تسارعت الأحداث في السودان مع نهاية الأسبوع الثاني من شهر إبريل 2023، حتى وصلت إلى المواجهة العسكرية الشاملة بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تمَّ فيها استخدام كل أنواع الأسلحة الثقيلة البرية والجوية، وسقط عشرات القتلى ومئات المصابين، في وقتٍ كانت تعاني فيه البلاد من حالة فوضى وعدم استقرار سياسي واقتصادي منذ الإطاحة بالنظام السابق برئاسة عمر البشير في 2019. الاشتباكات في السودان، جاءت بعد أيام من فشل التوقيع على اتفاق سياسي نهائي، ينهي الأزمة في البلاد.
حيث تم الإعلان مطلع إبريل الجاري عن التوقيع عليه في 5 إبريل، لكن فشلت عملية التوقيع، لتدخل الخرطوم في منتصف إبريل في طريق آخر. ويعود السبب الرئيسي لعدم توقيع الاتفاق إلى الخلافات بين البرهان (رئيس مجلس السيادة والقائد الأعلى للقوات المسلحة) وحميدتي (نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع) حول شروط دمج قوات الدعم السريع في الجيش.
فماذا كانت خلفيات الأزمة؟
وما هي المواقف المختلفة منها؟
وكيف يُمكن رصد تداعياتها وسيناريوهات المستقبل
تلك هي التساؤلات التي سنحاول الإجابة عنها خلال هذا التقرير..
أولًا: خلفيات الأزمة في السودان:
سبقت المواجهات مجموعة من الأحداث التي مثَّلت بدورها خلفيات لتفجُّر الأوضاع فيما بعد، والتي يُمكن التعرض لها من خلال النقاط التالية..
1. خلفيات سابقة تخص الخلافات بين الجيش وقوات الدعم السريع[1]: منذ اليوم الأول لانقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي نفذته القوتان ضد السلطة المدنية، بدا أن الخلافات تكبر بينهما. حيث اعتذر حميدتي عما عدَّه خطأ المشاركة فيه، كما واصل حملة انتقادات واضحة لفشل الانقلاب في تقديم أي شيء يذكر بعد نحو عام ونصف من تنفيذه.
وبمجرد أن اقترحت نقابة المحامين السودانيين، منتصف العام الماضي، مسودة مشروع دستور انتقالي، شكَّل لاحقًا أساسًا لعملية التسوية السياسية بين عسكر الانقلاب والمدنيين، سارع حميدتي للترحيب بها ومساندتها ودعمها، فيما تحفَّظ عليها الجيش لبعض الوقت. لكن تحت ضغط الأطراف الدولية، ووساطة لجنة رباعية مُكوّنة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، قبل الجميع بالمسودة، بمن فيهم الجيش، كأساس للنقاش.
وتُوّجت فيما بعد بالتوقيع على اتفاق إطاري مبدئي بين المدنيين والعسكريين في 5 ديسمبر الماضي، واشترط الاتفاق أن يجرى تسليم السلطة للمدنيين بعد التوافق على قضايا: تفكيك النظام السابق، العدالة والعدالة الانتقالية، حل أزمة شرق السودان، تقييم اتفاق السلام وإصلاح قطاع الأمن والدفاع، وتكوين جيش واحد بدمج الدعم السريع فيه.[2]
وكان من اللافت للانتباه في ذلك الاتفاق هو توقيع الجيش كطرف وتوقيع قوات الدعم السريع كطرف آخر، عكس ما حدث في السابق من اتفاقيات بتوقيع أي قيادي عسكري نيابةً عن كل المكون العسكري. وقد أظهر حميدتي دعمًا قويًا للاتفاق الإطاري ولكل عملية التسوية المسماة بالعملية السياسية، فيما أظهر قادة الجيش في أكثر من مناسبة تحفظًا عليها بسبب ما قالوا إنه ضعف قاعدتها السياسية ورفضها من قِبل بعض القوى السياسية.
وخرج الطرفان في حرب كلامية ركَّز فيها الجيش على موضوع الدمج، فيما ركَّزت الدعم السريع على مطالبة قادة الجيش بتسليم السلطة للمدنيين وفقًا لما ينص عليه الاتفاق الإطاري. وفي منتصف مارس الماضي، نجحت وساطات إقليمية ومحلية في جمع قادة الجيش والدعم السريع، ليوقّع الطرفان على اتفاق جديد يُحدِّد أُسس ومبادئ الإصلاح الأمني والعسكري، ويسمح بقيام ورشة خاصة بالإصلاح الأمني والعسكري لتناقش تفاصيل ما تم الاتفاق عليه، ووضع توصيات لإدراجها ضمن الاتفاق النهائي في الدستور، وكذلك تعمل بها الحكومة المدنية الانتقالية المقبلة كواحدة من برامجها في فترة الانتقال.
وعُقدت الورشة في الفترة من 26- 29 مارس الماضي، وفيها قدّمت قوات الدعم السريع ورقة لإجراء إصلاحات عميقة في الجيش قبل البدء في الدمج، بما يشمل تجريم الانقلابات العسكرية وتجريم التدخل في العمل السياسي، ومراجعة العقيدة العسكرية وأسس القبول في الكليات الحربية، وضمان تمثيل كل أقاليم السودان في الجيش، وتطهير الجيش من العناصر الأيديولوجية والمُسيَّسة. لكن في اليوم الأخير من الورشة، انسحب ممثلو الجيش بحجة أن الورشة لم تحسم كل المواضيع الضرورية، ومنها المدة المُحددة لدمج قوات الدعم السريع، قبل أن يعود الجيش ويؤكِّد التزامه بالعملية السياسية واستعداده لمواصلة النقاش عبر اللجان الفنية في موضوع الإصلاح الأمني والعسكري.[3]
* نقاط الخلاف المحورية في التسوية السياسية بين الفريقين: ويُعد تعثر الاتفاق على دمج قوات الدعم السريع والمدى الزمني أبرز نقاط الخلاف بين الجيش والدعم السريع، إذ يطالب الجيش بمدى زمني مُحدَّد لا يتجاوز فترة الانتقال لعملية الدمج وفق جداول زمنية واضحة، في حين تطالب قوات الدعم السريع بفترة زمنية للانتقال تصل إلى عشر سنوات. وتوجد قضايا خلافية أخرى، مثل وضعية قيادة القوات والتجنيد لقوات الدعم السريع، وأيضًا إصلاح الجيش وإبعاد أنصار النظام السابق عنه.[4]
وبالتحديد كيفية تكوين هيئة قيادة مشتركة، ومن يقودها، وذلك في أولى خطوات دمج الدعم السريع في الجيش، المنصوص عليها في اتفاق 5 ديسمبر الإطاري بين العسكر والمدنيين. وهذا النص انتهزه الجيش كفرصة ثمينة لاحتواء الدعم السريع، واشترط وضع جداول زمنية واضحة له وتنفيذها، لاستمراره في التسوية السياسية، ما أخّر لمرتين التوقيع على الاتفاق النهائي. والأمور تعقَّدت عند نقطة تشكيل هيئة قيادة مشتركة، والتي جاء آخر المقترحات حولها يقضي بتشكيلها من 6 من القيادات: 4 من الجيش و2 من الدعم السريع ويرأسها قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان. ووافقت قوات الدعم السريع على المقترح من حيث المبدأ، لكن قائدها الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) رفض قيادة البرهان للهيئة، واقترح أن يرأسها رئيس مجلس السيادة المدني أو رئيس الوزراء المدني.
