كيف وصل السودان إلى لحظة الصدام بين حميدتي والبرهان

النزعة الاقصائية لدى قوى الحرية والتغيير:

قاد “فشل قوى الحرية والتغيير في وضع استراتيجية للتعامل مع قوى النظام القديم بخلق تمايز بين الفاسدين ماليا وسياسيا وغيرهم، في مراحل مبكرة بعد خلع عمر البشير” إلى “جعل الإسلاميين كتلة شبه صلبة ضد الثورة السودانية باستثناء حزب المؤتمر الشعبي”[1].

ولعل أحد جذور فشل التمييز لدى قوى الحرية والتغيير بين إسلاميو البشير وبين جمهور الإسلامين في المجتمع السوداني، هو هيمنة الحزب الشيوعي على توجيه “قحت” وسياساتها العامة، وهو ما اشتكى منه بعض أعضاء التحالف[2]. ومن الأسباب كذلك نزوع الثوار لما يمكن تسميته “النقاء الثوري[3]” وهي نزعة بطبيعتها إقصائية راديكالية.

ويظهر فشل تحالف الحرية والتغيير بصورة واضحة، في إدخال الحكومة المدنية نفسها في صراعات جانبية كان يمكن تأجيلها حتى انتهاء المرحلة الانتقالية، من قبيل؛ (1) قرار وزير العدل رقم (47) لعام 2020، بتشكيل لجنة لتعديل قانون الأحوال الشخصية، وهو ما أثار ريبة جمهور الإسلاميين، والمحافظين ككل في المجتمع السوداني، خاصة مع ما تضمنه النقاش المصاحب للقرار، من إشارة إلى السعي لإلغاء شرط الولاية في عقد الزواج، وتعديلات أخرى غايتها تضمين اتفاقية “سيداو” الدولية الخاصة بحقوق المرأة ضمن القانون الجديد. (2) إجراء تعديلات على القانون الجنائي السوداني، في يوليو 2020، وشملت التعديلات القانونية إلغاء عقوبة الردة وإباحة المشروبات الكحولية لغير المسلمين، وإباحة سفر المرأة بأولادها للخارج دون إذن زوجها. (3) تعديل المناهج التعليمية في أواخر 2020، وقد تضمنت التعديلات إلغاء أغلبية سور القرآن المقررة في كافة المراحل الدراسية، كما تضمنت إدخال لوحة “خلق آدم” للرسام الإيطالي مايكل آنجلو وهي تحوي تجسيدًا للذات الإلهية ولنبي الله آدم عليه السلام[4].

هذه الممارسات من جانب “قحت”، وحكومة حمدوك، هي التي قادت إلى تشقق وحدة الجماهير خلف قوى الثورة، وأحيت الاستقطاب الإسلامي العلماني في السودان، وأوجدت نقاط اتفاق بين القوى الإسلامية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهي التي أوحت إلى القوى العسكرية أن تحركها ضد المكون المدني في أكتوبر 2021، لن ينجم عنه ردة فعل قوية من جانب الشارع السوداني. لم تكتف قوى الحرية والتغيير بإثارة قلق الشارع منها، إنما حركت الحساسيات بينها وبين الجيش؛ لما سعت إلى التدخل في الشئون الداخلية للمؤسسة بدعوى تطهيرها من فلول النظام السابق.

التيار الإسلامي العريض وعودة الإسلاميين للشارع:

تأسس “التيار الإسلامي العريض” في 18 أبريل 2022؛ بعد الانقلاب الذي قاده البرهان على رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، وقد وقع على بيان التأسيس 10 قوى إسلامية، والتحالف يضم مكونين أساسيين؛ الكيانات القريبة من الخط الفكري والتنظيمي للإخوان المسلمين، إضافة إلى المحسوبين على تيار السلفية الحركية، ممثلاً في حزب “دولة القانون التنمية” بقيادة محمد علي الجزولي[5]؛ ويهدف إلى مواجهة ما أسماه مؤسسي التيار بـ “مخططات الإقصاء”[6]. مع تحقيق الاندماج التنظيمي بين هذه الكيانات العشرة.

