عادت أزمة سد النهضة الإثيوبي إلى مركز اهتمام السياسة الخارجية المصرية، بعد حديث السيسي مجددًا عن الأزمة خلال مشاركته بالقمة الأمريكية- الإفريقية، واعتبار أن قضية السد تهديد وجودي للقاهرة، مطالبًا الولايات المتحدة بالعودة إلى الضغط مجددًا على إثيوبيا من أجل التوصل إلى اتفاق عاجل بين كافة الأطراف.
فماذا كانت التطورات الأخيرة في ملف سد النهضة الإثيوبي؟ وكيف يُمكن قراءة الموقف الأمريكي من خلال اجتماعات القمة الأمريكية- الإفريقية الأخيرة؟ وهل يُمكن للولايات المتحدة أن تُهم في حل الأزمة أو عودة المفاوضات؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..
التطورات الأخيرة لقضية السد: في الثاني عشر من أغسطس الماضي، أعلنت إثيوبيا اكتمال الملء الثالث لخزان سد النهضة بـ 22 مليار متر مكعب من المياه، وعمَّقت الخطوة الأزمة مع مصر والسودان اللتين تواصلان رفض أي تحرك أحادي دون التوصل إلى اتفاق بشأن السد. وكانت مصر قد قدمت في أواخر شهر يوليو الماضي رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، أعربت فيها عن رفضها القاطع لخطط إثيوبيا لمواصلة ملء السد من جانب واحد خلال موسم الأمطار منذ يوليو 2020، في ظل عدم وجود اتفاق ينظم ملء وتشغيل السد.
وجدَّدت مصر دعوتها لاستئناف المفاوضات مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، بعدما توقفت المحادثات لأكثر من عام ونصف بعدما فشلت جهود الاتحاد الإفريقي منذ يونيو 2020 للتوسط في اتفاق من أجل إنهاء الجمود بين الدول الثلاث، حيث عُقدت الجولة الأخيرة من المفاوضات حول سد النهضة في كينشاسا في إبريل 2021، لكنها لم تصل إلى اتفاق بشأن استئناف المفاوضات مع اتهام كل جانب للطرف الآخر بعرقلة المحادثات.
وأكد وزير الخارجية المصري سامح شكري، خلال لقائه وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 سبتمبر، على ضرورة استئناف المفاوضات الثلاثية بشأن سد النهضة بأسرع ما يمكن. بهدف التوصل إلى اتفاق قانوني وملزم لملء السد وتشغيله بما يخدم مصالح جميع الأطراف ويحافظ على حقوق مصر في مياه النيل.
في ذات الإطار تناولت المشاورات بين السيسي والبرهان في زيارته للقاهرة، قادمًا من نيويورك، عقب المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. تطورات ملف سد النهضة، حيث جرى التوافق حول استمرار التشاور المكثف والتنسيق المتبادل في هذا السياق لما فيه المصلحة المشتركة للبلدين. وفي لقاء آخر مع المبعوث الأممي الخاص للقرن الإفريقي حنا تيتيه في القاهرة في 12 سبتمبر، حذر شكري من الوضع الراهن بشأن السد المتنازع عليه، قائلًا إنه عامل عدم استقرار يُهدِّد مصالح شعوب المنطقة.[1]
اجتماعات تخص السد على هامش قمتي المناخ والقمة الأمريكية- الإفريقية: اجتمع وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على هامش القمة الأمريكية- الإفريقية، لكن بيان الخارجية الأميركية لم يشر إلى أن الاجتماع تطرق لقضية سد النهضة.
وفي اليوم التالي أعلنت الرئاسة المصرية اجتماع السيسي ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وأن السيسي أكد تمسك مصر بتطبيق مبادئ القانون الدولي ذات الصلة، ومن ثمَّ ضرورة إبرام اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل السد للحفاظ على الأمن المائي لمصر وعدم المساس بتدفق المياه في نهر النيل. من جانبه، أكد وزير الخارجية الأميركي دعم بلاده لجهود حل تلك القضية على نحو يحقق مصالح جميع الأطراف ويراعى الأهمية البالغة التي تمثلها مياه النيل لمصر.
كما نشر المتحدث باسم الرئاسة المصرية صور لقاء السيسي بوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، إذ بحث الطرفان قضايا مشتركة، لكن لم يذكر بيان الرئاسة أن من بينها أزمة سد النهضة.
