الأحداث في الداخل الفرنسي والعلاقات الفرنسية المغاربية والإفريقية

تعيش فرنسا منذ نهاية الشهر الماضي؛ ما يُمكن اعتباره أسوأ أزمة واجهت ماكرون منذ احتجاجات “السترات الصفراء” التي أصابت فرنسا بالشلل في أواخر عام 2018. فقد أطلقت الشرطة النار على مراهق يبلغ من العمر 17 عامًا، خلال تفتيش على الطريق في نانتير، ضاحية في غرب باريس، بعد أن رفض تنفيذ طلباتهم، حسب قولهم.

وعلى إثر تلك الأزمة التي واجهتها باريس مؤخرًا؛ حدث تعديل وزاري جديد في الحكومة هناك، وتأتي تلك الأحداث بالتزامن مع تراجع مكانة فرنسا في إفريقيا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، حيث وقعت السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا خلال السنوات الأخيرة في مأزق سياسي يُهدِّد نفوذ فرنسا التاريخي في إفريقيا، ويضع مصالحها في القارة في مهبّ الريح، وذلك في خِضم التنافس الإقليمي والدولي على القارة، لاسيما عقب الحرب الروسية الأوكرانية.

فما هي آخر تطورات الوضع الفرنسي في إفريقيا؟

وكيف يُمكن قراءة تداعيات الأزمة على العلاقات الفرنسية الإفريقية -لاسيما المغربية منها-؟

وما هي التغيرات الأبرز في التعديل الوزاري الأخير؟

وكيف يُمكن أن يؤثر في الوضع بشكلٍ عام؟

تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..

أولًا: وضع فرنسا في إفريقيا..

كانتهناك ثلاث متغيرات رئيسية دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التحرك بإطلاق استراتيجية جديدة لباريس تجاه إفريقيا تقوم على بناء شراكة جديدة أمنية واقتصادية:

أولها؛ الحفاظ على المصالح الفرنسية في إفريقيا.

وثانيها؛ انتكاسة استراتيجية فرنسة إفريقيا التي كان من الممكن أن تقضي على النفوذ الفرنسي في إفريقيا (هذا في ظل التكالب الإقليمي والدولي على القارة؛ وبعدما أنهت باماكو شراكاتها مع باريس، وتبعها طرد بوركينا فاسو القوات الفرنسية من بلادها، بجانب تصاعد الأصوات المعارضة للوجود الفرنسي في عدد من دول الساحل بشكل يُهدِّد النفوذ والمصالح الفرنسية في القارة).

وثالثها؛ حشد دعم إفريقي للموقف الغربي تجاه أوكرانيا والحد من النفوذ الروسي المُتنامي في إفريقيا عبر مجموعة فاغنر العسكرية الروسية.

1. الإخفاقات الفرنسية في إفريقيا: في المجال الاقتصادي تعرَّضت باريس إلى انتكاسات كبرى، رغم أنها ثالث مستثمر في إفريقيا بمجموع 1155 مجموعة استثمارية و2100 شركة فرنسية كبرى، فقد اندفعت الصين وتركيا وإسبانيا اقتصاديًا في القارة، ونجحت هذه الدول في إيجاد موطئ قدم لها، حيث باتت الصين الشريك الاقتصادي الأول لإفريقيا.

وسيطرت تركيا على الأسواق الجزائرية والليبية والسنغالية. واستحوذت إسبانيا على أسواق أخرى فيها، كما أن التهديد الأكبر للنفوذ الاقتصادي الفرنسي بات في مؤشرات التمرد الحقيقي ضده، داخل التكتلات الاقتصادية المحلية الإفريقية.

