الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي علي غزة: الأبعاد والمحددات

تعد تركيا إحدى الدول الإقليمية التي تقع على تماس مع تداعيات معركة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، في صباح 7 أكتوبر 2023، وما تبعها من عدوان إسرائيلي على غزة[1]. وخلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تدرجت لهجة تركيا وفقًا للخطاب السياسي للمسئولين الأتراك وعلي رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان بين الحياد النسبي؛ أملًا في لعب دور الوساطة لإنهاء الحرب بين الطرفين، والتصعيد الكبير ثم الهجوم الحاد على إسرائيل نتيجة الزيادة المضطردة في أعداد الضحايا من المدنيين في الجانب الفلسطيني، ومع تفاقم الاستهداف الإسرائيلي للمنشآت والمرافق العامة، دون أن يكون هذا الخطاب مصحوبًا بقطع كامل للعلاقات السياسية والاقتصادية مع إسرائيل، وهو ما رأته شريحة من الرأي العام تناقضًا بين الخطاب والممارسة التركية تجاه العدوان الإسرائيلي علي غزة[2]. وبناءً عليه، تسعي هذه الورقة إلي الوقوف علي أبعاد الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي علي غزة، ومحددات هذا الموقف، وحدوده، ومستقبله.

أولًا: أبعاد الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي علي غزة:

عقب الأيام الأولى لمعركة “طوفان الأقصى” وما تبعها من عدوان إسرائيلي علي غزة، ركزت التصريحات التي صدرت عن الرئيس رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية هاكان فيدان، والناطق باسم الحزب الحاكم عمر جليك وغيرهم من المسؤولين على شجب “استهداف المدنيين”، ورفض “تعرض أي شخص بريء لأذى سواء في الأراضي الإسرائيلية أو الفلسطينية”، واستعداد “تركيا لكافة أشكال الوساطة بما في ذلك تبادل الأسرى في حال طلب الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي ذلك”. في هذه التصريحات، دعا المسؤولون الأتراك “جميع الأطراف” للهدوء والحكمة والعودة للحوار والمسار السياسي، مع التركيز على ضرورة تحقيق فكرة “حل الدولتين” كمخرج وحيد للمواجهة الحالية، ما عده البعض مساواة ضمنية بين الجانبين[3].

تزامن ذلك مع غياب أي خبر عن لقاءات تمت بين القيادة التركية وقيادات من حركة حماس خلال الأيام الأولى. ورغم أن كلا الطرفين نفيا صحة تقارير إسرائيلية، ادعت أن أنقرة طلبت من قيادات الحركة الفلسطينية مغادرة أراضيها، إلا أنه لوحظ أنه لم يصدر عن قيادات حركة حماس أي موقف إعلامي من تركيا خلال الأيام الأولى للمعركة.

وخلال هذه الفترة، تكرر على ألسنة السياسيين، وفي وسائل الإعلام التركية، مديح لـ “وقوف تركيا على الحياد”، وعدم دعمها أيًا من الطرفين واستعدادها للعب دور الوسيط للتوصل لاتفاق سلام. كما أن تركيا، شأنها شأن الدول العربية والمسلمة التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لم تسحب سفيرها هناك للتشاور، ولا استدعاء سفير الاحتلال للاحتجاج[4]. ورغم حادثة “مستشفى الأهلي المعمداني”، في 17 أكتوبر 2023، والتي أودت بحياة أكثر من 500 شخص، إلا أن تركيا لم توجه تهم الإدانة لإسرائيل، وإنما اكتفت بتصريحات تؤكد إدانتها للخسائر في أرواح المدنيين[5].

وقد تعرضت تركيا لانتقادات كثيرة بسبب موقفها المحايد من العدوان الإسرائيلي علي غزة، من باب أن في هذا الموقف تراجعًا عن مواقف تركيا نفسها في محطات أقل حدة ودموية من قبل الاحتلال مثل إرسال تركيا في عام 2010 سفن مساعدات إنسانية ضمن أسطول بحري أكبر قرر التوجه من تركيا إلى غزة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض عليها، وكذلك عدم تناسبه مع حجم المأساة في قطاع غزة وجرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال، فضلًا عن عدم تناغمه مع نبض الشارع التركي الذي انتفض دعمًا لغزة وفلسطين[6].

ولكن مع بدء إسرائيل عمليتها البرية في قطاع غزة، في 27 أكتوبر 2023، وما نتج عنها من ارتكاب مجازر في حق الفلسطينيين، بدأ الموقف التركي في التغير، وفي تبني خطاب أكثر دعمًا للمقاومة الفلسطينية وأكثر انتقادًا لإسرائيل، ويمكن الإشارة إلي أبرز ملامح هذا التغير كما يلي:

1- تأكيد استمرار التواصل مع حركة حماس: حرصت تركيا على تأكيد استمرار قنوات التواصل مع حركة حماس، وعدم تبني مواقف تصعيدية تجاهها، خاصة بعد أن كشفت تقارير عديدة أن السلطات التركية قررت إبعاد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية من أراضيها، وعقب حديث السفيرة الإسرائيلية لدى أنقرة إيريت ليليان، يوم 8 أكتوبر 2023، بأن “هجوم حماس يظهر أنه ينبغي ألا يكون للحركة أي وجود في تركيا أو أي مكان آخر.” إذ أكد مركز مكافحة التضليل التابع لدائرة الاتصال في الرئاسة التركية، في 23 أكتوبر 2023، في بيان على منصة “إكس”، علي أن “الادعاءات التي تناولتها صحف عالمية وإسرائيلية بشأن مطالبة الرئيس رجب طيب أردوغان مسئولين في حركة حماس بمغادرة تركيا على الفور عارية من الصحة تمامًا”[7].

كما حرصت تركيا على التواصل مع قادة حماس، حيث أجرى وزير الخارجية هاكان فيدان، في 16 أكتوبر، اتصالًا هاتفيًا مع إسماعيل هنية، رئيس حركة حماس، لبحث تطورات القتال وإطلاق سراح الرهائن. ولم تتوقف اتصالات تركيا عند فيدان فقد قام أردوغان بالاتصال بهنية، في 21 أكتوبر، مشيرًا لجهود تركيا لضمان وقف إطلاق النار، وضمان وصول المساعدات الإنسانية وإمكانية علاج الجرحى في تركيا عند الضرورة[8]. هذا، وتطور مستوى التواصل بين الجانبين من الاتصالات الهاتفية لعقد لقاءات مباشرة بين إسماعيل هنية وبعض أعضاء قيادة الحركة ووزير الخارجية التركي، لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة، كان أولها، يوم 24 أكتوبر 2023 في الدوحة، وثانيها يوم 20 يناير 2024 في تركيا، في زيارة هي الأولى لقيادات الحركة وعلى رأسهم هنية إلى تركيا، منذ بداية عملية “طوفان الأقصى”[9].

وفي مواجهة الحملة الغربية لوصف حركة حماس بـ”الإرهابية”، أعلن الرئيس أردوغان في كلمة له يوم 25 أكتوبر 2023، أمام الكتلة النيابية لحزبه “العدالة والتنمية” في البرلمان التركي، أن “حركة حماس ليست تنظيمًا إرهابيًا، وإنما مجموعة تحرر ومجاهدين تناضل لحماية مواطنيها وأرضها”[10]. وهو ما كرره الرئيس التركي في مناسبات مختلفة، حيث قال أردوغان، خلال كلمة في إسطنبول في 9 مارس 2024، أنه “لا يمكن لأحد أن يدفعنا إلى تصنيف حماس منظمة إرهابية، وأن تركيا هي البلد التي تتحدث بشكل علني مع قادة حماس، وتقف خلفهم بحزم”[11].

2- تصاعد الخطاب التركي ضد إسرائيل: ثمة مؤشرات تدلل على تصاعد الخطاب التركي تجاه إسرائيل، وهو عكس ما كان خلال الأيام الأولى لاندلاع التصعيد في قطاع غزة بين حركة حماس وإسرائيل، ويمكن الوقوف على أبرز تلك المؤشرات على النحو التالي:

أ- حدة التصريحات: تصاعدت حدة تصريحات أردوغان ضد إسرائيل، واصفًا إياها بـ”الجنون”، وبأنها “مجرمة حرب”، وبأن ما يفعله نتنياهو “أفظع بكثير مما فعله هتلر”، وأنه “مجرم قاتل”. وفي هذا السياق؛ دعا الرئيس أردوغان إسرائيل، في 28 أكتوبر 2023، إلى وقف العملية العسكرية في قطاع غزة فورًا، مضيفًا في تغريدة على منصة “إكس”: “يجب أن تخرج إسرائيل فورًا من حالة الجنون هذه وأن توقف هجماتها”[12].

