في الثامن من فبراير، وقَّع كلٌّ من وزير الدفاع التركي يشار غولر والصومالي عبدالقادر محمد نور اتفاق إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي. ويأتي هذا الاتفاق بين الصومال وتركيا في ظل أزمة سياسية بين إثيوبيا والصومال على خلفية توقيع أديس أبابا مذكرة تفاهم مع صوماليلاند (إقليم جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها دوليًا)، حصلت أديس أبابا بموجبه على حق استخدام واجهة بحرية في صوماليلاند. واعتبر الصومال هذه المذكرة تعديًّا صارخا على سيادته، في موقف حظي بدعم من دول ومنظمات عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي. فما هي حلفيات الحضور التركي في إفريقيا؟ وما هي تفاصيل ذلك الاتفاق؟ وكيف ستنعكس على الاستثمارات والمصالح الإقليمية في الموانئ الصومالية؟ ولماذا تركيا وليست مصر أو غيرها من الدول العربية؟ تلك هي التساؤلات التي سنحاول الإجابة عليها خلال تلك الورقة..
الحضور التركي في الصومال: الحضور التركي المتمدد في إفريقيا عمومًا، والصومال على وجه الخصوص، ليس وليد لحظة توقيع الاتفاق الدفاعي بين البلدين، ويُمكن التأسيس له منذ العام 2002، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. عام 2005، أعلنت تركيا أنه “عام إفريقي”، وعام 2010، عُقد مؤتمر في إسطنبول لدعم العلاقات بين تركيا والصومال. وعندما كان الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان رئيسًا للوزراء في تركيا، زار الصومال في 19 أغسطس 2011، وكانت هذه الزيارة هي الأولى لمسؤول تركي بهذا المستوى منذ 20 عامًا، واستغرقت يومًا واحدًا، واصطحب فيها عائلته و5 وزراء و50 صحافيًا. وبعدما أصبح رئيسًا للجمهورية التركية، عاد في إطار تعزيز الدور التركي في 25 يناير 2015 لزيارة مقديشو مرة أخرى. ووقَّعت أنقرة عام 2020 اتفاق للتنقيب عن الغاز والبترول في المياه الصومالية، وتوسَّطت بين الصومال وكينيا للتوصُّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية المشتركة بينهما، وأنشأت أنقرة قاعدة فضائية في الصومال بكلفة 350 مليون دولار لإطلاق الأقمار الصناعية منها. وتُرجمت العلاقات الأمنية والعسكرية بين تركيا والصومال بشكلٍ أوضح في نهاية العام 2022، عندما كشف حسين معلم محمود، مستشار الأمن القومي للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، عن مشاركة الطائرات المُسيرة التركية “بيرقدار 2” في الحرب التي تشنّها بلاده على حركة الشباب. يأتي توقيع الاتفاق الدفاعي بين تركيا والصومال ضمن سياق الاستراتيجية التركية لتوسيع حضورها ونفوذها في القارة الإفريقية وتنويع علاقاتها الاقتصادية وفتح أسواق واستثمارات جديدة في إفريقيا، وتحديدًا الصومال وجيبوتي، والتمدد خارج الجغرافيا التقليدية للدور والحضور والنفوذ التركي.[1]
