عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا.. الدوافع والتداعيات

أعلنت كلًا من مصر وتركيا، في بيانين منفصلين لوزارتي خارجية الدولتين في 4 يوليو 2023، عن رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بينهما لمستوى السفراء، وقد رشحت مصر السفير “عمرو الحمامي” كسفير لها في أنقرة، فيما رشحت تركيا السفير “صالح موتلو شن” كسفير لها في القاهرة[1].

وعقب تعيينه سفيرًا لتركيا في مصر، قال “شن” أن هناك قمة مرتقبة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي، مؤكدًا أن عقدها قد تقرر فعلًا.

وقد أعلنت وسائل إعلام تركية، في 11 يوليو 2023، أن السيسي سيزور تركيا في 27 يوليو الحالي، استجابة لدعوة من نظيره التركي أردوغان[2].

ومن المقرر أن يستتبع تلك القمة، زيارة سيقوم بها أردوغان للقاهرة، في الشهر التالي[3].

ويسعي هذا التقرير إلي محاولة الوقوف علي محفزات ودوافع عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا في هذا التوقيت، وتداعيات عودة العلاقات الدبلوماسية علي مستوي تعزيز العلاقات الثنائية، وما قد ينتج عنها من تفاهمات بين الدولتين لحل خلافاتهما الاقليمية.

أولًا: أبرز محطات التقارب المصري- التركي:

بعد انقلاب 30 يونيو 2013 علي الرئيس السابق “محمد مرسي”، والذي قام به وزير الدفاع وقتئذ المشير “عبدالفتاح السيسي”، رفض النظام التركي بقيادة الرئيس “رجب طيب أردوغان” آنذاك هذا الانقلاب، ونتيجة للتصريحات الصادرة من أنقرة، التي لم تعترف بشرعية الانقلاب، قررت كلتا الدولتين في نوفمبر من نفس العام، خفض مستوى علاقاتهما الدبلوماسية وسحب السفراء[4].

ولسنوات، تفاقمت الخلافات التركية – المصرية، ارتباطًا بطبيعة هوية النظامين الحاكمين وتصوراتهما لطبيعة أدوارهما وتقاطعاتهما الإقليمية، الأمر الذي انعكس على طبيعة الخطاب السياسي والدبلوماسي، بالتزامن مع حملات إعلامية تعبر عن حجم العلاقات المتوترة بين أنقرة والقاهرة.

حينها، روج خصوم البلدين أنه لا يمكن تلاقي مصر وتركيا تحت مظلة واحدة، في ضوء تصادم مشروعين متناقضين، وأن نجاح أحد المشروعين يعني فشل المشروع الآخر، والعكس، خاصة مع استدعاء بعض الإشكاليات التاريخية المرتبطة بفترة الحكم العثماني للمنطقة العربية، لتغذية الاحتقان التركي العربي، عمومًا.

وقد تركز الخلاف المصري- التركي خلال السنوات من 2013 إلي 2020 حول احتواء تركيا لجماعة الإخوان المسلمين وعناصرها وقادتها، والسماح ببث قنوات إعلامية لهم معارضة لنظام السيسي. كما تدخلت تركيا في العديد من الدول العربية بمختلف الوسائل السياسية والعسكرية مثل سوريا والعراق.

وقد وصل التوتر بين الدولتين إلي ذروته عقب التدخل التركي في ليبيا عقب توقيع اتفاقية التعاون الأمني والعسكري مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة فائز السراج في نوفمبر 2019، وبناءً علي هذا الاتفاق؛ قامت تركيا بنقل السلاح والخبراء العسكريين والمقاتلين السوريين لليبيا، وهو ما اعتبرته مصر تهديدًا لأمنها القومي.

فضلًا عن الخلافات حول قضية غاز شرق المتوسط، في ظل ارتباط مصر باتفاقيات شراكة مع كل من اليونان وقبرص، طرفي النزاع الأكبر مع تركيا؛ بسبب الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية[5].

ولكن منذ عام 2020 بدأت ملامح للتقارب بين الدولتين، حيث أعلن “أردوغان” في 14 أغسطس 2020، أن “هناك محادثات تجرى على مستوى جهاز المخابرات مع مصر لعودة العلاقات بين البلدين”.

وفي مارس عام 2021، أعلن وزير الخارجية التركي السابق، مولود تشاوش أوغلو، عن بوادر أولية لانفراج العلاقات مع مصر، وأشار إلى أنه تم استئناف الاتصالات على مستوى الأجهزة الأمنية ووزارة الخارجية، وأوضح أن إصلاح العلاقات مع مصر يحدث ببطء ولا يمكن تحقيقه في وقت قصير؛ بسبب انقطاع العلاقات لعدة سنوات.

وفي أبريل من العام نفسه، بادر وزير الخارجية التركي بالاتصال بنظيره المصري، سامح شكري؛ لتهنئته بحلول شهر رمضان، في بادرة تشير إلى ملامح مرحلة جديدة في العلاقة بين الدولتين، في المقابل، أعرب “شكري” – في تصريحات عقب الاتصال – بأن مصر تقدر التصريحات التركية الأخيرة الإيجابية نحو تطوير علاقاتها مع القاهرة، وفي السياق، وخلال الشهر نفسه، أعلن البرلمان التركي، تأسيس “مجموعة الصداقة البرلمانية بين مصر وتركيا”.

وفي مايو من العام نفسه (2021)، تم عقد المحادثات الاستكشافية بين نائبي وزيري الخارجية المصري، حمدي لوزا، والتركي، سادات أونال، والتي عقدت في القاهرة؛ للتشاور حول كيفية تطوير العلاقات، بالإضافة إلى مناقشة قضايا اقليمية أخرى، ووفقًا لبيان صادر عن وزارتي الخارجية، وصفت المناقشات، بأنها صريحة وعميقة، وتناولت قضايا ثنائية واقليمية، وخاصة فيما يتعلق بـ”ليبيا، وسوريا، والعراق، ومنطقة شرق المتوسط”، وفي سبتمبر من العام نفسه، تم عقد جولة ثانية من المحادثات الاستكشافية في أنقرة، برئاسة نائبي وزيري الخارجية أيضًا.