وفي كلمة له أمام منظمة الدول التركية المنعقدة بالعاصمة الكازاخستانية أستانة، في 3 نوفمبر 2023، قال أردوغان إن قطاع غزة “يشهد جريمة ضد الإنسانية”، ولفت إلى أن “مأساة إنسانية غير مسبوقة تجري في فلسطين أمام أعين العالم أجمع، حيث تتعرض المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس ومخيمات اللاجئين للقصف، ويتم قتل الأطفال الأبرياء بوحشية”. وأضاف: “ليس هناك مفهوم يمكن أن يفسر هذه الوحشية أو يبرر ما نشهده منذ 7 أكتوبر، وبعبارة صريحة وواضحة، غزة تشهد جريمة ضد الإنسانية منذ 28 يومًا كاملة”[13]. كما وصف أردوغان، في كلمة له خلال اجتماع للكتلة البرلمانية لحزبه العدالة والتنمية، في 16 نوفمبر 2023، إسرائيل بـ”دولة إرهابية”، وقال إنها “تنفذ المجازر والإبادة والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين”. وأضاف أردوغان أن “الأطراف الداعمة لإسرائيل في حربها على الفلسطينيين، هي شريكة في كل المجازر الإسرائيلية”[14].

وخلال كلمة له في إسطنبول، في 9 مارس 2024، قال أردوغان إن “رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته أضافوا أسماءهم إلى جانب هتلر، وموسوليني، وستالين، باعتبارهم نازيي عصرنا عبر الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها في غزة”. مؤكدًا أن “بلاده ستواصل فعل ما يلزم لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين على المجازر المرتكبة في غزة وفق القانون الدولي”[15].

وفي المقابل، جاء رد نتنياهو على منصة “إكس”، بأن أردوغان: “الذي يرتكب إبادة جماعية ضد الأكراد، والذي يحمل الرقم القياسي العالمي لسجن الصحفيين الذين يعارضون نظامه، هو آخر شخص يمكنه أن يعظنا بالأخلاق”[16].

ب- استدعاء السفراء: أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، في 28 أكتوبر 2023، إن حكومة بلاده أمرت بعودة الممثلين الدبلوماسيين من تركيا، وذلك ردًا على التصريحات اللاذعة التي وجهها أردوغان إلى تل أبيب على خلفية الأحداث في غزة، والتي وصف فيها إسرائيل بـ”مجرمة حرب”[17]. كما أعلن كوهين، في 28 ديسمبر، أن السفير الإسرائيلي لن يعود إلى أنقرة ما دام أردوغان على رأس السلطة، وأنه سيتم إعادة تقييم العلاقات بين إسرائيل وتركيا، وذلك ردًا علي تصريحات أردوغان بأن نتنياهو لا يختلف عن أدولف هتلر، وتشبيهه الهجمات التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة بمعاملة النازيين لليهود[18].

وفي المقابل، فقد أعلنت تركيا، في 4 نوفمبر 2023، استدعاء سفيرها في إسرائيل للتشاور على خلفية رفض إسرائيل الموافقة على وقف لإطلاق النار في غزة، لتصبح بذلك المرة الأولى التي تشهد فيها العلاقات بين الدولتين استدعاء للسفير منذ إعادة تطبيع العلاقات بينهما عام 2018، بعد 8 أعوام من القطيعة الدبلوماسية بينهما عقب مهاجمة إسرائيل لسفينة “مافي مرمرة” التركية التي كانت تتجه لقطاع غزة عام 2010 لفك الحصار عنها ثم هاجمتها البحرية الإسرائيلية ما أدى لمقتل 9 نشطاء أتراك كانوا على متنها[19].

ج- إلغاء الزيارات: أعلن أردوغان، في كلمته أمام الكتلة النيابية لحزبه “العدالة والتنمية” في البرلمان التركي في 25 أكتوبر 2023، إلغاء زيارته التي كان مُخططًا لها إلى إسرائيل في نوفمبر 2023 بعد لقاء جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت التركي في نيويورك، في 20 سبتمبر 2023. كما أعلن وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار، إلغاء زيارته إلى إسرائيل التي كانت مقررة في نوفمبر 2023، والتي أعلن عنها قبيل حرب غزة بيومين فقط. فضلًا عن ذلك، فقد دعا مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، جميع الإسرائيليين المقيمين في تركيا للمغادرة في أسرع وقت ممكن، وأعلنت شركات الطيران التركية تعليق رحلاتها إلى إسرائيل[20].

د- دعم المسار القانوني لإدانة جرائم الاحتلال الإسرائيلي: أعلن محامو حزب “العدالة والتنمية” خلال شهر نوفمبر 2023، عن رفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” و”إبادة جماعية” ضد الشعب الفلسطيني في غزة. وأعلنت نقابة المحامين باسطنبول عن إرسال وفد إلى المحكمة الجنائية الدولية لتقديم نحو 3 آلاف شكوى من 13 دولة لطلب إجراء تحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة ضد المدنيين في قطاع غزة، مدعمة بتوقيع العديد من المحامين والأكاديميين والقانونيين من تركيا ودول أخرى حول العالم.

كما أعلنت تركيا رسميًا تأييدها لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في 3 يناير 2024، وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا رحبت فيه بالدعوى الخاصة بانتهاك إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948. وأعلن أردوغان في 13 يناير 2024 أن تركيا تقدمت بأدلة ووثائق تدعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وتؤكد ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة جماعية ضد المدنيين في قطاع غزة، مؤكدًا أن بلاده ستستمر في إرسال المزيد من الوثائق التي تدين جرائم الاحتلال. كما أرسلت تركيا رئيس لجنة العدل في البرلمان التركي، كونيت يوكسل، إلى لاهاي لمتابعة التقدم المحرز في جلسات استماع محكمة العدل الدولية لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل[21].

ه- تعليق التعاون الطاقي: أشارت “وكالة بلومبرغ”، في 26 أكتوبر 2023، إلى أن أنقرة قد علقت جميع اتفاقات الطاقة وجميع خطط التعاون في مجال الطاقة مع إسرائيل، بما فيها مشروع أكبر حقل بحري للغاز في إسرائيل، الأمر الذي ترى فيه بعض التقديرات أنه سيعود بالضرر على إسرائيل لكون الخيار التركي هو الأنسب والأقل تكلفة، بعد أن طلبت تل أبيب الاستعانة بأنقرة، كشريك ثان، بعد القاهرة، لنقل الغاز إلى أوروبا، عبر أنابيب تمر في تركيا، وكذلك استخدام هذا الغاز لتلبية الاحتياجات المحلية لتركيا، إذ تشير التقارير إلى أن إسرائيل لديها نحو 750 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز المؤكدة وحوالي 50 مليون برميل من النفط، وتخطط لنقل نحو 10 مليارات متر مكعب سنويًا من حقل غاز ليفياثان إلى السوق الأوروبية[22].

و- تقييد التبادل التجاري: صنفت إسرائيل البضائع المستوردة من تركيا ضمن قائمة بضائع الدول المعادية[23]. وفي المقابل،قررت الحكومة التركية رفع إسرائيل من قائمة وجهات الصادرات المستهدفة. وبينما لا يعني القرار منع عمل القطاع الخاص والشركات التركية مع إسرائيل فإنه يبعث برسالة مفادها أنها إذا قامت بالتبادل التجاري مع إسرائيل فإن الدولة لن تساعدها. ويعني القرار أيضًا أن وزارة التجارة التركية ستوقف دعمها للمؤتمرات المشتركة مع إسرائيل، وهي خطوة تكبح قدرة الملحق التجاري التركي في تل أبيب على تشجيع الاتصالات بين البلدين. كما أن هذا القرار يعني أن الحكومة التركية قررت للمرة الأولى تقييد العلاقات الاقتصادية نسبيًا، وهي خطوة لم تلجأ إليها في موجات التوتر السابقة مع تل أبيب[24].

