تظل لحظة اعتقال رئيس حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، في 17 إبريل الماضي، ليلة 27 رمضان الماضي، لحظة فارقة بتاريخ تونس الحديثة وكما وصفتها صحيفة الجارديان البريطانية، “ذروة التصعيد الانقلابي”، الذي يصيب هذه المرّة رجلاً يتجاوز، برمزيته الفكرية والسياسية، الحالة التونسية، إذ تمنحه مكانته الفكرية كل هذا الحضور في الدوائر الفكرية والسياسية، الإقليمية والدولية على حد سواء، وقد دلت عليه حالة الرفض الكبير والإدانة والاستنكار لعملية اعتقاله وإيداعه السجن من دون أي تهمة واضحة، سوى أنه مناوئ للانقلاب الأسخف في تاريخ الانقلابات في العالم.
وقد ظلّ الغنوشي عدوّاً لدوداً للديكتاتوريات، وصُداعاً حادّاً لها، وأحد أهم أعدائها في الحالة التونسية، حيث شكّل منذ بداية مشواره السياسي، الذي بدأه بتأسيسه “حركة الاتجاه الإسلامي” في العام 1969، في ظل حكم بورقيبة، وتالياً إبان حكم زين العابدين بن علي، وظلّ ثابتاً في موقفه المبدئي الرافض للاستبدادَ السياسي، فاعتُقل وحُكم بالسجن أكثر من مرة، في عام 1981، بعد الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ولكنه خرج منه 1984، ثم سُجن عام 1987، وأُطلق بعدها ليغادر تونس ويظل في المنفى نحو 20 عاماً.
خبرَ الأنظمة الاستبدادية الغبية جيداً، وتمكّن من منازلتها فكرياً وسياسياً على امتداد تاريخه النضالي السياسي، وانتصر في جُل معاركه معها، وتمكّن من صياغة خريطة طريق لشعبه وللحركات النضالية والفكرية، وساهم في تفكيك بنية الاستبداد الفكري والسياسي معاً، وهو ما جعله يحظى بمكانةٍ كبيرة، مفكّراً ومناضلاً في سبيل الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية.
أولا: خلق أزمة حول الغنوشي:
1-افتعال أزمة حول تصريحات الغنوشي:
وعلى ما يبدو أن الأزمة السياسية في تونس تتدحرج نحو منعرج خطير بعد توقيف الغنوشي رفقة عدد من قيادات الحركة، في وقت يستخدم النظام القائم قانون الإرهاب، ويوظف أجهزة الدولة لتلفيق التهم الكيدية ضد خصوم الرئيس قيس سعيد وجاء اعتقال الغنوشي”81 عاما”، لأول مرة منذ ثورة 2011، على خلفية تصريحات له اعتبرتها النيابة العمومية تحريضية.
كما أغلقت قوات الشرطة يوم الثلاثاء 18 ابريل الماضي، مقار حزب النهضة وألغت الاجتماعات السياسية للحزب، وأيضا جبهة الخلاص بعد إغلاق مقارها.
وجاء توقيف الغنوشي عقب ظهوره آخر مرة في أمسية رمضانية السبت 15 ابريل، بمقر جبهة الخلاص المعارضة، ندد خلالها بالنخب المختفية بالانقلابات، قائلا “الانقلابات لا يُحتفى بهاK الانقلابات ترمى بالحجارة”، مضيفا أنه لا يجب التساهل مع تلك النخب أو التعامل معها بسماحة.
وقال أيضا إن “تونس دون إسلام سياسي أو يسار أو أي مكون من المكونات هي مشروع حرب أهلية”، مضيفا أن من احتفوا بما سماه الانقلاب هم انتهازيون وإرهابيون ودعاة حرب أهلية وبدلا من أن يناقش الغنوشي في تحذيراته للنظام، والتي تنطلق من خبرات تاريخية طويلة على الصعيد السياسي والاجتماعي، جرى الزج به بالسجن، حيث يتم قسرا تأميم الرأي العام في البلاد لصالح جهة واحدة لا تريد سماع إلا ما تريده فقط، ولو على حساب الوطن.
2-حرب تحرير وطني ضد المعارضة السلمية!!!