تصاعد التوترات في القرن الإفريقي: لا تزال التوترات مرتفعة في منطقة القرن الإفريقي بعد أن وقَّعت إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الانفصالي اتفاقًا مُثيرًا للجدل يمنح أديس أبابا حق الوصول إلى البحر الأحمر. وبموجب الاتفاق المُوقَّع في أوائل يناير، ستقوم أرض الصومال بتأجير 20 كيلومتر (12 ميل) من ساحلها لإثيوبيا غير الساحلية لاستخدامها كقاعدة عسكرية ولأغراض تجارية. وفي المُقابل تدرس إثيوبيا الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة. وأعلنت أرض الصومال، وهي منطقة صغيرة تقع على ساحل خليج عدن، استقلالها في عام 1991، لكنها لا تزال تحظى بالاعتراف الدولي كجزء من الصومال. وأثارت الصفقة مخاوف من نشوب صراع أوسع نطاقًا حيث تتنافس عدة قوى كبرى على النفوذ في المنطقة الاستراتيجية. يمتد الخط الساحلي الصومالي الذي يبلغ طوله 3025 كيلومتر (1879 ميل)، وهو الأطول في إفريقيا، على طول خليج عدن إلى الشمال والمحيط الهندي إلى الشرق والجنوب. تحدها كينيا وإثيوبيا من الغرب وجيبوتي من الشمال الغربي، وتُعتبر بوابة إلى إفريقيا. وندَّدت الصومال بشدة بالاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال ووصفته بأنه انتهاك صارخ لسيادتها الإقليمية. بينما قلَّل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد من المخاوف من نشوب صراع مسلح، قائلًا إن بلاده لا تُخطِّط لحرب مع الصومال. وفي حديثه أمام البرلمان الإثيوبي في وقتٍ سابق، أكَّد أن الاتفاق لا يُفيد إثيوبيا فحسب، بل يُفيد أيضًا “التعاون الإقليمي”.[2]
عن الاتفاق: وقَّعت تركيا والصومال في العاصمة أنقرة يوم 8 فبراير، اتفاق إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي. المعلومات المنشورة حول الاتفاق ما تزال شحيحة؛ ولكن بحسب المُعلن؛ تبلغ مدة ذلك الاتفاق 10 سنوات، وبموجبها تُقدِّم تركيا الحماية للمياه الإقليمية الصومالية كأنها منطقة سيادة تركية، تسير فيها دورات بحرية لمكافحة الأنشطة غير القانونية من قرصنة وإرهاب وصيد غير مشروع وإلقاء نفايات من السفن الأجنبية، على أن تقوم تركيا ببناء القوات البحرية لدولة الصومال خلال المدة نفسها. في المُقابل، تُمنح أنقرة حق استغلال 30 بالمئة من ثروات الساحل الصومالي الأطول في القارة الإفريقية، وتحصل على حصة من تلك الثروات. لا يُعرف بعد مقدار هذه الحصة أو إن كانت تلك الثروات تقتصر على الثروة السمكية الهائلة في مياه البلاد، أم تمتد لتشمل التنقيب واستخراج النفط. وتشير تقديرات إلى أن الصومال يمتلك نحو 250 منطقة بحرية مُحتمل وجود النفط فيها، وقد أعلن وزير البترول والمناجم عن البدء في ترسية سبع مناطق استكشاف في المياه الإقليمية، ثلاثة منها تقع في مياه إقليم صوماليلاند.[3] وقد وافق البرلمان الصومالي بمجلسيه، الشعب والشيوخ، في جلسة غير عادية مشتركة، على الاتفاق. وصوَّت 213 عضو في البرلمان الفيدرالي لصالح الاتفاق، بينما رفضها 3 أعضاء من أصل 331 عضو بمجلسي البرلمان الصومالي. وفي كلمة غير مُجدولة مُسبقًا، تحدَّث الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود أمام جلسة مُغلقة للبرلمان نظرًا لحساسية الخطاب. ولاحقًا، عقد شيخ محمود مؤتمرًا صحفيًا بقصر الرئاسة، إثر موافقة البرلمان على الاتفاق، تحدَّث خلاله