ز- مواجهة البروباجندا الإسرائيلية: تحظى الحرب الإسرائيلية على غزة – منذ بدايتها- بتغطية خاصة ومستمرة عبر وكالات الإعلام التركية الرسمية وغير الرسمية، التي حرصت على تفنيد الادعاءات الإسرائيلية، ونشر الانتهاكات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين على نطاق واسع.

وبناءً عليه، هاجمت صحيفة “ذا تايمز أوف إسرائيل” رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فخر الدين ألطون، متهمة إياه بـ”إدارة جيش من الإعلاميين للهجوم على إسرائيل لصالح حركة المقاومة الفلسطينية حماس”. وجاءت هذه الاتهامات على خلفية عدة تحقيقات قامت بها المراكز التابعة لدائرة الاتصال في الرئاسة التركية بهدف تكذيب الادعاءات الإسرائيلية، مثل مركز “مكافحة المعلومات المضللة”، الذي مارس دورًا هامًا في تفنيد الروايات الإسرائيلية منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، وكشف عن أن 74% من حسابات منصة “إكس” الموثقة نشرت معلومات مضللة في الأيام الأولى من الحرب[25].

3- الحراك الدبلوماسي على المستويين الإقليمي والدولي: منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة اضطلعت تركيا بدور دبلوماسي على المستويين الإقليمي والدولي بهدف دعم الجهود المبذولة للتوصل لوقف إطلاق نار دائم، والحد من الخسائر البشرية والمادية التي يتكبدها قطاع غزة جراء التصعيد العسكري الإسرائيلي المستمر. فمن جانبه شارك وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في فعاليات “قمة السلام الدولية” التي انعقدت في العاصمة المصرية، القاهرة، في 21 أكتوبر 2023، بحضور زعماء ووزراء خارجية 31 دولة و3 منظمات دولية، بهدف التوصل إلى صيغة لوقف إطلاق النار، وتأمين دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.

كما شارك أردوغان في “القمة العربية الإسلامية” الاستثنائية بالعاصمة السعودية، الرياض، في 11 نوفمبر 2023، التي انعقدت بهدف توحيد الرؤية العربية الإسلامية المشتركة في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة. وعقب انتهاء القمة، انضم وزير الخارجية التركي، فيدان، لمجموعة الاتصال التي شكلتها القمة، المكونة من سبع دول وهي: مصر، وتركيا، وقطر، وإندونيسيا، ونيجيريا، والأردن، والمملكة العربية السعودية، لعمل جولة مكوكية إقليمية ودولية، وممارسة ضغوط دبلوماسية وسياسية لوقف اطلاق النار، والتوصل إلى آلية لكسر الحصار على غزة، وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية، وإيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية[26]. وقد أسفرت هذه الجهود عن نتائج إيجابية، ففي 26 أكتوبر، أيدت 120 دولة قرار الأردن بوقف إطلاق النار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع تصويت 14 دولة ضد القرار وامتناع 45 دولة عن التصويت. ولكن بعد الجهود الدبلوماسية المكثفة التي بذلها أردوغان وفيدان والوفد العربي الإسلامي بين الدول التي لم تدعم القرار، تغيرت هذه الأرقام بشكل كبير حيث شهد التصويت في ديسمبر دعم 153 دولة لوقف إطلاق النار، مع معارضة 10 دول وامتناع 23 عن التصويت[27].

كما جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان- الأولى منذ 11 عامًا- إلى القاهرة، في 14 فبراير 2024؛ للتشاور والتنسيق في ملف حرب غزة الذي تمارس فيه مصر الدور الرئيسي سواء على صعيد الجهود المبذولة للوصول إلى وقف لإطلاق النار أو على مستوى تقديم المساعدات للفلسطينيين في القطاع[28].

4- المشاركة في الجهود الإغاثية: بادرت تركيا – عبر وزارة الدفاع – بإرسال ست طائرات محملة بمساعدات ومواد إغاثية إلى مطار العريش، تمهيدًا لعبورها لقطاع غزة عبر معبر رفح[29]. كما يقوم الهلال الأحمر التركي بإرسال المساعدات إلي غزة عبر السفن، فقد أعلنت رئيسة الهلال الأحمر التركي، فاطمة ميريك يلماز، لقناة “سي.إن.إن ترك” في 7 مارس 2024، عن إرسال أكبر شحنة مساعدات له حتى الآن إلى غزة؛ حيث أبحرت سفينة تحمل نحو 3000 طن من المواد الغذائية والأدوية والمعدات إلى ميناء العريش المصري. كما أضافت: “بمجرد عودة السفينة إلى هنا، سنشحنها مرة أخرى ثم ستبحر السفينة مرة أخرى في يوم 26 مارس تقريبًا، قرب منتصف شهر رمضان”[30]. وفي هذا السياق؛ قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 9 مارس 2024، خلال كلمة في إسطنبول، إنه استثمر علاقات بلاده التي تطورت مع السلطات المصرية مؤخرًا لتوصيل المساعدات إلى غزة. وأوضح أن تركيا أرسلت حتى الآن 40 ألف طن من المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر 19 طائرة و7 سفن مدنية[31].

كما قامت تركيا بإرسال فريق طبي مكون من 20 طبيبًا في مختلف التخصصات للمعاونة في علاج مصابي غزة داخل مستشفيات شمال سيناء في حال تم الاتفاق على نقل المصابين خارج غزة[32]. وأعلنت وزارة الصحة التركية عن مساعيها لاستقبال ما يقرب من ألف مريض، خاصة من مرضى السرطان الذين يتلقون العلاج في مستشفى الصداقة “التركية-الفلسطينية”. فضلًا عن الدور الإغاثي الذي تقوم به “جمعية أطباء حول العالم” فرع تركيا، عبر التنسيق مع وزارة الصحة في غزة لتقديم خدمات الرعاية الصحية المنزلية[33]. وقد قام الرئيس أردوغان بزيارة المرضى الفلسطينيين القادمين من غزة والمتواجدين بمستشفى “بيلكنت” بأنقرة، بعد نقلهم من قطاع غزة عبر مصر على متن الإسعاف الطائر. هذا، فضلًا عن إعلان أردوغان عن إعفاء الطلاب الفلسطينيين من غزة من رسوم الجامعات الحكومية في تركيا[34].

ثانيًا: محددات تحول الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي علي غزة:

يمكن الإشارة إلي مجموعة من المحددات التي تقف خلف تحول الموقف التركي تجاه العدوان الإسرائيلي علي غزة كما يلي:

1- طبيعة العلاقات التركية– الإسرائيلية غير المستقرة: فرغم أن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل “كدولة” في عام 1949 –لأسباب عديدة أبرزها كان يتعلق بأملها في الحصول على عضوية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)- وكانت تحكم البلدان علاقات تجارية وأمنية وعسكرية كبيرة، إلا أنه مع تولي حزب “العدالة والتنمية” السلطة في عام 2002، بدأت العلاقات التركية– الإسرائيلية تشهد العديد من نوبات التوتر والتدهور، وإن كان ذلك لا ينفي أن أنقرة ما زالت حريصة على الحفاظ على تلك العلاقات، التي ما زالت توظفها لتحقيق أهدافها.

وقد نشبت أول أزمة دبلوماسية – رسمية – بين تركيا وإسرائيل عام 2009 عندما انسحب أردوغان من “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس بعد اشتباكه مع الرئيس الإسرائيلي آنذاك، شيمون بيريز، بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة. بينما جاءت الأزمة الأكبر بين البلدين في عام 2010، عندما داهمت قوات الكوماندوز الإسرائيلية السفينة التركية، مافي مرمرة – المملوكة لجمعية خيرية ذات صلة بحزب العدالة والتنمية- في المياه الدولية، والتي أبحرت من مدينة اسطنبول قاصدة غزة وسط أسطول يهدف إلى خرق الحصار البحري الإسرائيلي على القطاع، وإيصال المساعدات الإغاثية والإنسانية إليه، وتم قتل كل من كان على متن السفينة أثناء الاشتباكات، ما دفع تركيا إلى تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل لعدة سنوات، ودخول العلاقات الثنائية بين البلدين حالة من الفتور.