وفي يونيو 2022، أعلنت تركيا تعيين السفير، صالح موتلو شن، كقائم بالأعمال في السفارة التركية بالقاهرة، وفي نوفمبر من العام نفسه، شهدت العلاقات بين البلدين تطورًا كبيرًا بعد مصافحة بين الرئيسين المصري والتركي، وذلك على هامش حضورهما حفل افتتاح كأس العالم في قطر.

وفي فبراير 2023، عقب الزلزال المدمر الذي ضرب مدن الجنوب التركي، قام “السيسي” بإجراء أول اتصال هاتفي مع نظيره التركي “أردوغان”؛ لتقديم التعازي، والتأكيد علي تضامن مصر مع تركيا في هذا الوضع الصعب، وتلا ذلك وصول مساعدات مصرية عاجلة عبر طائرات وسفن بحرية، وفي الشهر نفسه، زار وزير الخارجية المصري، سامح شكري مناطق الزلزال في تركيا، برفقة نظيره التركي السابق، تشاوش أوغلو، كما استقبلا سفينتين تحملان مساعدات مصرية إلى تركيا، وفي الشهر التالي، زار “أوغلو” القاهرة لأول مرة، وعقد جلسة مباحثات مع “شكري”؛ حيث بحثا التوصل إلى اتفاق يهدف إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، والتحضير للقاء الرئيسين المصري والتركي، وفي أبريل، رد وزير الخارجية المصري زيارة نظيره التركي، والتقى به في أنقرة، وعقدا جلسة مباحثات ثانية في فترة قصيرة.

وفي مايو، وبعد نجاح الرئيس “أردوغان” في الانتخابات الرئاسية، قام “السيسي” بالاتصال به؛ لتهنئته على فوزه، كما أكدا على عمق الروابط التاريخية التي تربط البلدين والشعبين، واتفقا على تدعيم أواصر العلاقات والتعاون بين الجانبين، وقررا البدء الفوري في رفع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين وتبادل السفراء، وفي يونيو، وأثناء اتصال وزير الخارجية، سامح شكري، بنظيره الوزير الجديد، هاكان فيدان؛ لتهنئته على توليه المنصب، اتفقا على أهمية المضي قدمًا بمسيرة استعادة كامل العلاقات بين البلدين، والتطلع للعمل المشترك بين الطرفين في مواصلة العمل على تطوير العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا وعودتها إلى طبيعتها، كما تطرق الجانبان إلى ملفات التعاون الثنائي وتبادل الزيارات على مختلف المستويات، فضلًا عن بعض القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك[6].

ولتقوم مصر وتركيا، في 4 يوليو 2023، برفع علاقاتهما الدبلوماسية إلى مستوى السفراء، والإعلان عن زيارة “السيسي” لتركيا في 27 من يوليو الجاري[7].

ثانيًا: دوافع عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا؟:

يمكن الإشارة إلي مجموعة من الدوافع التي تقف خلف قيام مصر وتركيا برفع مستوي التمثيل الدبلوماسي بينهما كما يلي:

1- شهدت منطقة الشرق الأوسط حالة من الصراع الاقليمي، خاصة بعد ثورات الربيع العربي في عام 2011، ما أدي إلي ظهور وترسيخ سياسة المحاور القائمة علي الصراع والتنافس، والتي تمثلت في محور الثورات المضادة الذي يضم السعودية والإمارات ومصر والبحرين، والمحور الداعم للثورات والذي يضم قطر وتركيا، بجانب المحور الذي يضم إيران والقوات المتحالفة معها في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن.

ولكن حاليًا، تشهد المنطقة حالة تهدئة إقليمية بين هذه المحاور، والتي بدأت باتفاق العلا 2021 والذي أنهي حالة الخلاف بين قطر من جانب والسعودية والإمارات والبحرين ومصر من جانب آخر، مرروًا بالتهدئة التركية الخليجية، وتسوية الخلافات بين مصر وتركيا، والتقارب التركي السوري، واستعادة العلاقات بين الرياض وطهران، وانفتاح العلاقات بين مصر وإيران، ومساعي إدماج سوريا في محيطها العربي، بجانب اتفاقيات التطبيع بين الدول العربية (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب) مع إسرائيل منذ عام 2020 “اتفاقيات إبراهام”[8].

وقد جاءت هذه الحالة من التهدئة الاقليمية نتيجة لتراجع اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، وتحويل اهتمامها نحو شرق آسيا، بالإضافة إلى تجاهل أمريكا والقوي الغربية للأولويات الأمنية في المنطقة، وانشغالهم بتطورات الحرب الروسية الأوكرانية[9].

كما أنها جاءت نتيجة لمحاولة دول الشرق الأوسط حل الأزمات العميقة التي تعاني منها، وخاصة الأزمات الاقتصادية، وخصوصًا تلك التي أعقبت جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا[10].

كذلك فأن هناك توجهات اقليمية، تدفع باتجاهها المملكة العربية السعودية علي وجه الخصوص، تتمثل في إرساء نموذج التنمية الاقليمية عبر تصفير مشكلات المنطقة، وهو ما سيمثل دفعة قوية للاستقرار الاقليمي برمته[11].

2- بينما كان الطابع الشخصي في الأزمة بين مصر وتركيا، والمتمثل بالعداء الحاد بين “أردوغان” و”السيسي”، يشكل عائقًا أساسيًا أمام إمكانية إنهاء القطيعة في ظل وجودهما في السلطة، فإن اللقاء والمصافحة في الدوحة يشير إلى أن الرئيسين قررا أخيرًا تجاوز هذا العائق.

ويعتقد المسؤولون الأتراك أن ما كانت تسعى إليه القاهرة حقًا هو مصافحة “أردوغان”، الأمر الذي من شأنه أن يكون اعترافًا كاملًا بـ”السيسي” كرئيس شرعي لمصر. ورغم أن القاهرة لم تقابل في الفترة الماضية خطاب التودد التركي، وتخلي أنقرة عن علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين، بخطوات مشابهة، إلا أن مصافحة الدوحة تعكس تخلي السيسي عن تردده في الانفتاح الصريح على أردوغان[12].

3- كانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي أجريت في مايو 2023 قد حفزت بعض الدول – ومنها مصر – على الإبطاء في وتيرة تعزيز العلاقات مع تركيا في انتظار النتيجة التي ستفرزها هذه الانتخابات. حيث كانت هذه الدول تأمل أن تتم هزيمة أردوغان -وإن لم تبد مؤشرات علنية على هذا الأمر-، وذلك لفتح صفحة جديدة مع انقرة بناءً على أولويات ومصالح هذه الدول، خاصة أن المعارضة كانت قد أرسلت مؤشرات واضحة على استعداداها للاستجابة لأولويات هذه الدول دون مقابل.

لكن فرض فوز أردوغان واقعًا جديدًا، وسمح التجديد له بإعطاء زخم لسياسة التقارب والمصالحات الاقليمية وتعزيز العلاقات التركية-المصرية[13].

يتأكد هذا التوجه مع تشكيل الحكومة التركية الجديدة، لا سيما إسناد حقيبة الخارجية لهاكان فيدان، وجهاز الاستخبارات التركي لإبراهيم كالين، كون هذان الاسمان، تحديدًا، كان لهما دورًا فاعلًا في سياسة الانفتاح التركي تجاه الدول العربية[14].

كذلك، يمكن القول أنه في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المصرية في عام 2024، فقد أراد السيسي تحقيق إنجاز دبلوماسي علي مستوي السياسة الخارجية بتحسين العلاقات مع تركيا، والأهم من ذلك، قطع الطريق بصورة نهائية علي أي نشاط سياسي أو إعلامي يمكن أن تمارسه المعارضة المصرية المتواجدة بتركيا ضد السيسي في هذه الانتخابات أو تقديم أي دعم لمنافسيه المحتملين في هذه الانتخابات.

4- تطور العلاقات المصرية – التركية بصورة عامة يأخذ في الاعتبار عدة عوامل، بما في ذلك أن مصر تعد دولة رائدة وهامة في منطقة الشرق الأوسط؛ نظرًا لوزنها السياسي ودورها الاقليمي في العديد من القضايا العربية، وعدد سكانها البالغ 110 مليون نسمة، وقوتها العسكرية، وبالنسبة لتركيا، تعتبر مصر ذات أهمية كبيرة وحاسمة بالنسبة لالتزامات سياسة تركيا الخارجية تجاه المنطقة العربية والشرق الأوسط، بالإضافة إلى ذلك، تنظر مصر إلى تركيا بوصفها قوة سياسية واقتصادية وعسكرية، إضافة إلى عضويتها في حلف شمال الأطلسي “الناتو” ودورها البارز كوسيط في عدد من الأزمات الدولية، يمكن أن يزيد هذا من وزن وتأثير القاهرة في السياسة الاقليمية والعالمية[15].

ثالثًا: تداعيات عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا؟:

من المؤكد أن عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا ستساهم بصورة كبيرة في تعزيز العلاقات الثنائية خاصة الاقتصادية، كما أنه من المتوقع أن تسفر عن تفاهمات لحل الخلافات الاقليمية بين الدولتين، ويمكن توضيح ذلك كما يلي:

1- تعزيز العلاقات الاقتصادية: على الرغم من تنامي الخلافات السياسية بين مصر وتركيا على مدار العقد الماضي، فإن تلك الخلافات لم تلق بظلالها على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدولتين التي ظلت مستمرة خلال نفس الفترة، ومن المؤكد أن عودة العلاقات الدبلوماسية سيساهم في تعزيز هذه العلاقات الاقتصادية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو الآتي:

أ- التبادل التجاري: احتلت تركيا المركز الأول في قائمة أكبر الدول المستوردة من مصر خلال عام 2022 أي إنها أصبحت وجهة رئيسية للصادرات المصرية، فيما جاءت في المركز الثامن كأكبر الدول المصدرة لمصر، مما يدلل على ازدياد زخم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين؛ إذ ارتفع حجم التجارة الثنائية بين مصر وتركيا إلى 6.9 مليار دولار مقارنة مع 5.7 مليار دولار خلال عام 2021، حيث بلغت الصادرات المصرية لتركيا خلال العام الماضي نحو 3.78 مليار دولار فيما سجلت الواردات المصرية حوالي 3.18 مليار دولار.

وتتطلع الدولتان إلى رفع حجم التبادلات التجارية إلى ما يتراوح بين 15 مليار دولار إلى 20 مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة[16].

وهناك توقعات بأن ميناء العريش المصري ومرسين التركي، سيشكلان حجر الزاوية في حركة البضائع[17].

كما أنه من المتوقع أن يتم إعادة بعض الاتفاقيات لتنشيطها، ومنها الاتفاقية التي تسمح لتركيا بالمرور بشاحناتها عبر مصر إلى دول أخرى[18].

وإلى جانب الفوائد الاقتصادية الكلية، فيمكن توثيق أواصر التعاون في مجال الطاقة بين الدولتين كون تركيا تتصدر قائمة مستوردي الغاز الطبيعي من مصر بقيمة تبلغ 917.2 مليون دولار حتى الربع الأول من عام 2022، وفقًا للبيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

ب- الاستثمارات المشتركة: سجلت الاستثمارات التركية في مصر أعلى مستوياتها في عشر سنوات خلال العام المالي 2021/2022 عند 179.9 مليون دولار، مقابل 138.1 مليون دولار في العام السابق، وهو ما يعكس زيادة قيمتها 41.8 مليون دولار، وبنسبة زيادة تصل إلى 30.26% على أساس سنوي.

وكان رئيس مجلس الوزراء المصري “مصطفى مدبولي” عقد اجتماعًا في منتصف فبراير 2023 مع وفد من ممثلي شركات تركية تعمل في مصر أو ترغب في بدء استثمارات جديدة في السوق المصرية خلال المرحلة المقبلة، في أول لقاء من نوعه منذ 10 أعوام، حيث تعمل الشركات التركية التي قابلها في مجالات تتضمن: تطوير المناطق الصناعية، والغزل والنسيج، والملابس الجاهزة، والملابس الرياضية، والمستحضرات الطبية، والأجهزة الكهربائية، وقد تم الإعلان خلال هذا الاجتماع عن التزام الشركات التركية بضخ استثمارات جديدة تبلغ نحو 500 مليون دولار[19].

