استضافت العاصمة الأمريكية، واشنطن، قمة قادة الولايات المتحدة وإفريقيا في الفترة من 13 إلى 15 ديسمبر 2022، وبمشاركة الرئيس جو بايدن وما يقرب من 50 من القادة الأفارقة، وتُعد القمة الإفريقية – الأمريكية هي الثانية من نوعها بعد القمة الأولى التي عُقدت في عام 2014، بضيافة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما.
واعتبرت الإدارة الأمريكية بزعامة الرئيس بايدن هذه القمة واحدة من أهم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية خلال هذه الفترة. فهي الفرصة الأولى لإدارته لإظهار كيف تنظر إلى مستقبل العلاقات الأمريكية الإفريقية على أرضها، وسط التوتر الجيوسياسي المتزايد مع روسيا والصين والجهود المبذولة لإعادة العلاقات الأمريكية الإفريقية، بعد التوتر الذي شهدته في عهد الرئيس الأمريكي ترامب.
فما هو وضع كل من الولايات المتحدة والصين في إفريقيا؟
وكيف كان تعامل إدارة بايدن مع إفريقيا؟
وما هي تفاصيل استراتيجيته هناك؟
وكيف يُمكن قراءة أهداف ونتائج القمة الإفريقية الثانية؟
وما هي التحديات التي تواجه التواجد الأمريكي في إفريقيا؟
وكيف تؤثر على مستقبله؟
تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عنها خلال هذا التقرير..
أولًا: الولايات المتحدة والصين في إفريقيا:
- موقع الولايات المتحدة من الصين في التجارة مع إفريقيا: قانون النمو والفرص في إفريقيا المعروف اختصارا بـ “أغوا” مازال في صميم السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة فيما يتعلق بالتعاون التجاري مع إفريقيا منذ صدوره في عام 2000. ومنذ ذلك الحين، وفر القانون لدول إفريقيا جنوب الصحراء المؤهلة فرصة إدخال أكثر من 1800 منتج إلى السوق الأمريكية معفاة من الرسوم الجمركية. وتزامنت القمة مع قرب انتهاء سريان القانون وتحديدا عام 2025 وسط توقعات بأن تقدم إدارة بايدن على إجراء تعديلات على القانون من أجل تعزيز الاستفادة من إمكانيات إفريقيا. ويشار إلى أن اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية دخلت حيز التنفيذ في الأول من يناير عام 2021 بهدف إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم. وقد تزامن ذلك مع نمو النفوذ الصيني في إفريقيا خاصة في الشق التجاري والاقتصادي الذي تجاوز المعدل الأمريكي. وفي ذلك، يقول آدات “لم يعد قانون أغوا ذا فعالية كبيرة كما كان الحال في عهد الرئيس كلينتون، حيث كان له تأثير كبير في تلك الفترة الزمنية. لكن الآن فإن معظم السلع المصدرة لا يتم إنتاجها في القارة، إذ أن المواد الخام تأتي من الصين”. حيث تتربَّع الصين على عرش التجارة الدولية في إفريقيا، فقد بلغ الاستثمار الصيني المباشر في القارة ضعف المعدل الأمريكي فيما باتت بكين أكبر مقرض للقارة السمراء. كما كان لجوء بعض بلدان القارة الإفريقية إلى الصين وروسيا، قد أثار مخاوف الولايات المتحدة التي دعت بلدان القارة إلى توخي الحذر من تعزيز الاعتماد على موسكو أو بكين.[1]
- أسباب الحاجة إلى تعامل أمريكي جديد مع القارة الإفريقية: هناك مجموعة من الأسباب: أولها؛ تزايد الأهمية الديمغرافية والاقتصادية والسياسية للقارة الإفريقية؛ تشير المؤشرات إلى أنه من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان إفريقيا تقريبًا، وينمو بمعدل أسرع بكثير من سكان أي منطقة أخرى. كما يُمكن أن تُشكِّل 54 دولة في إفريقيا كتلة سياسية قوية على المسرح العالمي (في حالة دمج جنوب القارة بشمالها)، وتستطيع أيضًا أن تظهر قدرة متزايدة على العمل في انسجام تام من خلال منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، خاصةً إذا تمكَّنت البلدان الإفريقية، وخاصةً الأكثر نفوذًا، من إيجاد صوت سياسي موحد. وثانيها؛ تزايد المخاوف الأمنية في القارة الإفريقية؛ تتزايد المخاوف الأمنية في منطقة الساحل وفي شرق وجنوب إفريقيا على طول المحيط الهندي. مع معاناة العديد من الدول الإفريقية من مشكلة المناطق غير المحكومة، وهي المناطق التي تعجز العديد من الحكومات المركزية عن بسط نفوذها عليه، مما حوّلها إلى ساحة واسعة للعصابات الإجرامية وتجارة المخدرات، بالإضافة إلى الجماعات الإرهابية، وهي الجماعات التي تشاركت فيما بينها لتشكل خطرًا أمنيًا شديدًا على الأمن الإقليمي، بل والعالمي أحيانًا. الأمر الذي مثَّل دافعًا قويًا للولايات المتحدة، لتطوير استراتيجيتها لمواجهة مثل هذا النوع من التهديدات. وثالثها؛ النفوذ الصيني المُتصاعد في القارة؛ تنخرط الصين في إفريقيا بطرق لا تفعلها الولايات المتحدة، فإفريقيا بالنسبة للصين تُمثِّل مصدرًا لواردات الموارد الطبيعية، كما أنها سوق متزايدة وغير مُستغلة نسبيًا للصادرات وللاستثمار، وهي فرصة للشركات الصينية لزيادة فرص العمل واكتساب الخبرات العالمية. ورابعها؛ القوة الصلبة الروسية؛ يحرك السياسة الخارجية الروسية تجاه إفريقيا المحددان الاقتصادي والعسكري، والمتجليان في تكثيف المبادلات التجارية وفي زيادة صفقات التسليح والتعاون الأمني في مكافحة الإرهاب. وخامسها؛ التداخلات الإقليمية الجديدة؛ في الفترة الأخيرة توسعت العلاقات السياسية والاقتصادية بل والعسكرية بين إفريقيا عمومًا والشرق الأوسط بشكل كبير. حيث زادت بعض دول الشرق الأوسط من الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها في المنطقة وكذلك في منطقة الساحل. كما استطاعت بعض الدول إيجاد دور عسكري لها؛ سواء من خلال قواعد عسكرية مثل تركيا، أو من خلال استثمارات زراعية وصناعية مثل الإمارات والسعودية، أو دور ثقافي محدد مثل الدور الإيراني خاصة في المجال التعليمي.[2]