والتقى السيسي أيضًا أعضاء تجمع أصدقاء مصر في الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتطرق اللقاء إلى قضايا سلام الشرق الأوسط ودور السيسي في مكافحة الإرهاب وإصلاح الخطاب الديني.
وكان بايدن قد أكد دعم بلاده للأمن المائي والحقوق المائية لمصر في نهر النيل، وذلك خلال لقائه السيسي على هامش مؤتمر المناخ. وخلال الاجتماع، دعا السيسي الولايات المتحدة إلى لعب “دور مؤثر” في حل أزمة سد النهضة، وقد استفادت إثيوبيا من مشاركتها في قمة المناخ لتسليط الضوء على سد النهضة كمفتاح للتعاون الإقليمي في مجال الطاقة المتجددة.[2]
هل تُسهم الولايات المتحدة في حل أزمة سد النهضة؟ يرى البعض أن انعقاد القمة الأمريكية- الإفريقية بعد 8 أعوام من القمة الأولى، يهدف إلى دعم الدور الأمريكي في القارة الإفريقية، خاصةً في ظل التنافس الشديد بينها وبين الدول الكبرى على التوسع والانتشار في إفريقيا، وعقدت عدة قمم سابقة مع إفريقيا في روسيا وأوروبا.
وازدياد النشاط الصيني في العقد الأخير لإثبات الوجود على المستوى الدولي، بعد العمل بعيدًا عن الأضواء طوال العقود السابقة حتى تُثبِّت أقدامها، فأصبح للصين دور واضح في المشكلات الدولية المعاصرة، وعُقدت مؤخرًا لأول مرة القمة الصينية العربية في الرياض. وفي ظل هذا التنافس قد يكون للنظام الأمريكي دور أكثر فاعلية خلال الأسابيع القادمة للوصول إلى اتفاق في قضية سد النهضة قبل أن تتدخل الصين، وحينئذ سيكون هناك تراجع كبير للدور الأمريكي في إفريقيا.[3]
بينما يُشكِّك البعض الآخر في إمكانية مساهمة واشنطن في حلحلة ملف سد النهضة، الذي أوشك على الانتهاء والعمل بشكل كامل، بالنظر إلى تجارب سابقة السنوات الماضية، حيث يرى هؤلاء أن واشنطن كانت لها مواقف إيجابية متعددة تجاه مصر في ملف السد، تمثَّلت في اعتراف بايدن في أكثر من مناسبة دولية بأمن وحقوق مصر المائية، لكن بالرغم من ذلك؛ فإن الفجوة لا تزال قائمة بين الاقتناع الأميركي بحقوق مصر المائية، وعدم ترجمة ذلك بأدوات عملية على أرض الواقع، رغم الزيارات المتكررة مؤخرًا للمبعوث الأميركي الخاص للقرن الإفريقي بين أديس أبابا والقاهرة، حيث لم تقدم واشنطن ما يُمكن اعتباره رؤية أو خطة عمل واضحة لتحريك الملف.[4]
وكانت مونيكا ميدينا المبعوثة الأميركية الخاصة للتنوع البيولوجي والموارد المائية قد تحدثت قبل أسابيع عن دور واشنطن في حل النزاع على المياه، وذكرت أن المبعوث الخاص للقرن الإفريقي، السفير مايك هامر، يعمل جاهدًا لإيجاد حل، ويُعد هامر ثالث مبعوث أميركي يتم تعيينه من قبل إدارة الرئيس بايدن للقرن الإفريقي، وذلك خلال نحو عامين فقط، وهو ما يراه مراقبون دليلًا آخر على عدم امتلاك الإدارة الأميركية تصورًا محددًا للتعامل مع قضايا منطقة القرن الإفريقي، بما فيها ملف سد النهضة.[5]
أما عن تأثير القمة الأمريكية- الإفريقية على مسار مفاوضات السد؛ فلم يكن من المُتوقع بالأساس تحقيق أي تقدم في ملف سد النهضة في هذه القمة التي لها أهداف أمريكية أخرى بالإضافة إلى غياب السودان نتيجة تجميد نشاطه في الاتحاد الإفريقي بعد قرارات مجلس السيادة السوداني بإقالة الحكومة في أكتوبر 2021.[6]
هل تعود المفاوضات قريبًا؟ كانت قضية سد النهضة حاضرةً في كافة المناقشات التي عقدها السيسي مع المسؤولين الأمريكيين خلال زيارته لواشنطن، على هامش اجتماعات القمة الأمريكية- الإفريقية، وعكست عدة بيانات صحفية صادرة عن الجانب الأمريكي عودة الولايات المتحدة إلى قيادة المفاوضات بدعم الموقف المصري في هذا الصدد.