وكان أبرز ما طُرح من حلول هو تأجيل النظر في قضية الدمج لما بعد الانتخابات ليُنفَّذ عبر حكومة منتخبة ومعه كل قضايا الإصلاح الأمني والعسكري بما فيها الترتيبات الأمنية الخاصة بالحركات المسلحة. حيث أي إصرار على إكمال العملية السياسية بوضعها الحالي، سيؤدي إلى فوضى واسعة.[5] وبالرغم من أن قضية الدمج كانت هي النقطة الرئيسة في الخلاف، إلا أنها فجرت نقاطًا خلافية أخرى بين العسكريين، حتى بات الخلاف بين العسكريين خلافًا على التقديرات السياسية.
* قوة الجيش السوداني مقارنةً بالدعم السريع: تأتي القوات الجوية السودانية، في المرتبة رقم 47 بين أضخم القوات الجوية في العالم، وتمتلك 191 طائرة حربية تضم 45 مقاتلة، 37 طائرة هجومية، 25 طائرة شحن عسكري ثابتة الأجنحة، 12 طائرة تدريب. بينما تأتي القوات البرية السودانية في المركز 63 عالميًا، وتشمل قوة تضم 170 دبابة، 6 آلاف و967 مركبة عسكرية، ونحو 20 مدفعًا ذاتيًا، ونحو 389 من المدافع المقطورة، ونحو 40 راجمة صواريخ.
ويأتي الأسطول السوداني في المرتبة 66 عالميًا، بقوة تضم 18 وحدة بحرية، بينما تُقدَّر ميزانية دفاعه بنحو 287 مليون دولار. أما الدعم السريع فيُقدِّر محللون عدد قواتها بنحو 100 ألف مقاتل لهم قواعد ومعسكرات منتشرة في أماكن عدة في البلاد. تمتلك الحركة المسلحة ثكنات عسكرية داخل الخرطوم ومدن أخرى بالبلاد، كما أن لها مقار مختلفة بالسودان منها مقر تابع سابقًا لجهاز المخابرات السوداني ومقار تابعة لحزب المؤتمر الوطني المنحل وتتواجد بكثافة في إقليم دارفور والمناطق الحدودية مع دول الجوار الإفريقي. لا يمكن بدقة تحديد التسليح والعتاد العسكري لتلك القوات، بينما تظهر الاستعراضات العسكرية التي تنظمها بين حين وآخر امتلاكها مدرعات خفيفة وأعداد كبيرة من سيارات الدفع الرباعي من طراز “لاندكروز بك آب” مسلحة، فضلًا عن أنواع مختلفة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة.[6]
2. خلفيات مباشرة للأزمة: في 6 إبريل الذي يُعد تاريخًا رمزيًا للحركة المدنية في السودان -ذكرى انتفاضات عامي 1985 و2019 التي انتهت بالإطاحة بزعيمين استوليا على السلطة في انقلابين-، دعا محتجون في السودان، ينضوون تحت لواء ما يعرف بـ “لجان المقاومة”، إلى تنظيم احتجاجات للمطالبة بحكم مدني، وإنجاز التحول الديمقراطي في البلاد. وطالبت هذه اللجان في بيان المتظاهرين بالتوجه إلى شارع المطار بوسط الخرطوم، ورفع شعارات تُندِّد بما وصفته بـ “استيلاء الجيش على السلطة”.
كما دعت قوى الحرية والتغيير إلى احتجاجات سلمية على مستوى البلاد من أجل “الحرية والسلام والعدالة”، ورفضًا لعودة “النظام القديم”، بعد أن وجد العديد من كبار المسؤولين من عهد البشير أدوارًا لهم في الإدارة الحالية.
واستبقت السلطات الاحتجاجات؛ فأعلنت عن عطلة رسمية احتفاءً بانتفاضة عام 1986، التي أسقطت نظام الرئيس السابق جعفر النميري. وشهدت أجزاء من العاصمة الخرطوم وضواحيها حضورًا عسكريًا كبيرًا في هذا اليوم، مما أدى إلى إغلاق الجسور على نهر النيل. وجاءت الدعوات إلى التظاهر، في وقت أُعلن فيه عن تأجيل التوقيع على الاتفاق النهائي بين قادة الجيش والقوى المدنية. وكان الموعد الأصلي للتوقيع على الاتفاق، قد حُدِّد في الأول من إبريل، قبل أن يُرجئ بفعل خلافات بين الجيش وقوات الدعم السريع، بشأن آليات ومواعيد دمج هذه القوات في صفوف الجيش.[7]
وفي هذا التوقيت كانت هناك عدة أمور قد ساهمت في تصاعد إحساس (حميدتي) بالخطر، ومنها إعادة إعلان البرهان عن قوة تدخل سريع من داخل الجيش، وكشفه عن امتلاك طراز حديث من المُسيّرات التركية، ثم قيامه بزيادة عدد المدرعات حول مبنى الإذاعة والتلفزيون، وأحياء عسكرية، بالإضافة إلى عنصر خارجي، بعد أنباء نشرتها قوى سودانية، قريبة من حميدتي، بوجود وحدات عسكرية واستخباراتية مصرية قرب مطار مدينة مروي شمال البلاد. في المقابل فقد قام الدعم السريع بمضاعفة قواته حول مبنى الإذاعة والتلفزيون، ودعمها بعشرين عربة مزودة بمضادات للدبابات، واستجلب قوات ضخمة من دارفور وكردفان توزَّعت على 4 معسكرات حول ولاية الخرطوم، كما نشر أعدادًا كبيرة من الجنود حول منطقة المطار.