واستمرت العلاقات التركية- الإسرائيلية في التذبذب بين الاستقرار والتوتر، لاسيما مع نشوب الجولات المختلفة من المواجهات العسكرية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في جولاتها المختلفة في عام 2012 و2014 و2018 و2021[35]، وصولًا للحرب الحالية (أكتوبر 2023)، التي تشكل عدوانًا غير مسبوق علي قطاع غزة، وتسعي إسرائيل من خلالها لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها عبر تهجير سكان القطاع، وجدير بالذكر هنا أن هناك تقارير إعلامية إسرائيلية كشفت عن خطة لتهجير نصف مليون فلسطيني إلى تركيا ليتم توطينهم بجنوب البلاد في معسكرات مشابهة للاجئين السوريين بهاتاي وغازي عنتاب[36].

ناهيك عن التنافس الجيوسياسي بين الدولتين، والذي تصاعد مؤخرًا عقب اكتشاف غاز شرق المتوسط، خاصة بعد أن تبنت إسرائيل نهجًا في شرق المتوسط يقوم على تعزيز التحالف مع اليونان وقبرص لاحتواء وعزل النفوذ التركي. ومن جهة أخرى، توفرت أدلة قوية على دور إسرائيل في دعم حزب العمال الكردستاني بالأسلحة. وأخيرًا، بات هذا السباق الجيوسياسي أكثر اتساعًا أيضًا نتيجة طفرة مشروعات طرق النقل الجديدة، التي قد تزيد من مكانة أحد الأطراف الجيوسياسية على حساب أطراف أخرى[37]. وعلى سبيل المثال، تنظر تركيا لمشروع “الممر الاقتصادي” – أحد نتائج قمة مجموعة العشرين (سبتمبر 2023) – الذي تم توقيع مذكره بشأنه لإنشاء شبكة السكك الحديدية والموانئ التي ستربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، والذي يعتبر ميناء “حيفا” الإسرائيلي أحد أهم نقاط العبور فيه، باعتباره منافسًا وبديلًا عن مشروع “طريق التنمية”، وهو مشروع ربط سككي وبري بين تركيا وأوروبا شمالًا والخليج العربي جنوبًا، وتعول عليه تركيا بدرجة كبيرة لزيادة ميزانها التجاري[38].

2- الروابط الأيديولوجية بين حزب العدالة والتنمية وحركة حماس: لطالما ارتبط حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بروابط أيديولوجية مع حركة حماس التي انتمت فكريًا -عند تأسيسها عام 1987- بجماعة “الإخوان المسلمين”. فقد كان أردوغان داعمًا صريحًا ودائمًا لحركة حماس. ومنذ فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية عام 2006، شهدت العلاقات الثنائية بين الجانبين تقاربًا ملحوظًا، وأصبح للحركة حضور قوي ورسمي في تركيا، حيث وفر أردوغان ملاذات آمنة لعدد من قيادات الحركة المطلوبين لإسرائيل، وسمح لها بفتح مكاتب تمثيل على الأراضي التركية، تكفل لها حرية العمل والحركة والتمويل[39]. وفي ظل وجود خلافات بين جماعة “الإخوان المسلمين” وبين “أردوغان” نتيجة طرد عدد من عناصرها بعد المصالحة بين أنقرة والقاهرة، فقد بدا أن أردوغان يسعي إلي إعادة صلاته بالجماعة التي ربما تستعيد نشاطها وفاعليتها بعد حرب غزة[40].

3- اهتمام الرأى العام التركي بالقضية الفلسطينية: نظمت العديد من الجمعيات والمنظمات المدنية غير الحكومية، خروج المسيرات الاحتجاجية والحملات المطالبة بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة ومقاطعة السلع والشركات والجهات الداعمة لإسرائيل وتعليق تصدير البضائع التركية إلى إسرائيل، في العديد من المحافظات التركية. وكان من بين أبرزها، مسيرة “الرحمة للشهداء، والدعم لفلسطين، فلتسقط إسرائيل”، التي نظمتها “منصة الإرادة الوطنية” برعاية “وقف شباب تركيا” وبمشاركة 308 منظمات أهلية.

وأُعتبر استهداف مستشفى “المعمداني”، يوم 17 أكتوبر 2023، بمثابة المحطة الأبرز في توافق الموقف الرسمي للدولة مع رد فعل الشارع التركي ضد الاحتلال الإسرائيلي، ذلك أنه للمرة الأولى تسمح السلطات التركية بالاعتصام أمام السفارة الإسرائيلية في أنقرة والقنصلية الإسرائيلية في اسطنبول حيث لم يتم السماح قبل ذلك إلا بتجمعات في أماكن بعيدة. فضلًا عن تنظيم حزب “العدالة والتنمية” لمظاهرة مليونية في مطار “أتاتورك” بمدينة “اسطنبول”، يوم 28 أكتوبر 2023، تحت عنوان “تجمع فلسطين الكبير”، بحضور أبرز قيادات الحزب الحاكم[41].

كما تعالت أصوات بعض الأحزاب المحافظة الصغيرة في تركيا في نقد الاحتلال والمطالبة بتدخل أكبر لتركيا، ومن هذه الأحزاب أحزاب معارضة، مثل السعادة والمستقبل، ومنها أحزاب مؤيدة، مثل الرفاه الجديد والهدى بار، ولكن دخول حزب الحركة القومية، الحليف الرئيسي للعدالة والتنمية، على الخط الداعي لدور رئيسي لتركيا بالرغم من بعض الأصوات القومية التي أثارت خلال الأسابيع السابقة أن قضية فلسطين لا تعني تركيا وليست مرتبطة بتركيا، كان عاملًا داخليًا دافعًا لاتخاذ موقف أكبر من الحكومة ومن حزب العدالة والتنمية.

وفي هذا السياق، قال دولت بهتشلي، زعيم الحركة القومية وحليف الرئيس رجب طيب أردوغان: “إذا لم يتم الاتفاق على وقف لإطلاق النار في غزة خلال 24 ساعة ووقف العدوان على المظلومين، فأنا أعلنها بوضوح لشعبنا أنه يجب على تركيا التدخل فورًا والقيام بكل ما يلزم وفقًا لمسؤوليتها التاريخية والإنسانية والدينية، فمهمة حماية غزة هي ميراث أجدادنا”. وقد خفف بهتشلي بعد ذلك من حدة هذا التصريح بالقول إنه يقصد التدخل في الإطار الذي أعلنته وزارة الخارجية التركية (نظام الدول الضامنة)[42].

تتزايد أهمية الرأي العام التركي المتعاطف مع القضية الفلسطينية في هذا التوقيت مع اقتراب الانتخابات المحلية المقررة في 31 مارس 2024، حيث يسعي أردوغان إلي توظيف تعاطف الشعب التركي مع القضية الفلسطينية لحشد الأصوات له ورفع شعبيته قبل الانتخابات المحلية، التي لا تقل أهمية عن نظيرتها البرلمانية حيث يسعى أردوغان لاستعادة السيطرة على المحافظات الكبرى (أنقرة، أزمير، إسطنبول) التي فقدها بالانتخابات السابقة عام 2019 لصالح أحزاب المعارضة، كما تعمل الأخيرة على تحقيق ذات الهدف من إظهار دعمها المستمر للقضية الفلسطينية حيث تسعى أحزاب المعارضة لجذب أصوات الكتل الدينية والمحافظة والجاليات العربية بعد تراجع التأييد لها وخسارتها الانتخابات الرئاسية السابقة[43].

4- الحفاظ علي الدور التركي الإقليمي: فرغم الموقف التركي الأولي من الحرب ووقوفه علي الحياد؛ أملًا في لعب دور الوساطة لإنهاء الحرب وتبادل الأسري بين حماس وإسرائيل، إلا أن ذلك لم يتحقق، واقتصر دور الوساطة علي كلًا من مصر وقطر.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل أن إسرائيل تعمل علي تحجيم أي دور تركي – وأي حليف لحماس – في هذه الأزمة، وتعمل علي منح الدول الحليفة لها أدوار متقدمة خاصة في ملف المساعدات. وفي هذا السياق؛ فقد وافقت إسرائيل على إقامة ممر بحري من قبرص لإيصال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة وبدعم من الإتحاد الأوروبي، ويهدف المخطط إلى جمع المساعدات المقدمة لقطاع غزة في قبرص وفحصها وتخزينها، ثم ترسل من ميناء “لارنكا” القبرصي لقطاع غزة بحريًا حيث تمتد المسافة بينهم لنحو (400 كم)، وهذا المخطط حال تم تنفيذه فإنه سيحد من مبادرات تركيا لإيصال المساعدات للقطاع[44].