يرى مراقبون أن ظهور “التيار الإسلامي العريض” في هذا التوقيت محاولة للملمة صفوف الشارع الإسلامي الذي تضرر بالتأكيد من الخلط الذي تم بين الإسلاميين عموماً وبين الإسلاميين المتحالفين مع نظام البشير، وهو كذلك محاولة للاستفادة من حالة الشقاق بين مكونات الانتقال المدنية والسياسية، وردة فعل على أحزاب الحرية والتغيير التي ظل شغلها الشاغل خنق كل ما هو إسلامي. فيما يرى آخرون أن التحالف العريض ليس سوى واجهة قد تفتح المجال لعودة فلول نظام البشير من جماعة الإخوان المسلمين[7].

وعن علاقة ظهور التحالف العريض بالانقلاب الذي قاده العسكريين على مجلسي السيادة والوزراء، قال عمار السجاد، القيادي بالمؤتمر الشعبي غير المنضم للتيار العريض، أن نشأة هذا التيار تعود إلى ما قبل عامين وليس وليد اللحظة، وأن “ظهور التيار خلال الأيام الماضية يعود إلى أن هذه التنظيمات تريد أن تضع له قيادة”[8].

وقد رفض حزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي الانضمام للتحالف العريض؛ باعتبار أن الاهتمام بالعملية السياسية في الوقت الراهن مقدم على الانشغال بتوحيد الإسلاميين[9]، وأن التحالف العريض هو كيان أيديولوجي مغلق فيما يسعى المؤتمر الشعبي للعمل كحركة سياسية تجمع كل أهل السودان[10]. كما نأى حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً الانضمام للتيار العريض كذلك.

كان من المتوقع والمفهوم أن يعلن التيار العريض رفضه للاتفاق الإطاري، كونه يتوج عملية علمنة الدولة، ويواصل اقصائهم بحجة “إزالة التمكين وتفكيك مفاصله”. لذلك سرعان ما أعلنت القوى الإسلامية رفضها للاتفاق الإطاري، مع تنظيم فاعليات لرفض الاتفاق، وصدرت بيانات من كيانات محسوبة على الإخوان مثل مبادرة “نداء أهل السودان” لرفض الاتفاق الإطاري ونقده[11].

كذلك أصدر حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم سابقاً، بياناً في ديسمبر 2022، أكد فيه “رفضه التام للاتفاق الإطاري، ويعلن مقاومته للاتفاق بلا هوادة وبشراسة وبكل الوسائل القانونية والطرق الشرعية”[12].

المثير أن الاتفاق الإطاري لم يرفض من جانب الإسلاميين فقط، بل تواطأ على رفضه “مجموعات متباينة فكريا وسياسيا وعلى رأسهم تنظيم الإخوان وواجهاته المختلفة المنضوية تحت ما يسمى “التيار الإسلامي العريض” والحزب الشيوعي وتجمع المهنيين الأصل والحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني؛ إضافة إلى حركات مسلحة موقعة على اتفاق السلام السوداني، وعدد كبير من لجان المقاومة التي تقود الحراك الحالي في الشارع”[13].

بالتالي وكون الاتفاق لم يحظى بدعم “كتلة حرجة” من القوى السياسية والاجتماعية تضمن تنفيذه، فإن إجهاضه كان متوقعاً إلى حد كبير، وكان أن تطوع الجيش والدعم السريع لدور إجهاض الاتفاق.  

الحركة الإسلامية السودانية والجيش:

تنقسم مواقف الإسلاميين في السودان من المؤسسة العسكرية إلى قسمين في ظل الوضع الراهن، أحدهما يعتبر أن الجيش هو بالأساس جيش الإسلاميين، في إشارة إلى “التمكين” الذي مورس خلال 30 عام. واستطاع الجيش استقطاب عدد كبير من الكوادر القيادية المدنية في الحركة الإسلامية، وأصبحوا هم من يقفون ضد أي انتقال ديمقراطي أو عودة الحريات للسودان[14].