وعلى طريقة الطغاة وعتاة الاستبداد، سعى قيس سعيد لخلق حالة عداء لتبرير أفعاله غير المناسبة للحظة التاريخية التي تمر بها تونس، فزعم أن “هناك من يحاول تفجير الدولة من الداخل لتحويل البلاد إلى مجموعة من المقاطعات”، مشددا “نخوض اليوم حرب تحرير وطني من أجل فرض سيادتنا كاملة ولن نتنازل عن أي جزء منها” واعتبر الرئيس التونسي أن “من يحاولون تعطيل مسار الشعب يجب التصدي لهم”، مستدعيا القضاة لمعركة مسيسة، بقوله “على القضاء أن يلعب دوره في هذه المرحلة التي تعيشها البلاد” وهو ما تحرك القضاء والنيابة العمومية على إثر تلك التصريحات الرئاسية، وقضى بحبس الغنوشي على ذمة التحقيقات، منطلقا من المادة 79 من قانون العقوبات، التي ربما تصل بالغنوشي إلى منصة الإعدام..
ثانيا: أهداف قيس من اعتقال الغنوشي:
1-إلهاء الجماهير عن أزماتها الاجتماعية:
وتشيء مجريات التفاعلات السياسية بتونس، إلى أن قرار اعتقال الغنوشي استهدف التغطية على فشل سياسات قيس سعيد وسوء إدارته الدولة في جميع ملفاتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية، و لإلهاء الجماهير عن قضاياهم الحقيقية المتعلقة بمعيشتها وأمنها ومصيرها ومصير أبنائها في وطنٍ على أبواب الإفلاس وقد تعدّدت إجراءات الرئيس وقراراته التعسّفية بعد استحواذه على الدولة، وتبديل هيئتها ودستورها. ويجمع المتابعون للشأن التونسي على عدم الرضا على سياسة الدولة، وعجزها البيّن عن إيجاد الحلول الناجعة للأزمات المتفاقمة التي تردّت إليها تونس.
ويرى هؤلاء أن هذه الإيقافات والاعتقالات سابقة سياسية تأتي في إطار “التغطية” وإلهاء الرأي العام عن حقيقة هذا العجز وخطورة الوضع المأزوم في البلاد، وفي ظل تصاعد الشكوك بشأن نزاهة ومصداقية مجمل الإيقافات والاعتقالات التي تنفذها الأجهزة الأمنية والقضائية تحت عناوين مكافحة الفساد والتصدّي للتآمر على أمن الدولة منذ إعلان قيس سعيّد إجراءاته في يوليو 2021، عاد إلى السطح شبح الملفّ الأسود للاعتقالات السياسية والمحاكمات في عهود سابقة من تاريخ الدولة الوطنية منذ الاستقلال (1956) بعناوين حتى لو مختلفة، مثل الخيانة العظمى أو التآمر على أمن الدولة أو الفساد وسوء التصرّف.
2- تقويض المعارضة لضمان استمرار الانقلاب:
كما يمثل اعتقال الغنوشي مؤشّرا واضحا، على رغبة سعيد لإنهاء حركة النهضة وحلها ومجمل الأحزاب الفاعلة والمعارضة لسعيّد. ولا يستبعد أن تعود “النهضة” وهذه الأحزاب إلى العمل السرّي. ويذهب أغلب الفرقاء السياسيين إلى اعتبار سجن الغنوشي و منع حزبه من النشاط هو الفصل الأخطر لمسلسل الإيقافات والاعتقالات التي انطلقت موجتها بعد إجراءات قيس سعيّد التي اتخذها بتفعيل الفصل 80 من دستور 2014، وأعلنها يوم 25 يوليو/ تموز 2021، وطاولت شخصيات سياسية بارزة معارضة فُتحت في شأنها ملفات قضائية من الوزن الثقيل، بتهمة التآمر على أمن الدولة، وهي التهمة التي تحاول السلطة تثبيتها … ولكن المعارضة، في مجمل أطيافها وجهات خارجية عديدة، تتمسّك بقوة سردية أن لا علاقة لهذه الإيقافات بالتهم المنسوبة إليها، وأنها مجرّد محاكمات سياسية، غرضها التنكيل بالخصوم ووضع كل معارضي سعيّد قيد الإيقاف، لا سيما في ظل الزمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأصعب للدولة.