وسارع الجيش إلى اتهام الدعم السريع بالتحشيد والانتشار والتحرك داخل العاصمة وعدد من المدن دون موافقة قيادة الجيش، فيما طالبت قوى مدنية، مثل تجمع المهنيين بتغليب صوت العقل، ودعا حزب الأمة القومي إلى اجتماع عاجل لقادة الجيش والدعم السريع والقوى السياسية المدنية والحركات المسلحة، مُحذِّرًا من أن الوضع الأمني قريب من الانزلاق.[8]
3. تصاعُد الأزمة: بدأ تصاعد الأزمة مع تحركات لقوات الدعم السريع التي حركت قوات ضخمة في مدينة مروي شمال البلاد، وقامت باستدعاء قوات من مناطق أخرى لمواجهة الموقف، وتم طلب الانسحاب من هذه القوات خلال 24 ساعة، وإلا فسيتم إجبارها على ذلك من قِبل الجيش السوداني.
واتهم الجيش الدعم السريع بتحريك قوات في العاصمة والولايات دون إخطاره وبشكلٍ مُخالف لمهام ونظام عملها، محذرًا من أن البلاد تمر بمنعطف خطير؛ مجددًا تمسكه بما تم التوافق عليه في دعم الانتقال السياسي. مع وصول تعزيزات للجيش السوداني إلى مروي. على الجبهة الأخرى للتوتر، قالت قوات الدعم السريع إنها قوات قومية تعمل في إطار القانون بتنسيق وتناغم تام مع قيادة القوات المسلحة وبقية القوات النظامية الأخرى، معتبرة وجودها بالولاية الشمالية يأتي في إطار تأدية مهامها وواجباتها التي تمتد حتى الصحراء. مشيرةً إلى أنها تنتشر وتتنقل في كل أرجاء الوطن، من أجل تحقيق الأمن والاستقرار، ومحاربة بعض الظواهر والجرائم.[9]
وفي دارفور بغرب السودان توسَّعت دائرة العنف؛ إذ هاجم مسلحون عددًا من المناطق، لدوافع عرقية، وهو ما أسفر عن مقتل عدد من السكان وتشريد بعضهم، وأعلنت ولاية غرب دارفور حالة الطوارئ لمدة شهر على خلفية الأحداث الأخيرة وحظر التجوال الليلي في جميع أنحاء الولاية لمدة أسبوعين. كما شهد إقليم دارفور هجمات على ضباط في الجيش وقوات أمنية، أدَّت إلى مقتل ضباط في الجيش والشرطة والدعم السريع واعتداء على مركبات عسكرية.
وتداولت وسائل إعلام سودانية أن قوات الدعم السريع قامت بنقل مركبات من مناطق حدودية إلى العاصمة الخرطوم، ونقلت صحيفة سودان تريبيون عن مسؤول في قوات الدعم السريع لم تسمه أن المركبات كانت متمركزة في محلية الزُرق على الحدود مع ليبيا وكانت في طريقها إلى الخرطوم كجزء من خطط قوات الدعم السريع لنشر قواتها في المدينة. وفي المقابل قال مسؤول في قوات الدعم السريع، إن قائد القوات حميدتي قرر نقل مدرعات حربية من ولاية شمال دارفور إلى الخرطوم تحسبًا لأي طارئ. وهكذا حشد الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الأسابيع الأخيرة قواتهما في العاصمة الخرطوم.[10]
المواقف المختلفة من الأزمة في الداخل والخارج:
تنوَّعت وتشابكت المواقف المختلفة من الأزمة السودانية بين الأطراف السودانية وكذلك الإقليمية والدولية، كلٌّ حسب مصالحه وتوازناته، ويُمكن رسم خريطة تلك المواقف كالتالي..
1. المواقف الداخلية من الأزمة: مع تصاعد التوتر، دعا حزب الأمة القومي إلى اجتماع مُوسَّع يشارك فيه كل رؤساء الأحزاب السياسية، للحيلولة دون اندلاع الحرب، فيما واصل رؤساء حركات مسلحة الجهود بالتواصل مع قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع الجنرال محمد حمدان دقلو لنزع فتيل الأزمة. وأصدر تجمّع المهنيين السودانيين، عضو تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، بيانًا دعا فيه قادة القوات المسلحة والدعم السريع والشرطة والمخابرات العامة، إلى “تغليب صوت العقل فيما بينهم، وإدارة علاقاتهم وفقًا للقوانين التي تحكم المؤسسات العسكرية والأمنية، والقيام بالواجبات المنصوص عليها في القوانين الخاصة بهم والتي تلزمهم بالحفاظ على الأمن الداخلي والقومي وتصد العدوان الخارجي وتحمي الشعب السوداني، لتجنب حدوث أي صدام”.
وعقدت القوى المدنية المُوقِّعة على الاتفاق الإطاري اجتماعًا طارئًا ناقش آخر التطورات السياسية في البلاد، وأعلنت في بيان لها أن الاجتماع أكَّد على أن “التحديات التي تواجه القطاع الأمني والعسكري هي قضايا قديمة فاقم النظام السابق منها، وواجهتها الحكومة الانتقالية المنقلب عليها، وجاء الاتفاق السياسي الإطاري الذي صنعه المدنيون والقيادة العسكرية كخطوة شجاعة لوضع الأسس الصحيحة لمعالجتها سلمًا لا حربًا”.
وأشار البيان إلى أن العملية السياسية الجارية “توفر فرصة تاريخية لبلادنا للوصول لجيش واحد مهني وقومي”.