- مميزات الشراكة الأمريكية لإفريقيا: إن ما يميز مشاركة أمريكا عن الشركاء العالميين الآخرين ليس واضحًا دائمًا، ولكن يمكن تمييزه على النحو التالي: أولًا؛ التركيز على القطاع الخاص؛ عند مقارنة الولايات المتحدة بالصين، نلاحظ التركيز الأمريكي على القطاع الخاص، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تستطيع توجيه شركاتها للاستثمار في إفريقيا (كما تستطيع الصين)، إلا أنها يُمكن أن تخلق بيئة مواتية أفضل للأعمال التجارية في القارة. ثانيًا؛ شراكات في الاتصال الرقمي؛ تركز شراكة الولايات المتحدة مع إفريقيا في تعزيز الاتصال الرقمي على دعم الشبكات المفتوحة المبنية على أساس آمن عبر الإنترنت وبيئة الاستثمار التي تتيح التدفق الحر للبيانات مع حماية المعلومات الشخصية. ثالثًا؛ سياسات الطاقة؛ بالنسبة لسياسات الطاقة الخاصة بالولايات المتحدة في إفريقيا، فإنها سوف تدعم أهداف الاكتفاء الذاتي والتصنيع في إفريقيا، فضلًا عن تعديل الانتقال الميسور التكلفة إلى مصفوفة الطاقة النظيفة والمتنوعة. وهذا يشير إلى أن الولايات المتحدة قد تعطي إفريقيا فرصة أكبر لاستغلال الغاز وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى، مقارنةً بموقف الدول الأوروبية على سبيل المثال، التي تُعتبر أكثر صرامة فيما يتعلق بالانبعاثات الكربونية. رابعًا؛ السلام والأمن؛ تزعم الولايات المتحدة أنها تركز على نهج “ثلاثي الأبعاد” لمعالجة أسباب الصراع والافتقار إلى الديمقراطية والتنمية.[3]
ثانيًا: إدارة بايدن وإفريقيا:
- تعامل إدارة بايدن مع إفريقيا: كانت إدارة جو بايدن قد تجاهلت إفريقيا إلى حدٍّ بعيد منذ تولي المسؤولية في 20 يناير 2021، لدرجة أنه على مدى 9 أشهر كاملة لم يقم أي من كبار مسؤولي السياسة الخارجية في الإدارة بأي زيارة للقارة السمراء، حيث ركزوا على زيارة الحلفاء الأوروبيين ودول جنوب شرق آسيا، التي أصبحت أساسية في المنافسة بين أمريكا والصين. لكن الأمور تغيَّرت تدريجيًا وقام وزير الخارجية الأمريكي، توني بلينكن، بعدة زيارات إلى إفريقيا، كانت إحداها في أغسطس الماضي، حين أعلن عن استراتيجية أمريكية جديدة للقارة السمراء تركز على الأهمية المتزايدة عالميًا لإفريقيا. أما بايدن نفسه، فتظهر سجلات اتصالاته الخارجية منذ تولى منصب الرئيس أنه أجرى اتصالات بثلاثة فقط من زعماء 3 دول إفريقية، هي إثيوبيا وجنوب إفريقيا وكينيا، إضافةً إلى اتصالين بالسيسي -علمًا بأن واشنطن تُصنِّف مصر كإحدى الدول العربية أو إحدى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا-. ولم يقم بايدن بزيارة إفريقيا، باستثناء زيارته لمدينة شرم الشيخ المصرية، لحضور مؤتمر المناخ كوب 27.[4]
- استراتيجية جديدة لإدارة بايدن في إفريقيا: أصدرت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة تجاه إفريقيا، أعلن عنها وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، أثناء جولته الإفريقية الأخيرة في شهر أغسطس الماضي. وقد حدَّدت هذه الاستراتيجية لنفسها أربعة أهداف: أولها؛ تعزيز مجتمعات عادلة ومنفتحة؛ تدعو الاستراتيجية إلى مزيد من المساءلة بين الدول الإفريقية، من خلال دعم الضوابط والتوازنات التي تتراوح من استقلال القضاء إلى الصحافة الاستقصائية، ومن خلال تشجيع الشفافية، بما في ذلك مكافحة الفساد والقمع الرقمي. وثانيها؛ تعزيز الجهود الديمقراطية ومعالجة التحديات الأمنية؛ تؤكد الاستراتيجية على دعم الولايات المتحدة للديمقراطيات في القارة من خلال دعم منظمات المجتمع المدني (CSOs)، وتمكين الفئات المهمشة، ودعم الانتخابات العادلة، ونشر مزيج من الأدوات لمعالجة التراجع الديمقراطي. وتؤكد الاستراتيجية أيضًا على النهج ثلاثي الأبعاد (الدفاع والتنمية والدبلوماسية) لجهود بناء السلام، مثل استراتيجية الهشاشة العالمية ومعالجة دوافع الصراع في إفريقيا. وتعطي الاستراتيجية الأولوية لمقاربات مكافحة الإرهاب غير الحركي بقيادة مدنية حيثما أمكن، واستخدام القوة المباشرة عندما يكون ذلك قانونيًا ويكون التهديد أكثر حدة. وثالثها؛ دعم التعافي القوي من جائحة كوفيد-19؛ تؤكد الاستراتيجية على تعافي كوفيد-19 في إفريقيا، من خلال دعم جهود التطعيم