أما على صعيد القوى الناعمة والصلبة، فقد تعرَّضت فرنسا إلى خسائر أيضًا في هذين الجانبين، فاللغة الفرنسية التي هي أبرز مظاهر قوتها الناعمة، والتي يتحدث بها حوالي نصف الدول الإفريقية، وتستخدمها باريس في السياسة الثقافية الموجهة نحو دول القارة، فقد أصابها الضعف أيضًا، فدول شمال إفريقيا بدأت تشعر بأن هذه اللغة هي إحدى وسائل الاستعمار القديم في السيطرة عليها، لذلك باشرت بسن القوانين والتشريعات التي تحد من تأثير هذا العامل. أما على صعيد القوة الصلبة، فقد تعرَّضت هي الأخرى إلى هزائم كبرى في القارة الإفريقية.

فالقوات الفرنسية المتمركزة في غرب وشرق ووسط القارة، تراجع عددها إلى النصف تقريبًا وبات حضورها مقتصرًا على القواعد العسكرية لبعض الدول الإفريقية، التي ما زالت في تحالف وثيق مع باريس. والسبب في ذلك هو حصول انقلابات عسكرية في بعض الدول الإفريقية، واختيارها التعامل مع روسيا بديلًا عن فرنسا.

كما أن مرتزقة فاغنر الروسية بات لها تأثير واضح في عدد من دول القارة. وقد تجلّى بوضوح في خطوات عسكرية وسياسية اتخذتها دول إفريقية، كان آخرها إلغاء اتفاق المساعدة العسكرية مع فرنسا من قبل دولة بوركينافاسو، وطلبها سحب القوات الفرنسية من أراضيها. كما تعرَّضت العلاقات الفرنسية الجزائرية، والفرنسية المغربية، إلى اهتزازات واضحة، بعد أن شعر قادة الدولتين بأن فرنسا تريد الإبقاء على سياستها التقليدية تجاههما، من دون تقديم تنازلات، وتحقيق مصالحها على حساب مصلحتيهما.[1]

2. استراتيجية ماكرون الجديدة تجاه إفريقيا ومحاولة لتدارك الإخفاقات: حرص ماكرون خلال إعداده وإطلاقه لاستراتيجية جديدة تجاه إفريقيا على التخلي عن حصر استراتيجية فرنسا في الوجود العسكري في إفريقيا، والتي لم تجنِ باريس منها أي حصيلة سياسية، وإنما انتهت بإنهاء شراكاتها الأمنية والدفاعية مع دولتين من دول الساحل بشكل غير لائق بباريس ولا بشراكاتها الممتدة على مدار عقد، وإنما طرح ماكرون أبعادًا أخرى للاستراتيجية:

أولها؛ البعد الدبلوماسي السياسي؛ حيث سعى ماكرون إلى رسم صورة للشراكة الجديدة لفرنسا مع دول إفريقيا، في محاولة لمحو ما هو سيئ في علاقاتها السابقة مع القارة، والحديث بروح رياضية عن تقبُّل وجود منافسين في القارة، في إشارة إلى مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، مع التأكيد على أن باريس تدافع عن مصالحها.

وثانيها؛ يتعلق بالشراكة الأمنية والدفاعية الفرنسية مع إفريقيا؛ حيث عمد ماكرون في استراتيجيته إلى التخلي عن تأطير العلاقة مع دول القارة على أساس أمني ودفاعي محض، واستعادة الحضور الفرنسي في هيئته الجديدة على أساس “الشراكة الأمنية المتكافئة”.

وثالثها؛ يتعلق بالبُعد الاستثماري الفرنسي في القارة؛ حيث أعلن ماكرون أن استراتيجيته الجديدة ستتخلَّى عن مبدأ “مساعدة إفريقيا”، واعتماد مبدأ “الاستثمار التضامني”؛ وذلك بحثًا عن منافع مشتركة في الأنشطة الاقتصادية، والعمل على تأسيس “شراكة اقتصادية ندية” إفريقية فرنسية أوروبية، في محاولة لقيادة باريس الشريك الأوروبي الذي يهدف للانخراط في القارة، مع التركيز على قطاعات مهمة وحيوية كالتعليم النظري والتأهيل المهني، والصحة والطاقة والبيئة والثقافة والاقتصاد الرقمي والمساواة بين الجنسين؛ على أن تتضمن التعاون مع منظمات المجتمع المدني والشباب الإفريقي.[2

ثانيًا: توتُّر الداخل الفرنسي والعلاقات الفرنسية المغاربية..

