازمًا للجمهورية الإسلامية على مدى العقود الماضية، والتي كان من أبرزها احتجاجات طلاب جامعة طهران في عهد خاتمي واحتجاجات الحركة الخضراء، في 2009، عقب إعادة انتخاب أحمدي نجاد، والاحتجاجات المعيشية في عهد روحاني، في 2017، وآخرها الاحتجاجات الحالية، ولذلك يصدق وصف المجتمع الاحتجاجي على المجتمع الإيراني وهو ما يراه عالم الاجتماع المعروف حسین بشیريه في كتابه “العقل في السياسة”.
والاحتجاج في إيران يأخذ مظاهر متعددة، منها الاحتجاج السياسي المباشر، وقد مثَّل آية الله منتظري، منذ منتصف عقد الثمانينات من القرن العشرين وحتى وفاته في 2009، حالة احتجاجية فكرية سياسية.
وهو الذي انتقل كمنظِّر من منظِّري الثورة وواضعي دستور الجمهورية الإسلامية من تأييد ولاية الفقيه المطلقة القائمة على التنصيب إلى ولاية الفقيه القائمة على الانتخاب والمشروطة بموافقة الناس.
3-تبدلات اجتماعية ودينية:
وفي مذكراته الصادرة في 2017 في طهران، بعنوان: “60 عامًا من الصبر والشكر”، يقول إبراهيم يزدي، أول وزير خارجية لإيران بعد الثورة: “تعبر إيران مرحلة شديدة التلاطم.. بدأت مرحلة الصحوة والتحرك نحو إسقاط الاستبداد الداخلي بانتفاضة التبغ، عام 1890، وثورة المشروطة، عام 1905، وحركة مصدق لتأميم النفط، 1950، والثورة الإسلامية، عام 1979، ولم تصل إلى مبتغاها بعد”.والحركات الاحتجاجية هي حركات اجتماعية-سياسية، وهي ظاهرة متصلة مرتبطة ببعضها البعض..
4-ضغوطات
العقوبات الدولية:
وعلى الرغم من محاولة النظام الإيراني تقليل آثار العقوبات الدولية المفروضة عليها، إلا أنها في الواقع حرمت المجتمع الإيراني من مزايا اقتصادية، وطالت بتأثيراتها حتى الطبقة الوسطى في المجتمع، ولذلك فثمة حالة من عدم الرضا المعيشي بفعل تردي الأوضاع الاقتصادية.. وكانت العقوبات سببًا من أسبابها.
ويدرك خصوم إيران في الخارج مقدار الضغط الذي ترتبه الحالة الاقتصادية ولذلك يضغطون بمزيد من العقوبات وتقديم ما من شأنه أن يعزز الحالة الاحتجاجية داخل إيران ويوسع المسافة بين الشعب ونظام الحكم، بغية إجبار الحكومة الإيرانية على القبول باتفاق ضمن شروط تصر إيران على رفضها إلى اليوم.
وتضييق الخيارات الاقتصادية وتراجع مستويات الدخل قد يقود إلى حالة احتجاجية أخرى ذات طبيعة معيشية في عهد رئيسي على غرار ما حدث في عهد حكومة روحاني.
ورأت طهران أن قرار واشنطن “تخفيف حدة عدد من العقوبات على قطاع الاتصالات، مع الحفاظ على أقصى قدر من الضغوط”، سعي أميركي إلى المضي قدما في أهدافها ضد إيران، وأنه قرار يتماشى مع موقف الإدارة الأميركية العدائي الهادف إلى إثارة عدم الاستقرار في الجمهورية الإسلامية.
وفي موازة ذلك، ردت الحكومة الإيرانية بمزيد من القيود على الإنترنت وأصبح الوصول إلى كثير من المواقع مستحيلا.