كما تتخوف تركيا من إمكانية أن تقوم إيران بتوظيف القضية الفلسطينية لتعزيز مصالحها في الإقليم، وبخاصة في مناطق التنافس بين الدولتين، خاصة بعد تصاعد الحديث عن دور إيراني في دعم المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذي ساهم في تحسين الصورة الذهنية لطهران في الوعي الجمعي الإسلامي والعربي. فبرغم التحسن الحادث في العلاقة بين أنقرة وطهران، خاصة وأن الأولى تحولت إلى رئة اقتصادية لإيران بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها، فضلًا عن حرص أردوغان في التوقيت الحالي على إدارة علاقات بلاده الإقليمية بنهج قائم على التهدئة؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة العديد من القضايا الخلافية بين البلدين على الإمساك بمفاصل الإقليم خاصة في سوريا والعراق[45].

5- توظيف الموقف الغربي في تعزيز السردية التركية: كان لافتًا أن أنقرة سعت إلى توظيف الأزمة التي نجمت عن الحرب الحالية من أجل توجيه انتقادات قوية للسياسة التي تتبناها الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ظل الخلافات المتعددة العالقة مع بعض تلك القوى حول العديد من الملفات، على غرار الدعم الأمريكي للمليشيات الكردية في شمال سوريا، والتي تصنفها أنقرة كجماعات إرهابية، والضغوط الأمريكية على تركيا لتقليص مستوى التعاون العسكري مع روسيا[46].

في هذا السياق؛ اتهم أردوغان – أثناء مليونية “تجمع فلسطين الكبير”- الغرب بأنه هو أكبر مسئول عن المذبحة التي يتعرض لها قطاع غزة. كما استنكر أردوغان موقف المفوضية الأوروبية الرافض لدعوة وقف إطلاق النار في غزة، وانتقد ازدواجية المعايير الغربية قائلًا: “من كانوا يذرفون دموع التماسيح على المدنيين الذين يقتلون في الحرب بين أوكرانيا وروسيا، يشهدون اليوم بصمت على مقتل آلاف الأطفال الأبرياء”.

كما استنكر أردوغان موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن وأكد صعوبة التفاهم معه بشكل مباشر، وحمل الولايات المتحدة الأمريكية مسئولية استمرار الممارسات الإسرائيلية غير المشروعة، بما يدعم السردية التركية بشأن ابتعاد هيكل النظام الدولي الحالي – الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الأحادية القطبية – بشكل كبير عن التوازن والمصداقية، والقدرة على تحقيق السلام والاستقرار في العالم[47].

كذلك فقد انتقد أردوغان ضعف المؤسسات الدولية ومنها الأمم المتحدة التي عجزت عن وقف الحرب الإسرائيلية على القطاع أو اتخاذ أي موقف ضد تل أبيب، ودعا إلي ضرورة إصلاحها. فيما اعتبر الرئيس التركي بأن مجلس الأمن بات غير فعال لأبعد الحدود، كونه فشل مرة أخرى في الوفاء بمسؤوليته، وذلك في إشارة إلى فشل المجلس في تبني مشروع قرار روسي يدعو إلى وقف إطلاق نار إنساني في قطاع غزة للمرة الثانية بعد مشروع القرار البرازيلي[48]. هذه الانتقادات تتناسب مع دعوات سابقة لأنقرة بضرورة إصلاح الأمم المتحدة وتوسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن الدولي، وطلب انضمام تركيا له ممثلة عن الدول الإسلامية[49].

ثالثًا: حدود تحول الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي علي غزة:

علي الرغم من هذا التحول الإيجابي في الموقف التركي، إلا أن هذا التحول يظل محدودًا لعدة أسباب، تتمثل في:

1- إمكانية تصاعد الخلافات مع الولايات المتحدة الأمريكية: حيث تخشي تركيا من أن يؤدي موقفها الداعم لحماس خلال هذه الحرب إلي تدهور في العلاقات مع الولايات المتحدة، بعدما أبدت واشنطن شعورها “بالقلق العميق” بشأن قيام حركة حماس بجمع الأموال داخل تركيا، وطالبت أنقرة بوقف ذلك ومراقبة الأرصدة البنكية لقادة حماس، وعقب رفض وزارة الدفاع التركية استخدام طائرات أمريكية قاعدة “إنجرليك” التركية لنقل الأسلحة إلى إسرائيل[50]. خاصة وأن العلاقات التركية-الأمريكية تشهد بالفعل أزمات عديدة بسبب بعض الملفات الخلافية بين الجانبين والتي من أبرزها، دعم الولايات المتحدة الأمريكية لقوات سوريا الديمقراطية الكردية “قسد”، ورفض الكونجرس الموافقة على صفقة مقاتلات “إف 16” لتركيا[51].

2- احتمالية تعقد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي: أدى موقف أردوغان من حرب غزة سواء بالنسبة لحركة حماس التي وصفها -على نقيض التوجه الغربي- بأنها غير إرهابية، أو بالنسبة لإدانة الغرب واتهامه بازدواجية المعايير في سياسته تجاه ضحايا أوكرانيا مقابل ضحايا فلسطين، إلى إضفاء المزيد من التعقيد على علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي، التي في الأساس تواجه العديد من التحديات والعقبات لاسيما فيما يخص رفض انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي. إذ أشارت المفوضية الأوروبية في تقريرها الأخير بتاريخ 8 نوفمبر 2023 بشأن وضع المفاوضات مع الدول المرشحة لدخول الاتحاد إلى “أن أنقرة تبتعد أكثر وأكثر عن القيم الديمقراطية التي ينادي بها التكتل”.

وحسب تصريحات بعض المسئولين في الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، أثار موقف أردوغان استياء وانزعاج الأوساط الأوروبية التي لم تتوقع أن تتبنى تركيا نهجًا يتعارض تمامًا مع النهج الأوروبي في رؤية وإدارة شئون السياسة الخارجية. كما اتهم مقرر البرلمان الأوروبي، ناتشو سانشيز، تركيا بالتناقض والازدواجية في التصنيف، قائلاً: “إن اعتبرتم حماس مجموعة مقاتلين من أجل الحرية، فسيرى آخرون عندها أن هذا التوصيف ينطبق أيضًا على حزب العمال الكردستاني، الذي يخوض نزاعًا مسلحًا ضد الجيش التركي منذ عام 1984”[52].

3- تدهور العلاقات مع إسرائيل: حيث تتخوف تركيا من أن تقوم إسرائيل بالرد على الدعم التركي المستمر لحركة حماس، ويمكنها توجيه الرد لأنقرة من خلال تعزيز تعاونها مع “حزب العمال الكردستاني” وأجنحته في سوريا والعراق لمواجهة تركيا لا سيما في ظل العلاقات التاريخية بينهما، حيث تخوض أنقرة حربًا مستمرة ضد معسكرات الحزب بشمال سوريا والعراق وبمدن الجنوب التركي حيث يتركز المواطنين الأكراد في (ديار بكر، ماردين، غازي عنتاب)[53].

ناهيك عن إمكانية قيام إسرائيل بعمليات أمنية على الأراضي التركية لاستهداف قيادات حركة حماس المتواجدة في تركيا، لاسيما بعد إعلان مدير وكالة الأمن الإسرائيلية “الشاباك” المكلفة بمكافحة الإرهاب، أن إسرائيل ستلاحق أعضاء وقيادات حركة حماس في غزة والضفة الغربية ولبنان وتركيا وقطر، وبدء استهداف قادة الحركة في لبنان بالفعل باغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس صالح العاروري، وإلقاء قوات الأمن التركية بالتعاون مع وكالة الاستخبارات التركية القبض على 33 شخصًا، في مطلع شهر يناير 2024، يشتبه في أنهم يعملون لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد”.

إضافة إلى إمكانية تعرض القواعد العسكرية والقوات التابعة لتركيا في كل من سوريا والعراق للخطر في حال استمرت عمليات الاستهداف المتبادل بين الميليشات التابعة لإيران بالدولتين وإسرائيل[54].