صباح الثلاثاء، 27 يونيو، أقدم شرطي فرنسي على قتل قاصر لم يمتثل لنقطة تفتيش مرورية وحاول تجاوزها في ضاحية نانتير غرب باريس. وبينما تضاربت الرواية الرسمية في بداية الواقعة، إذ تبنَّت الشرطة في بادئ الأمر أن الشاب قاد سيارته باتجاه شرطيين على دراجتين ناريتين لمحاولة دهسهما، إلا أن انتشار فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي أظهر شرطيًا يصوب مسدسه نحو سائق السيارة قبل أن يسمع صوت إطلاق النار ثم تصطدم السيارة وتتوقف، كان سببًا في اندلاع الاحتجاجات والفوضى.

1. تفسيرات مُتعددة لما حدث: هناك إجماع من المراقبين على كون العلاقات بين القطاعات الفقيرة من أبناء المهاجرين من أصول غير أوروبية وغيرهم من أفراد الشعب سيئة للغاية في فرنسا، وتتدهور بسرعة. وتختلف الروايات والقراءات وبالتالي التشخيص. الرواية التي تميل وسائل الإعلام العالمية الكبرى إلى تبنِّيها هي رواية أنتجتها فرق اليسار الراديكالي، وترى أن الدولة الفرنسية تتبنى سياسات عنصرية وتتعامل مع المهاجرين كما كانت تتعامل مع الشعوب المستعمرة في إعادة إنتاج الإرث الإمبراطوري وتكييفه ليلائم ظروف العصر، ويدعم ذلك وجود قطاعات واسعة من الجمهور الفرنسي لها مشاعر سلبية أو على الأقل متباينة تجاه المهاجرين لاسيما المسلمين منهم، وهي مشاعر تتراوح بين التوجس من بعض مكونات ثقافتهم ومن بعض الممارسات والرفض المطلق والعنصري لهم.

وفي المقابل، هناك رواية أو روايات فرق مختلفة بعضها يميني وبعضها يساري ويجمع هذه الفرق التمسك الشديد بالهوية والثقافة الفرنسية، وهذه الروايات ترى أن المشكلة في المهاجرين لا في الدولة وأن خطأ الدولة الرئيسي هو قبول هدم هيبتها والتراجع المستمر أمام جماعات الضغط اليسارية والإسلامية والليبرالية المروجة للتعددية الثقافية، وعجزها عن إنفاذ القوانين، وتنازلها التدريجي عن كل بنود العقد الاجتماعي، وهذه الروايات مختلفة بل ومتناقضة، وأغلبها يرى أن المهاجرين يرفضون الثقافة الفرنسية، لأسباب يراها البعض وجيهة، ويراها البعض غير مبررة، وقطعًا تتراوح مواقف المهاجرين من فرنسا بين من يريد الاندماج وينجح ومن يريده ويرى تمييزًا يُمارس ضده في العمل والسكن، ومن يريد ولا يرغب في الاندماج في آن واحد (يريده مع الخوف على هويته)، ومن لا يريده ويتقوقع، وأخيرًا من يرى نفسه في حالة حرب مع مجتمع يعيش فيه يرفض هويته وماديته ولا دينيته والأيديولوجيات الفردية.[3]

2. الانعكاسات المُحتملة: هناك انعكاسات محتملة تثير تخوفات الجالية المغاربية والإفريقية في فرنسا، إثر التصعيد الحاصل ضد المحتجين على مقتل الشاب الجزائري نائل المرزوقي. وبالرغم من كون العلاقات بين الجزائر وفرنسا لم تتأثر بالأحداث هناك حتى الآن، لكنها تظل محل ترقب، لما قد يحدث بحق الجاليات المغاربية وفي المقدمة منها الجزائرية.