وحثَّ البيان كافة أطياف الشعب السوداني المتطلعة للتغيير بـ “التصدي لمخططات النظام البائد ولدعاوى الحرب والتصعيد العسكري، ولرفض تحويل الصراع في البلاد لصراع مسلح يغيب الطبيعة السياسية المدنية للقضية الوطنية”.[11]
* الإسلاميون والأزمة في السودان: لطالما كان إقحام اسم الإسلاميين في المعارك الدائرة في دول الربيع العربي؛ يعطيها مذاقًا سياسيًا خاصًا، ويستجلب دعمًا إقليميًا ودوليًا من المتربصين بالتيار الإسلامي الذين يُكرسون أموالهم وإمكانياتهم لمحاربة الإسلاميين أينما وُجدوا.
وهو ما حدث في السودان؛ فبالرغم من كونها معركة نفوذ بين عسكريين، إلا أنه بمجرد اندلاع المواجهة المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي بدأتها الثانية حتى انطلقت على الفور اتهامات بحق الإسلاميين السودانيين (الكيزان) بأنهم هم الذين أججوا تلك الحرب بُغية العودة إلى الحكم الذي خلعهم منه خصومهم السياسيون بالتعاون مع الجيش. وهو ما استغله حميدتي، فخاطب الغرب باللغة الإنجليزية، صارخًا أنه يحارب نيابةً عنهم الأصوليين المتطرفين، ودعا المجتمع الدولي إلى التدخل ضد غريمه الفريق البرهان الذي وصفه بأنه إسلامي متطرف، مدعيًا أن قواته (الدعم السريع) تحارب الإسلاميين المُتشدِّدين الذين يأملون إبقاء السودان معزولًا في الظلام وبعيدًا عن الديمقراطية.
حميدتي الذي لا يحمل شهادات دراسية، ولا هو يجيد الإنجليزية، ولا هو صاحب أيديولوجية معادية للتيار الإسلامي بالأساس، حيث كان جزءًا من منظومة حكم هذا التيار لسنوات طوال، وشقيقه الأكبر ونائبه عبد الرحيم دقلو هو أحد (الكيزان) الكبار، يأتي اليوم ليطرح نفسه باعتباره حامي الديمقراطية في مواجهة هؤلاء الـ (الكيزان). وكان من الواضح أن محركيه الإقليميين الذين أنشأوا له حسابه على تويتر هم من كتبوا له تلك التغريدات، ضمن معركتهم الممتدة ضد الإسلاميين في كل مكان.
لم يكن حميدتي وحده من استحضر “فزَّاعة الإسلاميين” ليخيف بها المجتمع الدولي ويستدر بها دعمه، بل سبقته إلى ذلك قوى الحرية والتغيير، التي ما فتئت تبني سرديتها على مواجهة فلول (الكيزان)، ولا تزال تغذي هذه الرواية لدى حميدتي غافرة له هجومه عليهم في اعتصام مقر القيادة إبان أيام الثورة، وقتله العشرات منهم، ومشاركته لاحقًا في الانقلاب الجديد في 25 أكتوبر 2021، الذي أوقف المسار الانتقالي.
وحين وجدت القوى الإسلامية نفسها أمام حرب استئصال لم تقتصر على حزب البشير المؤتمر الوطني؛ شكَّلت ما سُمي بـ “التيار الإسلامي العريض”، ودخلت في تحالف نداء أهل السودان الذي ضم معها الطرق الصوفية، وبعض المجموعات القبلية، ثم أصبحت مع بعض الأحزاب العلمانية الأخرى والحركات المسلحة أكبر كتلة سياسية رافضة للاتفاق الإطاري الذي وقَّعته مجموعة الحرية والتغيير (قحت) مع المجلس العسكري، الذي قسم الحكم بينهما مُستبعدًا باقي القوى بما فيها الإسلامية التي لم تكن جزءًا من نظام البشير.[12]
2. المواقف الإقليمية من الأزمة: منذ عزل حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك؛ بدأت قيادة الدعم السريع في لعب دور كبير داخل السودان وسياساته الخارجية. فقد توجَّه حميدتي لموسكو وأسمرا وأبو ظبي ونجامينا وغيرها في جولات منتظمة؛ ومثَّلت الزيارتان الأخيرتان له إلى أبي ظبي وأسمرا قبل أسابيع خاتمة لهذه الجولات ومؤشرة إلى ارتباط الأزمة الراهنة في السودان بتوجهات حميدتي الخارجية. وكان اللافت في تلك التحركات؛ هو إشارة بيان للجيش السوداني إلى ضلوع قوى خارجية في دعم تحركات قوات الدعم السريع، ربما في إشارة مباشرة إلى دولتين خليجيتين كانتا على ارتباط عملياتي مع قوات الدعم السريع في اليمن، وكذلك في أنشطة مختلفة تتعلَّق بتهريب الذهب من دول جوار السودان ومن داخل السودان نفسه، أو دعم أطراف في الأزمة الليبية لصالح هاتين الدولتين، أو في دائرة أوسع حماية مصالحهما في القرن الإفريقي عبر منع إقامة جيش سوداني موحد وقوي يمكنه حماية حدود البلاد وفرض سيطرته على كافة الأنشطة الاقتصادية داخل حدود السودان.[13]
وبالرغم من دعوة عدة دول في المنطقة رسميًا إلى وقف العنف، إلا أنه من الواضح دعم مصر للبرهان، ودعم الإمارات لحميدتي. وقال هدسون من المخابرات المركزية الأمريكية إن الجنرالان كانا يحاولان الحصول على أسلحة وتعزيزات من الدول المجاورة. كما أنه من المُرجَّح أن تلعب ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وإثيوبيا وإريتريا بعض الأدوار السياسية أو حتى العسكرية في الصراع. ومنذ اندلاع التوترات، حاول وسطاء من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وكتلة الإيجاد الإقليمية والعواصم الغربية والخليجية جلب البرهان وحميدتي إلى طاولة المفاوضات.[14]
* مصر والأزمة السودانية: الوجود العسكري والمخابراتي المصري في السودان ليس جديدًا ولكن الجديد هو خطورة ودقة الظرف السياسي والأمني الذي تمر به السودان. فقد أثار وجود القوات المصرية في مطار مروي بالولاية الشمالية- شمالي السودان، لغطًا كبيرًا، والطيران المصري ظل مرابطًا بمطار مروي منذ أن تم تنفيذ مناورات مشتركة بين سلاح الطيران المصري وسلاح الطيران السوداني “نسور النيل” في إبريل 2021 وحتى الآن.