ثالثا: دلالات اعتقال الغنوشي:
1-فشل قيس سعيد بإقناع العالم بمساره الانقلابي:
ووفق تقديرات سياسية، فإن موجة قضم الحريات واعتقال المعارضين السياسيين، تعبر عن فشل ذريع للسلطة القائمة في إقناع الدوائر الدولية بأن التدابير الاستثنائية التي اتخذها سعيد يوم 25 يوليو 2021 خطوة تصحيحية لمسار الانتقال الديمقراطي. حيث تركزت قرارات سعيد وسياساته منذ انقلابه، على تركيز السلطات جميعها بيده، واستهداف المعارضين والتضييق على المجتمع المدني، واتباع سياسات اقصائية بصورة متزايدة ويمثل قرار منع الاجتماعات بمقر حركة النهضة وجبهة الخلاص المعارضة دليلٌ على توجه السلطة إلى تضييق الخناق على المعارضين، إلا أن السلطة لن تنجح من خلال توقيف المعارضين، في ظل تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعدم قدرتها على إيجاد حلول لإنقاذ البلاد من الإفلاس وكان وزير الداخلية الجديد كمال الفقي وجّه برقية إلى الولاة ومديري الأقاليم للأمن والحرس ورؤساء المناطق الجهوية للأمن الوطني، بمنع الاجتماعات في مقرات حركة النهضة بكامل البلاد، ومقرات جبهة الخلاص الوطني بتونس الكبرى، وذلك استنادا إلى القانون المتعلق بحالة الطوارئ.
وتنفيذا لهذه الإجراءات، منعت قوات الأمن معارضين ينتمون إلى جبهة الخلاص المعارضة من عقد ندوة صحفية بمقر الجبهة، في حين قال زعيم الجبهة أحمد نجيب الشابي إن ما حصل يدل على انهيار الحريات جراء القمع. وهو نفس ما ذهب إليه القيادي في حركة النهضة رياض الشعيبي ، في بيان إعلامي، “هذا التصعيد انتهاكا صارخا لحرية العمل الحزبي وحرية التنظيم، وضربا للحرية بوصفها أكبر مكسب بعد الثورة”..
2-العودة للقوانين الاستثنائية سيئة السمعة:
وينطلق قيس سعيد في سياساته الاستثنائية على قانون سيئ السمعة، وهو “قانون الأمر رقم 50 لسنة 1978م”، المؤرخ في 26 يناير عام 1978.. وهو القانون الذي أصدره الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، والذي مكنه من إعلان حالة الطوارئ، وأعطي وزير الداخليه كل الحقوق منذ ذلك اليوم.
ومنذ يوم إصدار هذا القانون احتج عليه التونسيون باعتباره غير دستوري ومنافي للتشريعات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وطالب التونسيون على مر العقود بإلغاء هذا القرار لما فيه من ثغرات.
ولم يتم إلغائه من طرف المجلس الوطني التأسيسي، أو من طرف المجالس النيابيه المتتالية بل التجأ اليه الرئيس الباجي قائد السبسي وقت رئاسته، وذلك على الرغم من أن السبسي نفسه كان أول من عارض القانون وقت صدوره في عام 1978، لتعارضه مع الدستور ومبادئ القانون، لذلك فإن وزير الداخلية الحالي التجأ إليه، لأنه لم يجد شيء يسعفه سوى أمر سيء السمعة اتخذ في ظروف دموية مشهود بها.
3–خطأ استراتيجي يشعل الغضب الجماهيري:
ورغم تميّزه باللاعقلانية خطابا وسلوكا في أغلب الأحيان، فقد كان الظن يتجه إلى أنه لن يرتكب بعض الحماقات، من قبيل الخطايا الكبرى التي ستزيد من التضييق على البلاد وخنق شرايينها المالية والاقتصادية، فكان اعتقال الغنوشي أحد أهم هذه الأخطاء التي أسأت كافة الدوائر المهتمة بالديمقراطية بالداخل والخارج..للمطالبة باحترام الحقوق والحريات وضبط الأداء السياسي والأمني لنظام تسلطي وتثير تلك الممارسات الغضب الجماهيري وتدفع نحو مزيد من التأزيم، وسط بيئة مضطربة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي .
4- خسارة للمجتمع التونسي بإقصاء فصيل سياسي متوازن:
وقد أثبت الغنوشي وحركة النهضة طوال السنوات الماضية تجاوزهم نظريات إسلاميين تقليديين كثيرين وسردياتهم في علاقتهم بالدولة والعمل السياسي المنفتح على الآخر المختلف، وتركيزهم على مقاصدية النص الإسلامي منطلقات رئيسية للفعل والتحرّك، وأهم هذه المقاصد تحقيق حرية الأفراد والشعوب.
وقد كان هذا التوجّه مدعاة للتهجّم على “النهضة” من جهات مختلفة، أهمها التيارات الدينية والعلمانية المتشدّدة مع التشكيك في نياتها فكلاهما وجهان لعملة واحدة في ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وتَمثُّل خطر توسّع مثل هذا الخطاب القريب من هوية عموم الشعب التونسي المحافظ، إن أحسن حامله تسويقه والعمل به والبناء عليه، والذي يدفع قوى التطرّف والغلو للهوامش والعزلة المجتمعية والسياسية.
وعلى الرغم من أن أخطاء “النهضة” في الترتيبات العملية للحكم على مستوى السياسات والتحالفات التكتيكية لا ينفي عنها النجاح الاستراتيجي النسبي في تقديم نموذج مغاير للحركات الإسلامية في علاقتها بالدولة والمجتمع والنظام الدولي، والذي كان يفترض مزيدا من الاهتمام النظري والبحثي والاستثمار السياسي لإنتاج أحزابٍ وطنية ناجعة، بقدر ملامستها هموم الناس تلامس هويتهم وكينوناتهم.
5-التمهيد لإعادة تونس لزمن بورقيبة وبن علي:
ويخشى أن تعيد إجراءات سعيد القمعية والتوسع في المحاكمات المسيسة، العجلة للوراء لسنوات القمع السلطوي الوحشي بزمن بورقيبة وزين العابدين بن علي وبورقيبة مثلا وبعد سنة وبضعة أشهر من استقلال البلاد، ألغى النظام الملكي ليعلن المجلس التأسيسي يوم 25 يوليو 1957 النظام الجمهوري، ليصبح رئيسا للجمهورية الذي بادر فورا بوضع “باي تونس” الأمين باي صحبة ولي عهده وأبنائه الثلاثة وصهره رهن الإقامة الجبرية، ثم ينقل “الباي” مع زوجته سنة 1958 إلى الإقامة بمنزل متواضع مع مصادرة كل أملاكه ويذكر التاريخ أن باي تونس الأخير، والذي استقلت البلاد في عهده من الاستعمار الفرنسي، مات فقيرا مُعدما في ظروفٍ غير إنسانية أما الصراع البورقيبي اليوسفي (صالح بن يوسف) فكان الفصل الثاني من محاكمات دولة الاستقلال المعارضين.
ولعل محاكمة وزير بورقيبة الأقوى، أحمد بن صالح، كانت من أبرز تلك المحاكمات ذات الطابع السياسي، فقد قدّم بورقيبة وزيره الاشتراكي كبش فداء بعد فشل التجربة الاشتراكية خلال الستينيات التي نفذها بن صالح بمباركة النظام بورقيبة شخصيا. وتتالت المحاكمات السياسية لتشمل مجموعة “برسبكتيف” والعامل التونسي، وصولا إلى أحداث يناير 1978 والصدام الدموي بين السلطة والاتحاد التونسي العام للشغل، والذي تم بموجبه اعتقال الأمين العام للاتحاد، الراحل الحبيب عاشور.
وتكرّرت محاكمة النقابيين في ما عرفت بأحداث الخبز سنة 1984، ومعلوم أن المحكمة العليا تعاطت مع تلك الأحداث كعمل إجرامي، يهدف إلى ضرب استقرار الدولة والتآمر على أمنها، وهي تهم خطيرة، وبعيدة كل البعد عن ممارسة الحق النقابي. ولعل محاكمة رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي (1986)، الذي أسعفه هروبه إلى الجزائر، ومنها إلى باريس، ليعيش في المنفى، ورفاقه، أمثال أحمد القديدي وأحمد بنور، تبقى محاكمة سياسية سوداء في تاريخ بورقيبة وغيره.