المستمرة وبناء المرونة الصحية على المدى الطويل، من خلال توسيع البنية التحتية للصحة العامة وقدرة الدول الإفريقية على الاستجابة السريعة لأزمات الصحة العامة والأوبئة. وذلك عبر برامج مثل الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار، وهي مبادرة استثمار في البنية التحتية من قبل مجموعة الدول الصناعية السبع، بهدف تمويل بقيمة 600 مليار دولار لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية. ورابعها؛ تشجيع التكيف مع المناخ وتحولات الطاقة الخضراء؛ ستدعم الولايات المتحدة الدول الإفريقية في بناء البنية التحتية المقاومة للمناخ، وجهود التكيف مع المناخ، والحفاظ على النظم البيئية في إفريقيا، حيث تدعم الاستراتيجية برامج الطاقة الخضراء كوسيلة لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة في القارة. ولتحقيق ذلك؛ وضعت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لإفريقيا ستة مداخل لتنفيذ تلك الأهداف، هي: زيادة الانخراط الدبلوماسي الأمريكي في المنطقة، ودعم التنمية المستدامة والصمود الاقتصادي، ومراجعة أدوات التعامل مع الجيوش الإفريقية، وتعزيز العلاقات التجارية مع دول المنطقة، وقيادة عملية التحول الرقمي في المنطقة، ومساندة جهود التجديد الحضري بالمنطقة.[5]
ثالثُا: القمة الأمريكية- الإفريقية الثانية:
- أهداف القمة: يُمكن تحديد مجموعة من الأهداف للقمة الأمريكية- الإفريقية الثانية: أولها؛ عودة الروح للعلاقات الأمريكية- الإفريقية؛ حيث تأمل إدارة بايدن في إعادة الروح للعلاقات الأمريكية- الإفريقية، التي أصبحت تحتل مكانة هامشية في جدول أعمال الرئيس السابق دونالد ترامب. تريد الولايات المتحدة إظهار التزامها تجاه إفريقيا وزيادة التعاون بشأن الأولويات العالمية المشتركة، وتشمل هذه الأولويات الصحة وتغير المناخ والأمن الغذائي وقضايا الصراع وحتى التعاون في مجال الفضاء.[6] وثانيها؛ سعي واشنطن لاستعادة دورها القيادي العالمي؛ يرغب الرئيس بايدن في أن يبدو مختلفًا عن سلفه دونالد ترامب فيما يتعلَّق بالدور القيادي الأمريكي في العالم. فبعد أربع سنوات رفع فيها الرئيس السابق ترامب شعار “أمريكا أولًا”، جاء بايدن بسياسة استعادة الدور الأمريكي في العالم، وتعزيز مصداقية الولايات المتحدة بين أصدقائها وحلفائها. وبعد أن تحرك بايدن في أوروبا وآسيا وغيرها من مناطق العالم استنادًا لهذا التوجه، جاء الوقت لأن يمتد إلى إفريقيا مُتمثلًا في هذه القمة التي تتبنَّى هدف استعادة الشراكة مع القارة الإفريقية. وثالثها؛ استعداد بايدن للانتخابات الرئاسية المقبلة؛ ثمَّة دافع آخر له بُعد داخلي أمريكي، ويرتبط باستعداد بايدن لإعلان ترشحه لولاية ثانية في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وما يرتبط به من مخاطبة كتل انتخابية متعددة. فتأتي استضافته للقمة الأمريكية- الإفريقية لتستهدف توجيه رسالة إلى الكتلة الانتخابية من الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، والذين يشكلون جزءًا أساسيًا من القاعدة الانتخابية لمرشحي الحزب الديمقراطي. ورابعها؛ التنافس بين القوى الدولية في إفريقيا؛ حيث بدأت الولايات المتحدة في النظر بقلق كبير إلى النفوذ المتزايد لهاتين القوتين في إفريقيا. فقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للعديد من الدول الإفريقية، ونجحت في ترجمة هذه الاستثمارات الاقتصادية إلى نفوذ دبلوماسي تمثَّل في انعقاد قمة صينية- إفريقية كل ثلاث سنوات، بالإضافة إلى المساندة التصويتية الإفريقية للمواقف الصينية في العديد من المحافل الدولية. كما استطاعت روسيا دعم نفوذها في عدد من الدول الإفريقية من خلال التعاون العسكري وصادرات السلاح. ونظَّمت روسيا قمة مع الدول الإفريقية عُقدت في مدينة سوتشي في أكتوبر 2019، ومن المُقرر أن تُعقد القمة الروسية- الإفريقية القادمة في عام 2023. ورفض الكثير من الدول الإفريقية إدانة روسيا وتبنَّت موقفًا محايدًا تجاه الحرب الأوكرانية. كما اتضح لواشنطن أن نفوذ حلفائها الغربيين في إفريقيا مثل فرنسا وبريطانيا قد تضاءل بشكل كبير، وليس قادرًا على ملء فراغ الغياب الأمريكي، أو موازنة تصاعد النفوذ الصيني أو الروسي.[7]