عن مضمونها. وقال شيخ محمود أن الاتفاق مدته 10 سنوات، وتستهدف بناء البحرية الصومالية وتدريبها وتأهيلها وتسليحها، ولفت إلى أن النقاشات التي أسفرت عن هذا الاتفاق بدأت قبل فترة طويلة لكنها تزامنت في إبرامها مع الأزمة الدبلوماسية مع إثيوبيا. وأكد أن “الصومال لا يريد حربًا بالوكالة بين أطراف إقليمية أو دولية في أراضيه، ويسعى إلى التعاون مع الجميع”. وأوضح أن الاتفاق إطاري، ويترتب عليها اتفاقيات وبروتوكولات تنفيذية لتطبيقها بشكل كامل. وتعهَّد الرئيس الصومالي بأن الاتفاق لن يبقى سري وسيتم اعتماده رسميًا بشكل نهائي، وسيتم نشره في الجريدة الرسمية.[4]
ما الذي يُغطيه الاتفاق؟ يمتد “الاتفاق الإطاري للتعاون الدفاعي والاقتصادي” الذي أُبرم مع الصومال لمدة 10 سنوات، ووفقًا للمعلومات المتوفرة من أنقرة، فإن مجالات التعاون تشمل: إدخال الموارد البحرية في الاقتصاد. تخطيط وتنفيذ العمليات الجوية والبرية والبحرية المشتركة، في حال الحاجة للدفاع فيما يتعلق باستخدام هذه الموارد. بناء السفن وإنشاء الموانئ والمرافق وتشغيلها، واتخاذ الترتيبات القانونية اللازمة لذلك، وتوحيد قوانين الملاحة البحرية بين البلدين. اتخاذ تدابير أحادية ومشتركة لمكافحة جميع أنواع التهديدات في المناطق البحرية الخاضعة للسيادة، مثل “الإرهاب” والقرصنة والنهب والصيد غير القانوني والتهريب. بناء منشآت أحادية ومشتركة وإقامة مناطق أمنية. تقديم الدعم التدريبي والتقني والمعداتي للجيش الصومالي. إنشاء وإدارة منشآت أمنية ساحلية. تطوير وتحديث القوة البحرية. منع التلوّث البحري. وستحصل الشركات التي ستعمل في جميع هذه المجالات على الموافقة من تركيا، وسيتم فتح المجال الجوي الصومالي ومناطقها الأمنية بالكامل أمام أنقرة. وبعد الاتفاق الإطاري سيتم توضيح التفاصيل من خلال بروتوكولات فرعية. وقال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، في إجابته عن أسئلة الصحفيين بعد موافقة البرلمان على الاتفاق “سننشئ قوة بحرية مشتركة، وسيقوم إخواننا الأتراك بحماية بحارنا لمدة 10 سنوات في إطار هذا الاتفاق، وبعد 10 سنوات من التعاون، سيكون لدينا قوة بحرية لحماية بحارنا. وبموجب الاتفاق، ستعمل تركيا على حماية ما يقارب 3 آلاف كيلومتر من ساحل الصومال، من كينيا إلى جيبوتي، بواسطة سفن حربية وجنود أتراك، ولم يتضح بعد إن كانت ستتم هذه الحماية في خليج عدن ومنطقة أرض الصومال، حيث سيتم تحديد الوضع بدقة إثر توقيع البروتوكولات الفرعية بعد الاتفاق الإطاري.[5]
أهمية الاتفاق وفقًا لتصريحات الجانبين: وافقت حكومة وبرلمان الصومال على اتفاق دفاعي مع تركيا على خلفية توتراتها الإقليمية مع إثيوبيا التي وقَّعت اتفاقًا مع منطقة أرض الصومال الانفصالية. وبموجب هذا الاتفاق الدفاعي، ستساعد تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، في الدفاع عن المياه الإقليمية للصومال، وإعادة تنظيم القوات البحرية للبلد المضطرب في القرن الإفريقي، وفق ما أوضح الرئيس حسن شيخ محمود عقب جلسة مشتركة للبرلمان. وأضاف شيخ محمود