ومع انقلاب 7 نوفمبر 1987 الذي قاده الوزير الأول آنذاك ووزير الداخلية زين العابدين بن علي، بدأ فصل آخر من الاعتقالات السياسية، استهدف وزراء بورقيبة والشخصيات الأقرب له، منهم محمد الصياح ومنصور الصخيري ومحمود بن حسين ومحجوب بن علي.
ورغم الوعود الخلابة للتغيير المبارك، كما كان يُطلق عليه، لم تمض سنوات قليلة حتى برز الوجه الحقيقي لبن علي تضييقا على الحرّيات، ورصدا ممنهجا لخطوات المعارضين لنظامه البوليسي الذي فتح عهدا أسود آخر من المحاكمات السياسية، حيث جرى إيقاف شخصيات سياسية وقيادات أمنية وعسكرية بتهم مختلفة، ولكن أغلبها كانت إيقافات تحفظية بعيدة عن تهم الفساد باعتبار نظافة اليد التي كانت تميّز بورقيبة ووزرائه وتعتبر أحداث الحوض المنجمي في 2008 من الأحداث البارزة التي مهّدت لثورة 2011، وسرّعت بسقوط نظام بن علي الذي استغل تلك الأحداث، وهي في الأصل ذات بعد حقوقي نقابي، ليحاكم نشطاء وصحفيين و نقابيين بسبب احتجاج على خلفية مطالب نقابية.
إلى جانب، سنوات النار التي تعرّض لها الإسلاميون سجنا وتهجير وتنكيلا في العهدين البورقيبي والنوفمبري، ويخشى أن يعيد التاريخ نفسه، إذ يقبع اليوم في السجون كثيرون من رموز حركة النهضة، أبرزهم رئيسها راشد الغنّوشي وقادتها مثل رئيس الحكومة السابق علي لعريض ونور الدين البحيري ومحمد بن سالم.
رابعا: انعكاسات اعتقال الغنوشي:
1-زيادة الاحتقان السيسي بالبلاد:
ويعد اعتقال الغنوشي، انتقاما متعسفا من السياسي الأشهر في تونس، بسبب مواقفه المعارضة للحكم الفردي المتشكل في تونس إذ للغنوشي مواقف وطنية لا تنسى طوال 50 عاما من النضال ضد الدكتاتورية ، بينها عقدان في المنفى، ارتبط اسمه خلال العقد الماضي بتجذير الانتقال الديمقراطي وتكريس مبادئ التداول على السلطة في تونس ومن ثم فإن اعتقال الغنوشي، سيزيد الأزمة السياسية في البلاد ، بصورة أكثر تعقيدا وانسداد في ظل توسع دائرة الاعتقالات ضد النشطاء السياسيين المعارضين للحكم الفردي للرئيس الحالي.
2-دعم وإحياء التيارات المتشددة وتشجيع التطرف:
ووفق الكاتب الصحفي الأمريكي ديفيد كيركباتريك، فإن اعتقال الغنوشي يعد مكسبا للمتطرفين الذين لا يؤمنون بصناديق الاقتراع مقابل خسارة للغرب، واصفا الرئيس التونسي قيس سعيد بأنه “معكوس الغنوشي” كيركباتريك قال، في مقال بمجلة “النيويورك” (The New Yorker) الأمريكية أن “تونس مهد الربيع العربي، كان آخر مكان فشل فيه” مضيفا أنه “بعد عقد من الحرية والديمقراطية، وفي عام 2021، قام سعيد بحل البرلمان ثم بدأ في فرض دستور سلطوي واعتقال منتقديه، ضمن إجراءات استثنائية بدأ فرضها في 25 يوليو 2021 وبدأ سعيد، في 2019 فترة رئاسية تستمر خمس سنوات، في تجاهل دعوات المعارضة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ويقول إن إجراءاته الاستثنائية “ضرورية وقانونية” لإنقاذ الدولة من “انهيار شامل” وتذهب دوائر غربية عديدة إلى أن “سجن زعيم مثل الغنوشي يمثل أيضا نكسة للعالم الأوسع”.