وهناك اهتمامًا كبيرًا من المستثمرين التركيين بقطاعات استثمارية كبيرة مثل النسيج والسيارات. ووفقًا لتقارير إعلامية واقتصادية تركية، فإن واحدة من كبرى الشركات التركية المتخصصة في حديد التسليح، ستدخل في شراكة قريبًا مع طرف محلي بمصر، لإنتاج حديد التسليح. والجدير بالذكر، أن حديد التسليح التركي إحدى السلع المهمة التي تستوردها مصر من تركيا، وكون الشركة التركية ستقوم بإنتاج مشترك لهذه السلعة الحيوية في مصر، فقد يساعد هذا بشكل كبير في تهدئة أسعار الحديد بمصر، حيث وصلت أسعاره في الفترة الماضية لمستويات عالية.

وهناك توقعات بأن يتم تفعيل اتفاقية خط الائتمان المفتوح من البنوك التركية لأي استثمار مصري تركي، والذي يغطي ما يصل إلى 85 % من جملة الاستثمار، وهي الاتفاقية التي توقفت بعد الإطاحة بنظام الرئيس مرسي[20].

وتهدف تركيا إلي تنشيط استثماراتها في مصر من خلال 200 شركة تعمل في البلاد، حيث يمكن لمثل هذه الشركات الاستفادة من اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين ومن توافر العمالة والغاز الطبيعي من أجل زيادة إنتاجهم بمصر والتصدير إلى الأسواق الأفريقية.

كما يمكن أن يساعد تعزيز العلاقات الاقتصادية مع تركيا الاقتصاد المصري الذي يسعى إلى جذب المزيد من الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة، فضلًا عن دخول رؤوس أموال أجنبية للسوق المحلية؛ من أجل توفير المزيد من فرص العمل، وزيادة حجم الاحتياطي النقدي الذي يواجه العديد من التحديات مؤخرًا كارتفاع فاتورة الواردات وتراجع الإيرادات السياحة، مما قد يعزز في نهاية الأمر من قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي[21].

ت- دعم التبادل التجاري بالعملة المحلية: انتشرت الكثير من الأنباء عبر المنصات الإخبارية في أبريل 2023 أن تركيا  تعتزم اقتراح بدء استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري مع مصر، ورغم عدم تأكيد تلك الخطوة بصورة رسمية حتى الآن، إلا إنه يعطي دلالات واضحة للطموح التركي بتعميق العلاقات الاقتصادية مع مصر لاسيما في ظل انخفاض قيمة عملاتهما المحلية، الجنيه المصري والليرة التركية، في محاولة للحد من هيمنة الدولار الأمريكي على المعاملات الاقتصادية، وبضغط من تداعيات الحرب الأوكرانية على مصادر النقد الأجنبي المختلفة إلى جانب ارتفاع معدل التضخم في كلا البلدين لمستويات غير مسبوقة.

ث- استمرار توافد السائحين: أعلنت السلطات المصرية نهاية مارس 2023 عن إطلاق مجموعة من التسهيلات الجديدة الهادفة للحصول على التأشيرة السياحية للجنسيات المختلفة من بينها المواطنين الأتراك، في إطار سعيها لزيادة معدلات الزيارة السياحية، والوصول إلى 30 مليون زائر سنويًا.

وظهرت آثار تلك السياسة الجديدة عبر تصريحات سفير أنقرة الجديد في مصر “صالح موتلو شن” بأن العاملين في مجال السياحة في مدينة شرم الشيخ أكدوا أن عدد السياح الأتراك قد ارتفع بما لا يقل عن 5 مرات مقارنة بالعام الماضي (2022)، متوقعًا أيضًا أن يصل عدد السياح المصريين في تركيا إلى مليون سائح في غضون خمس سنوات نظرًا لمساعي الدولتين في حث مواطنيهما على زيادة التبادل السياحي في المستقبل[22].

وهناك توقعات بأن يتم إعادة تنشيط رحلات النقل البحري بين تركيا ومصر بعد توقف رحلات النقل البحري بين مرسين والإسكندرية[23].

2- التعاون العسكري: على الرغم من أنه مبكر الحديث عن آفاق التعاون العسكري بين القوتين العسكريتين البارزتين في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه من الممكن، وفي ظل إمكانية تعميق العلاقات بينهما، أن يتم النظر في استئناف الاتفاق الذي تم بين أردوغان والسيسي خلال زيارته لتركيا، عندما كان وزيرًا للدفاع، في مايو 2013، يتعلق الاتفاق بفتح خط ائتمان تركي بقيمة 200 مليون دولار؛ لتمويل مبيعات الأسلحة التركية لمصر، ومشاريع الإنتاج العسكري المشترك بين البلدين، والتي تجمدت منذ ذلك الوقت[24].

وما يرجح أيضًا من إمكانية التعاون العسكري بين الدولتين رغبة مصر في تنويع وارداتها الدفاعية وبناء صناعة دفاعية محلية، والجانب التركي لديه ليونة كبيرة في موضوع التعاون الدفاعي والأمني، كما أنه منفتح على مشاريع مكملة أو مشتركة في مجال الصناعات الدفاعية، ولا يفرض كثير قيود على هذا التعاون كما على نقل التكنولوجيا، كما يفعل الغرب مع هذه الدول[25].

وفي هذا السياق، فقد بحثت مصر وتركيا التعاون في مجال التصنيع العسكري بعد استعادة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. جاء ذلك خلال لقاء وزير الدولة للإنتاج الحربي في مصر، محمد صلاح الدين مصطفى، والسفير التركي بالقاهرة، صالح موطلو شن، لمناقشة “سبل التعاون بين الجانبين”.

ووفق إفادة لـ”مجلس الوزراء المصري”، في 17 يوليو الحالي، فقد استعرض الوزير المصري الإمكانات التصنيعية والفنية والتكنولوجية بالشركات والوحدات التابعة، موضحًا أن اللقاء شهد “بحث سبل فتح آفاق للتعاون المشترك بين شركات الإنتاج الحربى ومثيلتها من الشركات التركية في مختلف مجالات التصنيع”.