أن “الاتفاق الذي عُرض على البرلمان اليوم يتعلَّق فقط بالتعاون بين الصومال وتركيا في مجال الدفاع البحري والمسائل الاقتصادية، ولا يهدف بأي حال إلى إثارة الكراهية أو نزاع مع أي دولة أو حكومة أخرى”. وأوضح الرئيس الصومالي -خلال مؤتمر صحفي- أن هناك “انتهاكات كثيرة في بحر الصومال مثل الصيد غير القانوني واستخدام الإرهابيين والقراصنة والتلوث”، مُؤكدًا أن الاتفاق التاريخي المُبرم بين الحكومة الفيدرالية ونظيرتها التركية في مجال التعاون الدفاعي والاقتصادي سيُساعد في حل كل هذه الأزمات. وتابع “الاتفاق التي أبرمناه مع الحكومة التركية سيستمر لمدة 10 سنوات، وسيتم بناء القوات البحرية الصومالية، وأنه مهم أيضًا للتنمية الاقتصادية والاستفادة من الموارد الطبيعية”.[6] وقال رئيس وزراء الصومال، حمزة عبدي بري، إن اتفاق التعاون الدفاعي والاقتصادي المُوقَّع بين الصومال وتركيا “سيحدّ من الطمع الخارجي بمياهنا”. وأضاف عبدي بري في جلسة استثنائية لمجلس الوزراء أن هذا الاتفاق هو “اتفاق مصيري سيُمهِّد للصومال طريقًا جديدًا لم يتم تحقيقه بعد، حيث سيُعزِّز الإنتاج البحري والاقتصاد الأزرق”. وأكَّد رئيس الحكومة، أن الاتفاق “سيُنهي مخاوف مقديشو من الإرهاب والقرصنة والصيد الجائر، والتلويث البحري، في مياهنا وثرواتنا، إلى جانب التهديدات الخارجية”. وأشار إلى أن الاتفاق المُبرم بين البلدين ستلعب دورًا كبيرًا في تشكيل وتدريب البحرية الصومالية لتعزيز إمكاناتها للدفاع عن المياه الصومالية.[7] وقال مسؤول كبير بوزارة الدفاع التركية للصحفيين: “بناءً على طلب الصومال، سنُقدِّم الدعم في مجال الأمن البحري، كما فعلنا في مجال مكافحة الإرهاب”. “وبالتالي سنساعد الصومال على تطوير قدراته وإمكانياته لمكافحة الأنشطة غير القانونية وغير النظامية في مياهه الإقليمية”. وأشار المسؤول إلى أن تركيا تُقدِّم الدعم للصومال لإعادة تنظيم جيشه وتعزيز حربه ضد الإرهاب. وأضاف المسؤول أن الاتفاق، الذي وافقت عليه مقديشو، سيدخل حيز التنفيذ بمجرد موافقة الحكومة التركية عليه أيضًا.[8]
أهداف الاتفاق: يستهدف الاتفاق توسعة التعاون العسكري والأمني الثنائي بين تركيا والصومال، ولاسيما أنه يستهدف أيضًا التدريبات العسكرية المشتركة، كتدريب “كتائب جرجور” التي تعد نواة الجيش الصومالي، وتقديم المعدات اللازمة للقوات الصومالية، بما في ذلك الطائرات المُسيرة التركية “بيرقدار”، إضافةً إلى تبادل المعلومات الاستخبارية والتعاون ضد الإرهاب، الأمر الذي يُعزِّز الدور التركي دوليًا وعالميًا في إفريقيا، ولاسيما عقب تراجع الحضور الأوروبي عمومًا، والفرنسي على وجه الخصوص، في القارة الإفريقية. ومن بين أهداف الاتفاق الذي يأتي قُبيل مغادرة قوات حفظ السلام الإفريقية “أتميس” الصومال في ديسمبر 2024، مما سيجعله يساهم في تعزيز الدور التركي ليصبح فاعلًا إقليميًا مهمًا في القارة الإفريقية، ويجعل أنقرة ضمن سياسة “الحزام الآمن” التركية التي أعلنها أردوغان عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في مايو 2023، والتي