بموازاة الحالة الاحتجاجية التي اتخذت من رفض الحجاب الإجباري شعارًا، كانت المدن الإيرانية تشهد حالات عنف مقصود وفوضى، من بينها ذبح رجل أمن في الشارع وإحراق عدد من سيارات الإسعاف والبنوك، ومن بين القتلى الذين وصل عددهم إلى 41 قتيلًا عدد من شباب قوات التعبئة “بسيج” المحسوبين على الحكومة، وفيما يجري اتهام قوات الأمن بإطلاق الرصاص تؤكد الحكومة وجود “مندسين” وسط المتظاهرين يدفعون الأمور نحو العنف والفوضى، وأعلن بيان رسمي عن إلقاء القبض على عدد من غير الإيرانيين من الضالعين في ذلك.
وفي مقابل الاحتجاجات احتشد أنصار النظام بكثافة في طهران ومشهد، وأظهرت الحكومة أنها مازالت قادرة على تحشيد الشارع ضد ما ترى أنه فوضى وعنف مقصود
5- صراعات الإصلاحيين والمحافظين:
ولعله من أسباب استمرار وتصاعد الخلافات والتوترات الايرانية الداخلية، استمرار التصعيد بين التيارات السياسية المعارضة والحاكمة في إيران..
وفي سياق الأزمة الراهنة، بدت الخلافات تعود للسطح مجددا، حيث نشر موقع “كلمة” رسالة حول الاحتجاجات الأخيرة للزعيم الإصلاحي مير حسين موسوي الذي يعيش في “إقامة جبرية” من 12 عاماً، بعد احتجاجات 2009 على نتائج الانتخابات الرئاسية التي ترشح لها موسوي.
وطالب الأخير في رسالته القوات العسكرية الإيرانية بـ”الوقوف إلى جانب الشعب”، قائلاً إنّ الشابة مهسا أميني كانت “بنت إيران وبنت كردستان وبنت الإنسانية”، ومعتبراً أنّ وفاتها “منعطف في التاريخ”، ووصف موسوي أوضاع إيران بأنها “حساسة ومحزنة”. …
خامسا: الانعكاسات المستقبلية:
1-الاحتجاجات الشعبية وفرص التغيير:
من خلال استقراء الواقع السياسي الايرني وتجليات التظاهرات الأخيرة، يتضح أن الحركات الاحتجاجية الأخيرة في إيران، تفتقد إلى الرأس، أو القيادة الواضحة، في حين أن قادة الحركات الاحتجاجية عموما، يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أنواع: قادة أيديولوجيين، وقادة منظِّرين، وقادة تعبويين، وعندما يجتمع ذلك فقط، يمكن الحديث عن حالة ثورية عارمة، على غرار ما حدث في الثورة الإسلامية، لكن الحركات الاحتجاجية اللاحقة في الجمهورية الإسلامية، والحركة الخضراء ليست استثناء من ذلك، تفتقد إلى القيادة بشتى أنواعها.
ورغم وضوحها الظاهري إلا أنها حركات احتجاجية تفتقد الوضوح من حيث الهدف، كما
أنها يصعب تصنيفها إذا ما كانت سلمية أو عنيفة، ولكنها في المجمل لا تقدم منظومة اجتماعية وسياسية واضحة ومختلفة، وإن كانت حالة الاحتجاج الاعتراضية- وهي الطاغية على احتجاجات إيران- تعبِّر بصورة جلية عن حالة من عدم الرضى من الناس تجاه النظام، لكنها تفتقد إلى الهيكلية والتعبئة المنظمة، ولا تمثل تهديدًا واقعيًّا لديه القدرة على إسقاط النظام، أو يهدف في الأساس إلى اسقاط النظام ويأتي من ضمن ذلك احتجاجات العمال والمعلمين والاحتجاجات ذات الصبغة الاقتصادية المعيشية.
واجمالا، يمثل الاحتجاج في إيران مؤشرًا واقعيًّا على أزمة العلاقة بين النظام والناس أو بين النظام وفئة لا يستهان بها من الشعب وهي أزمة تحتاج إلى تغيير في السلوك السياسي للدولة.
وهذا الاحتجاج في حقيقته صراع على صورة إيران وهويتها السياسية والاجتماعية، والنتيجة التي سيصل لها جميع الأطراف أن التغيير الاجتماعي الذي يشهده المجتمع الإيراني سيفرض شروطه في النهاية.