وليس خافيًا النشاط المصري الاستخباراتي وتدخله الواضح في تشكيل المشهد السوداني لصالح سيطرة الجيش بقيادة البرهان. هذا الوجود الظاهر للقوات المصرية في مطار مروي، وصفته جهات عديدة بأنه أحد أساليب التدخل المصري غير الحميد في الشأن السوداني، واعتبرته امتدادًا لنظرة مصر للسودان على اعتباره حديقة خلفية، فضلًا عن حديث البعض عن إمكانية اتخاذ مصر للسودان كقاعدة لتوجيه ضربة إلى إثيوبيا حال حدوث مناوشات عسكرية.
وتحدثت أنباء عن وجود اتفاق سري بين قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان والجيش المصري بأن يبقى مطار مروي قاعدة عسكرية مصرية، رغم تأكيد الجهات الرسمية السودانية أن مطار مروي مدني، لكن عدم وجود ركاب بسبب طريق شريان الشمال الذي عرَّض شركات الطيران لخسائر، أدى إلى الاستفادة من المطار وأصبح يُستغل حاليًا مدني- عسكري، خاصةً وأن المنطقة العسكرية موجودة في مروي وبها معسكرات تأهيل كوادر “عاصفة الحزم” المشاركة في حرب اليمن ضد الحوثيين.
وبالنسبة للآراء المختلفة حول التواجد المصري في السودان؛ فيرى بعض الموالين للجيش السوداني أن المُهدِّدات التي حدثت في القرن الإفريقي والتدخل الروسي على الشريط في إفريقيا الوسطى وتشاد، جعل الخطر متزايد على الأمن القومي السوداني والمصري، ولذلك لابد أن تظل هذه التمارين مستمرة حتى يكون القادة ملمين بطبيعة الأرض المحتمل أن تُخاض فيها المعركة سواء للسودان أو مصر.
وفي المقابل أكَّد بعض الموالين لحميدتي أن خطة النظام البائد المسنودة مصريًا في القضاء على حميدتي هي تجنيد مقاتلين مناوئين لحميدتي في دارفور موالين لفرنسا التي تخوض حربًا ضد الحكومة المدعومة في إفريقيا الوسطى من روسيا، واستدراج قوات الدعم السريع للقتال هناك إلى جانب قوات فاجنر الروسية وبعد ذلك ينشب الصراع بين الدعم السريع وقوات مناوئة له وتحديدًا قوات موسى هلال.
وفي هذا الصدد؛ يُذكر أن قائد قوات الدعم السريع اتهم في خطاب مسجل تداولته المواقع الإلكترونية جهات لم يسمها بالسعي لتوريطه في صراع إفريقيا الوسطى لدرجة توزيع الزي الذي ترتديه قوات الدعم السريع لقوات أخرى لتشارك في القتال للإطاحة بحكومة بانغي، وتوعد حميدتي من دبروا ذلك بالملاحقة في ذات التسجيل المنشور.[15]
3. المواقف الدولية من الأزمة: في أعقاب هذا التصعيد، قال مبعوثو ست دول ومعهم مبعوث الاتحاد الأوربي، إنهم يشعرون بـ “قلق عميق” إزاء التقارير التي تتحدث عن التصعيد بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وأوضح البيان الصادر من المُمثِّلين الخاصين بكل من فرنسا وألمانيا والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، أن تلك الإجراءات التصعيدية تُهدِّد بعرقلة المفاوضات نحو تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية. وحثَّ البيان القادة العسكريين والمدنيين في السودان على “اتخاذ خطوات فعالة للحدّ من تلك التوترات، وعلى التعهد بالتزاماتهم والانخراط بشكل بناء لحل القضايا العالقة الخاصة بالإصلاح الأمني والعسكري لبناء جيش موحد ومهني وخاضع للمساءلة أمام حكومة مدنية”.
ولفت البيان إلى أن الوقت “حان للدخول في اتفاق سياسي نهائي يحقق تطلعات الشعب في الديمقراطية”. وعدَّ البيان “تكوين حكومة انتقالية بقيادة مدنية أمرًا ضروريًا لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية والإنسانية الملحة في السودان، وأنه “المفتاح لإعادة تدشين المساعدات الدولية”. وبالتزامن، عقد قائد قوات الدعم السريع لقاء مشتركًا عبر الهاتف، مع كل من المبعوث الأميركي لشؤون شرق إفريقيا والسودان وجنوب السودان، بيتر لورد، والمبعوث الخاص للمملكة المتحدة للسودان وجنوب السودان، روبرت فيرويذر، والمبعوث النرويجي الخاص للسودان وجنوب السودان، جون أنطون. وأشار بيان من المكتب الإعلامي لنائب رئيس مجلس السيادة أن اللقاء “بحث التطورات السياسية الراهنة التي يشهدها السودان، والجهود المبذولة لاستكمال العملية السياسية، وتشكيل حكومة انتقالية مدنية، وصولًا إلى تحول ديمقراطي بقيام الانتخابات”. ومن جانبهم، عبَّر المبعوثون الدوليون، طبقًا للمكتب الإعلامي، عن “دعمهم ومساندتهم للاتفاق الإطاري، الذي وُقع في الخامس من ديسمبر الماضي، للخروج من الأزمة، بوصفه الأساس، لتشكيل حكومة مدنية مقبلة في البلاد”.[16]
وعبَّر المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن قلقه العميق إزاء توتر الوضع في السودان، مجددًا مناشدته لجميع الأطراف السودانية من أجل وضع المصالح الشخصية جانبًا والتركيز على المصالح المشتركة للسودانيين ومضاعفة الجهود لاستعادة الحكومة المدنية. وجاءت تصريحات المسؤول الأممي خلال بيان صادر عن مكتبه ووصف البلاد بأنها تقف على منعطف حاسم، مشددًا على ضرورة بذل “كل الجهود لإعادة عملية الانتقال السياسي إلى مسارها الصحيح”.[17]
ثالثًا: الأزمة السودانية وتداعياتها:
شهدت الأزمة في السودان مجموعة من التشابكات، ونتج عنها مجموعة من التداعيات، التي يُمكن من خلالها رسم سيناريوهات المستقبل لتلك الأزمة، وهو ما يُمكن تناوله كالتالي..