في الضفة الأخرى، يقف الإسلاميون الذين يُحمِّلون الجيش مسؤولية ضياع المشروع الإسلامي، وهؤلاء كانوا يؤيدون عودة الجيش إلى ثكناته بعد عامين من انقلاب الحركة الإسلامية على السلطة الديمقراطية في يونيو 1989، ويرى هؤلاء أن ما حدث في 25 أكتوبر الماضي، هو انقلاب عسكري على السلطة الانتقالية. ويندرج ضمن الطرف المناهض لتدخل العسكريين في السياسة حزب المؤتمر الشعبي، الذي أسسه حسن الترابي[15].

الخاتمة:

قد يكون إسلاميو النظام السابق غير راضين عن الترتيبات الجارية خلال المرحلة الانتقالية في السودان، كونها أنبنت على أنقاض نظامهم، وكونها تعدهم بمزيد من الملاحقة والإقصاء. وقد يكون لهذه القوى علاقات بالجيش -لا تزال أبعادها مجهولة، لكن هذا لا ينفي مسئولية المكون المدني عما آلت إليه الأوضاع في السودان؛ كونه عجز عن تبني معيار يفصل بين إسلاميو النظام السابق وبين التيار الإسلامي الواسع في السودان بتنويعاته، وكونه أثار توجس الجيش من خلال الحديث المتكرر عن ضرورة تطهير الجيش من فلول الإنقاذ، وأخيراً كونه استسلم للخلافات الداخلية والانقسامات تفقده الانفراد بتمثيل الشارع والثورة. 


[1] أماني الطويل، في السودان: هل من مستقبل للإسلام السياسي؟، مصر 360، شوهد في 10 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2mduj8z4

[2] عبد المنعم منيب، السودان بين سياسات “قحت” وكفاح الحركات الاسلامية، إسلاميون، شوهد في: 11 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2eyg6zah

[3] نضال عبد الوهاب، ماذا تريد حركة الإسلام السياسي من السودان؟ (2/2)، صحيفة التغيير الإلكترونية، 11 مايو 2023، في:  https://tinyurl.com/2p9kgbxy

[4] عبد المنعم منيب، السودان بين سياسات “قحت” وكفاح الحركات الاسلامية، إسلاميون، مرجع سابق.

[5] أماني الطويل، في السودان: هل من مستقبل للإسلام السياسي؟، مصر 360، مرجع سابق.

[6] محمد الفقي، نافذة فرصة: كيف يتعامل الإخوان مع الاشتباكات المسلحة بالسودان؟، الحائط العربي، 7 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2ljucbyk

[7] بابكر فيصل، “التيار الإسلامي العريض”.. واجهة إخوان السودان الجديدة (1)، الحرة، شوهد في: 9 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2gz69flt

[8] طلال اسماعيل، “التيار الإسلامي” بالسودان.. اندماج مرحلي أم مشروع استراتيجي (تحليل)، الأناضول، 9 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2qae5nt7

[9] المرجع السابق.

[10] أماني الطويل، في السودان: هل من مستقبل للإسلام السياسي؟، مصر 360، مرجع سابق.

[11] محمد الفقي، نافذة فرصة: كيف يتعامل الإخوان مع الاشتباكات المسلحة بالسودان؟، الحائط العربي، مرجع سابق.

[12] المرجع السابق.

[13] كمال عبد الرحمن، السودان.. ما هو الاتفاق الإطاري ومن الداعمون والرافضون؟، سكاي نيوز، شوهد في: 11 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2qalc4av

[14] عودة الإسلاميين في السودان: المظاهر والمخاطر، الشارع السياسي، شوهد في: 11 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2qo9qnbr

[15] المرجع السابق.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022