تقضي بمدّ النفوذ التركي إلى الأقاليم المهمة المحيطة بتركيا كافة. الاتفاق الدفاعي بين تركيا والصومال يعني أن تركيا ستكون حاضرة في جغرافيا واحدة من أهم الدول الإفريقية التي لم تكن محل اهتمام دولي طوال العقود الثلاثة الأخيرة، على الرغم من أهميتها الاستراتيجية وموقعها اللوجستي في القارة الإفريقية. يُذكر أنّ تركيا تدير عددًا من الموانئ البحرية والجوية الرئيسية في مقديشو، إذ بنت وأدارت مطار مقديشو، وهذا يوفر 80% من عائدات الحكومة الصومالية. وبالتالي، فإن الاتفاق يعني أن تركيا ستكون موجودة في البحر الأحمر ومتمددة فيه، ولن تكتفي بسواحل الصومال التي تمتد من المحيط الهندي وخليج عدن وباب المندب.[9]
المكاسب الصومالية والتركية: الاستفادة من الموارد البحرية شيء مهم، ونظرًا للظروف الصومالية والتركيبة السياسية فتوقيع أية اتفاق تُحقِّق ذلك ولو بالشيء اليسير هي خيار جيد. والصومال بلا شك سيُحقِّق مكاسب كبيرة من الاتفاق، منها حماية السواحل من إلقاء النفايات النووية والمخلفات والقراصنة والصيد غير الشرعي، التي تسبَّبت في حرمان مراكب الصيد الوطنية من الصيد بحرية في المياه الإقليمية، لمسافة أبعد من 10 كم. والاتفاق سيوُفِّر الأمن والتنمية للثروات البحرية، فالصومال لديه ثروات بحرية كبيرة غير مُستغلة، وتركيا لديها القدرات العسكرية التي يريدها الصومال لبناء قوات مُسلحة بحرية وبرية وجوية، ولهذا سيكون الاتفاق بمثابة استثمارات تُحقِّق المنفعة للطرفين. كما أن الاتفاق سيُساعد مقديشو في مدّ سيطرتها علي كل ربوع البلاد بما فيها صوماليلاند وبونتلاند في المستقبل القريب. ويُمكن القول إن المكاسب التي ستعود على تركيا تشمل مبيعات الأسلحة على مدار عشر سنوات، خاصةً وأن الصومال بات له الحق في استيراد السلاح بعد رفع الحظر الأممي عنه أواخر العام الماضي. فضلًا عن المزايا التفضيلية للشركات التركية في الاستثمار في الثروات البحرية سواء الصيد والطاقة والموانئ وغير ذلك. إلى جانب تعزيز النفوذ السياسي لأنقرة، وتعزيز العلاقات التركية- الإفريقية بشكلٍ عام، علاوةً على زيادة الحضور العسكري في واحدة من أهم المناطق التي تمر عبرها التجارة الدولية بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر.[10]
مصالح الدول الأخرى: كينيا؛ كانت محكمة العدل الدولية قد حكمت لصالح الصومال في النزاع البحري مع جارتها الجنوبية كينيا في 2021، وهو ما رفضته الأخيرة، وبحسب الاتفاق الجديد تتولَّى تركيا مهام حماية المياه الإقليمية الصومالية المُقدَّرة بنحو 3333 كم، وتطل على المحيط الهندي وبحر العرب وخليج عدن، ولهذا بالحد الأدنى ضمن الصومال دعمًا بحريًا حال تفاقُم النزاع مع جارته كينيا. الإمارات: تُعتبر الإمارات العربية المتحدة من أهم الدول العربية التي لها مصالح في الصومال، ووقَّعت اتفاقيتين لإدارة ميناء بوصاصو في ولاية بونتلاند، واتفاق لإدارة ميناء بربرة في صوماليلاند، مع السلطات المحلية لتلك المناطق، وهو ما خلق أزمة دبلوماسية مع مقديشو إبان عهد الرئيس السابق، محمد عبد الله