وأكد وزير الدولة للإنتاج الحربي في مصر أن “وزارة الإنتاج الحربي على استعداد لإنشاء خطوط إنتاج جديدة بالتعاون مع الجانب التركي بما يفتح آفاقًا ومجالًا أكثر رحابة للدخول للأسواق العربية والأفريقية”. ودعا الوزير المصري شركات الصناعات التركية العسكرية للمشاركة في معرض الدفاع EDEX – 2023 المقرر عقده في القاهرة خلال ديسمبر المقبل[26].

3- الحدود البحرية وغاز شرق المتوسط: على رأس الملفات العالقة بين البلدين، والتي سيقود التوصل لتفاهمات بشأنها تغيير الوضع في الإقليم، هو قضية غاز شرق المتوسط، والتي تعتبر قضية شديدة الأهمية لتركيا، فهي دولة مستوردة لحصة كبيرة من احتياجاتها من الطاقة، تصل إلى 90%.

وبقدر أهمية قضية غاز شرق المتوسط لتركيا، بقدر حساسية تلك القضية لمصر، التي ترتبط باتفاقيات شراكة مع كلًا من اليونان وقبرص، طرفي النزاع الأكبر مع تركيا؛ بسبب الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية.

حيث أن هناك خلاف بين أنقرة وأثينا؛ بشأن امتداد الجرف القاري لكل منهما، وحقوق موارد النفط والغاز البحرية في شرق المتوسط منذ عقود.

الموقف المصري بشأن النزاع في منطقة شرق المتوسط، شهد تأكيدات من جانب القاهرة خلال المباحثات التمهيدية؛ لعودة العلاقات بين القاهرة وأنقرة، بعدم التعرض سلبًا للتحالف المصري اليوناني ومراعاة مصالح قبرص واليونان في هذا الإطار، وهو ما يعني إمكانية لعب القاهرة دورًا في تقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث، ومحاولة إنهاء النزاع بشكل يراعي مصالح كافة الأطراف.

تلك التفاهمات التي تشهدها العلاقات، قد تقود في نهاية  المطاف إلى زيادة أعضاء منتدى غاز شرق المتوسط إلى تسعة أعضاء بانضمام تركيا في ظل الاتجاه لتطبيع العلاقات مع مصر التي تترأس المنتدى.

حيث يتكون المنتدى الذي تم تشكيله في يناير 2019 بدعوة من مصر، من 7 دول هي؛ مصر واليونان وقبرص وإسرائيل وفلسطين والأردن وإيطاليا. وانضمام كل من فرنسا والولايات المتحدة والإمارات بصفة مراقب.

وفي مارس 2021، صرح وزير الخارجية التركي وقتها مولود تشاووش أوغلو، بأن تركيا ومصر قد تتفاوضان على ترسيم الحدود في شرق البحر المتوسط؛ إذا سمحت العلاقات بينهما بمثل هذه الخطوة.

وقال أوغلو خلال مؤتمر صحفي، إن عروض التنقيب التي طرحتها مصر في فبراير 2021 على الشركات العالمية، احترمت الجرف القاري لتركيا، وإن تركيا  نظرت إلى هذا الأمر نظرة إيجابية.

يتضح مما سبق؛ ربط تشاوش أوغلو ترسيم الحدود البحرية بتحسن العلاقات مع مصر، وهي الخطوة التي تمثل ذروتها تبادل السفراء وإجراء قمة رئاسية بين زعيمي البلدين.

وربما، يعزز ذلك فرص طرح هذه القضية خلال القمة خاصة، وأن التوصل لاتفاق قد يقطع الطريق على المساعي الإسرائيلية؛ لإنشاء خط “إيست ميد” والذي يقوض فرص مصر في أن  تصبح منصة اقليمية؛ لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا[27].

كما أن التوصل إلي هكذا اتفاق قد يوفر فرصة كبيرة لتحقيق أقصي استفادة من أزمة الطاقة الحالية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل الحديث عن تعويض أوروبا عن الغاز الروسي بغاز شرق المتوسط.

4- إنهاء التنافس في ليبيا بشراكة اقتصادية: ظل الملف الليبي خلال سنوات التوتر عائقًا رئيسيًا أمام استعادة العلاقات بين مصر وتركيا، خاصة وأن مصر ترى الوجود العسكري التركي في غرب ليبيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.

فقد كانت تركيا وقعت في نوفمبر 2019، اتفاقًا مع حكومة مع حكومة غرب ليبيا، بشأن الحدود البحرية في البحر المتوسط، إلى جانب اتفاق آخر؛ لتوسيع نطاق التعاون الأمني والعسكري.

وعقب توقيع الاتفاق، سمح البرلمان التركي في يناير 2020، بنشر قوات تركية في ليبيا لمدة عام واحد، وتم تمديد التفويض لمدة 18 شهراً أخرى حتى يوليو 2022، قبل أن يتم تمديده أيضًا في يونيو 2022 لمدة 18 شهرًا أخرى.

حل المعضلة الليبية بين مصر وتركيا، ربما يكون هذه المرة من الجانب الاقتصادي في وقت تعول فيه الدولتين على حصيلة إعادة الإعمار الليبية في إنعاش الاقتصاد.

التصور الذي يطرحه رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة في هذا الصدد، يقوم على استعانة الشركات التركية التي تستحوذ على الكثير من عقود إعادة الإعمار التي تحتاج لعمالة كثيفة، بعمال مصريين في الوقت الذي تعول فيه القاهرة على زيادة العمالة المصرية في ليبيا لنحو 2 مليوني عامل.

يعزز إمكانية نجاح هذا التصور وجود مؤشرات قوية على تحسن العلاقات بين مصر وحكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وهي تحظى بدعم تركي كامل[28].

وفي هذا السياق؛ تسعى الإدارة المصرية إلى خطوات أكثر صراحة ومباشرة تجاه الانفتاح مجددًا على حكومة الدبيبة، بعد قطيعة سياسية استمرت أكثر من عام ونصف العام.

وهناك تصورين بشأن لقاء من المقرر أن يجمع بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، خلال الفترة القريبة المقبلة.