- ملفات على أجندة القمة: ناقشت القمة الأمريكية–الإفريقية، وفقًا لما أعلنته الإدارة الأمريكية، مجموعة من الملفات، رغبةً في تحقيق جملة من الأهداف والمصالح المشتركة: أولها؛ تحقيق الأمن الغذائي للدول الإفريقية والفقيرة؛ والذي ينعدم في العديد من دول القارة مع الحروب والصراعات التي تؤدي إلى تدمير المحاصيل الزراعية، أو تعرقل تجارة الغذاء والحبوب، فضلًا عن التغيرات المناخية، وما يصحبها من موجات جفاف أو فيضانات أو ارتفاع في درجات الحرارة تؤدي إلى تدمير المحاصيل الزراعية. وثانيها؛ تعزيز التعاون الاقتصادي الأمريكي-الإفريقي؛ في ظل توجه المنافس الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة الأمريكية (الصين) لتنمية علاقتها بكافة دول القارة الإفريقية من خلال منحها المساعدات والقروض الطويلة الأجل، حتى باتت العديد من دول القارة مثقلة بالديون لجمهورية الصين الشعبية؛ ستحرص واشنطن على أن يكون لها حضور اقتصادي مع دول القارة من خلال منحها امتيازات تتعلق بالتصدير، أو عبر توقيع عقود الشراكة مع مختلف الدول الإفريقية. وثالثها؛ مواجهة التغيرات المناخية في القارة السمراء؛ تُعتبر قضية التغير المناخي قضية مؤرقة لكافة دول العالم أجمع، ويؤكد الرئيس بايدن على ضرورة التعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول القارة لمواجهة التغيرات المناخية، مع تقديم يد العون لمساعدتها على مواجهة تبعات التغير المناخي، وتشجيع الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والطاقة المتجددة. ورابعها؛ تعزيز الدور الأمريكي في القارة الإفريقية؛ لاسيما في ظل البيئة الجيوسياسية المضطربة عالميًا، وتصاعد التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية من جانب الصين وروسيا. وخامسها؛ دعم قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان بإفريقيا؛ أكَّد الرئيس جو بايدن طوال حملته الانتخابية أن قيم الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ودعم منظمات المجتمع المدني ستكون في مقدمة أجندته التي ستحكم علاقته مع مختلف الدول عند وصوله إلى البيت الأبيض؛ ولذلك تم التطرق لهذا الموضوع لتأكيد تلك القيم، وأهمية تعزيز المؤسسات الديمقراطية بدول القارة خلال القمة الأمريكية- الإفريقية. وسادسها؛ مكافحة الإرهاب المتصاعد داخل الدول الإفريقية؛ لا سيَّما من جانب حركة الشباب المجاهدين، وتنظيم داعش، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، وجيش الرب للمقاومة، وجماعة بوكو حرام؛ لكونه يُقوِّض استقرار دول القارة، ويتسبَّب في نزوح وهجرة ملايين المواطنين بالقارة. وسابعها؛ مساعدة الدول الإفريقية على مواجهة الأزمات الصحية؛ ففي ضوء العديد من التوقعات المتعلقة بمواجهة العالم موجة جديدة من الأوبئة، ستكون أشد فتكًا، ركَّزت القمة على تعزيز القدرات الإفريقية لمواجهة الأوبئة عبر إنشاء أنظمة إنذار مبكر، خاصةً أن تلك القضية باتت قضية ملحة يجب على الدول التأهب لها؛ حتى لا تواجه الضغوطات التي واجهتها الأنظمة الصحية والاقتصادية كما واجهتها سابقًا أثناء جائحة كوفيد-19. وثامنها؛ تعزيز التواصل مع الأمريكيين من أصول إفريقية؛ وفقًا لبيان صادر عن البيت الأبيض في 20 يوليو 2022، يتطلع الرئيس بايدن إلى التعاون مع مجتمعات الشتات الإفريقي في مختلف القطاعات الأمريكية، وتسعى القمة لتعزيز التواصل بين المسؤولين الأمريكيين وتلك المجتمعات بالولايات المتحدة من خلال منتدى القادة الشباب الأفارقة والشتات.[8]
- دلالات وتداعيات القمة: تعكس القمة مجموعة من الدلالات والتداعيات المهمة، سواء على صعيد العلاقات بين الجانبين أو على صعيد التسابق الدولي على إفريقيا: أولًا؛ تأتى القمة في سياق التنافس الدولي من جانب القوى الكبرى على بناء وتقوية الشراكات الاقتصادية والسياسية والأمنية مع القارة الإفريقية، وهو ما انعكس في العديد من القمم التي جمعت الدول المتقدمة والبارزة اقتصاديا مع إفريقيا مثل القمة الروسية الإفريقية التي عقدت مرتين من قبل، في عام 2019 وفى يونيو الماضي، كذلك القمة الصينية الإفريقية والقمة اليابانية الإفريقية، والقمة الهندية الإفريقية والقمة الأوروبية الإفريقية والقمة التركية الإفريقية وغيرها من القمم التي تعكس أهمية وحيوية القارة السمراء بالنسبة لهذه الدول وتسعى لتقوية علاقتها معها. ثانيًا؛ ظل اهتمام أمريكا بإفريقيا مقصورًا بشكل أساسي في السنوات الماضية على البُعد الأمني المُتمثِّل في محاربة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام وحركة الشباب الصومالية وغيرها، وأنشأت القيادة الأمريكية العسكرية، أفريكوم، في إطار الحرب على الإرهاب، ولم تهتم كثيرًا بالأبعاد الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية، ولذا تستهدف القمة الأمريكية الإفريقية تفعيل وتعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع القارة في إطار المبادرات العديدة التي طرحتها أمريكا في السابق مثل مبادرة ازدهار لتعزيز حرية التجارة بين الجانبين. ثالثًا؛ تأتى القمة في إطار سياسة تعزيز الاهتمام الأمريكي بإفريقيا بعد حالة التباعد والفتور التي شهدتها منذ آخر قمة أمريكية إفريقية في عهد الرئيس السابق أوباما في 2014، والتأكيد على توجهات إدارة الرئيس بايدن في تعزيز العلاقات مع القارة بأبعادها الشاملة، الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما أنه يستهدف أيضا كسب دعم وتأييد الأمريكيين الأفارقة وذلك في إطار الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة. كما أن القمة لها أبعاد سياسية في كسب دعم وتأييد الدول الإفريقية في مواجهة روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، حيث صوَّتت 23 دولة إفريقية لمصلحة روسيا في الأمم المتحدة. رابعًا؛ إن القمة الأمريكية الإفريقية وغيرها من القمم الإفريقية مع الدول الكبرى في العالم، تتطلب بلورة رؤية إفريقية موحدة وتحقيق التوافق بين السياسات المختلفة للدول الإفريقية (54 دولة) تتباين في أنظمتها الاقتصادية والسياسية، وذلك لتعظيم الاستفادة من حالة التنافس الدولي الكبير على القارة، خاصةً فيما يتعلق بجذب الاستثمارات وتوطين التكنولوجيا، وتحقيق التنمية.[9]
