للنظم السلطوية ملامح تميزها، تكتسب هذه النظم ملامحها تلك جراء حرصها على استدامة بقائها، ما يفرض عليها، ما يمكن تسميته شروط ولوازم البقاء، من هذه الشروط واللوازم في الحالة المصرية، نشير إلى ما يلي:
- هندسة المجال العام بما يضمن بقاء النظام القائم:
أولى ملامح النظام الاستبدادي هو الإخفاق في تحقيق تنمية أو استقرار اقتصادي وأمني حقيقي؛ هذا الفشل هو الذي يعري الطبيعة الاستبدادية للنظام أمام المجتمع، فلولا الفشل لما تكشفت الطبيعة الاستبدادية للنظام؛ فالفشل هو الذي يدفع الناس للتململ، وتململ الناس واحتجاجهم هو الذي يدفع النظام الاستبدادي للكشف عن وجهه القبيح رداً على أصوات الاحتجاج وإسكاتًا للأصوات المعترضة.
إن وظيفة المجال السياسي هو فتح المجال أمام القوى الاجتماعية والاقتصادية المختلفة للتعبير عن نفسها، وإفراز فاعل سياسي يعبر عنها ويتبنى مصالحها ويدافع عنها، والمجال السياسي الديمقراطي هو المجال الذي يسمح لجميع القوى الاجتماعية في التعبير عن نفسها عبر بناء تنظيمات ممثلة لها، وعليه يصبح المجال السياسي مرآة تعكس المجتمع ككل، أما النظام السلطوي فهو النظام الذي يهندس المجال السياسي عبر إقصاء القوى غير المتحالفة معه، وغير المدجنة، مهما كان حجم التمثيل والحضور الاجتماعي الذي تتمتع به هذه القوى المستبعدة.
وهذه هي آفة النظام السلطوي، أنه يخلق مجال سياسي لا يعبر حقيقة عن المجال الاجتماعي بكل مكوناته وتنوعها، فهو مجال مروض مؤمم يضم فقط المؤيدين والمعارضة المدجنة، وعليه تبقى الكثير من القوى الفاعل غير ممثلة؛ ومن هنا يتأتى عدم استقرار النظم السلطوية؛ كونها تخلق مجال سياسي هش عرضة للتقويض أو للاقتحام من جانب القوى الاجتماعية غير الممثلة فيه، وهذه القوى عندما تقتحم المجال السياسي تقوضه، كونه يحتكم إلى قواعد وقوانين إقصائية لا تتيح لها المجال للتواجد والفاعلية.
أولًا: الأحزاب السياسية: يتعامل النظام الحاكم في مصر مع كل مساحات المجال العام من منظور أمني خالص؛ يظهر ذلك في كونه يزرع في كل مجال كيان؛ يستهدف من وجوده السيطرة على هذه المساحة والتحكم فيها. في المجال السياسي سعى النظام إلى تحقيق هذه الغاية عبر آليتين؛ الأولى حزب مستقبل وطن: حزب مستقبل وطن ومعه تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين حيث يمثلان حجري الرحى الذي من المفترض أن تدور كل القوى السياسية الأخرى في مداريهما، فهما يمثلان لدى السلطة القناة التي تنتج وتضخ الرموز والشخصيات السياسية التي يحتاجها النظام في إدارة عجلة المجال السياسي. الآلية الثانية؛ الحوار الوطني: الذي دعا إليه الرئيس خلال حفل إفطار رمضاني عام 2022، بهدف إيجاد فاعلية تنشغل بها القوى السياسية المختلفة؛ فلا تدخل في حالة سكون وبيات كامل، ولا تنشط بشكل يهدد استقرار الوضع القائم؛ فالحوار الوطني يسمح للقوى المرضي عنها بمناقشة الملفات التي سمح النظام بمناقشتها، وفي النهاية ما يقدموه من مقترحات يظل توصيات للنظام القائم مطلق الحرية في الأخذ بها أو تجاهلها.
ثانيًا: المجتمع المدني: نجد الاستراتيجية نفسها في المجتمع المدني والأهلي حيث الرغبة في السيطرة على مال الخير، وتوظيف أنشطة الجمعيات الأهلية ضمن خطة الدولة، وتوظيفها في كسب ولاء المستفيدين من هذه الخدمات، كانت هي الأهداف التي صاغت استراتيجية النظام للتعامل مع الجمعيات الأهلية. وهي جزء من الاستراتيجية الرئيسية للنظام القائمة على تأميم كل المساحات والسيطرة التامة عليها.