1. التشابكات الإقليمية والدولية للأزمة السودانية: بطبيعة الحال؛ فإن مهما كان ما يحدث عسكريًا أو سياسيًا في العاصمة الخرطوم، فإنه ينتشر عبر بعض الأجزاء الأكثر هشاشة في القارة، نظرًا لما تتمتَّع به من موقع استراتيجي. حيث تمتد البلاد على نهر النيل، مما يجعل مصير الأزمة ذا أهمية وجودية تقريبًا؛ في اتجاه مجرى النهر، إلى مصر المتعطشة للمياه، ومنبع النهر، إلى إثيوبيا غير الساحلية بخططها الكهرومائية الطموحة التي تؤثر الآن على تدفق النهر. يحيط بالسودان سبع دول في المجموع، ولكلٍّ منها تحديات أمنية متداخلة مع سياسات الخرطوم.
حيث تمتد المشاكل في إقليم دارفور بغرب السودان إلى تشاد المجاورة، والعكس صحيح. فغالبًا ما تتدفَّق الأسلحة والمقاتلون بحرية عبر حدود المنطقة المليئة بالثغرات من تشاد المُعرَّضة للانقلاب ومن جمهورية إفريقيا الوسطى التي مزقتها الحرب.
وقد ثبت أن الأمر نفسه ينطبق على ليبيا في الشمال الغربي. يقع السودان على حدود منطقة تيجراي في شمال إثيوبيا، والتي لم تخرج إلا مؤخرًا من صراع شاق شمل جارة أخرى ذات حكم عسكري مطلق هي إريتريا. هناك أيضًا الصراع الحدودي بين إثيوبيا والسودان على الفشقة. إلى الجنوب، يواجه السودان دولة جديدة نسبيًا، جنوب السودان، وتلك الحدود أيضًا لا تزال غير مستقرة. كل هذا بالإضافة إلى الشركاء الأجانب الذين سعى الجيش للاستفادة بهم على المستوى الاقتصادي.
فتمَّت دعوة دول الخليج للاستثمار في الإمكانات الضخمة وغير المستغلة نسبيًا للتربة الغنية التي تحد نهر النيل، كما تمَّ إبرام صفقات ضبابية مع مجموعة فاجنر الروسية سيئة السمعة، المتهمة بتهريب الذهب إلى خارج السودان، كما سعى الكرملين لسنوات إلى إنشاء قاعدة عسكرية في بورتسودان، مما يتيح لسفنه الحربية الوصول إلى واحدة من أكثر الممرات البحرية ازدحامًا وتنازعًا في العالم والتأثير عليها.[18]
2. عواقب مُحتملة للأزمة السودانية: يحذر الخبراء من أن القتال في السودان بين قوات الجنرالين قد يكون له عواقب بعيدة المدى ليس فقط على الدولة الواقعة في شمال شرق إفريقيا ولكن أيضًا على منطقة غير مستقرة بالفعل. فمن ناحية زيادة اللاجئين؛ حيث أعلنت الامم المتحدة أن ما بين 10 و20 ألف شخص فروا من القتال إلى تشاد. وقالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن شرق تشاد يستضيف بالفعل 400 ألف لاجئ سوداني، وأن الوافدين الجدد يفرضون ضغوطًا إضافية على الخدمات العامة والموارد في البلاد. وقالت مجموعة الأزمات الدولية أن “ملايين المدنيين عالقون في مرمى النيران وينفدون بسرعة من الضروريات الأساسية”. وقال كاميرون هدسون من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن لوكالة فرانس برس إنه “يتوقع تمامًا نزوح جماعي للمدنيين” بمجرد سريان وقف إطلاق النار.
ومن ناحية ثانية؛ توسع رقعة المعارك؛ فسرعان ما توسعت المعارك التي اجتاحت الخرطوم ومدينتها التوأم أم درمان وعدة مناطق بالبلاد، خاصة إقليم دارفور. وأضافت مجموعة الأزمات الدولية أن “القتال يمكن أن ينزلق بسرعة إلى حرب مستمرة قد تتوسع عبر الأطراف المضطربة للبلاد إلى جيرانها”. وقال هدسون “التحدي هو أن الصراع امتد في كل ركن من أركان البلاد – على الحدود مع تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا”.
ومن ناحية ثالثة؛ المخاوف من حرب أهلية؛ وقال المحلل البريطاني أليكس دي وال، إنه إذا استمر الصراع، فقد يحمل المزيد من الناس -في المجتمع السوداني المنقسم جدًا- السلاح. وأضاف “إذا استمر النزاع فإن الوضع سرعان ما يصبح أكثر تعقيدًا”. وأشار دي وال إلى أن كل جانب عبارة عن ائتلاف من عدة مجموعات مختلفة، والذين قد يغيرون تحالفاتهم مع الأخذ في الاعتبار العوامل العرقية.[19]
ومن ناحية رابعة؛ إنهاء التفاهمات مع الكيان الصهيوني؛ حيث كان البَلدان في طريقهما لتوقيع اتفاق سلام شامل في وقت لاحق من هذا العام في واشنطن، يليه تبادل السفراء وإبرام بروتوكولات للتعاون في مختلف المجالات، من تطوير الإمكانات الزراعية الهائلة للسودان وإلى الارتقاء بخدماتها الصحية وبدء العلاقات التجارية بين البلدين. ومثّلت هذه العملية تتويجًا للإعلانات والاتفاقات التي تم التوصل إليها في 2020-2021 بشأن التطبيع بين البلدين ومشاركة السودان في “اتفاقيات إبراهيم”. ويبدو أن التأخير الذي دام عامين ونصف في تحويل إعلان التطبيع إلى اتفاقية سلام موقَّعة عرّضَ العملية برمتها للخطر.