4- عودة التنافس الإقليمي: تواجه الفاعلية السياسية التركية معارضة، مضمرة أو مكشوفة، من كافة الدول الرئيسة المنافسة في الجوار الإقليمي. تخوض تركيا منذ أكثر من عقد حربًا غير مباشرة مع إيران في سوريا، وربما كان التدخل الإيراني (ودعوة إيران لروسيا) العامل الرئيس في إحباط الثورة السورية وإفشال هدف تركيا في إسقاط نظام الأسد طوال السنوات العشر الأولى من الثورة السورية. كما وقفت إيران بصورة صريحة إلى جانب أرمينيا منذ اندلاع الصراع الأرميني-الأذري في تسعينات القرن الماضي، وصولًا إلى جولة الصراع الأخيرة التي أوقعت هزيمة قاطعة بأرمينيا. ولأن المفاوضات حول تسوية الصراع بين البلدين تتضمن فتح ممر بري آمن بين أذربيجان وتركيا، يمكن أن يؤدي إلى استغناء خطوط الاتصال والتجارة والنقل التركية عن المرور عبر الأراضي الإيرانية، فإن إيران لم تزل تعمل على إحباط مفاوضات التسوية النهائية بين أذربيجان وأرمينيا. وتعمل إيران، التي تمارس تأثيرًا كبيرًا على الساحة العراقية، بصورة حثيثة على منع تمدد النفوذ التركي السياسي-الاقتصادي في العراق، على الرغم من العلاقات الوثيقة التي تربط سنة العراق وأغلب كرده بتركيا.

كما تواجه تركيا معارضة لا تقل تصميمًا من الدول العربية الكبيرة، مثل السعودية ومصر، أو تلك التي تطمح للعب دور إقليمي كبير، مثل الإمارات. ترى هذه الدول، حتى في لحظات الود والتقارب، أن تركيا، مثلها مثل إيران، دولة غير عربية، وليس من المقبول أن يسمح لها بتوسيع النفوذ في الساحة العربية. عارضت السعودية والإمارات الصلات الوثيقة بين أنقرة ونظام الرئيس السابق الدكتور محمد مرسي في القاهرة؛ وعملت، مع مصر، على محاصرة الدور التركي في سوريا، بما في ذلك بالتطبيع مع نظام الأسد؛ وخاضت صراعًا مكشوفًا ضد الوجود التركي في ليبيا؛ وتمنع تركيا من لعب أي دور فعال في الأزمة السودانية[55]. وبالتالي؛ فإن هذه الدول لن تسمح لتركيا بممارسة دور متقدم في القضية الفلسطينية.

5- الأثر الاقتصادي لحرب غزة على تركيا: رغم تنامي العلاقات الاقتصادية التركية – الإسرائيلية على مدار السنوات الأخيرة، وارتفاع حجم التجارة بين البلدين 6 أضعاف بين عامي 2002  و2022، من 1.41 مليار دولار إلى 8.91 مليار دولار، حتى أصبحت إسرائيل هي الشريك العاشر الأكثر أهمية بالنسبة للصادرات التركية، إلا أن حرب غزة ألقت بظلالها على تلك العلاقة لتشهد التجارة البينية تراجعًا كبيرًا منذ بداية الحرب سواء بالنسبة للصادرات أو الواردات، حيث انخفضت التجارة بين البلدين منذ 7 أكتوبر 2023 بنسبة تزيد على 50% مقارنة بعام 2022[56].

كما أثرت هذه الحرب علي التعاون التركي المشترك في قضية غاز شرق المتوسط، حيث أن أنقرة كانت تخطط للمشاركة في بناء خط أنابيب غاز بحري لنقل الغاز الإسرائيلي من حقل ليفياثان للغاز إلى الأراضي التركية مع شراء جزء للاستخدام المحلي وتصدير جزء آخر إلى أوروبا[57].

وقد شرع صندوق النقد الدولي في مراجعة توقعاته الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ضوء الحرب الإسرائيلية على غزة، وبحسب نائبي مديرة الصندوق لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، جون بلودورن وتالين كورانشيليان، فأنه “في حالة نشوب نزاع واسع النطاق، فإن الدول التي يعتمد اقتصادها على السياحة ستكون الأكثر تضررًا”. يأتي هذا فيما أظهرت بيانات معهد الإحصاء التركي (قبل حرب غزة) أن إيرادات البلاد من السياحة قفزت إلى 20.23 مليار دولار خلال الربع الثالث من عام 2023، بعدما استقبلت تركيا حوالي 36 مليونًا و754 ألف سائح، يتصدرهم الألمان والروس والبريطانيون، فيما يقدر عدد السياح الإسرائيليين بحوالي 800 ألف سائح[58].

هذا، فضلًا عن مخاوف تركيا بشأن امتداد حرب غزة لتصبح حربًا إقليمية تشارك فيها دول منتجة للنفط مثل إيران، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار النفط، وبالتالي التأثير سلبًا على الاقتصاد الإقليمي والعالمي الذي يمر بالفعل بحالة هشاشة وتضخم بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية، وما نتج عنها من تداعيات اقتصادية سلبية، لاسيما في مجالي الطاقة والغذاء[59].

ناهيك عن ارتباط الاقتصاد التركي ارتباطًا وثيقًا بالسوق الرأسمالية والنظام الاقتصادي النيو-ليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا الغربية واليابان. يعتمد الاقتصاد التركي في جزء ملموس منه على الاستثمارات الغربية، ويتجه أكثر من نصف الصادرات التركية إلى الأسواق الغربية. وعلى الرغم من أن تركيا عملت بصورة حثيثة خلال العقدين الماضيين على جذب استثمارات من دول النفط العربية ومن الصين ودول المجموعة التركية، إلا أن حجم هذه الاستثمارات لم يصل بعد إلى مستوى يجعل من الممكن الاستغناء عن نظيرتها الغربية، ولا استطاع توسع دائرة الأسواق المستقبلة للمنتجات التركية في آسيا وإفريقيا وروسيا أن يحل محل أسواق دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

صحيح أن تركيا لم تعد أسيرة كلية لعلاقاتها الاقتصادية والاستثمارية مع شريكاتها الغربيات كما كانت في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن صلاتها بالاقتصادات الغربية لم تزل من القوة بحيث يمكن لدول مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أن توقع ضررًا بالغًا بالوضع الاقتصادي التركي إن أوحت للمستثمرين الغربيين بالخروج من السوق التركية أو فرضت قيودًا على الصادرات التركية، أو فرضت نوعًا من الحظر على متطلبات حيوية من المنتجات الغربية، العسكرية أو المدنية. ولأن كافة القطاعات الاقتصادية والمالية التركية الرئيسة، الدولة والبنوك والقطاع الخاص، تعتمد في إدارة أعمالها على الاقتراض من السوق العالمية، لاسيما الأسواق الغربية، بما في ذلك مؤسسات الإقراض الدولية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، فإن من الضروري لتركيا أن تحافظ على علاقات صحية مع الدول الغربية الرئيسة، وأن تتجنب القطيعة أو الخصومة السياسية معها[60].

6– غياب الداعم الدولي: كانت كافة الأزمات التي نجحت فيها أنقرة في فرض إرادتها، كليًّا أو جزئيًّا، أو توفير الدعم الكافي لحلفائها لتحقيق الانتصار، في جوهرها أزمات ذات طابع إقليمي بحت، لم تكن أي من القوى الكبرى الثلاث الرئيسة، الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين، طرفًا فيها. عندما وجدت مصالح مباشرة للقوى الكبرى، منعت تركيا من تحقيق أهدافها، أو لم تستطع تحقيق بعض من هذه الأهداف إلا بعد توافق مع القوى الكبرى.

لم تستطع تركيا مساعدة أذربيجان على الانتصار إلا بعد أن رفعت روسيا يدها كلية عن الصراع المتفاقم بين الجارتين القوقازيتين، واتخذت موقفًا حياديًّا من الأزمة. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب بدت وكأنها تؤيد حصار قطر، إلا أن التهديد الذي واجهته قطر خلال فترة الحصار الأولى كان إقليميًّا في جوهره. وفي ليبيا، قامت تركيا بتوفير الحماية لحلفائها في طرابلس وأوقعت الهزيمة بمحاولة حفتر السيطرة على الغرب الليبي لأن الدول الكبرى لم تبد اهتمامًا يذكر بالشأن الليبي. كانت روسيا بالطبع أكثر ميلًا لحفتر، ولكن تدخلها في ليبيا لم يكن مباشرًا ولا رسميًّا، ولا أفضى إلى قطع علاقاتها بطرابلس. أما في سوريا، فلم تستطع أنقرة تعهد الحملتين العسكريتين في الشمال السوري إلا بعد موافقة موسكو. وعلى الرغم من أن القيادة التركية لم تزل ترى في وجود حزب العمال الكردستاني شرق الفرات خطرًا أمنيًّا، وأنها هددت أكثر من مرة بالتدخل العسكري في شمال شرقي سوريا، إلا أن الوجود العسكري الأميركي يمثل عائقًا صلبًا أمام هذه الخطوة التركية.