- حضور القمة: على مدى ثلاثة أيام، حضر حوالي 42 رئيس دولة وحكومة إفريقية – بالإضافة إلى رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى محمد – ومجموعة من رجال الأعمال والمجتمع المدني والشتات وقادة الشباب، وقاموا بعقد محادثات موسعة مع الإدارة الأمريكية في واشنطن. وكان من اللافت أن واشنطن لم توجه الدعوة لأربعة دول إفريقية (بوركينا فاسو وغينيا والسودان ومالي) بسبب الانقلابات العسكرية وتعليق عضويتها في الاتحاد الإفريقي. كما لم تتم دعوة إريتريا لأن الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقات دبلوماسية محدودة مع أسمرة. وفي سياق الدول المتنازع على سيادتها، لم تتم دعوة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية وصوماليلاند لأن الولايات المتحدة لا تعترف بهما كدولتين.[10] كما لم يشارك رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا في القمة بسبب عقد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم بزعامته اجتماعًا حاسمًا خلال هذه الفترة. أما زيمبابوي، فما زال رئيسها إيمرسون منانغاغوا خاضعًا لعقوبات أمريكية تحظر دخوله الولايات المتحدة لاتهامه بتقويض الديمقراطية وارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان في هذا البلد الإفريقي الفقير.[11] وكان من بين أبرز الحضور رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وكذلك رئيسا رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في خضم الصراع في شرق البلاد في مواجهة تمرد حركة 23 مارس. كذلك عبد الفتاح السيسي وقيس سعيد، ورئيس غينيا الاستوائية تيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو، بعد أيام على وصف الولايات المتحدة إعادة انتخابه بأنها “مهزلة”. ويحمل تيودور أوبيانغ الرقم القياسي العالمي في طول مدة الحكم بين رؤساء الدول الذين ما زالوا على قيد الحياة.[12]
- رسائل القمة: تلقَّت الإدارة الأمريكية بعد الإعلان عن تلك القمة، والحضور المشارك بها، انتقادات مختلفة على خلفية دعوة بعض الحكام المستبدين، لكن تلك القمة حملت رسائل مختلفة، يُمكن الإشارة إلى أبرزها: أولها؛ ازدواجية المعايير الأمريكية تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ طالت الإدارة الأمريكية العديد من الانتقادات بعدما تضمَّنت قائمة المدعوين ثلاثة حكام أفارقة متهمين بارتكاب جرائم حرب؛ رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، ورئيس جنوب السودان سلفا كير، ووليام روتو رئيس كينيا المنتخب مؤخرًا المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من جانب المحكمة الجنائية الدولية، ووزير خارجية زيمبابوي فريدريك شافا الذي لاحقت أجهزة دولته الأمنية كبار موظفي الكونجرس الأمريكي خلال العام الجاري أثناء زيارتهم إلى زيمبابوي. والتي تُعبِّر عن ازدواجية في المعايير من جانب الإدارة الأمريكية التي تؤكِّد أنها ستدافع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وثانيها؛ تأكيد أهمية المصالح الأمريكية بالقارة الإفريقية؛ حيث عكست القمة اهتمام واشنطن بتنمية علاقتها مع كافة دول العالم، وعدم ترك الساحة فارغة للصين وروسيا. ولعل تغاضي الولايات المتحدة الأمريكية عن مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان عند دعوة مختلف القادة، يؤكد وجود فرص أكبر للتعاون مستقبلًا بين واشنطن ودول القارة، وسيرسل رسالة إلى المنافسين الأساسيين للولايات المتحدة مفادها أنها ستحافظ على مركزها وحضورها في مختلف أنحاء العالم، وخاصةً في القارة الإفريقية ذات الفرص الاستثمارية الواعدة. وثالثها؛ مساعٍ أمريكية لتطبيق متضمنات استراتيجية الأمن القومي؛ تؤكد تلك القمة اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بتطبيق ما جاء في استراتيجية الأمن القومي، التي صدرت في 12 أكتوبر 2022، حول اهتمام واشنطن بمساعدة الحلفاء داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي إفريقيا جنوب الصحراء على تحقيق الاستقرار والسلام، مستخدمةً في ذلك كافة الأدوات الدبلوماسية، مع تقليل استخدام القوات العسكرية التي لن يتم استخدامها إلا في حالة وجود تهديد مباشر للمصالح الأمريكية. ورابعها؛ تحجيم النفوذ الصيني