فرماجو، حيث اتّهم الأخير أبوظبي بانتهاك سيادة بلاده. لكن رغم ذلك يرى البعض أن الإمارات حليف إستراتيجي للصومال، وتجمعهما علاقات قوية، ولهذا فلا تعارض بين الاتفاق والمصالح الإماراتية. لاسيما وأن هذه الفترة تشهد تقاربًا بين تركيا والدول العربية لاسيما الإمارات والسعودية ومصر، كما أن الصومال أبلغ تلك الدول بالاتفاق، وفق ما تم تداوله من معلومات. كما أن الاتفاق مع تركيا دفاعي، بينما اتفاقيات الإمارات في الموانئ هي تشغيلية، ولهذا فلا تعارض. بينما يرى البعض الآخر أن الإمارات ساعدت من قبل في مكافحة القرصنة، لكن دورها بعد هذا الاتفاق سيتقلَّص. وبشكلٍ عام، تحتاج الإمارات إلى تأسيس علاقات توافق الدستور الصومالي لتضمن لها استمرارية التواجد على التراب الصومالي، وإلى أن تخرج من التناقضات التي تجعلها شريك لجميع الخصوم في المنطقة، مثل إثيوبيا والصومال وصوماليلاند. على جانب آخر، فالإمارات مُنخرطة في صراعات القوى المحلية على غرار علاقاتها القوية بصوماليلاند وولاية بونتلاند، ولهذا تتأثر علاقاتها بالتطورات في الصراعات المحلية. إثيوبيا: لا ينفصل الاتفاق الدفاعي الاقتصادي بين الصومال وتركيا عن الأزمة الصومالية- الإثيوبية التي اندلعت بعد توقيع مذكرة التفاهم البحرية بين صوماليلاند وأديس أبابا، على الرغم من أن كبار المسؤولين في مقديشو نفوا أن يكون الاتفاق مُوجَّه ضد دولة بعينها. من جانب آخر، شهدت العلاقات التركية- الإثيوبية تطورًا كبيرًا، ووقَّع البلدان عدة اتفاقيات في الاقتصاد والتعاون العسكري في العام 2021، فضلًا عما نُشر من تزويد أنقرة لأديس أبابا بطائرات مُسيّرة استخدمتها في الحرب ضد إقليم تيجراي. إلا أن البعض يرى أن تركيا لم تستفد الكثير من علاقاتها مع إثيوبيا، بسبب الاضطرابات والحروب الأهلية في الأخيرة، ولهذا تراجع زخم العلاقات بين البلدين وتراجعت الاستثمارات التركية في إثيوبيا.[11]
لماذا تركيا؟ ولماذا لم تكن دولة عربية، وخصوصًا مصر التي تعهَّد رئيسها خلال استقباله الرئيس الصومالي في القاهرة قبل شهر بالدفاع عن الشقيقة الإفريقية العربية إذا ما طلبت ذلك؟ يرى البعض أنه بالرغم من كون الصومال جزء لا يتجزأ من جامعة الدول العربية، لكن عدم جرأة الجامعة في اتخاذ قرار بمساعدته في التصدي للأطماع الإثيوبية، جعلته يلجأ إلى تركيا، لاسيما بعد ما تم تداوله حول محاولات الصومال مع الجامعة ودولها تحويل قرارات التضامن ودعم سيادته واستقلاله إلى تطبيق في أرض الواقع، لكن على ما يبدو لم يحدث ذلك، فلجأ إلى تركيا. الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأن الدول العربية خذلت الصومال منذ انهيار الدولة المركزية، بل وخوّلت إثيوبيا التي تُعتبر عدوًا بتولِّي زمام الأمور في البلاد، ولهذا لا توجد رغبة شعبية في الصومال نحو دور عربي، وقد دفع ذلك الإهمال العربي الصومال للتوجه نحو تجمعات إقليمية أخرى مثل مجموعة شرق إفريقيا (EAC) التي انضم إليها مؤخرًا. ويرى البعض الآخر أن الصومال اختار تركيا لعدة اعتبارات، وهي أن أطماع تركيا في استقطاب الصومال