وترتبط التخوفات بانعكاسات الأحداث الجارية في فرنسا، على الجالية الجزائرية هناك في المقام الأول، والمغاربية بشكل عام، خاصةً في ظل الدعوات التي تستهدف الأفارقة والعرب.[4]

فما تلى الواقعة من احتجاجات وأعمال عنف؛ لم تكن بسبب اغتيال الشرطة للمراهق نائل الجزائري الأصل فقط، وإنما نتيجة احتقان مُتفاقم نظرًا لاستفحال الظلم، والقهر، وتغول أجهزة الأمن، والظروف المعيشية التي يعيش في ظلها المهاجرون، وخاصةً من أُصول عربية وإسلامية.[5]

وبالرغم من كون وزارة الخارجية الجزائرية لا تتحدث عادة في مثل هذه الأمور، لكنها ندَّدت بمقتل الشاب من أصول جزائرية بدم بارد، في ظل قلق في الشارع الجزائري من تطورات العنصرية تجاه الجزائريين خاصة والمغاربة والأفارقة بشكلٍ عام. والتخوفات تتعلَّق باليمين المُتطرف الذي يدعم الأمن هناك، والذي جمع الأموال لدعم الشرطي القاتل.

أما عن انعكاسات الأزمة هناك على سياسة الهجرة من إفريقيا تجاه أوروبا، فإن ممارسات سابقة للأحداث تمثَّلت في إغراق سفن المهاجرين في البحر، كما ورد في شهادات الناجين. فالدلالات التي تحملها في شعارات المتظاهرين أو تصريحات السياسيين مثل (العنصرية، السود والبيض، المهاجرين، أبناء الضواحي، الهوية الوطنية، القومية.. إلخ)، تصب في خانة واحدة وهي “أزمة مجتمع”.

والأزمة نفسها هي نتيجة لمقدمات أخرى تتمثَّل في: عدم احتواء ظاهرة الهجرة ثقافيًا، والاكتفاء باحتوائها بمقاربات قانونية أو أمنية بحتة، وكذلك التورط في زعزعة الأمن القومي في المستعمرات التقليدية، وانعدام الانسجام في السياسة الخارجية الفرنسية وشبه غياب للتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي في قضايا الهجرة.

إلا أن العلاقات بين فرنسا والجزائر لن تتوتر في الفترة الحالية، نظرًا لعدم خروج أي تأييد رسمي للاحتجاجات هناك، أو حتى اعتبار الجزائر كدولة طرف في الأزمة. حيث أن التفاعل الذي وقع من جانب الجزائر، تمثَّل فقط في بيان وزارة الخارجية الذي دعت فيه لحماية الجالية الوطنية في الخارج.[6]

ثالثًا: ردود الأفعال على الأحداث..

تفاوتت ردود الفعل على الأحداث بين الداخل والخارج الفرنسي، وكذلك من وقت لآخر مع تصاعد حدة الأزمة؛ حيث..

1. رد الفعل المبدئي للنظام الفرنسي: قال مكتب الادعاء العام إن المراهق يدعى نائل المرزوقي البالغ 17 سنة كان يقود سيارة مستأجرة في وقت مبكر عندما أوقفه حاجز للشرطة لمخالفته قوانين السير، وأضاف مكتب الادعاء في نانتير أن الضابط المتهم بإطلاق النار على السائق احتجز بتهمة القتل.

وفتحت السلطات الفرنسية المختصة تحقيقين منفصلين عقب وفاة المراهق، أحدهما للتحقيق في احتمال قتل من قِبل موظف عام، والآخر للتحقيق في سبب عدم إيقاف السائق سيارته والمحاولة المزعومة لقتل ضابط شرطة. وما زاد فاجعة الحادثة خلو سجل المراهق القتيل من أية سوابق جنائية، حيث لا يحمل سجلًا إجراميًا، لكنه معروف في المحاكم الفرنسية بسبب خلافاته مع الشرطة ورفضه الامتثال لقوانينهم مرات عدة.