المتنامي في القارة الإفريقية؛ من المؤكد أن تلك القمة تحاول أن توصل رسالة مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية تعود من جديد للاهتمام بالقارة الإفريقية، وأنها لن تترك الساحة فارغة للنفوذ الصيني المتنامي داخل القارة، خاصةً في أعقاب انعقاد منتدى التعاون الصيني الإفريقي في نوفمبر الماضي في السنغال، الذي وعد فيه الرئيس الصيني شي جين بينج بمنح تمويلات للدول الإفريقية بقيمة 40 مليار دولار أمريكي؛ الأمر الذي يساهم في منح بكين نفوذًا أكبر داخل القارة. وخامسها؛ السعي لعزل النظام الروسي عالميًا؛ منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في أوروبا إلى عزل موسكو عن النظام الدولي، كما تقدَّم بعض المُشرِّعين في مجلس الشيوخ الأمريكي بمشروع قانون تحت عنوان “محاسبة المرتزقة الروس” يهدف إلى اعتبار مجموعة فاجنر الروسية منظمة إرهابية أجنبية، فضلًا عن إدراجها على القائمة السوداء المتعلقة بالحريات الدينية، بما سيتيح لواشنطن فرض عقوبات عليها، ويمنع الدول من التعامل معها. وعلى صعيد آخر، قد تكون تلك القمة ردًا مباشرًا على القمة الروسية الإفريقية التي عُقدت في مدينة سوتشي الروسية في يونيو 2022، والزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في يوليو 2022 للعديد من دول القارة. وسادسها؛ تقسيم العالم إلى كتلتين بين واشنطن وخصومها؛ كتلة منضمة إلى موسكو وبكين وحلفائهما، وكتلة أخرى تابعة لواشنطن وحلفائها.[13]
- نتائج القمة: في ختام أعمال هذه القمة، أعلن البيت الأبيض في 15 ديسمبر 2022 عن عدد من المبادرات للتعاون مع إفريقيا، أهمها التخطيط لاستثمار ما لا يقل عن 55 مليار دولار في القارة الإفريقية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وإنشاء منصب مُمثِّل رئاسي خاص لتنسيق الجهود بشأن تنفيذ مبادرات القمة، وكشف الرئيس بايدن عن نيته تسمية السفير جوني كارسون، مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون الإفريقية، لهذا المنصب. كما تم الإعلان عن مبادرات أخرى، منها توفير أكثر من مائة مليون دولار لتوسيع مبادرة القادة الأفارقة الشباب بهدف دعم الابتكار والتميز للشباب الأفارقة، ودعم الولايات المتحدة للاتحاد الإفريقي للانضمام إلى مجموعة العشرين كعضو دائم، وإعلان مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية (DFC) عن استثمارات جديدة بقيمة 369 مليون دولار في جميع أنحاء إفريقيا في مجالات الأمن الغذائي والبنية التحتية للطاقة المتجددة والمشاريع الصحية، ودعم مبادرة التحول الرقمي مع إفريقيا (DTA) لتوسيع الوصول الرقمي ومحو الأمية عبر القارة من خلال استثمار أكثر من 350 مليون دولار. وأعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي عن شراكة استراتيجية للتحول إلى أنظمة غذائية مرنة وأسواق متنوعة لسلاسل التوريد. كما أعلن الرئيس بايدن عن 2 مليار دولار من المساعدات الإنسانية الطارئة الجديدة لإفريقيا، وعن خطط الولايات المتحدة لتوفير أكثر من 150 مليون دولار في شكل تمويل جديد لمعالجة التكيف مع المناخ وتحفيز الاستثمار في البنية التحتية للطاقة النظيفة في القارة.[14] كما أعلنت إدارة بايدن عن منح 4 مليارات دولار بحلول عام 2025 للتوظيف وتدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية في إفريقيا، لاستخلاص العبر من أزمة وباء كوفيد-19. وتطرقت القمة في يومها الأول أيضا إلى مسألة استكشاف الفضاء مع توقيع نيجيريا ورواندا اتفاقيات أرتميس بدفع من الولايات المتحدة. وهما أول دولتين إفريقيتين تُقدمان على مثل هذه الخطوة.[15]
- لقاءات على هامش القمة: شكَّلت القمة أيضًا مناسبة، على الهامش، لبحث سلسلة نزاعات من إثيوبيا وصولًا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية. حيث التقي بلينكن الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي الذي يواجه تمرد حركة “23 مارس” التي استولت في الأشهر الماضية على مناطق شاسعة في شرق البلاد. كما حضر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بعد أكثر من شهر على توقيع اتفاق سلام مع متمردي تيجراي في 2 نوفمبر بهدف إنهاء نزاع مدمر استمر سنتين. والتقى مسؤولون أمريكيون الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، مشيدين بجهوده في مكافحة حركة الشباب المتطرفة. وأكد أوستن أن الولايات المتحدة “ترحب بالعمل إلى جانب القوات الصومالية الشجاعة وتواصل دعم جهود حكومتكم”.[16] وأكدت بلايدن الأسبوع الماضي على التزام بلادها بالعمل “مع شركائنا الأفارقة لمواجهة التحديات في غرب إفريقيا وكذلك في منطقة الساحل”. وشددت بلايدن على أن الولايات المتحدة لا تعتزم التركيز على النهج العسكري باعتباره السبيل الوحيد لإنهاء الأزمات الأمنية في القارة الإفريقية، مضيفة “بدلا من السعي إلى قصر الأمر على النهج العسكري، نحاول التعلم من الجهود السابقة في منطقة الساحل والتأكد من أن لدينا شراكة وتعاون مع شركائنا الأفارقة للقيام بذلك”.[17]