أما بالنسبة للذين يتبنون العنف، فإن سجنه هو دليل جديد على عدم جدوى صندوق الاقتراع، وإسكات صوته خسارة للغرب أيضا ويعد قيس سعيد هو معكوس الغنوشي، فلقد نبذ أي فلسفة أو فصيل سياسي معروف، وينتقد الغرب بشكل روتيني وصندوق النقد الدولي، الذي تحتاج إليه تونس الآن بشدة، ويمنح دستور سعيد الذي تم إقراره عبر تمثيلية فاشلة في يوليو 2022، الحكومة السيطرة على التفسير والتعاليم الإسلامية، كون سعيد يمتلك الحقيقة الكاملة.
3-ضرب التيار المعتدل بالبلاد في مقتل:
وفي مقابل تشجيع التيارات المتشددة على التمدد في الفضاءات التونسية، تتزايد مخاطر ضرب واستهداف نهج فكري وطني معتدل وتقويض لأنساق جديدة من النظريات والممارسات السياسية ذات المرجعية الإسلامية المقاصدية والتقدّمية، وما يطلق عليه الإسلام الديمقراطي الذي يؤمن بصناديق الاقتراع وحرية الرأي والتعبير سبيلا لبناء المجتمعات، وما يستتبعه ذلك من فسح المجال أمام التيارات العنيفة والمتطرّفة.
4-اتساع استهداف باقي المعارضين غير الإسلاميين:
ولعل من ضمن المخاطر أيضا، اتساع دائرة الاستهداف العميق لكل المعارضين التونسيين، وليس الاسلاميين فقط، حيث لن تتوقف اتهامات الارهاب عند الاسلاميين وحدهم، بل ستصل كافة التيارات التي قد تسكت اليوم عن الإرهاب السلطوي الذي يمارس ضد الغنوشي وتياره وقد فشلت المعارضة السياسية لانقلاب 25 يوليو في توحيد صفوفها ضد تغوّل قيس سعيّد، رغم ما تمثله إجراءاته من تهديد للحرّيات السياسية وخطورتها على المشهد الحزبي والمدني، من دون فرز أو استثناء، خصوصا بعد تصريحات متتالية لأنصاره ودعوتهم إلى إلغاء الأحزاب، التي يطلقون عليها “الأجسام الوسيطة” بين الدولة والشعب عدم إدراك خطورة هذا الخطاب الشعبوي المصاحب لترسيخ سلطة الأمر الواقع جعل من المعارضة المشتتة لقمةً سائغةً بين فكّي النظام البوليسي الجديد الذي لم يتوانَ في تحويل الخلافات السياسية إلى ملفٍّ أمني وزج شخصيات ونواب ونشطاء من مختلف العائلات السياسية في السجون. منهم الغنوشي، وهو الذي جرى اتهامه قبل سنوات، من بعض خصومه بالضلوع في الإرهاب وتسفير شباب تونسيين إلى سورية زمن الثورات، وغيرها من التهم الكبيرة، وها هو يُسجن بسبب موقف ورأي يقع تحريفهما واجتزاؤهما لعزله داخل زنزاته وإخماد صوته، في حين تقع محاكمة بعض خصوم الأمس بتهم الإرهاب.
ولن يكون الغنوشي الأخير في سجل المعتقلين وسجناء الرأي والفكر، كما أن تهمة الإرهاب لن تكون حكرا على الإسلاميين، إذا لم تلتقط بقية المعارضة الرسالة، أن لا حدود لبطش قيس سعيّد ولا ضوابط، وأنه يستغل هذه الفرقة ويغذّيها باستدعائه الخلافات القديمة بين الأحزاب في بعض خطاباته، ليسهل عليه الفتك بهم جميعا كلّ على حدة..