وأزكت وفاة الشاب التي رصدتها إحدى الكاميرات شكاوى قديمة من المناطق الحضرية التي يقطنها أصحاب الدخل المنخفض والأعراق المختلطة بأن الشرطة تمارس العنف والعنصرية، إلا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفى وجود عنصرية منهجية في أجهزة إنفاذ القانون المحلية. كما أن الحادثة أعادت التذكير بسلسلة من أعمال العنف في الضواحي الباريسية عام 2005 حين أثارت وفاة مراهقَين صعقًا بالكهرباء في سين سان دوني شمال باريس خلال ملاحقة الشرطة لهما، أعمال شغب استمرت ثلاثة أسابيع ودفعت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ.

ومع تصاعُد الاحتجاجات والفوضى، أعلن دارمانان وزير الداخلية الفرنسي تعزيز انتشار قوات الأمن في كل أنحاء البلاد وتعبئة 45 ألف عنصر من الشرطة والدرك تحسبًا لليلة لتصاعد أعمال الشغب، وفي إطار سعيها إلى احتواء الشغب والتخريب سمحت الحكومة الفرنسية للدرك بإنزال عربات مصفحة إلى الشوارع من دون أن تعلن حالة الطوارئ.

من جانبه، توعَّد ماكرون بالتعامل بحزم مع من يهددون أساس الدولة الفرنسية، فيما أصدرت وزارة الداخلية قرارًا بإيقاف عمل وسائل النقل العام بعد التاسعة مساء في جميع محافظات البلاد، وأعلن ماكرون نشر تعزيزات أمنية إضافية للسيطرة على أعمال الشغب، محذرًا من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التحريض على إذكاء العنف في البلاد.[7]

2. تعديل وزاري جديد في فرنسا: على إثر أعمال الشغب التي عمَّت فرنسا خلال تلك الفترة؛ أعلن الإليزيه الخميس 20 يوليو عن تعديل حكومي في فريق إليزابيت بورن، شمل بعض الوزارات أبرزها الصحة والتربية والتعليم والإسكان.

حيث تمَّ تعيين الوزير الشاب غابريال أتال (34 عام) محل زميله في وزارة التربية باب ندياي الخبير الجامعي في الدراسات السوداء والذي أصبح هدفًا لهجمات اليمين المحافظ؛ فعلى الرغم من ملفه الفكري القوي كان يُنظر إليه على أنه يفتقر إلى الخبرة السياسية ولم يجد سوى القليل من الدعم بين حلفاء ماكرون.[8]

فيما ستعود وزارة التضامن لأورور بيرجي بدل جون كريستوف كوب. كما تمَّ الاستغناء عن خدمات وزيرة الدولة المكلفة بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني مارلين شيابا، التي تواجه انتقادات بسبب قضية إدارة صندوق ماريان وظهورها المثير للجدل على غلاف إحدى المجلات. وفي وزارة الصحة تم إعفاء فرانسوا بروان خلفه في منصبه أوريليان روسو المدير السابق لديوان رئيسة الوزراء إليزابيت بورن.[9]

كما أعاد ماكرون إحياء وزارة الشؤون الحضرية، وعيَّن صابرينا أغريستي روباش، المُشرِّعة من أصل شمال إفريقي المولودة في إحدى الكتل السكنية الشمالية في مرسيليا، في المنصب. تم إحضار عمدة دونكيرك لإدارة وزارة الإسكان.

وظل وزير المالية برونو لو مير ووزيرة الخارجية كاثرين كولونا ووزير الداخلية جيرالد دارمانين في مناصبهم. ويُمثِّل التعديل الوزاري رحيل العديد من الشخصيات من المجتمع المدني، وهي إحدى السمات المميزة لوعد ماكرون بتجديد السياسة الفرنسية في عام 2017، بينما اكتسب القادمون الجُدد في الغالب بالفعل خبرة سياسية في البرلمان أو كرؤساء بلديات.