رابعًا: مستقبل التحركات الأمريكية بالقارة:
- تحديات تواجه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة: رغم الإعلان الأمريكي عن تلك الاستراتيجية في إطار تخطيطها لعقد تلك القمة كان الأمر أكثر حساسية في العديد من الملفات، وهو ما يستدعي التساؤل حول قدرة السياسة الأمريكية على الصمود أمام السياسة الواقعية التي تفرض أربعة التحديات: أولها؛ الموقف الإفريقي؛ من وجهة نظر إفريقية، فإن هناك رغبة في تحول هذه الصياغات اللفظية حول الاستراتيجية الأمريكية إلى آليات حقيقية ملموسة، إذ كشفت الحرب الروسية– الأوكرانية النظرة الأمريكية التي لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح القارة وسكانها، حيث فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات على روسيا وعلى من يتعامل معها دون استشارة الأطراف المتضررة جديًا من هذه الإجراءات. وثانيها؛ دعم الديمقراطية؛ تعرَّضت الاستراتيجية الأمريكية في إفريقيا لاختبار حقيقي في القمة الإفريقية، وهو خاص بالدور الأمريكي في دعم الديمقراطية، حيث رفضت الولايات المتحدة دعوة أربع دول هي السودان، بوركينا فاسو، غينيا ومالي، وهي الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة دولًا خضعت لانقلابات عسكرية في الفترة الأخيرة ولا تتمتع بشرعية ديمقراطية. ولكن تبقى هذه الاستراتيجية محل جدل كبير، خاصةً مع كون أحد المدعوين لتلك القمة هو الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني الذي يحكم بلاده منذ 36 عامًا وسجله الحقوقي يشوبه كثير من الاتهامات، وهو ما يجعل من قضية الديمقراطية الأمريكية محل جدل كبير. وثالثها؛ التحدي الروسي؛ تبدو استراتيجية الولايات المتحدة في مواجهة امتحان آخر، إذ لم يؤدِّ إخفاق حلفائها الأوروبيين في منطقة الساحل إلى التشكيك في جدوى المقاربات الغربية في مواجهة التمردات العنيفة في المنطقة فقط، بل أيضًا إلى التوجه نحو الاستعانة بمرتزقة فاغنر التي أثبتت نجاحها النسبي، في حين ترافق ذلك مع انقلابات عسكرية تمد يد التعاون إلى موسكو في دول كمالي وتشاد وبوركينا فاسو على سبيل المثال. ورابعها؛ التحدي الصيني؛ حيث تتمتع الصين، على عكس موسكو، بملاءة مالية كبرى منحتها القدرة على توسيع نفوذها في إفريقيا عبر سياسة الإقراض والشراكة في مشاريع تنموية ضخمة، تركزت في تطوير البنى التحتية الإفريقية، إذ يبرز في هذا الإطار مشروع الحزام والطريق العملاق كإحدى أكبر أدوات الاختراق الصينية للقارة السمراء.[18]
- مستقبل التحركات الأمريكية: يُمكن القول إن التحركات الأمريكية يرتبط نجاحها في المستقبل في التعامل مع التحديات السابق ذكرها في ضوء مجموعة نقاط: أولها؛ إن الدور الصيني في أي منطقة في العالم يقوم على عدم تفضيل الدخول في النزاعات الداخلية في الدول، والنأي بنفسها عن الدخول في معترك الصدامات مع قوى وحركات سياسية تنتشر في القارة الإفريقية وتتمكن من بعض مناطقها، وعدم وجود خبرة صينية طويلة في التعامل مع مثل هذا النوع من القضايا. وثانيها؛ إن الدور الروسي ورغم استخدام أدواته الأمنية والمتمثل في بعض الشركات الأمنية المحسوبة عليه، وعلاقاته التاريخية مع بعض الأنظمة داخل القارة الإفريقية، إضافة إلى دعمه للأنظمة التي تنفذ سياساته بغض النظر عن شرعيتها الديمقراطية على سبيل المثال، فإنه قد يتأثر بطول أمد الحرب مع الجارة الأوكرانية، وهو ما قد يجبره مستقبلًا، على لملمة بعض من أوراقه السياسية خاصة في المناطق البعيدة جغرافيًا مثل إفريقيا جنوب الصحراء. وثالثها؛ إن الأدوار الإقليمية والأوروبية قد تتماهى في بعضها مع الاستراتيجية الأمريكية، كما أن بعضها قد لا يستطيع مجاراة بعض من أدوات الاستراتيجية الأمريكية خاصةً في جانبها الأمني، وبالتالي قد تُشكِّل تلك الأدوار إضافة مُعزِّزة للاستراتيجية الأمريكية وليس منافسًا أو مقيدًا لها. ورابعها؛ يبقى التحدي الأمني، والمُتمثِّل في انتشار جماعات الإرهاب وتمكُّنها من العديد من المناطق غير المحكومة في القارة الإفريقية، الخطر الأكبر على تعزيز إنفاذ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا، والتي تتطلَّب بالفعل استراتيجية متكاملة ذات نفس طويل تتعامل مع القارة الإفريقية انطلاقًا من كونها شريكًا، والتحرر من تلك العلاقة الأبوية السابقة.[19]
الخُلاصة؛ تُمثِّل استضافة واشنطن للقمة الأمريكية- الإفريقية الثانية، والمبادرات التي أعلنتها إدارة الرئيس بايدن في ختام القمة، نقطة تحول في سياسة الولايات المتحدة تجاه القارة السمراء،، بالرغم من أن المساهمات المالية المرتبطة بالمبادرات الأمريكية تُعد متواضعة، كما أن أغلبها ترتبط بموافقة الكونجرس الأمريكي، ولا يوجد ضمان لاستمرارها أو تمويلها إذا تغيرت الإدارة في البيت الأبيض أو الأغلبية الحزبية في الكونجرس.