واستغلاله ونهب خيراته قليلة، إلى جانب قوتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية باعتبارها عضو قوي بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويأتي جيشها بالمرتبة الأولى بالشرق الأوسط، والـ 11 عالميًا بين أقوى جيوش العالم 2023، هذا بالإضافة لما يُكنُّه شعب وحكومة الصومال من تقدير للدعم التركي الواسع والشامل منذ مجاعة عام 2011، وهو ما لم يحصل الصومال حتى على ربعه من أشقائه العرب. الأمر الذي يبدو عند المقارنة بين رد فعل الشارع الصومالي المُرحب بالاتفاق مع تركيا، ورد الفعل غير المُهتم بمذكرة التفاهم الدفاعية مع قطر، والتي جاءت بعد يوم من التصديق على الاتفاق الأول. وهو ما نتج عن قناعة لدى الشعب الصومالي بأن قطر لا تساعد الصومال عبر معادلة إيجابية لينهض، بل وفق مصالحها الإستراتيجية فقط.[12]
التأثير السياسي والاستراتيجي للاتفاق على الإقليم ومدى توافقه مع المصالح المصرية: في هذا الإطار؛ يرى البعض أن هذا يخضع للتجربة والممارسة ولا يُمكن الحكم عليه الآن، فلا شك أن التقارب التركي- المصري مؤخرًا، الذي تمَّ تتويجه بزيارة الرئيس التركي، للقاهرة ولقاء السيسي في 14 فبراير، ربما كان أحد أهم أسبابه هذه الخطوة الجريئة والمهمة من جانب تركيا لعقد اتفاق من هذا النوع، وبمنطقة شديدة الحساسية والخطورة. ومن السابق لأوانه القول بأن هذا الاتفاق يُمكن أن يُوظف في المستقبل من القوى المناهضة للوجود التركي أو التوسع التركي بالمنطقة بشكلٍ أو بآخر، فيُمكن أن تستخدم تلك القوى الحضور التركي لتوتير العلاقات مع مصر أو دول الإقليم مستقبلًا، وسيتضح الأمر لاحقًا. ويرى هؤلاء أن تركيا أدَّت أدوارًا مهمة ببعض الملفات، وكانت حريصة على ألا تتدخَّل بصراعات الإقليم، ومع إمكانية وجود دور للاتفاق التركي- الصومالي في منع التمدُّد الإثيوبي باتجاه البحر الأحمر، فيبرز وجود مصلحة مصرية في ذلك. ومن ثمَّ؛ فالاتفاق من السابق الحكم عليه، ولكن السلوك التركي من سيُحدِّد علاقة باقي الأطرف به، وسيُحدِّد ما إذا كان الاتفاق مادة للتعاون المشترك بالإقليم، أو فيه صراع للدولة التركية وبعض دول الإقليم. ومن ناحية أخرى، فإن تركيا موجودة بالفعل عسكريًا واقتصاديًا بالصومال، ومن ثمَّ فالاتفاق لن يُدشِّن وجودًا عسكريًا جديدًا لتركيا، بل سيُعزّز أمن المنطقة، باعتباره أمرًا واقعًا. وبعدما شهدت العلاقات المصرية- العربية تحوُّلًا إيجابيًا بعد الزيارة الخليجية، وكذلك بعد إنهاء الأزمة الخليجية، حيث يبدو أن قطر أدَّت دورًا رئيسًا بالوساطة بين السعودية والإمارات من جهة ومصر من جهة أخرى، مع تركيا؛ فإن هذا يفيد بوجود تنسيق أمني بين مختلف الأطراف، وكذلك في إطار الحوار الاستراتيجي الذي يُعقد بينها، والذي من المُؤكد أنه لا يغيب عنه أمن الملاحة بالبحر الأحمر وبالقرن الإفريقي، التي باتت محل اهتمام الدول القائدة بالإقليم.[13]