2-صعوبة التوصل لاتفاق نووي بين إيران والغرب:
وتفرض التجليات الناجمة عن التظاهرات الحالية، مزيدا من الصعوبات على مسألة التوصل لاتفاق نووي، ما زال متعثرا وتمثل الاحتجاجات الشعبية والحراك السياسي والاجتماعي والاعلامي المرافق لها، بؤرة تأزيم جديدة، بين طهران والغرب، وسط اتهامات من الأطراف الرسمية الايرانية، للغرب وأمريكا، بالوقوف وراء تأجيج الاحتجاجات الداخلية بايران..
ولكن الادارة الايرانية، كعادتها، تسعى للجمع بين وسائل التحفيز والترهيب، وجعل الباب مواربا، بينها وبين الآخرين، وفي هذا السياق، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني الإثنين الماضي، أن الفرصة لإحياء الاتفاق النووي ما زالت “متاحة”، لكنه رمى الكرة في الملعب الأميركي، مشيراً إلى أن واشنطن “إذا ما أبدت إرادة سياسية، يمكن التوصل لاتفاق في أقصر وقت ممكن”، مع التأكيد أنه “لن يكون هناك اتفاق في ظل التهديد والعقوبات”.
مضيفا في مؤتمره الصحفي الأسبوعي، أن المفاوضات النووية مستمرة بصيغة تبادل الرسائل مع منسق الاتحاد الأوروبي ووزراء خارجية دول جارة، قائلاً إن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة شكلت “فرصة جيدة لإجراء مفاوضات جانبية”.
مؤكداً “أننا عازمون على التوصل لاتفاق جيد قوي ومستدام، ويتعهدون بمسار المفاوضات” وفيما تحمّل واشنطن وأطراف أوروبية طهران مسؤولية عرقلة التوصل لاتفاق وتعتبر ردها على المسودة الأوروبية النهائية قبل نحو شهرين “غير بناء”، لكن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية دافع عن رد بلاده، وأكد أنه كان “شفافاً”، مشيراً إلى أن طهران تسعى إلى عدم بقاء “نقاط مبهمة بالاتفاق، كي لا تخضع لتفسيرات تخلّ به”.
يشار إلى أن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل والإدارة الأميركية قد أكد سابقا، إن المفاوضات النووية وصلت إلى طريق “مسدود”، أكد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أنه “لا يمكننا الحديث عن انسداد بالمفاوضات لأن عملية تبادل الرسائل مستمرة”….
وما زالت المفاوضات النووية بين إيران والمجموعة الدولية متعثرة وتراوح مكانها، ولا حلّ يلوح في الأفق، أقله قريباً، للخروج من هذا الانسداد والتوصل إلى اتفاق لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015، فكل من الطرفين الإيراني والأميركي متمسك بمواقفه، ويرمي الكرة إلى ملعب الآخر.
ولم ينجح الحراك الدبلوماسي الأخير على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وزيارة رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي إلى فيينا، ولقاءاته مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي في كسر الجمود.
كما أن الوضع يتجه نحو المزيد من التعقيد، مع فرض الإدارة الأميركية مؤخرا، عقوبات جديدة على عشر شركات وناقلة نفط، بتهمة مساعدة إيران على الالتفاف على العقوبات النفطية.
وعن النص النهائي الذي قدمته الممثلة العليا للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي المكلفة بتنسيق شؤون المفاوضات النووية في الثامن من الشهر الماضي في ختام جولة تفاوضية في فيينا، قال وزير خارجية إيران إن واشنطن، في ردها على النص، قدمت آراء “جعلت النص قابلاً للتفسير، وأحدثت بعض الغموض فيه، وذلك في مواضيع تعد أساسية لنا”، مدافعاً عن رد بلاده على النص الأوروبي.
وأوضح أن الغرض منه كان “تقوية النص”، مشيراً إلى أن الجانب الأميركي أضاف “في بعض البنود شروطاً والمزيد من الإيضاحات، لا يمكنني الإفصاح عن تفاصيل ذلك”، معلناً استعداد طهران لعقد اجتماع مع وزراء خارجية الدول الأعضاء بالاتفاق النووي لإبرام الاتفاق لإحيائه إذا ما وافقت واشنطن على مطالبها.