التصور الأول يتمثل في توجيه الإدارة المصرية الدعوة إلى الدبيبة لزيارة القاهرة، ولقاء رئيس الوزراء (مصطفى مدبولي)، والرئيس المصري، ضمن إعلان عن انعقاد اللجنة المصرية الليبية المشتركة، وبحث موقف البروتوكولات والاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين البلدين خلال الزيارة السابقة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية لمصر.

التصور الثاني يتمثل في إمكانية ترتيب لقاء ثلاثي في العاصمة التركية أنقرة، على ضوء توجيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الدعوة إلى السيسي لزيارة أنقرة، خاصة أن ليبيا تعد الملف الأبرز على طاولة المباحثات المصرية التركية بشأن استعادة العلاقات بين البلدين.

وقد كشف وزير العمل والتأهيل بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، علي العابد، في تصريحات صحافية، في يونيو الماضي، عن بدء تحالف شركات مصرية في تنفيذ الطريق الدائري الثالث بتكلفة تناهز مليار دولار أميركي، بإجمالي حجم عمالة يصل إلى 2500 عامل، جميعهم مصريون.

وشدد على أن بلاده “تستهدف وتعطي الأولوية للشركات المصرية والعمال المصريين، في تنفيذ مشروعات إعادة الإعمار والمعروفة بخطة (عودة الحياة)، والتي تتجاوز تكلفتها 3.6 مليارات دولار”.

كما قامت الحكومة الليبية بإيداع 700 مليون دولار أميركي كوديعة قصيرة الأجل في البنك المركزي المصري، وسط وعود من جانب الدبيبة بزيادة حجم الودائع الليبية لدى مصر إلى 2 مليار دولار، بخلاف الامتيازات الاقتصادية المطروحة للشركات المصرية، وكذلك التسهيلات الخاصة بزيادة أعداد العمالة المصرية في ليبيا[29].

وفي سياق متصل بالتفاهمات المصرية- التركية في ليبيا، تشير تقارير إعلامية إلي وجود تقاربًا كبيراً في الرؤى، خلال الفترة الراهنة، ظهر بين واشنطن والقاهرة وأنقرة بشأن القوات الأجنبية والمرتزقة الموجودين في ليبيا.

وأنه قد تم عقد لقاء جرى خلال الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2023 بمشاركة مسؤولين استخباريين من الدول الثلاث، تم خلاله بحث مجموعة من التصورات الخاصة بضمان استقرار الأوضاع في ليبيا وعدم تدهورها كنقطة انطلاق نحو إجراء الانتخابات، وضمان عدم توقف الحقول النفطية في الفترة الراهنة.

وجرى خلال اللقاء، التباحث بشأن قوات فاغنر الموجودة في شرقي ليبيا والداعمة لحفتر، والقوات التركية ومجموعة الدعم السورية العاملة تحت إدارتها.

وأن أنقرة قد أبدت مرونة بشأن حجم المقاتلين الموجودين في غربي ليبيا، وخفض أعدادهم، في مقابل الحد من قوة وسيطرة مجموعات فاغنر في شرقي البلاد.

وأن هناك توافقًا بشأن استغلال التطورات الجديدة في العلاقة بين زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية التمرد الأخير للمجموعات التابعين للشركة، وأن هناك توافقًا بين الأطراف الثلاثة، وغيرها من الأطراف الأوروبية المؤثرة في المشهد الليبي، واتفاقًا على أن الفرصة مواتية لإنهاء وجود فاغنر في ليبيا[30].

5- فك الارتباط بالإخوان: بوصفه أحد المطالب الرئيسة التي تسعى مصر إلى إنجازها، خاصة أن تركيا ظلت لسنوات ملاذًا لقيادات وعناصر جماعة الإخوان.

ورغم أن تركيا اتخذت بعض الإجراءات مؤخرًا لتحجيم وتطويق النشاط الإخواني في تركيا مثل إغلاق قناة مكملين الفضائية، فإن هذا الملف لا يزال يحمل عددًا من التعقيدات، لعل أبرزها الموقف النهائي من القيادات الصادرة بشأنها أحكام ومطلوبة للقضاء في مصر.

وفي حين يرجح البعض بأن تتخذ تركيا إجراءات أكثر صرامة مع الإخوان، وذلك في ضوء جملة من الاعتبارات، لعل أبرزها قيام تركيا بإعادة حساباتها فيما يتعلق بالرهان على الإخوان والذي اختلف كثيرًا خلال العقد الماضي؛ فبعدما كان تمكين الإخوان في الاقليم ضمن استراتيجية تركيا بعد أحداث 2011 وجزء من سياستها الخارجية، تراجع هذا الرهان واصطدم بواقع جديد فرضته حالة السقوط والتهاوي الاقليمي للجماعة وتراجع نفوذها في كافة الدول التي سعت إلى فرض نفوذها فيها[31].

ولعل السياسات التركية المتبعة علي أرض الواقع تدعم هذا الاتجاه. ففي تحرك ذي دلالة سياسية في سياق التقارب المتسارع مع مصر، بدأت السلطات التركية حملة توقيف بحق العشرات من شباب الإخوان المقيمين على أراضيها منذ سنوات، بينما تقرر عدم تجديد إقامة الكثير من العناصر الإخوانية، وهو ما يعني ضرورة مغادرتهم الأراضي التركية في غضون أسابيع.

تزامنت تلك الإجراءات مع تكرار رفض السلطات التركية منح عدد من قيادات محسوبة على التنظيم الجنسية التركية، وهو إجراء لجأت إليه أنقرة مرارًا في سنوات سابقة لتوفير حصانة للكثير من قيادات “الإخوان” المدانين بأحكام جنائية في مصر، يصل بعضها إلى الإعدام. كما فرضت قيودًا جديدة على أنشطة جماعة “الإخوان”، وطالبت قياداتها بوقف أي أنشطة لها ضد مصر من داخل الأراضي التركية.

وهناك توقعات بأن ثمة إجراءات متصاعدة قد تلجأ إليها السلطات التركية في هذا الصدد تصل إلى التفكير في سحب الجنسية من قيادات التنظيم الذين حصلوا عليها في سنوات سابقة.