الخُلاصة؛ لا شك أن الاتفاق المُوقّع بين الصومال وتركيا ستكون له تأثيرات هامة في المنطقة، فعلى جانبي خليج عدن هناك اليمن وجيبوتي والصومال، وللمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة والكيان الصهيوني كذلك تأثير كبير في منطقة القرن الإفريقي، ولديهم قواعد عسكرية في إثيوبيا والصومال وجيبوتي. والآن، تأتي تركيا كقوة عسكرية إلى الصومال، ومن المُحتمل أن تقوم بحماية المياه الساحلية في خليج عدن باستخدام سفن حربية. وبالطبع، سيؤدي ذلك إلى تغيير في التوازنات، ومن ثمَّ فمن غير المُرجَّح أن الاتفاق تمَّ توقيعه فقط بسبب التعاون بين إثيوبيا وأرض الصومال، بل لأن منطقة القرن الإفريقي أهم ممر لتجارة السفن في العالم، وجميع الدول مهتمة بها، وليست تركيا فقط. لكن على الأقل فقد جاء الاتفاق في وقت تحسُّن العلاقات المصرية والعربية مع تركيا؛ ما من شأنه أن يفتح الباب لتعاون مشترك فشلت في تحقيقه الدول العربية مع الصومال كباقي إفريقيا نتيجة لانطلاق الدول العربية في هذا الملف من مصالحها دون الالتفات للمصالح والأولويات للدول الإفريقية. وربما يصب هذا التعاون التركي- الصومالي في مصلحة مصر من ناحية حصار النفوذ الإثيوبي في المنطقة. لكن في الأخير تظل تلك التكهنات مرهونة بالتعاطي التركي مع الملف، ومستقبل العلاقات المصرية والعربية مع تركيا.
[1] ثابت العمور، “الاتفاق الدفاعي بين تركيا والصومال… الأبعاد والتداعيات”، الميادين، 26/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/DHxYbI8
[2] Ezgi Akin, Beatrice Farhat, “Turkey confirms Somalia maritime security deal amid Somaliland tensions, Al-monitor, 22/2/2024. At: https://2u.pw/af3mKpY
[3] حامد فتحي، “الحماية نظير ثروات بحرية… تفاصيل الاتفاقية الدفاعية بين الصومال وتركيا وتداعياتها”، رصيف 22، 24/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/ZQ7Cvd6
[4] معاوية فارح، “اتفاق تعاون دفاعي مع تركيا.. الصومال «يتسلح» لـ«حرب متعددة الأوجه»”، العين الإخبارية، 21/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/rJt1H3q
[5] كمال أوزتوك، “ما وراء كواليس اتفاق التعاون الدفاعي بين الصومال وتركيا؟”، الجزيرة نت، 25/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/wiO8nRL
[6] “الصومال توقع اتفاقا مع تركيا لحماية مياهها الإقليمية وبناء قوة بحرية”، الجزبرة نت، 21/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/4OGDGVF
[7] “رئيس الصومال: اتفاق التعاون مع تركيا لا تستهدف إثيوبيا”، العربي الجديد، 21/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/zYpOYnr
[8] Ezgi Akin, Beatrice Farhat, Loc. Cit.
[9] ثابت العمور، مرجع سبق ذكره.
[10] حامد فتحي، مرجع سبق ذكره.
[11] حامد فتحي، “الحماية نظير ثروات بحرية… تفاصيل الاتفاقية الدفاعية بين الصومال وتركيا وتداعياتها”، رصيف 22، 24/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/ZQ7Cvd6
[12] حامد فتحي، مرجع سبق ذكره.
[13] “الاتفاق الدفاعي البحري بين تركيا والصومال.. هل يتوافق مع مصالح مصر؟”، ترك برس، 23/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/qetzF21