3-استمرار جدلية شرطة الأخلاق:
وسلطت الأحداث الأخيرة الضوء مجددا على شرطة الأخلاق أو “كشت ارشاد” والتي تأسست عام 2005 بموجب قرار قضائي ويطلق عليها “دوريات التوجيه” وهي وحدة تابعة للشرطة الإيرانية، يتلخص عملها في ضبط وفرض قوانين اللباس المحتشم على النساء والفتيات في الأماكن العامة.
وتأسس هذا الجهاز الشرطي الخاص بواسطة القضاء والشرطة في إيران في عام 2005، حيث جاء في وقت كان المجتمع الإيراني يتجه للتغيير بشكل سريع بعد عقدين على الثورة الإسلامية، وذلك من أجل كبح جماح الناس عبر فرض قواعد صارمة للباس والمظهر العام.
وتظهر شرطة الأخلاق الإيرانية في كل مكان في المناطق الحضرية في إيران، حيث تشكل فرقاً من الرجال والنساء اللاتي يرتدين “الشادور”، وتضم الدوريات شاحنات صغيرة لاعتقال المخالفين.
ويتركز تواجد شرطة الأخلاق في الأماكن العامة المزدحمة، مثل مراكز التسوق، ومحطات مترو الأنفاق، والساحات الرئيسية، وأي مكان آخر قد يتردد عليه الشباب والشابات الإيرانيات اللاتي قد يرتدين “ملابس غير لائقة” من وجهة نظر الدولة.
أما المخالفون والمخالفات، فيتم اقيادهم إلى أقسام الشرطة أو ما يعرف بـ”المرافق الإصلاحية والإرشادية”، لإلقاء محاضرات عليهم حول كيفية ارتداء الملابس التي تسير مع تفسير البلاد الشرعي للإسلام، ليتم بعد ذلك الاتصال بذويهم للحضور لإطلاق سراحهم، بعد إحضارهم “ملابس محتشمة” لهن.
ومنذ تأسيس جهاز “كشت إرشاد” المثير للجدل، ارتكب الجهاز العديد من التجاوزات القمعية، وطاله العديد من الانتقادات حتى من أعضاء البرلمان والمشاهير والمؤثرين وغيرهم لكن رغم ذلك، ظلت الدولة الإيرانية متمسكة بهذا الجهاز، نظراً لارتباطه بشكل مباشر بسلطات إنفاذ القانون والشرطة، ولذلك، ليس للجمهور حق بالاعتراض عليه أو التصويت ضده. وترى الحكومة الإيرانية أن “شرطة الأخلاق هي قوة تنظيمية دينية تعمل على الوفاء بالمبادئ الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
كما ترى السلطات الإيرانية أن إطلاق العنان لحرية اللباس، يعني اتَّباع العادات الغربية التي تضعف المجتمع الإيراني وتجعله عرضة لتأثير الثقافة الأمريكية والغربية وتنشط شرطة الأخلاق الإيرانية في كل مكان تقريباً، من مراكز التسوق إلى محطات المترو وغيرها ووفقاً للقواعد الرسمية، فإنه يتعين على النساء والفتيات في إيران ارتداء الحجاب وملابس فضفاضة تعرف بـ”الشادور” في الأماكن العامة، لكن دون تحديد السن القانونية التي تلزم الإيرانيات بتغطية الرأس.
ومع ذلك، يقول المعارضون لشرطة الأخلاق إن شرطة الأخلاق لا تحترم حرية المواطنين وكرامتهم، إلى جانب الاعتقال التعسفي للنساء لعدم التزامهم بقواعد اللباس التي تنص عليها السلطات. ويرى المعارضون أن الأساليب العنيفة لدوريات “كشت إرشاد” تعمل على ترهيب النساء بدلاً من حمايتهم.