بدأت مع إعلان الرئيس السيسي، خلال إفطار الأسرة المصرية في 26 أبريل 2022، «مبادرة التحالف الوطني للعمل الأهلي والتنموي»، على أن تقدم الحكومة للتحالف 9 مليار جنيه؛ بهدف تقديم الحماية الاجتماعية لتسعة ملايين أسرة. فالتحالف يقدم خدمات للأسر الأشد احتياجا، وفي القرى الأكثر فقرًا، كما ينسق بين الجهات والهيئات التي تعمل تحت مظلته؛ بما يضمن تنظيم العمل الخيري بشكل مركزي، وبما يمنع حصول أي أسرة على الدعم من أكثر من جمعية أهلية[1]. وبحسب أعضاء أربعة جمعيات خيرية منضمة للتحالف فإن “التحالف يُسهّل الكثير من أنشطة الجمعيات في مقابل حصوله على نسبة من أموالها تُخصم من حساباتها في البنوك لصالح صندوق تحيا مصر تحت بنود مختلفة بينها الدعاية وتنمية موارد الصندوق”[2].
بالتأكيد يضمن الانضمام للتحالف تيسير عمل الجمعيات وتسهيل حصولها على التصاريح والموافقات اللازمة خلال ممارسة نشاطاتها، مقابل قبولها بأن تصبح جزء من استراتيجية النظام في السيطرة على حركة أموال الخير والرقابة على مسارات تدفقها.
- نظام شمولي ودولة مهمشة:
الملمح الثاني للنظام السلطوي أنه يخلق شبكة زبائنية ومنتفعين واسعة ومعقدة، تدير معظم الملفات التي من المفترض أنها مخولة للجهاز الإداري للدولة؛ هذه الشبكات تمكن النظام السلطوي من تحقيق هدفين: أن يظل الجزء الأهم من سياساته خارج الإطار القانوني والمؤسسي للدولة وبالتالي يبقى بعيدا عن أية مساءلة أو رقابة أو تدقيق، من جهة ثانية: يسمح للنظام القائم بحية كبيرة في إعادة تشكيل هذه الشبكات بصورة مستمرة حتى لا تمثل مصدر خطورة عليه، دون أن يخضع في عمليات الإحلال والتجديد تلك إلى أية ضغوط.
ولعل الصعود السريع لـ إبراهيم العرجاني رئيس اتحاد قبائل سيناء المتحالف مع القوات المسلحة في مواجهة التنظيمات الإرهابية هناك، دليل سافر على الشبكات غير الرسمية التي انتزعت أدوار كثيرة من المفترض أن تؤديها الدولة، وقد وصفه تقرير لمدى مصر بالرجل الذي “تتقاطع عنده خطوط الأعمال والسلطة والعلاقات الدولية. شخص تحول، خلال أقل من عقد، من طريد سابق للعدالة إلى قائد كتيبة من القبائل تساعد الجيش في حربها على الإرهاب، وأحد أكبر رجال الأعمال في مصر: إبراهيم العرجاني”، حيث “كل شخص أو شيء يمر الآن عبر معبر رفح، وبشكل شبه حصري، عبر شركات العرجاني وشبكة علاقاته”[3].
لم يكن صعود العرجاني استثنائيا؛ إنما جزء من شبكات نفوذ تتمدد وتكتسب أرض جديدة بمرور الوقت، في هذا السياق نشير إلى “عقد قران محمد صافي ابن رجل الأعمال صافي وهبة، على مريم أحمد السيسي بنت المستشار أحمد السيسي أخو الرئيس السيسي” في أغسطس 2018، بعدها بسنة واحدة وتحديدا في أغسطس 2019 تم تعيين صافي وهبة بقرار من وزير الصناعة كرئيس للجانب المصري في مجلس الأعمال المصري الكويتي، وفي 2020 ظهر اسم صافي وهبة كرئيس لمجلس إدارة شركة النيل لحلج الأقطان، واللي كانت شركة حكومية تم خصخصتها قبل الثورة[4].
ولأنها شبكة نفوذ واحدة؛ ففي 2022 قامت الصافي جروب بالإضافة للعرجاني جروب المملوكة لإبراهيم العرجاني بعقد شراكة مع مجموعة الغانم الكويتية اللي كانت هي الوكيل الحصري لبي إم دبليو في مصر، وتم إعادة افتتاح مصنع التجميع الخاص بالسيارات بعد توقف حوالي 5 سنوات، وفي العام نفسه أسس العرجاني والصافي مع مستثمرين أخرين شركة تطوير عقاري اسمها The arc وبدأت في بناء مشاريع في العاصمة الإدارية كأولى مشاريع الشركة بتكلفة 30 مليار جنيه[5].