ومن جانبها، أكَّدت إثيوبيا أنها ما تزال ملتزمة بالمفاوضات الثلاثية المتعلقة بسد النهضة. وقال السفير ملس ألم، المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، خلال مؤتمر صحفي حول مختلف القضايا الراهنة في البلاد: إن “إثيوبيا تراعي مخاوف مصر التي يمكن حلها عبر التفاوض والحوار عبر حلول إفريقية ترضي الجميع، وتكون فيها البلدان الثلاثة رابحة”، وأضاف: إن “إثيوبيا مستعدة لاستئناف المفاوضات بهدف الوصول إلى اتفاق بين البلدان الثلاثة حول القضايا العالقة بشأن سد النهضة”.
ولفت إلى أنهم “يتفهمون مخاوف مصر من التأثيرات المحتملة لسد النهضة”، مشيرًا إلى أنه “يجب أن تلبي الحلول تطلعات إثيوبيا من التنمية باستخدام موارد مياه نهر النيل، مع مراعاة مخاوف بلدان المصب التي يمكن التفاهم حولها عبر المفاوضات”.[7]
إلا أنه مع كل تلك التصريحات، وبالرغم من كون الفرصة تُعد سانحة حاليًا لاستئناف المفاوضات ويجب على الدول الثلاث استغلالها؛ حيث التهديد الذي يُمثِّله النزاع في حد ذاته أقل إلحاحًا من ذي قبل، نظرًا للتأثير المحدود المسجل حتى الآن على الأمن المائي لمصر والسودان ورد فعلهما الخافت نسبيًا تجاه الملء الثالث للخزان.
إلا أنه مع ذلك، لا تبدو هناك عودة قريبة للمفاوضات، وذلك لانشغال إثيوبيا والسودان بقضاياهما الداخلية. فالسودان يعاني من عدم استقرار سياسي، وفي إثيوبيا، يواجه رئيس الوزراء آبي أحمد أزمة داخلية عميقة.[8]
الخُلاصة؛ بالرغم من إلحاح ملف المياه على أجندة السياسة الخارجية المصرية في الوقت الحالي، وبالرغم من التحركات المصرية الأخيرة بهذا الصدد؛ إلا أنه لا يبدو أن هناك تطورًا كبيرًا في حلحلة هذا الملف، الأمر الذي يفرض على صانع السياسة المصري ضرورة إيجاد حلول جديدة ربما من خلال استغلال الوضع التنافسي الذي تمر به المنطقة من قِبل القوى الإقليمية والدولية.
حيث تُمثِّل قضية سد النهضة تهديدًا كبيرًا لأمن مصر المائي؛ لاسيما لفتحها الباب أمام باقي دول الحوض للإضرار بحقوق مصر المائية في الوقت الذي تعاني فيه مصر بالأساس من اختلال ميزانها المائي، حيث زيادة الطلب عن العرض.
ويبقى الوضع معلقًا على مدى قدرة مصر للضغط على المفاوض الإثيوبي للتخلي عن تعنته، وعودة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) لإدارة عادلة للسد، لا تضر بحقوق أي منهم.
_______________
[1] “سد النهضة.. تحركات مصرية “لكسر الجمود””، الراكوبة، 1/10/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/NvPMK
[2] محمود سامي، محمد المنشاوي، “السيسي في القمة الإفريقية الأميركية.. ما الذي يمكن أن تقدمه واشنطن في ملف سد النهضة؟”، الجزيرة نت، 15/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/cOMec
[3] رشا عمار، “سد النهضة إلى الواجهة مجددًا… ما آخر التطورات؟”، حفريات، 18/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/zug7A
[4] محمود سامي، محمد المنشاوي، مرجع سبق ذكره.
[5] محمود سامي، محمد المنشاوي، مرجع سبق ذكره.
[6] “خبير يكشف 3 أسباب لعدم إثارة ملف سد النهضة بالقمة الأمريكية- الإفريقية”، فيتو، 14/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/TfWZ5
[7] رشا عمار، مرجع سبق ذكره.
[8] “سد النهضة.. تحركات مصرية “لكسر الجمود””، مرجع سبق ذكره.