وقرَّر ماكرون إبقاء بورن على رأس مجلس الوزراء، على الرغم من دعوات من خصوم سياسيين وحتى بعض المتطلعين في الحكومة إلى رحيلها. وغادرت الحكومة شخصيات أخرى تسبَّبت في إحراج للحكومة في الأشهر الأخيرة.[10]

ويهدف التعديل، على الرغم من محدوديته، إلى الإشارة إلى بداية جديدة، مع بعض التغييرات الملحوظة في الوزارات الرئيسية. وبينما كان بعض نواب الحزب الحاكم حريصين على اتجاه جديد، أكَّد خبراء سياسيون أن التعديل الوزاري لم ينقل رسالة سياسية قوية.

بدلًا من ذلك، خدم غرض استبدال الوزراء ذوي الأداء الضعيف أو أولئك الذين لا يرغبون في الاستمرار في أدوارهم. الأهم من ذلك، أن التعديل الوزاري لم يؤد إلى تكوين سياسي أوسع للحكومة، التي تظل أقلية وتعتمد على دعم المعارضة عند التصويت على التشريع. ظلت تصنيفات شعبية ماكرون منخفضة ولكنها تظهر علامات على الانتعاش بعد أن شهدت انخفاضًا كبيرًا في أبريل.

أظهر استطلاع حديث للرأي أن 31% من المستطلعين لديهم وجهة نظر إيجابية عن الرئيس اعتبارًا من 5 يوليو. على الرغم من التعديل الوزاري، لا تزال التحديات التي تواجهها حكومة ماكرون والحاجة إلى حوكمة فعالة وبناء تحالفات تشكل مسار ولايته الثانية.[11]

3. ردود الفعل الدولية: من بين ما كان لافتًا في التعاطي مع الحال التي تعم فرنسا منذ خمسة أيام، تفاعل عدد من الدول الغربية مع الأحداث، إذ حذرت وزارة الخارجية البريطانية رعاياها من أعمال الشغب في فرنسا وأشارت في توجيهاتها المتعلقة بالسفر إلى خطر تعطل وسائل النقل واحتمال فرض حظر تجول، وأفادت الوزارة بأن “المواقع والأوقات التي تنطلق فيها أعمال الشغب لا يُمكن التنبؤ بها”.

وبينما دعت النرويج رعاياها الموجودين في فرنسا إلى تجنب التجمعات، عبرت الحكومة الألمانية عن قلقها تجاه الوضع المحتقن هناك. بدوره، أعرب وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني عن أسفه “للتعاسة الواضحة” في الضواحي الفرنسية التي عاشت أعمال الشغب والنهب والصدامات بين قوات الأمن ومحتجين على مقتل شاب برصاص الشرطة، ودعا إلى “اتباع تعليمات قوات الأمن وعدم الاقتراب من أماكن الصدامات لأن هذا الأمر قد يكون خطرًا جدًا”.

ومن جهتها، خلال مؤتمر صحافي روتيني في جنيف، حضت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان فرنسا على “معالجة جدية لمشكلات العنصرية والتمييز العنصري المتجذرة في صفوف قوات الأمن”، إلا أن وزارة الخارجية الفرنسية ردَّت على الفور معتبرة أنه لا أساس لهذا الاتهام، قائلةً إن “أي اتهام لقوات الشرطة في فرنسا بالعنصرية أو التمييز المنهجي لا أساس له من الصحة” وأن “الفحص الدوري الشامل الأخير الذي خضعت له بلادنا مكننا من إثبات ذلك”.[12]