وبالتالي فإن استعادة مصداقية الولايات المتحدة في القارة الإفريقية سوف ترتبط بتنفيذ هذه المبادرات على أرض الواقع، ومدى استمرارها في المستقبل.
وتبقى المشكلة في كون الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية لا تستطيع أن تقدم أي بديل للوجود الصيني والقوى الصاعدة الأخرى. الشيء الوحيد الذي يُمكن تجربته هو زيادة الاستثمار في العديد من المشاريع الكبيرة.
إذ أنه على الرغم من الاستثمارات الكبيرة من الصين، فإن هذا ليس كافيًا للبلدان الإفريقية ككل، وهناك حاجة إلى مزيد من الأموال لتطوير البنية التحتية الإفريقية. ومع ذلك تظل مسألة المشروطية السياسية والتدخل في الشئون الداخلية للدول الإفريقية. الغرب– عمومًا- غير معتاد على منح الأموال أو القروض دون شروط سياسية، وبسبب هذا، فإن القروض الصينية أكثر جاذبية.
بالإضافة إلى ذلك، هناك فرص إضافية، مثل نشاط الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة، سواء دول الخليج أو تركيا. وإدراكًا لذلك، من المُرجَّح ألا تتنافس الولايات المتحدة بشكل مباشر مع الصين، لكنها ستحاول اللحاق بالركب من خلال شغل فضاءات فارغة وتوسيع وجودها حيث تتمتع بمكانة موثوقة.
ومن المحتمل أنه بالتوازي مع هذا، سوف تتبنَّى الولايات المتحدة ووكلائها سردية كبرى مناهضة للصين من أجل تشويه أي مبادرات تقوم بها بكين في إفريقيا.
وعلى أي حال، سوف تعد القمة الأمريكية- الإفريقية الثانية نقطة فاصلة في مسيرة التطورات الجيوستراتيجية العالمية والإقليمية منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.
[1] إسحاق كاليدزي، “القمة الأمريكية-الإفريقية.. ما المخاطر التي تواجهها القارة السمراء؟”، DW، 12/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/ULJjXG
[2] نورة الحبسي، خالد أحمد محمد فياض، “القمة الأمريكية الإفريقية في ضوء الاستراتيجية الأمريكية الجديدة”، Trends، 13/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/mihktT
[3] د. حمدي عبد الرحمن حسن، “اللحاق بالركب: القمة الأمريكية – الإفريقية الثانية”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 11/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/X04enU
[4] “الصين “الغائب الحاضر”.. ما قصة القمة الإفريقية في أمريكا؟ وما الهدف منها؟”، عربي بوست، 13/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/wuBowK
[5] نورة الحبسي، خالد أحمد محمد فياض، مرجع سبق ذكره.
[6] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[7] د. محمد كمال، “القمة الأمريكية – الإفريقية.. فجوة التوقعات ومعضلة المصداقية”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 19/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/L4FbJu
[8] “ملف كامل للقمة الأمريكية الإفريقية في واشنطن: تبدأ غدا لمواجهة الصين”، البشاير، 13/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/40KIPc
[9] د. أحمد سيد أحمد، “القمة الأمريكية الإفريقية.. دلالات وتحديات”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 12/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/977CX4
[10] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[11] إسحاق كاليدزي، مرجع سبق ذكره.
[12] “الصين “الغائب الحاضر”.. ما قصة القمة الإفريقية في أمريكا؟ وما الهدف منها؟”، مرجع سبق ذكره.
[13] “ملف كامل للقمة الأمريكية الإفريقية في واشنطن: تبدأ غدا لمواجهة الصين”، مرجع سبق ذكره.
[14] د. محمد كمال، مرجع سبق ذكره.
[15] “القمة الأمريكية الإفريقية: واشنطن تحذّر من دور صيني روسي “مزعزع للاستقرار” في القارة السمراء”، France 24، 14/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/VWYLP2
[16] “القمة الأمريكية الإفريقية: واشنطن تحذّر من دور صيني روسي “مزعزع للاستقرار” في القارة السمراء”، مرجع سبق ذكره.
[17] إسحاق كاليدزي، مرجع سبق ذكره.
[18] نورة الحبسي، خالد أحمد محمد فياض، مرجع سبق ذكره.
[19] نورة الحبسي، خالد أحمد محمد فياض، مرجع سبق ذكره.