فحتى لو شكّلت السودان حكومة مدنية على المدى القريب، فقد يتبين أنها ستتردد في اختبار المزاج العام من خلال إبرامها معاهدة مع العدو الصهيوني. وإذا فاز البرهان في منافسته مع حميدتي، فقد يُقنعه حلفاؤه الإسلاميون بوقف التطبيع أو على الأقل إبطائه. وبالمثل، إذا تغلب حميدتي في الصراع القائم، سيتعين عليه أن يأخذ في الحسبان شعور حزب الأمة القومي والشركاء المحتملين الآخرين تجاه الميان الصهيوني. لذلك، قد يتطلب استمرار عضوية السودان في “اتفاقيات إبراهيم” إصرار الولايات المتحدة على وفاء الخرطوم بالتزاماتها وإكمال اتفاقية السلام – ربما حتى بتحذير البلاد بأنها ستفقد المزايا الأمريكية الممنوحة بالتزامن مع إعلان التطبيع الأولي.[20]
3. سيناريوهات تطور الأزمة في السودان: توقَّع مركز أميركي للدراسات الإستراتيجية والأمنية أن القتال قد يتطور خلال الفترة القادمة بـ 4 سيناريوهات مختلفة على الأقل.
السيناريو الأول؛ هو أن توافق القوات المسلحة و/أو قوات الدعم السريع على وقف لإطلاق النار بشكل دوري، لكن القتال المتقطع سيستمر في المراكز الحضرية، وهو الأكثر ترجيحًا. حيث يرى المركز أنه من غير المُحتمل التوصُّل إلى وقف دائم أو غير محدد لإطلاق النار، لكن الضغط الدولي للسماح بعمليات الإخلاء قد يدفع أحد الطرفين المتحاربين أو كليهما إلى وقف القتال لفترة وجيزة. ويزعم التقرير أن المعارضة والانقسامات داخل الجيش السوداني تُشكِّل قيودًا رئيسية حتى على الهدنات المؤقتة لتزويد الناس في مناطق القتال بالإمدادات الإنسانية والرعاية الطبية، حيث يدعو بعض المتشددين في القوات المسلحة إلى تحقيق نصر كامل على قوات الدعم السريع.
أما السيناريو الثاني فيتمثَّل في استمرار القتال العنيف في المدن دون وقف لإطلاق النار، وهنا يبرز خطر يتمثَّل في أن دولًا بالمنطقة قد تبدأ في تزويد ما أسماه التقرير بـ “طرفها المفضل” في الصراع بالمال والأسلحة وأشكال الدعم العسكري الأخرى. وقد ورد أن قوات الدعم السريع تتلقى بالفعل دعمًا من المرتزقة الروس (فاجنر) الأمر الذي من المُرجَّح أن يطيل أمد القتال في الخرطوم.
السيناريو الثالث الذي يصفه التقرير بأنه مُرجَّح إلى حدٍّ ما؛ هو أن يلحق أحد الطرفين الهزيمة بالآخر مما يجبر الأخير على اللجوء إلى مناطق ريفية في أطراف نائية من البلاد.
السيناريو الرابع وهو احتمال غير مُرجَّح، بحسب التقرير، هو أن يوافق الجيش والدعم السريع على وقف دائم لإطلاق النار لكن خطر اندلاع أعمال عنف في المستقبل يظل قائمًا. ويرى المركز الأميركي أن هناك فرصة -وإن كانت ضئيلة للغاية- تفسح فيها الضغوط الدولية (خاصة العربية) المجال لوقف غير محدود لإطلاق النار بين الأطراف المتحاربة الأيام أو الأسابيع المقبلة.[21]
وفي كل الأحوال؛ فإنه من المُرجَّح خلال الفترة القادمة أن تدخل السودان في دائرة من التوتر والصراع وعدم القدرة على حسم الصراعات، وفشل كل الأطراف الداخلية في إدارة علاقاتها في ظل تعارض أجنداتها، وارتباطها بأجندات متصارعة لأطراف إقليمية ودولية.
مما يصب في الأخير في الفشل في تحقيق انتقال سياسي سلس، مع احتمالية حدوث انقلاب عسكري جديد، بأطراف جديدة، وتوترات في الأقاليم السودانية، وانهيار آفاق أية تسوية داخلية، واستمرار معاناة المواطنين في الولايات والأقاليم كافة، وهو ما يقود السودان إلى ما يُعرف بـ “الدولة الفاشلة”، وهي مرحلة من مراحل سقوط الدولة، تكتمل بتقسيم الدولة وتفكيكها إلى دويلات عدة، أكثر فشلًا وسقوطًا وانهيارًا. وهو ما يبرز مع توافر المؤشرات كلها التي تدفع باتجاه انهيار الدولة، وسقوطها وتفككها، مع تكالب العديد من القوى على أرضها وثرواتها، وفي ظل الانقسامات الاجتماعية التي حاولت القوى السياسية ترسيخها بعد انقلاب 2019 وانقلاب 2021، وفي ظل ترسخ الانقسامات بين القوى السياسية الإسلامية والليبرالية واليسارية، وعدم قدرتها على بناء تيار مدني قوي وقادر على معادلة تمدد القوى العسكرية بأجنحتها المتصارعة.
كما أن هناك عاملًا أخطر، وهو امتلاك عدد من الميلشيات المسلحة، وعلى رأسها قوات الدعم السريع للعديد من أوراق الضغط والتأثير بعد تجهيزها وتأهيلها وتمويلها المكثف على مدار السنوات الخمس الماضية، وقبلها في عمليات ميدانية سواء داخل حدود السودان أو خارجها عبر دول الجوار، وامتلاكها لقدرات اقتصادية واسعة أصبحت أقرب للإمبراطورية الاقتصادية التي يتحكم فيها حميدتي، التي ستعزز من طموحاته وعدم قبوله بالخضوع أو الاستجابة لمسارات التسوية، وحتى إن قبل بها، فسيكون قبولًا مرحليًا ومؤقتًا احتواء لضغوط من هنا أو هناك، أو استجابة لمبادرات من حلفائه وداعميه، أو كسبًا لمزيد من الوقت حتى يستطيع القفز على السلطة ويحكم السودان كله، وإذا فشل في تحقيق هذا الهدف الكبير، يقوم بالانفراد بحكم دارفور والعمل على فصلها في كيان جديد كما حدث مع جنوب السودان.[22]
الخُلاصة؛ المواجهات العسكرية الواسعة في السودان التي نشبت في الخامس عشر من إبريل 2023، والتي يُمكن اعتبارها انقلاب على انقلاب؛ تُعد فقط البداية. فتحقيق انتصار عسكري سريع يبدو غير مُرجَّح، حيث يتمتَّع جيش البرهان بقوة أكبر، بينما تتفوَّق قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي في حرب العصابات في المناطق الحضرية.