كما يرى المنتقدون أنه لا توجد إرشادات محددة بشكل مفصل حيال وصف وتحديد ماهية “اللباس المحتشم” لدى الإيرانيات، ما يترك مجالاً كبيراً للتفسير الشخصي من قبل عناصر “شرطة الأخلاق”، وسط اتهامات ضدها باحتجاز النساء والفتيات بشكل تعسفي، مثلما حدث مع مهسا أميني ومنذ تولي الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي زمام الأمور في إيران، قامت “شرطة الأخلاق” بتكثيف تواجدها في المدن الكبرى.
وعلى وقع ذلك، بدأت آلاف النساء في الخروج إلى الشوارع دون ارتداء الحجاب، وقمنا بتوثيق ذلك في مقاطع مصورة لنشرها على منصات التواصل الاجتماعي لتشجيع أقرانهم وقد تزايدت الدعوات لحل “شرطة الأخلاق” في إيران، عقب انتشار مقطع مصور يُظهر أُمّاً إيرانية تناشد عنصراً من “شرطة الأخلاق” إطلاق سراح ابنتها المريضة في يوليو الماضي.
وعلى إثر ذلك، شرعت إيرانيات محافظات، في خطوة غير مسبوقة، في انتقاد الحجاب الإلزامي عبر الإنترنت، فيما قامت نائبات محافظات في البرلمان بالتحدث ضد قانون “شرطة الأخلاق” وعمل عناصرها على أساس أن هذا يؤثر سلباً على الرأي العام حيال قضية الحجاب والدين بشكل عام وعلى الرغم من أن قضية اللباس وتجاوزات شرطة الأخلاق كانت الشرارة التي فجرت هذه الاحتجاجات، إلا أن كثيراً من الإيرانيين، لا سيما الشباب، رأوا في وفاة أميني استمراراً لسياسةِ القمع التي تنتهجها الحكومة في مواجهة المعارضة، والعنف المتزايد لشرطة الأخلاق في التعامل مع الفتيات.
وسبق أن تجاوز نظام الحكم في إيران عدة موجات مماثلة من الاحتجاجات التي اشتعلت بالبلاد أكثر من مرة طيلة عقود، وغالباً ما تمكنت قوات الأمن من قمع المتظاهرين بالقوة الغاشمة في نهاية المطاف، وكان أصعب تحدٍّ واجهة نظام الحكم في البلاد هو احتجاجات “الحركة الخضراء” التي أعقبت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2009 والإصلاحات بعيدة المدى التي دعت إليها، لا سيما أنه قد شارك في هذه الاحتجاجات ملايين الإيرانيين تصدَّت السلطات للاحتجاجات آنذاك بعنفٍ وحشي، وفتح الحرس الثوري وميليشيا الباسيج النارَ على المتظاهرين، وانتشروا في حملات اعتقال للمحتجين في جميع أنحاء البلاد، ووضع زعماء المعارضة تحت الإقامة الجبرية.
خاتمة:
وعلى الرغم، من حصول الاحتجاجات على دعم شعبي كبير، حتى من أوساط المتدينين، والفنانين والمثقفين، وعلى الرغم من كل الحديث عن شجاعة المتظاهرين الموجودين الآن في الشوارع، إلا أنها مازالت انتفاضة عفوية غير منظمة، وبلا قيادة، ومن الصعب أن تنتج في إحداث أي تغيير..
ومن الجدير بالذكر، أن غياب القيادة كانت السمة الأساسية للاحتجاجات الإيرانية في الأعوام 2017 و2018 و2019، وكانت أيضاً من أهم أسباب انحسار الاحتجاجات بسرعة، وعدم قدرتها على الاستمرارية من أجل الضغط للحصول على إصلاحات من جانب القيادة الإيرانية.
ومن ثم، فإنه من المتوقع أن تنجح الحكومة الإيرانية فى إخماد شرارة الاحتجاجات الحالية، لكن ما لا يمكن إنكاره، أنها تسببت في قلق لدى القادة الإيرانيين، الذين يصفون التظاهرات بأنها تنطلق من قبل أعداء الجمهورية الإسلامية مهدين بأن كثرة الاحتجاجات تزعزع استقرار العمل الحكومي.