تركيا، بكلمة أخرى، لم تزل بعيدة عن تأمين موقع لها بين الكبار، اقتصاديًّا أو عسكريًّا. ولذا، فإن إرادتها السياسية لم تزل محدودة، وأقرب إلى ثقل وفعالية دول الصف الثاني في الساحة الدولية منها إلى نادي الكبار. ولأنها عرضة لضغوط الكبار وعقوباتهم، فليس من المستغرب أن تلجأ أنقرة إلى مراجعة خطواتها كلما وجدت نفسها مهددة سياسيًّا أو عسكريًّا أو اقتصاديًّا. هذا ما حدث في الشمال السوري عندما وقع صدام عسكري باهظ الثمن مع القوات الروسية؛ وهذا ما حدث في شرق المتوسط وجزر بحر مرمرة عندما وقفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جانب اليونان، وأنذرت بفرض عقوبات قاسية على تركيا. أما في أوكرانيا وغزة، حيث كانت الأزمة من البداية ذات طابع دولي بالغ التعقيد، فإن قدرة أنقرة على الفعل لم تزل محدودة إلى حد كبير، ومشروطة بقبول أحد أطراف الأزمة الكبار[61].

وعلي ضوء هذه العوامل والأسباب يمكن تفسير العديد من الإشارات السلبية للمواقف التركية تجاه العدوان الإسرائيلي علي غزة، والتي جعلت الكثيرين يتهمون الموقف التركي بالتناقض بين الأقوال والأفعال. وفي هذا السياق؛ فأن الزيارات الإقليمية التي قام بها كبار المسئولين الأتراك مثل الرئيس التركي ووزير الخارجية للتنسيق حول الحرب في غزة (مثل الزيارة إلي مصر ولبنان)، فإنها شملت برامج أخرى مثل عقد صفقات اقتصادية أو افتتاح مقرات لمؤسسات تركية أو تطوير العلاقات الثنائية مما أضفى البعد الروتيني وليس الاستثنائي على الزيارات[62]. ورغم أن البيان الرسمي في اختتام زيارة أردوغان للقاهرة في منتصف فبراير2024 دعا إلى وقف إطلاق النار وتسهيل إيصال المعونات لغزة؛ ولكن كان لافتًا أن أردوغان لم يقم بزيارة معبر رفح، الخطوة التي قام بها عشرات البرلمانيين والسياسيين المتضامنين مع أهالي قطاع غزة خلال شهور الحرب الطويلة[63].

كما أشار البعض إلى أن تركيا لا تزال تسهل تدفق النفط الأذربيجاني إلى سفن الشحن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية[64]. فيما أظهرت بيانات رسمية من وزارة زراعة الاحتلال الإسرائيلي قائمة الدول التي استمرت في تصدير الخضار والفواكه إلى إسرائيل خلال فترة العدوان على غزة، في الفترة من 8 أكتوبر 2023 إلى 11 فبراير 2024، أن شركات تركية وأردنية تصدرت قائمة الدول التي قدمت هذه المنتجات إلى دولة الاحتلال[65].

رابعًا: مستقبل الدور التركي في القضية الفلسطينية بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي:

طرحت تركيا في وقت مبكر من العدوان الإسرائيلي على غزة مبادرة تتضمن ما بات يعرف باسم “نظام الضمانة” وذلك بعد فشل مجلس الأمن في تمرير مشروع قرار روسي يقترح هدنة إنسانية فورية في غزة وذلك في 17 أكتوبر 2023. وبالرغم من أن المبادرة لم تكن واضحة آنذاك، إلا أنه سرعان ما بدأت تتبلور شيئًا فشيئًا بعد أن قام وزير الخارجية هاكان فيدان بطرحها خلال قمة القاهرة للسلام في 21 أكتوبر 2023 المعنية بتطورات الوضع في فلسطين والعدوان الإسرائيلي على غزة.

تقوم فكرة المبادرة على تحقيق وقف إطلاق النار أولًا، ثم تحويله إلى وقف دائم ومستدام، ثم الانتقال إلى مساعي الحل النهائي الذي يضمن تحقيق السلام والأمن والاستقرار من خلال مجموعة من الضامنين لكلا الطرفين، حيث اقترحت تركيا أن تكون ضمن المجموعة الضامنة للطرف الفلسطيني، في حين تقوم أطراف أخرى خارجية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض القوى الغربية بضمان الجانب الإسرائيلي. ومفهوم الضمان هنا يعني أن الأطراف المعنية ستضغط على الطرفين لمنع خرق الاتفاقات التي يتم التوصل إليها ومنع التصعيد في حال حصول ذلك ومحاسبة الطرف الذي يقوم بخرق الاتفاقات[66]. وتبدو “آلية الضامنين” استلهامًا من نماذج قائمة وتشارك بها تركيا، مثل: جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، وجزيرة قبرص، وكذلك سوريا[67].

ولكن يواجه هذا المقترح تحديات تتمثل في عدم موافقة الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الأوروبية، فضلًا عن أن الدول العربية التي من المفترض أن يشارك بعضها في ضمان الجانب الفلسطيني لم يبد حماسة للفكرة، بل إن بعض الدول العربية عارضتها؛ نظرًا إلي أن تنفيذ هذا المقترح ينطوي على اعتراف ضمني بالدور التركي في حل القضية الفلسطينية، بما يعزز مكانتها الإقليمية والدولية، وهو ما ترفضه هذه الدول[68]. كما أن الحديث عن “بنية أمنية” وليس عن إطار سياسي يمثل قلقًا بالنسبة للفلسطينيين، وتحديدًا المقاومة، لا سيما أن الأمر يطرح للنقاش مع قوى دولية وإقليمية وليس مع الفلسطينيين أنفسهم[69]. وحتى إذا ما افترضنا جدلًا وجود موافقة مبدئية من جانب الدول الغربية، فإن المقترح يعاني من معضلة أساسية وهي كيف سيكون بالإمكان إلزام إسرائيل بأي اتفاق إذا ما كانت الأطراف التي من المفترض أن تضمن الموقف الإسرائيلي غير قادرة أو راغبة بالضغط على إسرائيل كما يتبين من الموقف الحالي؟[70].

الخلاصات والاستنتاجات:

1- ثمة تطور ملحوظ في خطاب أنقرة الرسمي بخصوص العدوان على قطاع غزة، وتحديدًا التأكيد على فكرة أن حماس ليست منظمة “إرهابية” في مصادمة للموقف الموحد لدولة الاحتلال وداعميه الغربيين، وكذلك حدة الانتقادات الموجهة لإسرائيل بمفردات تذكر بمواقف تركيا وخطابات أردوغان قبل سنوات[71].

2- أن المكاسب التي ستجنيها تركيا جراء مواقفها الداعمة لحركة حماس والقضية الفلسطينية سيكون مقابلها تداعيات سياسية وأمنية ستتحمل أنقرة تبعاتها، لا سيما توتر علاقاتها مع إسرائيل وداعميها (الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية)، ورغم ذلك فمن المتوقع أن أردوغان لن يخفف من حدة خطابه السياسي الحاد ضد تل أبيب، حتى موعد الانتخابات المحلية المقبلة التي يراهن على الفوز بها[72].

3- تركز الانتقادات الصادرة من قبل الرئيس أردوغان علي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دون باقي المسئولين الإسرائيليين مما يترك مجالًا للمناورة بعد مغادرة نتنياهو منصبه، خاصة وأن كافة الترجيحات تشير إلي أن هذه الحرب كتبت نهاية الحياة السياسية لنتنياهو[73].