وهكذا؛ يبدو المسرح مهيأ لصراع دائم. حيث يفتح الوضع الجديد الباب على إمكانية نشوب صراع عسكري مفتوح بين الطرفين قد يؤدي إلى دمار واسع وسفك مزيد من الدماء، وسواء أدى إلى رجوح سيطرة أحد الطرفين المتصارعين، أو استمر فترة طويلة من دون حسم، فإن حلم السودانيين بالعودة إلى حكم مدني ديمقراطي يُرجع العسكر إلى ثكناتهم، ويوقف تحكمهم بالعملية السياسية، ويضع امتيازاتهم الاقتصادية تحت سلطة الحكومة، ويوقف استقواء الطرفين بالقوى الخارجية؛ قد أصبح بالفعل الآن بعيد المنال.
بل ويُمكن أن يصل الصراع بين المتنافسين بدعم من يقف خلفهم من الخارج، سواء كانت أطرافًا إقليمية أو دولية، إلى حرب أهلية مدمرة، قد تكون نتيجتها إعادة تقسيم السودان إلى عدة دويلات. فبعد تقسيمه عام 2011 إلى شمال وجنوب، تدخل البلاد في دوامة جديدة الآن لتقسيم الشمال إلى كيانات أكثر تفكيكًا وتفتيتًا وتشرذمًا، غير قادرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين، في ظل نخب عسكرية ومدنية تحوَّلت إلى مجرد أدوات في هذه المخطط.
[1] تمثل الدعم السريع نسخة جديدة من ميليشيا الجنجويد المسلحة التي قاتلت في مطلع الألفية في الصراع بدارفور واستخدمها نظام عمر البشير الحاكم آنذاك في مساعدة الجيش في إخماد التمرد حينها. نمت الدعم السريع بمرور الوقت واستُخدمت كحرس حدود على وجه الخصوص لتضييق الخناق على الهجرة غير النظامية، بينما نمت أعمال قائدها محد دقلو (حميدتي) التجارية بفضل زيادة نفوذه العسكري والسياسي أواخر حكم البشير.
مع مطلع 2015، شرعت قوات الدعم السريع بالاشتراك مع الجيش السوداني في إرسال قوات للمشاركة في الحرب في اليمن في صفوف القوات السعودية والإماراتية، ما سمح لحميدتي بإقامة علاقات مع القوى الخليجية.
بينما تم إقرار قانون في 2017 يمنح قوات الدعم السريع صفة “قوة أمن مستقلة”، في أمر لطالما أقلق القوات المسلحة التي عبَّرت عن قلقها إزاء نمو قوات حميدتي. شاركت قوات الدعم السريع في الإطاحة بالبشير في إبريل 2019، ووقَّع حميدتي اتفاقًا لتقاسم السلطة جعله نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحاكم الذي يرأسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان في نفس العام.
خالد فارس، “تعرف على ميليشيا «الدعم السريع».. وقدراتها العسكرية في مواجهة الجيش السوداني”، ذات مصر، 15/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/pk874
[2] “تحذير من انقلاب عسكري وشيك”، أخبار السودان، 26/1/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/wgCFx
[3] عبد الحميد عوض، “الجيش السوداني والدعم السريع… صراع نفوذ يهدد التسوية السياسية”، العربي الجديد، 5/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/5J1UD
[4] الحارث الحباشنة، “البرهان وحميدتي: هل يمكن للخلافات بين الجانبين في السودان أن تتطور إلى مواجهة مسلحة؟”، عربي BBC News، 11/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/8buDt
[5] عبد الحميد عوض، “التسوية في السودان: مقترحات جديدة لحلّ خلاف البرهان وحميدتي”، العربي الجديد، 12/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/jvdaT
[6] خالد فارس، مرجع سبق ذكره.
[7] “مظاهرات السودان: دعوات إلى احتجاجات جديدة للمطالبة بإنجاز التحول الديمقراطي”، عربي BBC News، 6/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/kzABM
[8] “السودان: صراع وشيك بين الجيش و«الدعم السريع»؟”، القدس العربي، 13/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/ZqGcD
[9] “شاهد.. توتر جديد يلوح في الفضاء السياسي السوداني”، قناة العالم، 13/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/rpgcR
[10] الحارث الحباشنة، مرجع سبق ذكره.
[11] عبد الحميد عوض، “السودان: قلق محلي ودولي من اندلاع مواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع شمال البلاد”، العربي الجديد، 13/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/eAFJy
[12] قطب العربي، ““عفريت الكيزان” في حرب السودان”، الجزيرة مباشر، 18/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/H1gKA
[13] د. محمد عبد الكريم أحمد، “ساعات الحسم في الخرطوم.. البرهان يعيد تشكيل المرحلة الانتقالية”، ذات مصر، 15/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/XM3Yn
[14] Didier Lauras, Amanda Mouawad, “How Sudan fighting could impact volatile region”, Al-Monitor, 22/4/2023. At: https://cutt.us/ZzYxS
[15] “القوات المصرية في السودان.. عين على «الدعم السريع» وأخرى على اثيوبيا”، التغيير، 19/3/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/YILSj
[16] عبد الحميد عوض، “السودان: قلق محلي ودولي من اندلاع مواجهات ….”، مرجع سبق ذكره.
[17] ابتسام عازم، “الأمم المتحدة تؤكد استمرار مهمتها بالسودان رغم التهديد بقتل ممثلها”، العربي الجديد، 11/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/fleFp
[18] Andrew Harding, “Sudan fighting: Why it matters to countries worldwide”, BBC News, 21/4/2023. At: https://cutt.us/cqg2J
[19] Didier Lauras, Amanda Mouawad, Loc. Cit.
[20] Ehud Yaari, “The Fighting in Sudan Threatens Peace Efforts with Israel”, Washington Institute, 21/4/2023. At: https://cutt.us/tSRGZ
[21] “ستراتفور: 4 سيناريوهات محتملة للصراع في السودان”، الجزيرة نت، 22/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/ctA5U
[22] د. عصام عبد الشافي، “السودان من سقوط النظام إلى سقوط الدولة”، الجزيرة مباشر، 23/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/Hfn0w