وكشفت تقارير إعلامية أن السلطات التركية كثفت من حملاتها ومداهماتها بعد انتهاء الانتخابات التركية، في مايو 2023، ضد عناصر الإخوان المقيمين في البلاد، وقامت باحتجاز نحو 60 عنصرًا إخوانيًا، لا يحملون هويات أو إقامات أو جنسيات، بينما جرى بالفعل ترحيل نحو 7 من هؤلاء العناصر إلى دول مجاورة. ونقل موقع “العربية” عن مصادر تركية أن السلطات التركية “تعتزم ترحيل وطرد جميع من تصفهم بالمهاجرين غير الشرعيين خلال 5 شهور فقط”.

وكانت وسائل إعلام تركية قد نقلت تأكيدات وزير الداخلية التركي الجديد، علي يرلي كايا، أن أجهزة الأمن والشرطة كثفت عمليات التفتيش بشأن من وصفهم بـ”المهاجرين غير الشرعيين” في ولاية إسطنبول بشكل خاص، وبقية الولايات التركية بشكل عام.

ورفضت السلطات التركية بالفعل خلال الآونة الأخيرة منح الجنسية عددًا من العناصر الإخوانية، منهم إسلام الغمري ومصطفى البدري ومحمد إلهامي، كما رفضت قبل أسابيع منح الجنسية للداعية الإخواني المدان بالإعدام في مصر، وجدي غنيم، الذي أعرب في تسجيل مصور عن خيبة أمله إزاء القرار، الذي جاء بعد سنوات من إقامته في تركيا عقب ترحيله من قطر.

ولا تتوافر تقديرات رسمية لعدد العناصر الإخوانية المقيمة على الأراضي التركية، إلا أن بعض التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن العدد يصل إلى نحو 5 آلاف، منهم نحو ألفي شخص حصلوا على الجنسية التركية أو الإقامة بطريقة رسمية، فيما لا يزال الباقون يقيمون بصورة غير رسمية، ويصنفون من قبل السلطات التركية على أنهم «مهاجرون غير شرعيين»[32].

وفي المقابل، يستبعد البعض أن يصل الأمر إلي إخراج المعارضة المصرية من تركيا بصورة نهائية، أو تسليمهم للنظام المصري، وذلك لعدة أسباب: فبنظرة معمقة على الخلاف التركي-المصري تقول إن المعارضة المصرية لم تكن السبب المباشر للخلاف – ولا حتى أهم أسبابه – ولا يفترض أن تكون أهم متطلبات التقارب.

فالخلاف بدأ مع عدم اعتراف تركيا بانقلاب 2013 قبل أن يكون للمعارضة المصرية وجود أو حضور فيها، ثم تعمق لاحقًا مع حالة الاستقطاب في المنطقة. هذا الموقف لا علاقة مباشرة له بدعم تركي مفترض للمعارضة أو للإخوان المسلمين، وإنما لاعتبارات أخرى منها شرعية الرئيس محمد مرسي وانتخابه ديمقراطيًا وليس لأنه من الإخوان، ورفض تركيا للانقلابات العسكرية التى عانت منها لسنوات طويلة.

ومن جانب ثان، تبدو المعارضة المصرية اليوم ضعيفة ومشرذمة وبعيدة عن إمكانية التأثير في المشهد المصري الداخلي، وباتت أقرب إلى حالة إعلامية منها إلى معارضة سياسية فاعلة، ومن ثم فهي ليست اليوم هاجسًا أمنيًا أو سياسيًا للنظام المصري.

ومن جانب ثالث، موضوع استضافة المعارضة ليس فعلًا تركيًّا من طرف واحد، فمصر أيضًا فتحت أراضيها وإمكاناتها لجماعة غولن المصنفة على قوائم الإرهاب التركية والمتهمة بتنفيذ الانقلاب الدموي الفاشل عام 2016.

ومن جانب رابع، ثمة مصالح حيوية بين البلدين أرجح كثيرًا في كفة العلاقات من نقاش موضوع المعارضة المصرية. فملفات مثل ترسيم الحدود البحرية أو الملف الليبي أو حتى التجارة البينية والاتفاقات الاقتصادية المفيدة للجانبين أهم بكثير للقاهرة وليس فقط لأنقرة من ملف المعارضة.

ومن جانب خامس، إن المتوقع للعلاقات المصرية-التركية أن تنتقل بعد التهدئة الحالية إلى خطوات بناء الثقة وربما التوصل إلى اتفاق بحري، أي تفاهمات على أساس التنافس والخلاف وليس التعاون والتحالف. وعليه، فليس هناك ما يغري أنقرة أو يدفعها إلى التخلي تمامًا عن المعارضة المصرية إرضاء للقاهرة.

وأخيرًا، لا يعني كل ما سبق أن المعارضة المصرية في تركيا بعيدة عن التأثر بأي تقارب بين البلدين، وإنما الحديث هنا عن عدم محوريتها في أسباب الخلاف وسياق التقارب، وبقائها ضمن إطار التوابع والارتدادات.

وعليه، فإن فكرة التعاون الأمني مع النظام المصري وتسليمه من يطالب بهم من رموز المعارضة ليس أمرًا محتملًا ولا حتى افتراضًا قائمًا بجدية، كما تروج بعض الأطراف[33].

لكن ذلك لا يمنع من تحجيم تحركاتهم علي الأراضي التركية. وفي هذا السياق، فقد تحدثت تقارير إعلامية عن أنه تم الاتفاق على تغيير أسماء الكيانات والروابط والشركات التابعة للجماعة في تركيا خشية تعرضها للتجميد أو الإلغاء من قبل السلطات التركية، مثل: “رابطة الإعلاميين المصريين بالخارج”، والكيان الخاص بالجالية المصرية الذي يُسيطر عليه القيادي الإخواني “عادل راشد” و “محمد نصرالدين الغزلاني”؛ المتهم في قضية “كرداسة”.

إلى ذلك؛ قرروا أيضًا تغيير أسماء الجمعيات التي تحمل دلالات إخوانية مثل: جمعية “رابعة” والكيانات التي كانت تندد بالإطاحة بحكم الإخوان في مصر؛ مثل: “برلمانيون ضد الانقلاب” و”طلاب ضد الانقلاب” وغيرها.

كذلك اتفقوا على منع استخدام مصطلح “الانقلاب”، في كافة الفضائيات الإخوانية العاملة في تركيا؛ والتي تُبث من إسطنبول[34].