5–إعادة التفاف أنصار النهضة حول “الشيخ”:
وبطريقة غير مباشرة، أعاد حبس الرئيس السابق للبرلمان، توطين صورة “الشيخ” في العقول النهضاوية والمتعاطفين معها، حتى الذين أغضبتهم مخرجات مؤتمر الحركة أخيرا (المؤتمر العاشر)، أو من يستثنيهم المؤتمر المقبل، فقد بادر هؤلاء منذ الساعات الأولى لخبر الإيقاف بإعلان تجاوز خلافاتهم والدعوة إلى التحشيد خلف زعيمهم التاريخي، ليبقى الغنّوشي بذلك رمزا سياسيا والطرف الأهم في المشهد السياسي والورقة الأصعب على طاولة قيس سعيّد.
6- جر تونس نحو احتراب أهلي:
ومن المرجح مع استمرار سياسات سعيد القمعية، ستدخل تونس في أتون حربٍ أهلية، وهو ما يقرب تونس لتكون دولة فاشلة، على نهج كثير من الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي، وقامت ضدها ثورات مضادة، كما في اليمن ومصر والسودان وليبيا، حيث دخلت في حربٍ داخلية مدمّرة، أو نُكبت بحاكم عاقب أبناء شعبه لأنهم تجرأوا وخلعوا حاكماً.
وقد أصيبت معظم الدول العربية بالعسكر وفلول النظام القديم، من أدوات الثورة المضادّة، فانقضّوا على الحكم وكرّسوا عسفهم.
وها قد جرّوا البلاد إلى مواجهاتٍ دمويةٍ قد تضعها على سكّة الحرب الأهلية لتدفع ثمن ثورتها، مثلما دفعت الدول التي سبقتها إلى الثورة أما بالنسبة إلى ممارسات سعيِّد التي يمكن أن تجرّ البلاد إلى حربٍ أهلية كما حذّر الغنوشي، فإن نظامه الذي ولَّد المشكلات الجديدة بعدما فاقم المشكلات السابقة وجعلها مزمنة، قد يدفع الشعب عندما تتوقّف لديه قدرة الاحتمال، إلى الثورة من جديد.
وفي هذه الحالة، لن يقابله سعيِّد سوى بالنار والدماء، ليجرّ البلاد إلى عنفٍ وعنفٍ مضادّ، يفتح أمامها أبواب المجهول وقد تشهد محاكمة الغنوشي التي قاطعها أكثر من مرة، حكما بالاعدام، اذ أن مدار القضية التي يحاكم على أساسها، البند الذي اعتُقل الغنّوشي وفق مقتضياته، وهو المادة رقم 72 من قانون العقوبات، نجد أنه ينصّ على الإعدام عقوبةً لمن يهدف إلى تغيير شكل الحكم.
وإذا افترضنا أن نظام سعيِّد قرر المضي في التحقيقات على أساس هذا البند، ووصل إلى إدانة الغنّوشي، وحكم عليه بالإعدام، قد تنفجر عندها ردود أفعال أبناء الشعب التونسي، من مناصري “النهضة” أو حتى من منافسيها في الأحزاب الأخرى، يسارية كانت أم قومية، لمنع تنفيذ ذلك الحكم في وقتٍ قد يصرّ فيه النظام على تنفيذه، وربما ينفذه. فنظامٌ كهذا، لا يرى في هذه الحادثة إلا فرصةً لنشر الخوف، وللتخلّص من معارضٍ آخر في نفس الوقت.