- إقصاء قوى المجتمع الحية من المجال السياسي:
إقصاء قوى المجتمع الحية، غير الحليفة للنظام، خارج المجال السياسي، مع الحرص على تفكيكها بشكل يحرمها من القدرة على ممارسة أي تأثير في ظل النظام القائم. هذه السياسة على المدى القريب تحمي النظام من صداع قوى المجتمع المتضررة من سياساته والمعارضة لاستمرارها، لكنها على المدى البعيد وأحيانا على المدى المتوسط تمثل مصدر تهديد دائم للنظام القائم؛ في حال تمكنت هذه القوى من اقتحام المجال السياسي ستسعى حتما إلى تغيير قواعد اللعبة التي لا تسمح لها بلعب أي دور أو ممارسة أي تغيير، هذا السعي لتغيير قواعد اللعبة قد يصل إلى حد تغيير النظام ذاته.
عمليات الاعتقال المستمرة لكل من يبدي اعتراضًا، على مرتبات متدنية، أو ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار السلع والخدمات. في هذا السياق نقرأ خبر احتجاز الأمن الوطني عددًا غير محدد من عمال شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، في نهاية فبراير الماضي، على خلفية إضراب عمالها لمدة أسبوع احتجاجًا على تدني الأجور، وإن كان أفرج عن معظمهم لاحقا، واستبقى الأمن الوطني على عاملين فقط قيد تجديد الحبس[6]. ونشير إلى مظاهرة أخرى انطلقت في 15 مارس 2024، بمنطقة الدخيلة بالإسكندرية، احتجاجًا على ارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال المعيشية، ورفع المتظاهرون لافتات تحمل شعارات: «جوعتنا يا سيسي» و«سلمية.. الشعب والشرطة والجيش إيد واحدة»، وفرقت قوات الشرطة المتظاهرين بعد دقائق، وألقت القبض على العشرات، قبل أن تفرج عنهم بعد ساعات باستثناء سبعة ما زالوا رهن الاحتجاز[7].
كذلك نقرأ حالة الحساسية التي يتعامل بها النظام مع الاحتجاجات الداعمة لغزة والمنددة بالعدوان الاسرائيلي؛ على الرغم من كون هذه التظاهرات لا تتعلق بالشأن الوطني؛ كان آخر فصول هذا التخوف فض قوات الشرطة لـ ” وقفة احتجاجية نظمها عدد من الشخصيات الحزبية والعامة بالقرب من مبنى وزارة الخارجية في القاهرة، للمطالبة بفتح معبر رفح دون شروط أمام المساعدات الموجهة لقطاع غزة، والسماح للنشطاء بمرافقة قوافل الإغاثة”[8].
الخاتمة:
هذه الاستراتيجيات المشار إليها هل تضمن بالضرورة البقاء للنظام السلطوي؟ يمكن القول أنها تطيل أمد بقائه بالتأكيد؛ كونها تقوم على استنزاف كل مكامن القوة في المجتمع الذي يحكمه النظام السلطوي، فهي استراتيجيات تنهك المجتمع وتجرفه، لكنها من جهة أخرى لا تحقق ديمومته بالضرورة؛ لأن النظام السلطوي يقود المجتمع الذي يحكمه، والدولة التي يحتل أجهزتها، يقودهما إلى التحلل، ولذا يفقد النظام السلطوي تدريجيا مقومات بقائه؛ ولعل التدهور الاقتصادي والتردي المعيشي الذي تعيشه البلاد أكبر دليل على ذلك.
[1] نسرين الشرقاوي، دور المجتمع المدني في مصر خلال 10 سنوات، 3 ديسمبر 2023، في: https://tinyurl.com/28ve8vvd
[2] رنا ممدوح، «التحالف الوطني» وتأميم العمل الأهلي، 2 فبراير 2023، في: https://tinyurl.com/2ysb7uah
[3] مدى مصر، شبه جزيرة العرجاني، 12 فبراير 2024، في: https://tinyurl.com/26echkw3
[4] الموقف المصري، **أخو الرئيس السيسي ومجموعة الصافي.. تساؤلات مشروعة**، 17 يوليو 2023، في: https://tinyurl.com/289a7kjv
[5] المرجع السابق.
[6] مدى مصر، الأمن الوطني احتجز عددًا غير محدد من عمال شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، في نهاية فبراير الماضي، على خلفية إضراب عمالها لمدة أسبوع احتجاجًا على تدني اﻷجور، 25 مارس 2024، في: https://tinyurl.com/2da4mere
[7] مدى مصر، محامي: تعتيم حول سبعة عرضوا على أمن الدولة بعد مظاهرة الدخيلة، 18 مارس 2024، في: https://tinyurl.com/2c7qbn7z
[8] مدى مصر، تظاهرة محدودة أمام الخارجية للمطالبة بدخول المساعدات لغزة، 18 مارس 2024، في: https://tinyurl.com/yy7c7bse