الخُلاصة؛ تعقد باريس آمالها في استعادة نفوذها ومكانتها في إفريقيا من خلال استراتيجيتها الجديدة ذات الأبعاد الثلاثة؛ الأمنية-العسكرية والاقتصادية والسياسية، وهو على الرغم مما تعكسه من تحول -محدود في حقيقته-؛ إلا أن هناك العديد من التحديات التي تواجهها استراتيجية ماكرون الجديدة تجاه إفريقيا؛ أبرزها صعوبة تحويل الموقف الإفريقي المعارض للوجود الفرنسي في بلاده لصالح باريس، لاسيما بعدما اتخذت بعض الدول الإفريقية سياسات صارمة ضد كل ما هو فرنسي، مثل وقف التعامل باللغة الفرنسية وتغيير المناهج التعليمية مثل روندا، وهو ما يأتي بالتوازي مع اتساع نفوذ مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، الأمر الذي يفرض على باريس التعاطي مع الأزمات التي تخص المواطنين الأفارقة -لاسيما في الداخل الفرنسي- بقدر كبير من الحكمة.

الأمر الذي جعل ماكرون يسعى لتهدئة الأوضاع في الداخل، ونفي تهم العنصرية نفيًا قاطعًا، مع عدم إنكار أوضاع المهاجرين المُتردية، بل وإعادة إحياء وزارة الشؤون الحضرية وإيكالها لمُشرِّعة من أصل شمال إفريقي في التعديل الوزاري الأخير.

كل تلك الإجراءات من شأنها تهدئة الأوضاع في الداخل الفرنسي ولكن بشكل مؤقت، حيث تظل النار تحت الرماد، والسخط الإفريقي تجاه فرنسا لا يبدو أن أي إجراءات قادرة على تهدئته، لاسيما بعد عقود من الاستعمار الحقيقي أو المُقنع. وعلى فرنسا تحويل استراتيجيتها الأخيرة تجاه إفريقيا إلى خطوات واقعية على الأرض تستهدف تحقيق تنمية حقيقية للدول الإفريقية من جهة، وتحسين أوضاع المهاجرين الأفارقة في الداخل الفرنسي من جهة أخرى.


[1] مثنى عبد الله، “فرنسا والصراع من أجل البقاء في إفريقيا”، القدس العربي، 20/3/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/wfppx

[2] بسمة سعد، “نحو البحث عن مخرج: استراتيجية ماكرون الجديدة تجاه إفريقيا.. الملامح والدوافع”، قراءات إفريقية، 12/3/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/IG5vQ

[3] د. توفيق أكليمندوس، “احتجاجات فرنسا: صراع الروايات والقراءات”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 3/7/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/m2KeS

[4] “مخاوف وترقب… ما تأثير الاحتجاجات في فرنسا على الجالية الجزائرية”، عربي Sputnik، 4/7/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/jSoRB

[5] عبد الباري عطوان، ““حربٌ أهليّة” مفتوحة النهايات تُواجه فرنسا؟”، رأي اليوم، 1/7/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/28YIF

[6] “مخاوف وترقب… ما تأثير الاحتجاجات في فرنسا على الجالية الجزائرية”، مرجع سبق ذكره.

[7] أحمد عبد الحكيم، “القصة الكاملة… ماذا يحدث في فرنسا؟”، عربية Independent، 2/7/2023, متاح على الرابط: https://cutt.us/rceiI

[8] “President Macron reshuffles cabinet in bid to turn page on France’s crises”, RFI, 20/7/2023. At: https://cutt.us/KAS6S

[9] “فرنسا: تعديل حكومي يشمل بعض الوزارات أبرزها الصحة والتعليم والسكن”، France 24، 20/7/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/5SbUS

[10] Michel Rose, “Macron reshuffles ministers after French riots “stunned” country”, REUTERS, 20/7/2023. At: https://cutt.us/9nF0W

[11] Sneha Swaminathan, “Macron reshuffles cabinet after France left ‘stunned’ by riots”, WION News, 21/7/2023. At: https://cutt.us/S5RYK

[12] أحمد عبد الحكيم، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022