ختامًا؛ يمكن القول بصورة عامة أن العلاقات الثنائية بين الدولتين تسير بخطي ثابتة نحو الأفضل سواء تعلق الأمر بالعلاقات الدبلوماسية من تبادل السفراء إلي عقد قمة بين الرؤساء أو العلاقات الاقتصادية وتعزيز التعاون الاقتصادي، ولكنها لا تعني حل الخلافات السياسية بين الدولتين بصورة نهائية حول القضايا الاقليمية المتمثلة في ليبيا وشرق المتوسط علي وجه الخصوص، وهي الخلافات التي كانت العامل الرئيسي في إبطاء – وفي مرات عديدة إيقاف – المباحثات القائمة بين الدولتين لحل الخلافات العالقة، مع توقع أن تساهم عودة العلاقات الدبلوماسية بصورة كبيرة في التوصل إلي تفاهمات بين الدولتين لحل خلافاتهما الاقليمية.


[1] “مصر وتركيا تتبادلان السفراء”، الجزيرة نت، 4/7/2023، الرابط: https://cutt.us/7c5gz

[2] “تطور العلاقات التركية المصرية وزيارة السيسي المرتقبة للبلاد”، ديلي صباح العربية، 14/7/2023، الرابط: https://cutt.us/Tduyl

[3] “مصر وتركيا… مرحلة جديدة من التقارب بعد رفع العلاقات الدبلوماسية”، العربي الجديد، 5/7/2023، الرابط: https://cutt.us/7NCjT  

[4] “آفاق العلاقات “المصرية – التركية” بعد قرار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية”، مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات والصراعات (الشرق الأوسط وأفريقيا)، 11/7/2023، الرابط: https://cutt.us/Rvbws

[5] “قمة أنقرة.. ملفات شائكة تنتظر الحسم بين أردوغان والسيسي”، نون بوست، 16/7/2023، الرابط: https://cutt.us/syeEN

[6] “آفاق العلاقات “المصرية – التركية” بعد قرار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية”، مرجع سابق.

[7] “تطور العلاقات التركية المصرية وزيارة السيسي المرتقبة للبلاد”، مرجع سابق.

[8] “طي الصفحة.. محفزات عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا”، المرصد المصري، 4/7/2023، الرابط: https://cutt.us/YL9Ih

[9] “آفاق العلاقات “المصرية – التركية” بعد قرار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية”، مرجع سابق.

[10] “مصر وتركيا: ماذا وراء عودة العلاقات بين البلدين عقب فوز أردوغان بفترة رئاسية جديدة؟”، بي بي سي عربي، 31/5/2023، الرابط: https://cutt.us/GSEgL

[11] “خطوات مهّدت لعودة العلاقات المصرية – التركية”، الشرق الأوسط صحيفة العرب الأولي، 30/5/2023، الرابط: https://cutt.us/bY7r9

[12] “دبلوماسية الكرة بين أردوغان والسيسي”، العربي الجديد، 22/11/2022، الرابط: https://cutt.us/x2mRY

[13] “العلاقات التركية-الخليجية.. مستوى جديد من التعاون”، عربي21، 15/7/2023، الرابط: https://cutt.us/ZuLyf

[14] “قمة أنقرة.. ملفات شائكة تنتظر الحسم بين أردوغان والسيسي”، نون بوست، 16/7/2023، الرابط: https://cutt.us/syeEN

[15] “آفاق العلاقات “المصرية – التركية” بعد قرار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية”، مرجع سابق.

[16] “زخم ممتد: آفاق العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 17/7/2023، الرابط: https://cutt.us/5y5Od

[17] “قمة أنقرة.. ملفات شائكة تنتظر الحسم بين أردوغان والسيسي”، مرجع سابق.

[18] “مصر وتركيا… مرحلة جديدة من التقارب بعد رفع العلاقات الدبلوماسية”، العربي الجديد، 5/7/2023، الرابط: https://cutt.us/7NCjT 

[19] “زخم ممتد: آفاق العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا”، مرجع سابق.

[20] “قبيل قمة السيسي – أردوغان .. هكذا ستتأثر الملفات المشتركة بعد ترقية مستوى العلاقات”، مصر 360، 9/7/2023، الرابط: https://cutt.us/Qg11o

[21] “زخم ممتد: آفاق العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا”، مرجع سابق.

[22] المرجع السابق.

[23] “آفاق العلاقات “المصرية – التركية” بعد قرار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية”، مرجع سابق.

[24] المرجع السابق.

[25] “العلاقات التركية-الخليجية.. مستوى جديد من التعاون”، عربي21، 15/7/2023، الرابط: https://cutt.us/ZuLyf

[26] “مصر وتركيا للتعاون في «التصنيع العسكري» بعد استعادة العلاقات”، الشرق الأوسط صحيفة العرب الأولي، 17/7/2023، الرابط: https://cutt.us/uhdOI

[27] “قبيل قمة السيسي – أردوغان .. هكذا ستتأثر الملفات المشتركة بعد ترقية مستوى العلاقات”، مرجع سابق.

[28] المرجع السابق.

[29] “سيناريوهات مصرية لإعلان استئناف العلاقات رسمياً مع حكومة الدبيبة”، العربي الجديد، 29/6/2023، الرابط: https://cutt.us/Kp1Ly 

[30] “تقارب رؤى أميركي مصري تركي بشأن “فاغنر” في ليبيا”، العربي الجديد، 4/7/2023، الرابط: https://cutt.us/2NnTE

[31] “طي الصفحة.. محفزات عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا”، مرجع سابق.

[32] “هل أدارت تركيا ظهرها لـ«الإخوان» بعد التقارب مع مصر؟”، الشرق الأوسط صحيفة العرب الأولي، 10/7/2023، الرابط: https://cutt.us/OIZpz

[33] “التقارب التركي-المصري والمعارضة المصرية”، الجزيرة نت، 14/3/2021، الرابط: https://cutt.us/tiabr

[34] ” عقب مصافحة السيسي وأردوغان.. تغييرات إخوانية في تركيا”، العربية نت، 21/11/2023، الرابط: https://cutt.us/kdvu9   

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022