7-توتير العلاقات المغربية الجزائرية:
ولم تقتصر الأزمة التونسية عند اعتقال المعارضين التونسيين، بل امتدت لتثير أزمة جديدة بين الجزائر وتونس من جهة، وبين الجزائر والمغرب من جهة أخرى حيث روجت بعض المواقع وحسابات التواصل الاجتماعي وموقع “مغرب اننتلجنتس” لتقارير تفيد بتنسيق الجزائر وتونس لعملية اعتقال الغنوشي، مستغلة العلاقة بين النهضة التونسية وأحزاب جزائرية كمجتمع السلم المعارضة للرئيس عبد المجيد تبون، وحركة البناء المؤيدة له، وهو الأمر الذي نفته مصادر جزائرية تحدثت لقناة الشروق نيوز، وجريدة الخبر الجوائرية، مؤكدة علمها بالاعتقال من وسائل الاعلام واتهمت التقارير الاخبارية الجزائرية المغرب بنشر مثل تلك الاخبار، لتعكير العلاقات الجزائرية بالأطراف التونسية، إلا أن الغنوشي يتمتع بعلاقات طيبة مع السلطات الجزائرية، حيث كان قد اقام في الجوائر لمدة عامين من 1990 حتى 1991، اثناء منفاه وهروبه من بطش زين العابدين بن علي، وبعد ثورة 2011، استقبله الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة 4 مرات، لما يمثله من ثفل سياسي وعامل استقرار بين بلدان المغرب وأرادت الأطراف المتصارعة بمنطقة المغرب العربي استغلال ورقة الغنوشي، لزيادة التأزيم السياسي، الذي تشهده النطقة، بفعل توتر العلاقات المغربية الجزائرية من ناحية، والعلاقات المغربية التونسية بعد استقبال تونس لرئيس جبهة البوليساريو في تونس خلال القمة الإفريقية اليابانية مؤخرا، وهو ما دفع المغرب لتعليق مؤقت لعلاقاتها مع تونس ومقاطعة عدة فعاليات رياضية بتونس واتهمت اطراف جزائرية تلاعب قوات “المخزن” المغربية وإسرائيل بتعكير صفو العلاقات بين الجزائر وتونس تلك الاتهامات تصب مزيد من الزيت على نيران الخلافات بمنطقة المغرب.
8- تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية:
ومع انغلاق أفق نظام سعيد، الذي بدأ متشددا في خصوماته مع الجميع، سواء بترديد اتهامات بالخيانة للغرب ودول الإقليم، وتحديه المؤسسات الدولية المانحة رغم الازمة الاقتصادية الطاحنة في البلاد، ورفض طروحات صندوق النقد الدولي لاقراض بلاده، واعلان ان التونسيين يعتمدون على أنفسهم، على الرغم من مكافحة رئيسة وزرائه نجلاء بودين، ووزير الاقتصاد والتخطيط مع مسئولي الصندوق لإتمام الصفقة، وهو ما يمثل قمة الازدواجية والعته السياسي، في وقت تتعقد فيه الأمور على أرض الواقع التونسي وهو ما يكشف عنه رفع وزراة الخارجية الأمريكية، لميزانيتها لدعم تونس للعام 2024 بنسبة 70%ـ في دلالة واضحة على حجم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد، ووفق تخليل ، لدانيال برومبرج، الباحث بالمركز العربي واشنطن دي سي”، فإن الأزمة في كل مكان بتونس، مستشهدا، بالعديد من الوقائع، منها: إشعال لاعب تونسي شهير النار في نفسه، ونقص حاد في المياه، وانخفاض قيمة السندات والدينار التونسي، وارتفاع الديون الخارجية التي تثير مخاوف بشأن التخلف عن السداد… كل ذلك يمكن أن يبشر بلحظة من الحقيقة الأليمة للاقتصاد المنهك والسكان الذين يكافحون من أجل البقاء في يوم آخر لكن مع معاناة المزيد من التونسيين من تقلبات الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، يواصل الرئيس سعيّد الحديث عن أعداء متخيلين وحرب تحرير ضد الغرب!!.
خاتمة:
ومع استمرار سجن الغنّوشي والمعارضين، تزداد فرص الاشتباك السياسي تعقيدا داخليا وخارجيا. ولا أحد يمكن أن يتكهن بما سيكون عليه الوضع السياسي والاجتماعي في الأيام المقبلة في تونس، إذ ما زالت ردود الفعل الداخلية والخارجية تتواتر تجاه سجن الغنّوشي، تتقاطع سياسيا وإقليميا بين رفض اعتقاله والدعوة الفورية إلى الإفراج عنه، وعن كل الشخصيات المعارضة في تونس، ومحاولات ترميم الهوة بين سعيّد ومعارضيه تجاوزا لتعقيدات الأزمة بالحوار، والعودة إلى الديمقراطية، وهو أمرٌ شبه ميؤوس منه، إذ سبق أن أعلن سعيّد رفضه الحوار والخشية أن يمضي سعيّد في طريقه التي صاغها بنفسه منذ 13 ديسمبر 2021، ليتطاول قتل الأفق السياسي في تونس، وهو ما ينذر بمزيد من الأزمات والقلاقل الاجتماعية والسياسية، بجانب الأزمة الاقتصادية المتصاعدة