4- ستحاول تركيا أن تتموضع وتجد لها دورًا في أي حل سياسي قادم وستسعى للعمل بشكل جماعي والتنسيق مع الدول الإقليمية الفاعلة مثل مصر وقطر والإمارات والسعودية وإيران والأردن، لاسيما بعد تحسن العلاقات التركية مع هذه الدول[74].


[1] “أبعاد الموقف التركي من العدوان على غزة”، مركز الجزيرة للدراسات، 9/11/2023، الرابط: https://tinyurl.com/yc5f995d

[2] “محاولة لفهم الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، نون بوست، 6/12/2023، الرابط: https://tinyurl.com/bdfw8hva

[3] “”حماس ليست إرهابيّة” .. هل تغير الموقف التركيّ من الحرب على غزة؟”، الجزيرة نت، 2/11/2023، الرابط: https://tinyurl.com/5n6zutvr

[4] المرجع السابق.

[5] “الرؤية التركية لتطورات الموقف في غزة”، مركز الدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم، 20/11/2023، الرابط: https://tinyurl.com/mm4te7wm

[6] “”حماس ليست إرهابيّة” .. هل تغير الموقف التركيّ من الحرب على غزة؟”، مرجع سابق.

[7] “تحولات متتالية: المسارات المحتملة للموقف التركي من حرب غزة”، الحائط العربي، 29/10/2023، الرابط: https://tinyurl.com/ynxtsr4j

[8] “أبعاد الموقف التركي من العدوان على غزة”، مرجع سابق.

[9] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 18/2/2024، الرابط: https://tinyurl.com/tfd7yhay

[10] ” تطورات مواقف الدول والمنظمات الإسلامية غير العربية من العدوان على غزة”، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 30/10/2023، الرابط: https://tinyurl.com/dwrjcm69

[11] “أردوغان يؤكد دعمه لحماس ويعتبر نتنياهو من نازيي العصر”، الجزيرة نت، 9/3/2024، الرابط: https://tinyurl.com/3bpf4n3v

[12] “إردوغان يدعو إسرائيل لإنهاء «الجنون» ووقف الهجمات على غزة”، الشرق الأوسط صحيفة العرب الأولي، 28/10/2023، الرابط: https://tinyurl.com/ytnp2fp7   

[13] ” الجديد في مواقف الدول والمنظمات الإسلامية من العدوان على غزة”، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 12/11/2023، الرابط: https://tinyurl.com/8kwxmmj4

[14] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 18/2/2024، الرابط: https://tinyurl.com/tfd7yhay

[15] “أردوغان يؤكد دعمه لحماس ويعتبر نتنياهو من نازيي العصر”، الجزيرة نت، 9/3/2024، الرابط: https://tinyurl.com/3bpf4n3v

[16] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[17] “بعد تصريحات أردوغان.. إسرائيل تستدعي دبلوماسييها من تركيا”، سكاي نيوز عربية، 28/10/2023، الرابط: https://tinyurl.com/3cwbzm48  

[18] “وزير الخارجية الإسرائيلي: سفيرنا لن يعود إلى أنقرة طالما أردوغان رئيسا لتركيا”، أر تي عربي، 28/12/2023، الرابط: https://tinyurl.com/378f7kay

[19] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، جريدة زمان التركية، 6/1/2024، الرابط: https://tinyurl.com/3f76whrk  

[20] “فتور مُؤقت:انعكاسات الحرب في غزة على العلاقة بين تركيا وإسرائيل”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 22/11/2023، الرابط: https://tinyurl.com/r7sa2j7b

[21] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[22] “فتور مُؤقت:انعكاسات الحرب في غزة على العلاقة بين تركيا وإسرائيل”، مرجع سابق.

[23] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[24] “لماذا يتواصل توتر العلاقات التركية الإسرائيلية قبل حرب غزة وبعدها؟”، أسباب، 1/2024، الرابط: https://tinyurl.com/43mh5dzp

[25] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[26] المرجع السابق.

[27] “لماذا لم تقطع تركيا جميع علاقاتها مع “إسرائيل”؟”، نون بوست (مترجم)، 16/1/2024، الرابط: https://tinyurl.com/259r3ztm 

[28] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[29] “الرؤية التركية لتطورات الموقف في غزة”، مرجع سابق.

[30] ” تركيا ترسل أكبر شحنة مساعدات إلى غزة عبر مصر! تحمل 3 آلاف طن جُمع معظمها عبر تبرعات”، عربي بوست، 7/3/2024، الرابط: https://tinyurl.com/m3xdxky4  

[31] “أردوغان يؤكد دعمه لحماس ويعتبر نتنياهو من نازيي العصر”، الجزيرة نت، 9/3/2024، الرابط: https://tinyurl.com/3bpf4n3v

[32] “الرؤية التركية لتطورات الموقف في غزة”، مرجع سابق.

[33] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[34] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، مرجع سابق.

[35] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[36] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، مرجع سابق.

[37] “لماذا يتواصل توتر العلاقات التركية الإسرائيلية قبل حرب غزة وبعدها؟”، مرجع سابق.

[38] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[39]  المرجع السابق.

[40] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، مرجع سابق.

[41] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[42] “أبعاد الموقف التركي من العدوان على غزة”، مرجع سابق.

[43] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، مرجع سابق.

[44]  المرجع السابق.

[45] “ارتدادات عكسية: رسائل تصنيف تركيا “حماس” حركة مقاومة”، الحائط العربي، 7/11/2023، الرابط: https://tinyurl.com/2edpsm2m

[46] “تحولات متتالية: المسارات المحتملة للموقف التركي من حرب غزة”، مرجع سابق.

[47] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[48] ” تطورات مواقف الدول والمنظمات الإسلامية غير العربية من العدوان على غزة”، مرجع سابق.

[49] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، مرجع سابق.

[50] المرجع السابق.

[51] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[52]  المرجع السابق.

[53] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، مرجع سابق.

[54] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[55] “قيود خارجية: انعطاف الموقف التركي من غزة”، مركز الجزيرة للدراسات، 29/2/2024، الرابط: https://tinyurl.com/2en7n6bn

[56] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[57] “كيف نفهم موقف أردوغان تجاه “إسرائيل”؟”، نون بوست، 22/12/2023، الرابط: https://tinyurl.com/bdfx5f4c

[58] “محاولة لفهم الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، نون بوست، 6/12/2023، الرابط: https://tinyurl.com/bdfw8hva

[59] ” كيف تعاملت تركيا مع تطورات حرب غزة؟”، مرجع سابق.

[60] “قيود خارجية: انعطاف الموقف التركي من غزة”، مرجع سابق.

[61] المرجع السابق.

[62] “أبعاد الموقف التركي من العدوان على غزة”، مرجع سابق.

[63] “قيود خارجية: انعطاف الموقف التركي من غزة”، مرجع سابق.

[64] “لماذا لم تقطع تركيا جميع علاقاتها مع “إسرائيل”؟”، مرجع سابق.

[65] ” شركات أردنية وتركية تمد “إسرائيل” بالخضار لتعويض النقص الذي سببته الحرب”، عربي21، 22/2/2024، الرابط: https://tinyurl.com/wvjk69be

[66] “تركيا والعدوان الإسرائيلي على غزة: تقييم نظام الضمانة المقترح”، عربي21، 16/12/2023، الرابط: https://tinyurl.com/32f5c4ek

[67] “ترسيخ النفوذ:دوافع الاهتمام التركي بمستقبل الترتيبات الأمنية في قطاع غزة”، الحائط العربي، 4/12/2023، الرابط: https://tinyurl.com/2rhvrf2u

[68] “تركيا والعدوان الإسرائيلي على غزة: تقييم نظام الضمانة المقترح”، مرجع سابق.

[69] “الدول الضامنة.. عن التصور التركي للحل في غزة”، الجزيرة نت، 29/11/2023، الرابط: https://tinyurl.com/spwcmww9

[70] “تركيا والعدوان الإسرائيلي على غزة: تقييم نظام الضمانة المقترح”، مرجع سابق.

[71] “”حماس ليست إرهابيّة” .. هل تغير الموقف التركيّ من الحرب على غزة؟”، مرجع سابق.

[72] “قراءة تحليلية لدوافع وتداعيات الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على غزة”، مرجع سابق.

[73] “لماذا لم تقطع تركيا جميع علاقاتها مع “إسرائيل”؟”، مرجع سابق.

[74] “أبعاد الموقف التركي من العدوان على غزة”، مرجع سابق.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022